الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جميعكم. ففعلوا. ثم قال: والله إن إلقاءنا للموت بأيدينا لا نضرب في الأرض ونبتغي لعل الله تعالى يسقينا لعجز. فقال لأصحابه: ارتحلوا. فارتحلوا وارتحل، فلما جلس على ناقته فانبعثت به انفجرت عين من تحت خفّها بماء عذب، فكبّر عبد المطلب، وكبّر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه وآستقوا وأسقوا، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله تعالى. فجاؤوا وآستقوا وأسقوا، قالوا: يا عبد المطلب قد والله قضي لك علينا، لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي أسقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً. ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلّوا بينه وبينها.
فلما رجع عبد المطلب أكمل حفر زمزم وجعل عليها حوضاً يملأه ويشرب الحاج منه، فيكسره أناس من حسدة قريش بالليل فيصلحه عبد المطلب، فلما أكثروا إفساده دعا عبد المطلب ربّه، فأري في المنام فقيل له: قل: اللهم إني لا أحلّها لمغتسل، ولكن هي لشارب حلّ وبلّ. ثم كفيتهم. فقام عبد المطلب فنادى بالذي أري، ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه عليه أحد إلاّ رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه وسقايته.
وذكر ابن إسحاق- رحمه الله تعالى- أن عبد المطلب وجد في زمزم غزالين من ذهب وهما الغزالان اللذان دفنتهما جرهم حين خرجت، ووجد فيها أسيافاً قلعيّة وأدرعاً. فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحقّ. قال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: اجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له.
قالوا: أنصفت. فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش. ثم أعطوا صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل، وهبل صنم في جوف الكعبة، وقام عبد المطلب يدعو وصاحب القداح يضرب القداح، فخرج الأصفران على الغزالين، وخرج الأسودان على الأسياف والأدرع، وتخلّف قدحا قريش. فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حلّيته الكعبة.
قال ابن إسحاق- رحمه الله تعالى-: فلما حفر عبد المطلب زمزم ودلّه الله تعالى عليها وخصّه الله بها زاده الله بها شرفاً وخطراً في قومه، وعطّلت كل سقاية كانت بمكة حين ظهرت وأقبل الناس عليها التماس بركتها ومعرفة فضلها، لمكانها من البيت وأنها سقاية الله عز وجل لإسماعيل صلى الله عليه وسلم.
فوائد
الأولى: قال السهيلي- رحمه الله تعالى: الأسياف والغزلان، كان ساسان ملك الفرس
أهداها للكعبة، وقيل سابور. وكانت الأوائل من ملوك الفرس تحجّها إلى ساسان أو سابور.
الثانية: قال السّهيلي أيضاً: دلّ عبد المطلب على زمزم بعلامات ثلاث: بنقرة الغراب الأعصم، وأنها بين الفرث والدم، وعند قرية النمل، ولم يخص هذه العلامات الثلاث إلا بحكمة إلهية وفائدة مشاكلة لطيفة في علم التعبير والتوسّم الصادق لمعنى زمزم ومائها. أما الفرث والدم: فإن ماءها طعام طعم وشفاء سقم. وهي لما شربت له، وقد تقوّت من مائها أبو ذر- رضي الله تعالى عنه- ثلاثين ما بين ليلة ويوم فسمن حتى تكسّرت عكن بطنه، فهي إذا كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللبن: «إذا شرب أحدكم اللبن فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يسدّ مسدّ الطعام والشراب إلا اللبن»
وقد قال الله تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ فظهرت هذه السّقيا المباركة بين الفرث والدم، وكانت تلك من دلائلها المشاكلة لمعناها.
وأما الغراب: فهو في التأويل فاسق، وهو أسود، فدلت نقرته عند الكعبة على نقرة الأسود الحبشي بمعوله في أساس الكعبة بهدمها آخر الزمان، فكأن نقرة الغراب في ذلك المكان تؤذن بما يفعله الفاسق في آخر الزمان بقبلة الرحمن وسقيا اهل الإيمان، وذلك عند ما يرفع القرآن. وتحيا عبادة الأوثان.
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليخربن الكعبة ذو السويقتين من الحبشة»
[ (1) ] وفيه أيضاً من صفته أنه أفحج، وهذا ينظر إلى كون الغراب أعصم، إذ الفحج: تباعد في الرجلين، كما أن العصم اختلاف فيهما، والاختلاف تباعد، وقد عرف بذي السويقتين، كما نعت الغراب بصفة في ساقيه. فتأمله. وهذا من خفيّ علم التعبير، لأنها كانت رؤيا.
وأما قرية النمل ففيها من المشاكلة أيضاً والمناسبة: أن زمزم عين مكة التي يردها الحجيج والعمّار من كل جانب، فيحملون لها البرّ والشعير وغير ذلك، وهي لا تزرع ولا تحرث، كما قال سبحانه وتعالى خبراً عن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ الآية. وقرية النمل كذلك، لأن النمل لا تحرث ولا تزرع وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب، ومكة كذلك، كما قال تعالى:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ مع أن لفظ قرية النمل مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته، والرؤيا تعبر على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، فقد اجتمع اللفظ والمعنى في هذا التأويل. والله تعالى أعلم.
[ (1) ] أخرجه البخاري 3/ 531 كتاب الحج (1591) ، ومسلم 4/ 2232 كتاب الفتن (57- 2909) .
الثالثة: ذكر الزمخشري [ (1) ]- رحمه الله تعالى- في ربيع الأبرار أن جبريل صلى الله عليه وسلم أنبط ماء زمزم مرتين: مرة لآدم صلى الله عليه وسلم حتى انقطعت زمن الطوفان، ومرة لإسماعيل. وفي الزّهر: ويعضّد ما قاله قول خويلد بن أسد بن عبد العزى في عبد المطلب:
أقول وما قولي عليهم بسبّة
…
إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم
ركيّة إبراهيم يوم ابن هاجر
…
وركضة جبريل على عهد آدم
الرابعة: في شرح غريب ما تقدم:
روح القدس بضم القاف والدال، وسكون الدال: المطهّر، والمراد به جبريل صلى الله عليه وسلم، لأنه خلق من طهارة، فالإضافة بيانية.
العقب [ (2) ] : ما فضل من مؤخر الرّجل عن الساق، والمراد به في الآية الولد. وولد الولد.
نابت: بنون ومثناة فوقية. مضاض بميم مكسورة وحكى ضمها وضادين معجمتين.
جرهم: بضم الجيم وسكون الراء وضم الهاء. نشر الله ولد إسماعيل: أي كثّرهم.
رقّ أمرهم: أي ساءت حالهم.
برّة بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء المهملة، سميت بذلك لكثرة منافعها وسعة مائها.
المضنونة: قال وهب بن منبه- رحمه الله تعالى-: سميت بذلك لأنها ضنّ بها على غير المؤمنين، فلا يتضلع منها منافق.
روى البخاري في التاريخ وابن ماجة والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلّعون من زمزم» [ (3) ] .
له طرق وهو بمجموعها حسن.
[ (1) ] محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري، جار الله، أبو القاسم: من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب. ولد في زمخشر (من قرى خوارزم) وسافر إلى مكة فجاور بها زمنا فلقب بجار الله. وتنقل في البلدان، ثم عاد إلي الجرجانية (من قرى خوارزم) فتوفي فيها. أشهر كتبه «الكشاف» في تفسير القرآن، و «أساس البلاغة» و «المفصل» ومن كتبه «المقامات» و «الجبال والأمكنة والمياه» و «المقدمة» معجم عربي فارسي، مجلدان، و «مقدمة الأدب» في اللغة، و «الفائق» في غريب الحديث، و «المستقصى» في الأمثال، مجلدان، وكان معتزلي المذهب، مجاهرا، شديد الإنكار على المتصوفة، أكثر من التشنيع عليهم في الكشاف وغيره. توفي سنة 538 هـ.
الأعلام 7/ 178.
[ (2) ] انظر المفردات في غريب القرآن (340) .
[ (3) ] أخرجه البيهقي 5/ 147 والحاكم في المستدرك 1/ 472، والبخاري في التاريخ 1/ 158، والدارقطني 2/ 288، والطبراني في الكبير 11/ 124.
وروى الأزرقي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التضلّع من ماء زمزم براءة من النفاق»
[ (1) ] . وقيل سميت بذلك لأنه قيل لعبد المطلب: احفر المضنونة، ضننت بها على الناس إلا عليك. ظبية: بظاء معجمة فباء موحدة فمثناة تحتية، سميت بذلك تشبيها بالظبية وهي الخريطة لجمعها ما فيها. قاله في النهاية تبعاً لأبي موسى المديني: والذي جرى عليه السّهيلي والخشني: أنها بطاء مهملة فمثناة تحتية، فباء، قال الخشني: من الطّيب. وقال السهيلي: لأنها للطيّبين والطيبات.
تكتم بمثناتين فوقيتين تبنى للمفعول.
لا تنزف: أي لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها. قال السهيلي- رحمه الله تعالى- وهذا برهان عظيم، لأنها لم تنزف من ذلك الحين إلى اليوم قط، وقد وقع فيها حبشيّ فنزحت من أجله فوجد ماؤها يفور من ثلاثة أعين أقواها وأكثرها ماء عين من ناحية الحجر الأسود.
ولا تذمّ: قال الخشنيّ: أي لا توجد قليلة الماء يقال أذممت البئر إذا وجدتها ذمّة أي قليلة الماء. زاد السّهيلي: وليس معناه على ما يبدو من ظاهر اللفظ من أنها لا يذمّها أحد، ولو كان من الذم لكان ماؤها أعذب المياه ولتضلع كلّ من شرب منه، وقد تقدم أنه لا يتضلع منها منافق، فماؤها إذاً مذموم عندهم. وفي النهاية: لا تذم أي لا تعاب أو لا تلفى مذمومة، من قولك: أذممته إذا وجدته مذموماً. وقيل: لا يوجد ماؤها قليلا من قولهم: بئر ذمّة إذا كانت قليلة الماء.
الفرث: ما يكون في كرش ذي الكرش.
الأعصم من الغربان: الذي في ساقيه بياض. قاله الخشني- رحمه الله تعالى-.
قرية النمل: الموضع الذي يجتمع فيه. الرّوى: يقال: ماء روى بالكسر والقصر ورواء بالفتح والمدّ: أي عذب. ما عمر: بفتح العين المهملة أي ما عمر هذا الماء فإنه لا يؤذي ولا يخاف منه ما يخاف من سائد المياه إذا أفرط في شربها بل هو بركة على كل حال.
نعام جافل: لم يقسم. الجافل: من جفلت الغنم إذا انفلتت بجملتها، ولم يقسم: أي لم يتوزع ولم يتفرق، وعلى هذا يجوز أن يحمل قوله: لا تذم أي لا تذم عاقبة شربها. وهذا تأويل سائغ إلى ما قدمناه من التأويل، وكلاهما صحيح في صفتها.
وفي كل مبرّ: مفعل من البرّ، يريد في مناسك الحج ومواضع الطاعة. الحزورة بفتح
[ (1) ] ذكره العجلوني في كشف الخفا 1/ 364 وعزاه لابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه أبو نعيم عن عبد الله بن ثعلبة الحنثي من كلامه، وذكره في الكنز (34778) والسيوطي في الدر المنثور 3/ 221.
الحاء المهملة ثم زاي ساكنة فواو فراء فهاء بوزن قسورة. قال الإمام الشافعي- رضي الله تعالى عنه-: الناس يشدّدونه وهو مخفف. وقال الدارقطني: التشديد تصحيف وإنما هو بالتخفيف.
موضع بمكة داخل المسجد.
الحشاشة [ (1) ] : بقية الروح. إساف: بكسر الهمزة وفتح المهملة المخففة. نائلة بنون وبعد الألف مثناة تحتية. الطيّ: قال ابن هشام: ويقال: الطوىّ: وكلّ واحد. قال الخشني:
وليس بظاهر، لأن الطي يقال للحجارة التي يطوى أي يبنى بها البئر سمّيت بالمصدر، والطوىّ هو البئر نفسها.
كاهنة بني سعد بن هذيم: كذا روي، ورواه ابن سراج: سعد هذيم. بإسقاط ابن. قال الخشني: وهو الصواب لأن هذيماً لم يكن أباه وإنما كفله بعد أبيه فأضيف إليه.
أشراف الشام بالفاء أخت القاف: وهو ما ارتفع من الأرض، واحده شرف. تقول:
قعدت على شرف من الأرض أي على مكان مرتفع، من أفناء قريش. الأفناء جمع فنو كأحمال وحمل، أي أخلاطهم. المفاوز: القفار واحدها مفازة، وفي اشتقاق اسمها ثلاثة أقوال: فقيل لأن راكبها إذا قطعها فقد فاز. وقيل: معناها: مهلكة، يقال: فاز الرجل، وفوّز مشدداً، وفاد بالدال المهملة: إذا هلك. وقيل سميت مفازة على جهة التفاؤل.
ظمئوا: عطشوا. ضيعة رجل: هو في الأصل المرة من الضياع. نضرب في الأرض:
نسافر. انبعثت به راحلته: قامت من بروكها. حلّ بكسر الحاء: الحلال ضد الحرام وبلّ بكسر الباء الموحدة: المباح. وقيل: الشفاء من قولهم: بلّ من مرضه وأبلّ. وبعضهم يجعله إتباعاً لحل. قال في النهاية: ويمنع من جواز الإتباع الواو.
أسيافا قلعية: منسوبة إلى بلد بالهند من جهة الصين. والقلعة بفتح اللام وسكونها:
الموضع المرتفع. النصف بكسر النون وسكون الصاد المهملة وبفتحها: النّصفة بفتحات، وهو الاسم من الإنصاف. القداح: جمع قدح بكسر القاف فيهما، وهو السهم الذي كانوا يستقسمون به. هبل: بضم الهاء وفتح الباء.
الخطر: بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة. قال في المصباح: خطر الرجل يخطر خطراً، وزان شرف شرفاً إذا ارتفع قدره ومنزلته فهو خطير.
[ (1) ] والحشاشة: روح القلب ورمق حياة النفس قال:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
…
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
اللسان 2/ 886.