الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير الغريب
إساف: بكسر الهمزة وفتح السين المخففة. نائلة- بنون فألف فمثناة تحتية: اسما صنمين.
أصغر بني أبيه: قال السهيلي: هذا غير معروف. ولعل الرواية أصغر بني أمّه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس كان أصغر من حمزة. قال السهيلي: وله وجه وهو أن يكون عبد الله أصغر ولد أبيه حين أراد نحره ثم ولد بعد ذلك حمزة والعباس.
قال أبو ذر الخشنيّ رحمه الله تعالى: قوله أصغر بني أبيه: يعني في ذلك الوقت.
أشوى بشين معجمة: قال في النهاية: يقال رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل. وقال الخشني: يقال أشويت من الطعام إذا أبقيت منه.
القداح- بكسر القاف: جمع قدح. كذلك: السهم الذي كانوا يستقسمون به.
ومن شعر عبد الله والد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أورد الصلاح الصّفدي في تذكرته وشيخنا رحمهما الله في المسالك:
لقد حكم السّارون في كل بلدةٍ
…
بأنّ لنا فضلاً على سادة الأرض
وأنّ أبي ذو المجد والسّؤدد الذي
…
يشار به ما بين نشز إلى خفض
وجدّي وآباءٌ له أثّلوا العلى
…
قديماً بطيب العرق والحسب المحض
وسيأتي الكلام على وفاته في أبواب المولد إن شاء الله تعالى.
تنبيه:
روى مسلم من طريق حماد بن سلمة [ (1) ] ، عن ثابت، عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: «في النار» . فلما قفى [ (2) ] دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار» .
قال الشيخ رحمه الله تعالى في مسالك الحنفا في والدي المصطفى: قوله: «إن أبي وأباك في النار» لم يتفق عليه الرواة، وإنما ذكره حماد بن سلمة، عن ثابت. وقد خالفه معمر عن ثابت، فلم يذكر: إن أبي وأباك في النار. ولكن قال له: إذا مررت بقبر كافر فبشّره بالنار.
[ (1) ] حماد بن سليمة بن دينار الربعي أو التميمي أو القرشي مولاهم أبو سلمة البصري أحد الأعلام عن ثابت وسماك وسلمة بن كهيل وابن أبي مليكة وقتادة وحميد وخلق وعنه ابن جريج وابن إسحاق شيخاه وشعبة ومالك وحبان بن هلال والقعنبي وأمم. الخلاصة 1/ 252.
[ (2) ] في أ: نعى.
وهذه اللفظة لا دلالة فيها على والده صلى الله عليه وسلم بأمر البتة. وهو أثبت من حيث الرواية. فإن معمراً أثبت من حمّاد. فإن حمّاداً تكلّم في حفظه، ووقع له أحاديث مناكير ذكروا أن ربيبه دسّها في كتبه. وكان حمّاد لا يحفظ فحدّث بها فوهم. ومن ثم لم يخرج له البخاري شيئاً، ولا أخرج له مسلم في الأصول إلا من روايته عن ثابت.
وقد قال الحاكم في المدخل: ما خرّج مسلم لحمّاد في الأصول إلا من حديثه عن ثابت وقد أخرج له في الشواهد عن طائفة، وأما معمر فلم يتكلّم في حفظه ولا استنكر شيء من حديثه واتفق على التخريج له الشيخان فكان لفظه أثبت.
ثم وجدنا الحديث ورد من حديث سعد بن أبي وقاص بمثل رواية معمر، عن ثابت، عن أنس.
فروى البزّار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر ابن سعد، عن أبيه، أنّ أعرابياً، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار. قال: فأين أبوك؟ قال:
«حيثما مررت بقبر كافر فبشّره بالنار» .
وهذا الإسناد على شرط الشيخين. فتعيّن الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره.
وقد زاد الطبراني والبيهقي في آخره قال: فأسلم الأعرابي بعد وقال: لقد كلّفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا! ما مررت بقبر كافر إلا بشّرته بالنار.
وقد
روى ابن ماجة عن طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري عن سالم، عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل الرحم وكان. فأين هو؟ قال: «في النار» . قال:
فكأنه وجد من ذلك فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«حيثما مررت بقبر مشرك فبشّره بالنار» . قال: فأسلم الأعرابي بعد وقال لقد كلّفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا! ما مررت بقبر كافر إلا بشّرته بالنار.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: فهذه الزيادة أوضحت بلا شك أن هذا اللفظ العام هو الذي صدر منه صلى الله عليه وسلم وراه الأعرابي بعد إسلامه أمراً مقتضياً للامتثال، فلم يسعه إلا امتثاله، ولو كان الجواب باللفظ الأول لم يكن فيه أمر بشيء البتة. فعلم أن اللفظ الأول من تصرّف الراوي، رواه بالمعنى على حسب فهمه.
وقد وقع في الصحيحين روايات كثيرة من هذا النمط فيها لفظٌ تصرف فيه الراوي، وغيره أثبت منه. كحديث أنس في نفي قراءة البسملة. وقد أعلّه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بذلك وقال: إنّ الثابت من طريق آخر نفي سماعها، ففهم منه الراوي نفي قراءتها فرواه بالمعنى على ما فهمه، فأخطأ.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: ونحن أجبنا عن حديث مسلم في هذا المقام بنظير ما أجاب به إمامنا الشافعي عن حديث مسلم في نفي قراءة البسملة.
ثم رأيت طريقاً أخرى للحديث مثل لفظ رواية معمر وأزيد وضوحاً. وذلك أنه قد صرّح فيه بأن السائل أراد أن يسأل عن أبيه صلى الله عليه وسلم، فعدل عن ذلك تجملاً وتأدباً.
فروى الحاكم في المستدرك وصححه عن لقيط بن عامر [ (1) ] رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله هل أحد ممن مضى منا في جاهليته في خير؟ فقال رجل من عرض قريش: إن أباك المنتفق في النار. فكأنّه وقع حرّ بين جلد وجهي ولحمي مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول الله؟ ثم نظرت فإذا الأخرى أجمل، فقلت: وأهلك يا رسول الله؟ فقال: «ما أتيت عليه من قبر قرشيّ ولا عامري مشرك فقل: أرسلني إليك محمد فأبشرك بما يسوؤك» .
هذه الرواية لا إشكال فيها، وهي أوضح الروايات وأبينها.
ثم لو فرض اتفاق الرواة على اللفظ الأول كان معارضاً بالأدلة الآتية في المسلك الأول والحديث إذا عارضه أدلة أخرى هي أرجح منه وجب تأويله وتقديم تلك الأدلة عليه كما هو مقرر في الأصول.
تتمة: ثبت في الحديث الصحيح أن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وأنه في ضحضاح من النار في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، وهذا مما يدل على أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ليسا في النار. لأنّهما لو كانا فيها لكانا أهون عذاباً من أبي طالب، لأنهما أقرب منه مكاناً، وأبسط عذراً، فإنهما لم يدركا البعثة ولا عرض عليهما الإسلام فامتنعا. بخلاف أبي طالب، وقد أخبر الصادق المصدوق أنه أهون أهل النار عذاباً. فليس أبواه من أهلها. وهذا يسمى عند أهل الأصول دلالة الإشارة.
تنبيه: أجاب جماعة عن الأحاديث الواردة في عدم نجاة الأبوين بأنها وردت قبل ورود الآيات والأحاديث الآتية في المسلك الأول. كما أجابوا بذلك عن الأحاديث الواردة في أطفال المشركين أنهم في النار. وقالوا: الناسخ لأحاديث الأطفال قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. وإذا علم ما تقرر فللعلماء رضي الله تعالى عنهم في والدي المصطفى صلى الله عليه وسلم مسالك:
الأول: أنهما لم تبلغهما دعوة أحد وذلك لمجموع أمور: تأخر زمانهما وبعد ما بين
[ (1) ] لقيط بن عامر بن صبرة بكسر الموحدة، وهو لقيط بن صبرة ولقيط بن المنتفق بضم الميم وإسكان النون وفتح المثناة فوق وكسر الفاء آخره قاف، ابن عامر بن عقيل بن كعب العقيلي أبو رزين، صحابي له أربعة وعشرون حديثا. وعنه ابنه عاصم وابن أخيه وكيع بن حدس. الخلاصة 2/ 372.
الأنبياء السابقين. فإن آخر الأنبياء قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم: عيسى صلى الله عليه وسلم. وكانت الفترة بينه وبين بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ستمائة سنة، ثم أنهما كانا في زمن جاهلية. وقد طبق الجهل الأرض شرقاً وغرباً وفقد من يعرف الشرائع ويبلغ الدعوة على وجهها إلا نفراً يسيراً من أحبار أهل الكتاب مفرّقين في أقطار الأرض كالشام وغيرها. ولم يعهد لهما تقلب في الأسفار سوى إلى المدينة ولا عمّرا عمراً طويلاً بحيث يقع لهما فيه التنقيب، فإن والده صلى الله عليه وسلم صحح الحافظ العلائي أنه عاش من العمر نحو ثماني عشرة سنة. ووالدته صلى الله عليه وسلم ماتت وهي في حدود العشرين تقريباً.
ومثل هذا العمر لا يسع الفحص عن المطلوب في مثل ذلك الزمان لا سيما وهي امرأة مضنونة محجبة في البيت عن الاجتماع بالرجال، والغالب على النساء أنهن لا يعرفن ما الرجال فيه من أمر الديانات والشرائع، خصوصاً في زمان الجاهلية الذي رجاله لا يعرفون ذلك فضلاً عن نسائه. ولهذا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجب من بعثته أهل مكة وقالوا:«أبعث الله بشراً رسولاً» وقالوا: «لو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» .
فلو كان عندهم علم من بعثة الرسل ما أنكروا ذلك وربما كانوا يظنون أن إبراهيم بعث بما هم عليه، فإنهم لم يجدوا من يبلغهم شريعة إبراهيم على وجهها لدثورها وفقد من يعرفها، إذ كان بينهم وبين زمن إبراهيم أزيد من ثلاثة آلاف سنة، وحكم من لم تبلغه الدعوة أنه يموت ناجياً بشرطه الآتي في الأحاديث الآتية، وأنه لا يعذب ابتداء قبل الامتحان كما سيأتي بيان ذلك.
هذا مذهبنا لا خلاف فيه بين أئمتنا الشافعية في الفقه والأشاعرة في الأصول. وقد نص على ذلك إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم والمختصر، وتبعه جميع الأصحاب فلم يشذّ أحد منهم بخلاف، واستدلوا على ذلك بعدّة آيات منها قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن قتادة في الآية قال: «إن الله ليس بمعذب أحداً حتى يسبق إليه من الله خبر أو تأتيه من الله بينة» ومنها قوله تعالى:
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ ومنها قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أوردهما الزركشي في شرح جمع الجوامع استدلالاً على قاعدة أن شكر المنعم ليس بواجب عقلاً بل بالسمع، وهذه القاعدة أي قاعدة شكر المنعم مرجعها إلى قاعدة كلامية وهي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وإنكارهما متفق عليه بين الأشاعرة كما هو معروف في كتب الكلام والأصول. وقد أطنب الأئمة في تقريرها.
وترجع مسألة من لم تبلغه الدعوة إلى قاعدة ثانية أصولية وهي: أن الغافل لا يكلّف وهذا هو الصواب في الأصول للآية الثانية.
ثم اختلفت عبارة الأصحاب فيمن لم تبلغه الدعوة، وأحسنها من قال: إنه ناج. وإياها اختار السبكي رحمه الله تعالى.
ومنهم من قال: على الفطرة. ومنهم من قال: مسلم.
قال الغزالي رحمه الله تعالى: التحقيق أن يقال: في معنى المسلم.
وقد مشى على هذا المسلك في والدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من العلماء فصرّحوا بأنهما لم تبلغهما الدعوة. حكاه عنهم سبط ابن الجوزي رحمه الله تعالى في «مرآة الزمان» ومشى عليه الإمام الآبي في شرح مسلم.
وكان شيخنا شيخ الإسلام شرف الدين المناوي يعول عليه ويجيب به إذا سئل عنهما.
وقد ورد في أهل الفترة أحاديث كثيرة أنهم موقوفون إلى أن يمتحنوا يوم القيامة، فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار. والمصحّح منها ثلاثة: الأول،
حديث الأسود ابن سريع رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة يحتجّون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم: ورجل مات في الفترة. فأما الأصم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً. وأما الأحمق فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً. وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار. فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها فيسحب إليها» .
الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه موقوفاً، مثل حديث الأسود بن سريع [ (1) ] .
رواهما الإمام أحمد وإسحاق في مسنديهما والبيهقي في كتاب الاعتقاد، وإسنادهما صحيح.
ورواه عبد الرزاق بسند صحيح من طريق آخر عنه.
الثالث:
حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم فيقولون: ربنا لم ترسل إلينا رسولاً ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك.
فيقول لهم ربهم: أرأيتكم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون: نعم. فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا فيرجعون إلى ربهم فيقولون: ربنا أجرنا منها. فيقول لهم: ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم فيقول: اعمدوا إليها. فينطلقون حتى إذا رأوها
[ (1) ] الأسود بن سريع التّميمي المنقري أبو عبد الله صحابي نزل البصرة له ثمانية أحاديث وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع غزوات.
وكان شاعرا محسنا فصيحا لسنا، وهو أول من قضى بالبصرة. روى عنه الأحنف بن قيس والحسن وعبد الرحمن بن أبي بكرة ولا يصح سماعهما منه. قال ابن منده: مات سنة اثنتين وأربعين. الخلاصة 1/ 95.
فرقوا ورجعوا فقالوا: ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها. فيقول: ادخلوها داخرين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً» .
رواه البزّار والحاكم وصححه وأقره الذهبي.
وورد من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول. ويقول المعتوه: أي رب لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً. ويقول المولود: لم أدرك العمل. قال: فترفع لهم نار فيقال لهم: ردوها. أو قال: ادخلوها.
فيدخلها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً لو أدرك العمل، فيقول الله تبارك وتعالى: إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب» .
رواه البزار من طريق عطية العوفي [ (1) ] وفيه ضعف. والترمذي يحسّن حديثه [ (2) ] خصوصاً إذا كان له شاهد، وحديثه هذا له عدة شواهد تقتضي الحكم بحسنه وثبوته.
ومن حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود، والمعتوه، ومن مات في الفترة، وبالشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الله تبارك وتعالى لعنقٍ من جهنم، ابرزي. فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلاً من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه: فيقول من كتب عليه الشقاء يا ربّ أندخلها ومنها كنا نفرق، ومن كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها مسرعاً فيقول الله: قد عصيتموني فأنتم لرسلي أشدّ تكذيباً ومعصية. فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار» [ (3) ] .
رواه البزار وأبو يعلى.
ومن حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيراً، فيقول الممسوخ عقلاً:
يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد بعقله مني. وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك، فيقول الرب. إني آمركم بأمر فتطيعون؟ فيقولون: نعم.
[ (1) ] عطية بن سعد بن جنادة العوفي بفتح المهملة وإسكان الواو بعدها فاء الجدلي بفتح الجيم أبو الحسن الكوفي. عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس. وعنه ابناه عمر والحسن وإسماعيل بن أبي خالد ومسعر وخلق. ضعفه الثوري وهشيم وابن عدي. وحسن له الترمذي أحاديث قال مطيّن: مات سنة إحدى عشرة ومائة. الخلاصة 2/ 233- 234.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 7/ 219 وعزاه للبزار وقال: فيه عطية وهو ضعيف.
[ (3) ] ذكره الهيثمي 7/ 219 وعزاه لأبي يعلى والبزار بنحوه وقال: وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس. وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح.
فيقول: اذهبوا فادخلوا النار. قال: ولو دخلوها ما ضرّتهم فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعاً، ثم يأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك فيقول الرب:
قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون، ضميهم. فتأخذهم» .
رواه الطبراني وأبو نعيم
[ (1) ] .
قال الحافظ رحمه الله تعالى في الإصابة في ترجمة أبي طالب في القسم الرابع من حرف الطاء من الكنى، بعد أن أورد قصة الامتحان: ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخلها طائعاً فينجو، إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن، وثبت أنه في ضحضاح من النار.
وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير رحمه الله تعالى قصة الامتحان أيضاً في والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر أهل الفترة وقال: أن منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب إلا أنه لم يقل إن الظن في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبا.
ولا شك أن الظن بهما أن يوفقهما الله تعالى حينئذ للإجابة، لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه تمام في فوائده بسند ضعيف من حديث ابن عمر مرفوعا:«إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي» الحديث.
وروى الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أبويه فقال: «ما سألتهما ربي وإني لقائم يومئذ المقام المحمود»
[ (2) ] . فهذا تلويح بأنه يرجى لهما الخير عند قيامه المقام المحمود، وذلك بأن يشفع لهما ليوفقا للطاعة عند الامتحان. ولا شك في أنه صلى الله عليه وسلم يقال له عند قيامه في ذلك المقام: سل تعط واشفع تشفع، كما في الأحاديث الصحيحة، فإذا سأل ذلك أعطيه.
وينضم إلى ذلك ما رواه أبو سعد النيسابوري في «شرف المصطفى» وعمر الملا في سيرته عن عمران بن حصين مرفوعاً: سألت ربي أن لا يدخل النار أحدا من أهل بيتي.
فأعطاني ذلك» وروى ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال: من رضا محمد صلى الله عليه وسلم إن لا يدخل أحدا من أهل بيته النار.
[ (1) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 5/ 1770 وابن الجوزي في العلل المتناهية 2/ 441 وذكره الهيثمي في المجمع 7/ 219 وعزاه للطبراني في الأوسط والكبير وقال: وفيه عمرو بن وافد وهو متروك عند البخاري وغيره ورمي بالكذب وقال محمد بن المبارك: كان يتبع السلطان وكان صدوقا وبقية رجال الكبير رجال الصحيح.
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير: 1/ 98 وأبو نعيم في الحلية 4/ 238.
فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً، لأن الحديث الضعيف إذا كثرت طرقه أفاد ذلك قوة، كما تقرر في علم الحديث.
وروى الطبراني عن أم هانئ رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما بال أقوام يزعمون أن شفاعتي لا تنال أهل بيتي، وإن شفاعتي تنال حاء وحكم»
[ (1) ] .
قال في النهاية: حاء وحكم: قبيلتان جافيتان من وراء رمل يبرين. انتهى. ويبرين بمثناة تحتية فباء موحدة فراء فمثناة تحتية فنون ويقال يبرون. قال أبو عبيد البكري: هو رمل معروف في ديار بني سعد بن تميم.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خلفة الآبي [ (2) ] في شرح مسلم في شرح حديث:
[ (3) ] وأورد قول الإمام النووي فيه أي الحديث: إن من مات كافراً في النار ولا تنفعه قرابة الأقربين. ثم قال الآبي: انظر هذا الإطلاق وقد قال السهيلي رحمه الله تعالى:
ليس لنا أن نقول ذلك. فقد
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات» .
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ولعله يصح ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم أحيا [الله] له أبويه فآمنا به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا. ولا يعجز الله سبحانه وتعالى شيء.
ثم أورد قول النووي وفيه أن من مات على الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار، وليس هذا من التعذيب قبل بلوغ الدعوة لأنه بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل.
ثم قال: قلت: تأمل ما في كلامه من التنافي، فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة، فإن أهل الفترة هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول ولم يدركوا الثاني، كالأعراب الذي لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم. والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين. ولكن الفقهاء إذا تكلموا في الفترة فإنما يعنون التي بين عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم.
ولما دلت القواطع على أنه لا يعذب حتى تقوم الحجة علمنا أنهم غير معذبين.
فإن قلت: صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة كصاحب المحجن وغيره. قلت: قد
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 9/ 260 وعزاه للطبراني وقال: وهو مرسل ورجاله ثقات.
[ (2) ] محمد بن خلفة بن عمر الأبي الوشتاتي المالكي: عالم بالحديث، من أهل تونس. نسبته إلى «أبة» من قراها. ولي قضاء الجزيرة، سنة 808 هـ. له «إكمال إكمال المعلم، لفوائد كتاب مسلم» ، جمع فيه بين المازري وعياض والقرطبي والنووي، مع زيادات من كلام شيخه ابن عرفة، و «شرح المدونة» وغير ذلك، مات بتونس سنة 827 هـ.
انظر الأعلام 6/ 154.
[ (3) ] أخرجه مسلم 1/ 192 كتاب الإيمان (347- 203) .
أجاب عن ذلك عقيل بن أبي طالب بثلاثة أجوبة: الأول أنها أخبار آحاد فلا تعارض القاطع.
الثاني: قصر التعذيب على هؤلاء والله أعلم بالسبب.
الثالث: قصر التعذيب في هذه الأحاديث على من بدّل وغيّر الشرائع وشرع من الضلال ما لا يعذر به. فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام: الأول من أدرك التوحيد ببصيرته ثم من هؤلاء من لم يدخل في شريعة كقس بن ساعدة [ (1) ] وزيد بن عمرو بن نفيل. ومنهم من دخل في شريعة حق قائمة الرسم كتبّع وقومه.
الثاني: من بدّل وغيّر وأشرك ولم يوحد وشرع لنفسه فحلّل وحرّم وهم الأكثر، كعمرو ابن لحيّ أول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي. وزادت طائفة على ما شرعه أن عبدوا الجن والملائكة وخرقوا البنين والبنات، واتخذوا بيوتاً جعلوا لها سدنة وحجاباً يضاهون بها الكعبة كاللات والعزى ومناة.
الثالث: من لا يشرك ولم يوحد ولا دخل في شريعة نبي، ولا ابتكر لنفسه شريعة ولا اخترع ديناً، بل بقي عمره على حال غفلة عن هذا كله. وفي الجاهلية من كان كذلك.
فإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة أقسام فيحمل من صحّ تعذيبه على أهل القسم الثاني بكفرهم بما لا يعذرون به. وأما القسم الثالث فهم أهل فترة حقيقةً، وهم غير معذّبين للقطع كما تقدم.
وأما القسم الأول فقد قال صلى الله عليه وسلم في كل من قسّ وزيد: إنه يبعث أمة وحده. وأما تبّع ونحوه فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه، ما لم يلحق أحد منهم الإسلام الناسخ لكل دين. انتهى. ما أورده الآبي رحمه الله تعالى.
المسلك الثاني: أنهما لم يثبت عنهما شرك بل كانا على الحنيفيّة دين جدهما إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كما كان زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه في الجاهلية. ومال إلى هذا المسلك الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى. وزاد أن آباءه صلى الله عليه وسلم كلهم إلى آدم كانوا على التوحيد.
كما قال في كتابه «أسرار التنزيل» ما نصه: قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم بل كان عمه.
واحتجوا عليه بوجوه. منها: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفاراً. ويدل عليه وجوه. أحدها: قوله تعالى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
. قيل معناه: أنه كان ينقل نوره من
[ (1) ] قس بن ساعدة بن عمرو بن عديّ بن مالك، من بني إياد: أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم، في الجاهلية.
كان أسقف نجران، ويقال: إنه أول عربي خطب متوكئا على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه «أما بعد» . وكان يفد على قيصر الروم، زائرا، فيكرمه ويعظمه. وهو معدود في المعمرين، طالت حياته وأدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوّة، ورآه في عكاظ، وسئل عنه بعد ذلك، فقال: يحشر أمة وحده. انظر الأعلام 5/ 196.
ساجد إلى ساجد قال: وبهذا التقدير فالآية دالة على أن جميع آباء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين، وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم ما كان من الكافرين إنما ذاك عمه، أقصى ما في الباب أن يحمل قوله:«وتقلبك في الساجدين» على وجوه أخرى، وإذا وردت الروايات بالكل ولا منافاة بينها وجب حمل الآية على الكل، ومتى صح ذلك ثبت أن والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان.
قال: ومما يدل على أن آباء محمد صلى الله عليه وسلم. ما كانوا مشركين
قوله عليه الصلاة والسلام:
«لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»
وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فوجب أن لا يكون أحد من أجداده صلى الله عليه وسلم مشركاً. انتهى كلام الإمام فخر الدين.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: وقد وجدت له أدلة قوية ما بين عام وخاص. فالعام مركب من مقدمتين: إحداهما: إنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن كل جد من أجداده صلى الله عليه وسلم خير أهل قرنه لحديث البخاري: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه» وتقدمت أحاديث كثيرة في هذا المعنى في باب فضل العرب وفي باب طهارة أصله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: أنه قد ثبت أن الأرض لم تخل من سبعة مسلمين فصاعداً يدفع الله تعالى بهم عن أهل الأرض. فروى عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر في التفسير بسند صحيح على شرط الشيخين عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: «لم يزل على وجه الدهر في الأرض سبعة مسلمون فصاعداً فلولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها» .
وروى الإمام أحمد في الزهد والخلال في كرامات الأولياء بسند صحيح على شرطهما، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ما خلت الأرض من بعد نوح من سبعة يدفع الله تعالى بهم عن أهل الأرض.
وإذا قرنت بين هاتين المقدمتين أنتج ما قاله الإمام. لأنه إن كان كل جد من أجداده صلى الله عليه وسلم من جملة السبعة المذكورين في زمانه فهو المدعى. وإن كان غيرهم لزم أحد أمرين: إما أن يكون غيرهم خيراً منهم، وهو باطل لمخالفته الحديث الصحيح، وإما أن يكونوا خيراً منه وهم على الشرك وهو باطل بالإجماع، وفي التنزيل: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ فثبت أنهم على التوحيد ليكونوا خير أهل الأرض كل في زمانه.
وأما الخاص فروى ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «ما بين نوح إلى آدم من الآباء كانوا على الإسلام» .
وروى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبزار في مسنده والحاكم وصححه، عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين. قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا. وفي التنزيل حكاية عن نوح صلى الله عليه وسلم: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً» وسام بن نوح مؤمن بنص القرآن والإجماع، بل ورد في أثر أنه نبي رواه ابن سعد والزبير بن بكار في الموفقيات وابن عساكر عن محمد بن السائب، وولده أرفخشذ صرح بإيمانه في أثر عن ابن عباس. رواه ابن عبد الحكم في تاريخ مصر وفيه أنه أدرك جدّه نوحاً وأنه دعا له أن يجعل الله تعالى الملك والنبوة في ولده. وولد أرفخشذ إلى تارح ورد التصريح بإيمانهم.
روى ابن سعد من طريق محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس ما زالوا ببابل وهم على الإسلام من عهد نوح إلى أن ملكهم نمرود فدعاهم إلى عبادة الأوثان ففعلوا.
فعرف من مجموع هذه: الآثار أن أجداد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين بيقين من آدم إلى زمن نمرود. وفي زمنه كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وآزر إن كان والد إبراهيم فيستثنى من سلسلة النسب وإن كان عمه فلا استثناء. وهذا القول، أعني أن آزر ليس أبا إبراهيم، ورد عن جماعة من السلف. رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد، من طرق بعضها صحيح. ورواه ابن المنذر عن ابن جريج بسند صحيح وابن أبي حاتم عن السّدّي بسند صحيح.
وقد وجه من حيث اللغة بأن العرب تطلق لفظ الأب على العم إطلاقاً شائعاً وإن كان مجازاً. وبسط الشيخ الكلام على ذلك، وتركته لأنه خلاف الظاهر.
وقد صحت الأحاديث في البخاري وغيره وتضافرت نصوص العلماء بأن العرب من عهد إبراهيم وهم على دينه ولم يكفر أحد منهم إلى عهد عمرو بن عامر الخزاعي، وهو الذي يقال له عمرو بن لحي، فهو أول من عبد الأصنام وغير دين إبراهيم وحمل العرب على ذلك فتبعته. وكان عمرو بن لحي قريباً من زمن كنانة جد النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا مزيد بيان يأتي قبيل أبواب البعثة.
ثم ذكر الشيخ رحمه الله تعالى ما يشهد لإيمان عدنان ومعدّ وربيعة ومضر وخزيمة وأسد وإلياس وكعب بن لؤي. وسيأتي بيان ذلك في تراجمهم.
ثم قال: فتلخص من مجموع ما سقناه: أن أجداده صلى الله عليه وسلم من آدم إلى كعب بن لؤي ومن ولده مرّة مصرّح بإيمانهم، إلا آزر فإنه مختلف فيه. فإن كان والد إبراهيم فإنه مستثنى، وإن كان عمه كما هو أحد القولين فيه فهو خارج عن الأجداد وسلمت سلسلة النسب.
وبقي بين مرّة وعبد المطلب أربعة أجداد لم أظفر فيهم بنقل. وعبد المطلب يأتي الكلام عليه في ترجمته إن شاء الله تعالى.
ويرحم الله الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي حيث قال:
تنقّل أحمدٌ نوراً مبيناً
…
تلألأ في وجوه الساجدينا
تقلّب فيهم قرناً فقرناً
…
إلى أن جاء خير المرسلينا
المسلك الثالث: أن الله تعالى أحياهما له صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به. وهذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة من الأئمة وحفاظ الحديث واستندوا إلى حديث ورد بذلك لكن إسناده ضعيف.
وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وليس بموضوع، وقد نصّ ابن الصلاح في علوم الحديث وسائر من تبعه على أن ابن الجوزي تسامح في كتابه الموضوعات فأورد فيه أحاديث وحكم بوضعها وليست بموضوعة بل هي ضعيفة فقط، وربما تكون حسنة أو صحيحة.
قال الحافظ زين الدين العراقي رحمه الله تعالى في ألفيته:
وأكثر الجامع فيه إذ خرج
…
لمطلق الضعف عنى أبا الفرج
وقد ألف شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر [ (1) ] رحمه الله تعالى كتاباً سماه: «القول المسدّد في الذّب عن مسند أحمد» أورد فيه جملة من الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي في الموضوعات وهي في مسند أحمد. ودرأ عنها أحسن الدرء، ووهّم ابن الجوزي في حكمه عليها بالوضع، وبيّن أن منها ما هو ضعيف فقط من غير أن يصل إلى حد الوضع، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو صحيح، وأبلغ من ذلك أن منها حديثاً مخرّجاً في صحيح مسلم. حتى قال شيخ الإسلام: هذه غفلة شديدة من ابن الجوزي حيث حكم على هذا الحديث بالوضع وهو في أحد الصحيحين. انتهى.
وسبقه إلى شيء من هذا التعقب شيخه حافظ عصره زين الدين العراقي، ورأيت في فهرست مصنفات شيخ الإسلام أنه شرع في تأليف تعقبات على ابن الجوزي، ولم أقف على هذا التأليف، وقد تتبّعت أنا منه جملة من الأحاديث ليست بموضوعة، فمنها ما هو في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ومستدرك الحاكم وغيرها من الكتب المعتمدة وبيّنت حال كل حديث منها ضعفاً وحسناً وصحة في تأليف حافل، يسمى:«النكت البديعات على الموضوعات» .
[ (1) ] أحمد بن علي بن محمد الكنانيّ العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين بن حجر: من أئمة العلم والتاريخ. أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة. ولع بالأدب والشعر ثم أقبل علي الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلت له شهرة فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره، قال السخاويّ:
«انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر» وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفا بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين، صبيح الوجه. وولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل. أما تصانيفه فكثيرة جليلة، منها «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة» و «لسان الميزان» . توفي سنة 852 هـ. انظر الأعلام 1/ 178.
وهذا الحديث الذي نحن في ذكره خالف ابن الجوزي فيه كثير من الأئمة والحفاظ فذكروا أنه من قسم الضعيف الذي يجوز روايته في الفضائل والمناقب، لا من قسم الموضوع، منهم الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، والحافظ أبو القاسم، ابن عساكر والحافظ أبو حفص ابن شاهين، والحافظ أبو القاسم السهيلي، والإمام القرطبي، والحافظ محب الدين الطبري، والعلامة ناصر الدين بن المنير، والحافظ فتح الدين بن سيد الناس، ونقله عن بعض أهل العلم.
ومشى عليه الصلاح الصّفدي في نظم له والحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي في أبيات له فقال:
حبا الله النبي مزيد فضلٍ
…
على فضلٍ وكان به رؤوفا
فأحيا أمّه وكذا أباه
…
لإيمانٍ به فضلا لطيفا
فسلّم فالقديم بذا قديرٌ
…
وإن كان الحديث به ضعيفا
وأخبرني بعض الفضلاء أنه وقف على فتيا بخط شيخ الإسلام ابن حجر أنه أجاب فيها بهذا، إلا أني لم أقف على ذلك، وإنما وقفت على كلامه الذي قدمته في المسلك الثاني.
وقال السهيلي رحمه الله تعالى في أوائل «الروض الأنف» بعد إيراد حديث أنه صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما له فآمنا به ثم أماتهما ما نصه: «والله قادر على كل شيء وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء، ونبيه صلى الله عليه وسلم أهلٌ أن يختصه بما شاء من كرامته» . وقال في موضع آخر من الكتاب في حديث
أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: «لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك»
ما نصه: «في قوله: جدّ أبيك ولم يقل جدك يعني أباه تقوية للحديث الضعيف الذي قدمنا ذكره: أن الله تعالى أحيا أمه وأباه وآمنا به» انتهى.
مع أن الحديث الذي أورده السهيلي لم يذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وإنما أورد ابن الجوزي حديثاً آخر من طريق آخر في إحياء أمه فقط وفيه قصة بلفظٍ غير لفظ الحديث الذي أورده السهيلي. فعلم أنه حديث آخر مستقل وقد جعل هؤلاء الأئمة هذا الحديث ناسخاً للأحاديث الواردة لما يخالف ذلك، ونصوا على أنه متأخر عنها فلا تعارض بينه وبينها.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل تتوالى وتتابع إلى آخر مماته، فيكون هذا مما فضّله الله به وأكرمه. قال: وليس إحياؤهما وإيمانهما به بممتنع عقلا ولا شرعا، فقد ورد في القرآن إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يحيِ الموتى وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم قال: وإذا ثبت هذا فما يمتنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته صلى الله عليه وسلم وفضيلته؟.
وبسط الشيخ رحمه الله تعالى الكلام على ذلك في «مسالك الحنفا» ويأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في باب وفاة أمه صلى الله عليه وسلم.
خاتمة وجمع من العلماء لم تقو عندهم هذه المسالك فأبقوا حديث مسلم ونحوه على ظاهرها من غير عدول عنها بدعوى نسخ ولا غيره، ومع ذلك قالوا: لا يجوز لأحد أن يذكر ذلك.
قال السهيلي في الروض الأنف بعد إيراده حديث مسلم: وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم:
«لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات»
[ (1) ] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية.
وسئل القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية رحمه الله تعالى عن رجل قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار. فأجاب: بأن من قال ذلك فهو ملعون لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قال ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه: أنه في النار.
ومن العلماء من ذهب إلى قول خامس وهو الوقف. قال الشيخ تاج الدين الفاكهاني في كتابه «الفجر المنير» : الله أعلم بحال أبويه صلى الله عليه وسلم. وقال الباجيّ [ (2) ] في شرح الموطّأ: قال بعض العلماء: أنه لا يجوز أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل مباح ولا غيره، وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذى بمباح وليس له المنع منه، ولا يأثم فاعل المباح وإن وصل ذلك إلى أذى غيره. قال:
ولذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلم إذ أراد علي ابن أبي طالب أن يتزوج ابنة أبي جهل: «إنما فاطمة بضعة مني وإني لا أحرّم ما أحل الله، ولكن لا والله لا تجتمع ابنة رسول الله وابنة عدو الله عند رجل أبداً» .
فجعل حكمها في ذلك حكمه أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح. واحتج على ذلك بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً فشرط على المؤمنين أن يؤذوا بغير ما اكتسبوا. وأطلق الأذى في خاصة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط. انتهى.
[ (1) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (37417) .
[ (2) ] سليمان بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي، أبو الوليد الباجي: فقيه مالكي كبير، من رجال الحديث. أصله من بطليوس ومولده في باجة بالأندلس. رحل إلى الحجاز سنة 426 هـ، فمكث ثلاثة أعوام. وأقام ببغداد ثلاثة أعوام، وبالموصل عاما، وفي دمشق وحلب مدة. وعاد إلى الأندلس، فولي القضاء في بعض أنحائها. وتوفي بالمرية. من كتبه «السراج في علم الحجاج» و «إحكام الفصول، في أحكام الأصول» . توفي سنة 474 هـ. الأعلام 3/ 125.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق يحيى بن عبد الملك بن أبي عتبة قال: حدثنا نوفل بن الفرات. وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. قال: كان رجل من كتّاب الشام مأموناً عندهم استعمل رجلا على كورة الشام وكان أبوه يزنّ بالمانيّة [ (1) ] فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فقال: ما حملك على أن تستعمل رجلاً على كورة من كور المسلمين كان أبوه يزنّ بالمانيّة؟ قال: أصلح الله أمير المؤمنين وما على من كان أبوه كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم مشركاً. فقال عمر آه. ثم سكت ثم رفع رأسه ثم قال: أأقطع لسانه؟ أأقطع يده ورجله؟ أأضرب عنقه؟ ثم قال: لا يلي شيئاً ما بقيت.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: وقد سئلت أن أنظم في هذه المسألة أبياتاً أختم بها هذا التأليف فقلت:
إنّ الذي بعث النبي محمداً
…
أنجى به الثقلين مما يجحف
ولأمه وأبيه حكمٌ شائعٌ
…
أبداه أهل العلم فيما صنّفوا
فجماعةٌ أجروهما مجرى الذي
…
لم يأته خبر الدعاة المسعف
والحكم فيمن لم تجئه دعوة
…
أن لا عذاب عليه حكمٌ يؤلف
فبذاك قال الشافعية كلهم
…
والأشعريّة ما بهم متوقّف
وبسورة الإسراء فيه حجّة
…
وبنحو ذا في الذكر آيٌ تعرف
ولبعض أهل الفقه في تعليله
…
معنىً أدقّ من النسيم وألطف
ونحا الإمام الفخر رازيّ الورى
…
منحىً به للسامعين تشنّف
إذ هم على الفطر الذي ولدوا ولم
…
يظهر عناد منهم وتخلّف
قال الألى ولد النبي المصطفى
…
كلٌّ على التوحيد إذ يتحنّف
من آدم لأبيه عبد الله ما
…
فيهم أخو شركٍ ولا مستنكف
فالمشركون كما بسورة توبةٍ
…
نجسٌ وكلّهم بطهرٍ يوصف
وبسورة الشعراء فيه تقلّبٌ
…
في الساجدين فكلّهم متحنّف
هذا كلام الشيخ فخر الدين في
…
أسراره هطلت عليه الذّرّف
فجزاه ربّ العرش خير جزائه
…
وحباه جنّات النّعيم تزخرف
فلقد تديّن في زمان الجاهل
…
يّة فرقةٌ دين الهدى وتحنّفوا
زيد بن عمرو بن نوفل هكذا الصدّ
…
يق ما شركٌ عليه يعكف
قد فسّر السّبكي بذاك مقالةً
…
للأشعريّ وما سواه مزيّف
[ (1) ] يزن: أي يتهم.
إذ لم تزل عين الرضا منه على ال
…
صّدّيق وهو بطول عمر أحنف
عادت عليه صحبة الهادي فما
…
في الجاهليّة للضّلالة يقرف
فلأمّه وأبوه أحرى سيّما
…
ورأت من الآيات ما لا يوصف
وجماعةٌ ذهبوا إلى إحيائه
…
أبويه حتى آمنا لا خرّفوا
وروى ابن شاهين حديثاً مسنداً
…
في ذاك لكنّ الحديث مضعّف
هذي مسالك لو تفرّد بعضها
…
لكفى فكيف بها إذا تتألّف
وبحسب من لا يرتضيها صمته
…
أدباً ولكن أين من هو منصف
صلّى الإله على النبي محمّدٍ
…
ما جدّد الدين الحنيف محنّف
ابن عبد المطلب عبد المطلب: مفتعل من الطلب. يكنى أبا الحارث، وأبا البطحاء، واسمه شيبة الحمد.
قال السهيلي: وهو الصحيح. وقيل عامر. قال أبو عمر رحمه الله تعالى: ولا يصح: واختلف لم سمّي شيبة. فقيل: إنه ولد وفي رأسه شيبة وكانت ظاهرة في ذؤابته. وقيل: لأن أباه وصّى أمه بذلك. ولقّب عبد المطلب لأن أباه هاشماً قدم المدينة تاجراً فنزل على عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي النجار. ذكر هذا النسب مصعب. وقال الزهري:
عمرو بن زيد بن عدي بن النجّار. وقال ابن إسحق رحمه الله تعالى: زيد بن عمرو بن أسد بن حرام بن خداش بن جندب بن عدي بن النجّار.
فلمح ابنته سلمى بنت عمرو فأعجبته فخطبها إلى أبيها فأنكحه إياها وشرط عليه أنها لا تلد ولداً إلا في أهلها. فمضى هاشم ولم يبنِ بها حتى رجع، فبنى بها عند أهلها وسكن معها سنين، ثم ارتحل إلى مكة بها، فلما أثقلت خرج بها فوضعها عند أبيها ومضى إلى الشام فمات بغزة من وجهه ذلك. وولدت عبد المطلب فمكث بالمدينة سبع سنين أو ثمانياً، ثم إن رجلا من أهل تهامة من بني الحارث بن عبد مناف مرّ بالمدينة فإذا غلمان ينتضلون وإذا غلام فيهم إذا أصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء. فقال له الرجل: ممن أنت يا غلام؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف. فانصرف الرجل حتى قدم مكة فوجد المطلب بن عبد مناف جالساً في الحجر فقال له: قم يا أبا الحارث. فقام إليه فقال: تعلّم أني جئت الآن من يثرب فوجدت غلماناً ينتضلون. وقصّ عليه ما رأى من عبد المطلب. قال: وإذا أظرف غلام رأيته قط ولا يحسن أن يترك مثله. قال المطّلب: أغفلته والله! أما والله لا أرجع إلى أهلي ومالي حتى آتيه. فأعطاه الحارث ناقته فركبها.
فخرج المطلب بن عبد مناف حتى أتى المدينة عشيّاً ثم خرج براحلته حتى أتى بني عديّ ابن النجار فإذا بغلمان من بين ظهراني المجلس، فلما نظر إلى ابن أخيه قال: هذا ابن هاشم؟ فقال القوم: نعم. وعرف القوم المطّلب. فقالوا: نعم هذا ابن أخيك، فإن كنت تريد أخذه فالساعة لا تعلم أمه فإنها إن علمت حلنا بينك وبينه. فأناخ راحلته ثم دعاه فقال: يا بن أخي أنا عمّك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك فاركب. فو الله ما كذب أن جلس على عجز الرّحل وجلس المطّلب على الرحل ثم بعث راحلته فانطلق به. فلما علمت أمه أن عمه ذهب به علقت تدعو من حزنها على ابنها وقالت:
كنّا ولاة حمّه ورمّه [ (1) ]
…
حتّى إذا قام على أتمّه
انتزعوه غيلةً من أمّه
…
وغلب الأخوال حقّ عمّه
وقيل إنه أخذه بإذن أمّه.
ولما دخل المطلب مكة دخل ضحوةً مردفه خلفه والناس في أسواقهم ومجالسهم، فقاموا يرحّبون به ويقولون: من هذا معك؟ فيقول هذا عبدي ابتعته بيثرب. ثم خرج به حتى جاء الحزورة فابتاع له حلّة، ثم أدخله على امرأته خديجة ابنة سعيد بن سعد بن سهم، فلما كان العشي ألبسه الحلّة ثم أجلسه في مجلس بني عبد مناف وأخبرهم خبره. وجعل بعد ذلك يخرج في تلك الحلّة فيطوف في سكك مكة وكان أحسن الناس وجها فيقولون: هذا عبد المطلب. لقول المطلب: هذا عبدي. فثبت اسمه عبد المطلب. وترك شيبة.
وكان عبد المطلب يكثر زيارة أخواله ويبرّهم.
حمّة: بحاء مهملة يجوز ضمها وفتحها يعني قليلة. رمّة: براء يجوز فتحها وضمها يعني كثيرة.
وروى البلاذري عن محمد بن السائب وغيره قالوا: كان عبد المطلب من حلماء قريش وحكمائها، وكان نديمه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان في جوار عبد المطلب يهودي يقال له أذينة وكان اليهودي يتسوّق في أسواق تهامة بماله، فغاظ ذلك حرباً فألّب عليه فتيان قريش وقال: هذا العلج الذي يقطع إليكم ويخوض في بلادكم بمالٍ جمّ كثير من غير جوار ولا خيل، والله لو قتلتموه وأخذتم ماله ما خفتم تبعة ولا عرض لكم أحدٌ يطلب دمه. فشدّ عليه عامر بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي وصخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة فقتلاه. فجعل عبد المطلب لا يعرف له قاتلاً، فلم يزل يبحث
[ (1) ] الحمّ ما أذيب من الشحم- وما بقي من الشحم المذاب، وحم الشيء معظمه يقال: ما له حمّ ولا رمّ: لا قليل ولا كثير، وما لك عن ذلك حم ولا رم: بدّ وما له حم ولا سمّ غيرك: ما له هم غيرك. المعجم الوسيط 1/ 200.