الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء".
وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق "انظروا: إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه". وعلّقه البخاريّ في صحيحه. فيستفاد منه كما قال الحافظ ابن
حجر ابتداء تدوين الحديث النبويّ. وقال الهرويّ في ذم الكلام: "ولم تكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها حفظًا ويأخذونها لفظًا إلا كتاب الصدقات، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت، أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن محمد فيما كتب إليه أن انظر ما كان من سنّة أو حديث فاكتبه".
وقال في مقدمة الفتح: وأوّل من جمع في ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حده، إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، وصنّف الإمام مالك بن أنس الموطأ بالمدينة، وعبد الملك بن جريح بمكة، وعبد الرحمن الأوزاعيّ بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من الأئمة في التصنيف كلٌّ على حسب ما سنح له، وانتهى إليه علمه، فمنهم من رتب على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبي بكر بن شيبة وأحمد بن منيع وأبي خيثمة والحسن بن سفيان وأبي بكر البزار وغيرهم، ومنهم من رتب على العلل بأن يجمع في كل متن طرقه واختلاف الرواة فيه، بحيث يتضح إرسال ما يكون متصلاً أو وقف ما يكون مرفوعًا أو غير ذلك، ومنهم من رتبه على الأبواب الفقهية وغيرها ونوّعه أنواعًا وجمع ما ورد في كل نوع وفي كل حكم إثباتًا ونفيًا في باب فباب، بحيث يتميز ما يدخل في الصوم مثلاً عما يتعلق بالصلاة، وأهل هذه الطريقة منهم من تقيد بالصحيح كالشيخين وغيرهما، ومنهم من لم يتقيد بذلك كباقي الكتب الستة. وكان أوّل من صنف في الصحيح محمد بن إسماعيل البخاري أسكننا الله تعالى معه في بحبوحة جنانه بفضله الساري، ومنهم المقتصر على الأحاديث المتضمنة للترغيب والترهيب، ومنهم من حذف الإسناد واقتصر على المتن فقط كالبغوي في مصابيحه واللؤلؤي في مشكاته.
وبالجملة فقد كثرت في هذا الشأن التصانيف، وانتشرت في أنواعه وفنونه التآليف، واتسعت دائرة الرواية في المشارق والمغارب، واستنارت مناهج السُّنة لكل طالب.
الفصل الثالث
في نبذة لطيفة جامعة لفرائد فوائد مصطلح الحديث عند أهله وتقسيم أنواعه وكيفية تحمله وأدائه ونقله مما لا بدّ للخائض في هذا الشرح منه لما علم أن لكل أهل فنّ اصطلاحًا يجب استحضاره عند الخوض فيه
وأوّل من صنف في ذلك القاضي أبو محمد الرامهرمزي في كتابه المحدّث الفاضل، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، ثم أبو نعيم الأصبهاني، ثم الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية في قوانين الرواية، وكتاب الجامع لآداب الشيخ والسامع، ثم القاضي عياض في الإلماع، والحافظ القطب أبو بكر بن أحمد القسطلاني في المنهج المبهج عند الاستماع لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع، وأبو جعفر الميانجي في جزء سمّاه ما لا يسع المحدّث جهله، ثم الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، فعكف الناس عليه وساروا بسيره، فمنهم الناظم له والمختصر والمستدرك عليه، والمقتصر والعارض له والمنتصر، فجزاهم الله تعالى خيرًا.
وإذا علم هذا فليعلم أنهم قسموا السنن المضافة له صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً أو تقريرًا، وكذا وصفًا وخلقًا ككونه ليس بالطويل ولا بالقصير، وأيامًا كاستشهاد حمزة وقتل أبي جهل، إلى متواتر، ومشهور، وصحيح، وحسن، وصالح، ومضعف وضعيف، ومسند، ومرفوع، وموقوف، وموصول، ومرسل، ومقطوع، ومنقطع، ومعضل، ومعنعن، ومؤنن، ومعلق، ومدلس، ومدرج، وعال، ونازل، ومسلسل، وغريب، وعزيز، ومعلل، وفرد، وشاذ، ومنكر،
ومضطرب، وموضوع، ومقلوب، ومركب، ومنقلب، ومدبج، ومصحف، وناسخ، ومنسوخ، ومختلف.
فالمتواتر الذي يرويه عدد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب من ابتدائه إلى انتهائه، وينضاف لذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه، كحديث "من كذب عليّ متعمدًا" فنقل النوويّ أنه جاء عن مائتين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
والمشهور وهو أوّل أقسام الآحاد ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين، كحديث "إنما الأعمال
بالنيّة" لكنه إنما طرأت له الشهرة من عند يحيى بن سعيد، وأوّل إسناده فرد، وهو ملحق بالمتواتر عندهم، إلا أنه يفيد العلم النظريّ.
والصحيح ما اتصل سنده بعدول ضابطين بلا شذوذ، بأن لا يكون الثقة خالف أرجح منه حفظًا أو عددًا مخالفة لا يمكن الجمع، ولا علة خفية فادحة مجمع عليها، أي إسناده ضعيف لا أنه مقطوع به في نفس الأمر، لجواز خطأ الضابط الثقة ونسيانه. نعم يقطع به إذا تواتر، فإن لم يتصل بأن حذف من أوّل سنده أو جميعه لا وسطه فمعلق، وهو في صحيح البخاريّ يكون مرفوعًا وموقوفًا، يأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في الفصل التالي، والمختار لا يجزم في سند بأنه أصح الأسانيد مطلقًا غير مقيد بصحابيّ، تلك الترجمة لعسر الإطلاق، إذ يتوقف على وجود درجات القبول في كل فرد فرد من رواة السند المحكوم له، فإن قيد بصاحبها ساغ، فيقال مثلاً أصح أسانيد أهل البيت جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه عن علي رضي الله عنه إذا كان الراوي عن جعفر ثقة، وأصح أسانيد الصدّيق رضي الله عنه إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر، وأصح أسانيد عمر رضي الله عنه الزهريّ عن سالم عن أبيه عن جدّه، وأصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه الزهريّ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وأصح أسانيد ابن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر، وأصح أسانيد عائشة عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها وعنهم أجمعين. ويحكم بتصحيح نحو جزء نص على صحته من يعتمد عليه من الحفاظ النقاد، أو لم ينص على صحته معتمد، فالظاهر جواز تصحيحه لمن تمكنت معرفته وقوي إدراكه كما ذهب إليه ابن القطان والمنذريّ والدمياطيّ والسبكي وغيرهم، خلافًا لابن الصلاح، حيث منع لضعف أهل هذه الأزمان.
والحسن ما عرف مخرّجه من كونه حجازيًّا شاميًّا عراقيًّا مكيًّا كوفيًّا، كان يكون الحديث عن راوٍ قد اشتهر برواية أهل بلده، كقتادة في البصريين، فإن حديث البصريين إذا جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفًا، بخلافه عن غيره. والمراد به الاتصال، فالمنقطع والمرسل والمعضل لغيبة بعض رجالها لا يعلم مخرج الحديث منها لا يسوغ الحكم بمخرجه، فالمعتبر الاتصال، ولو لم نعرف المخرج، إذ كل معروف المخرج متصل ولا عكس، وشهرة رجاله بالعدالة والضبط المنحط عن الصحيح، ولو قيل هذا حديث حسن الإسناد أو صحيحه فهو دون قولهم حديث حسن صحيح أو حديث حسن، لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد لاتصاله وثقة رواته وضببطهم دون المتن، لشذوذ أو علة. وما قيل فيه حسن صحيح أي صح بإسناد وحسن بآخر.
والصالح دون الحسن، قال أبو داود وما كان في كتابي السنن من حديث فيه وهن شديد، فقد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح. وبعضها أصح من بعض اهـ. قال الحافظ ابن حجر لفظ صالح في كلامه أعمّ من أن يكون للاحتجاج أو للاعتبار، فما ارتقى إلى الصحة ثم إلى الحسن فهو بالمعنى الأوّل، وما عداهما فهو بالمعنى الثاني، وما قصر عن ذلك فهو الذي فيه وهن شديد.
والمضعف ما لم يجمع على ضعفه بل في متنه أو سنده تضعيف لبعضهم وتقوية للبعض الآخر وهو أعلى من الضعيف وفي البخاري منه.
والضعيف ما قصر عن درجة الحسن وتتفاوت درجاته في الضعف بحسب بعده من شروط الصحة.
والمسند ما اتصل سنده من رواته إلى منتهاه رفعًا ووقفًا.
والمرفوع ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير متصلاً كان أو منقطعًا، ويدخل فيه المرسل ويشمل الضعيف.
والموقوف ما قصر على الصحابيّ قولاً أو فعلاً ولو منقطعًا، وهل يسمى أثرًا؟ نعم. ومنه قول الصحابي: كنا نفعل ما لم يضفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فإن أضافه إليه كقول جابر: كنّا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قبيل المرفوع وإن كان لفظه موقوفًا لأن غرض الراوي بيان الشرع. وقيل لا يكون مرفوعًا. وقول الصحابي من السنة كذا أو أمرنا بضم الهمزة، أو كنا نؤمر أو نهينا أو أبيح، فحكمه الرفع أيضًا، كقول الصحابي: أنا أشبهكم صلاة به صلى الله عليه وسلم، كتفسير تعلق بسبب النزول، وحديث المغيرة:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافير" صوّب ابن الصلاح رفعه، وقال الحاكم موقوف، وقول التابعي فمن دونه يرفعه أو رفعه أو مرفوعًا أو يبلغ به أو يرويه أو ينمّيه بفتح أوّله وسكون ثانيه وكسر ثالثه، أو يسنده أو يأثره مرفوع بلا خلاف، والحامل له على ذلك الشك في الصيغة التي سمع بها، أهي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو النبيّ أو نحو ذلك، كسمعت أو حدّثني، وهو ممّن لا يرى الإبدال أو طلبًا للتخفيف وإيثارًا للاختصار أو للشك في ثبوته أو ورعًا، حيث علم أن المرويّ بالمعنى فيه خلاف، وفي بعض الأحاديث قول الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعه، وهو في حكم قوله عن الله تعالى، ولو قال تابعيّ كنّا نفعل، فليس بمرفوع ولا بموقوف إن لم يضفه لزمن الصحابة، بل مقطوع. فإن أضافه لزمنهم احتمل الوقف، لأن الظاهر اطّلاعهم عليه وتقريرهم واحتمل عدمه لأن تقرير الصحابيّ قد لا ينسب إليه بخلاف تقريره صلى الله عليه وسلم، وإذا أتى شيء عن صحابي موقوفًا عليه مما لا مجال للاجتهاد فيه كقول ابن مسعود: من أتى ساحرًا أو عرّافًا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فحكمه الرفع تحسينًا للظن بالصحابة. قاله الحاكم.
والموصول ويسمى المتصل ما اتصل سنده رفعًا ووقفًا لا ما اتصل للتابعي، نعم يسوغ أن يقال متصل إلى سعيد بن المسيب أو إلى الزهري مثلاً.
والمرسل ما رفعه تابعي مطلقًا أو تابعي بكبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ضعيف لا يحتج به عند الشافعي والجمهور، واحتج به أبو حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه، فإن اعتضد بمجيئه من وجه آخر مسندًا أو مرسلاً آخر أخذ مرسله العلم عن غير رجال المرسل الأوّل، احتج به. ومن ثم احتج الشافعي بمراسيل سعيد بن المسيب، لأنها وجدت مسانيد من وجوه. أُخر. قال النووي: إنما اختلف
أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن على قولين، أحدهما أنه حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل لأنها وجدت مسندة، ثانيهما أنها ليست بحجة عنده بل كغيرها، وإنما رجح الشافعي بمرسله، والترجيح بالمرسل جائز. قال الخطيب: والصواب الثاني.
وأما الأول فليس بشيء لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد بحال من وجه يصح، وأما مرسل الصحابيّ كابن عباس وغيره من صغار الصحابة عنه صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعوه منه فهو حجة، وإذا تعارض الوصل والإرسال بأن تختلف الثقات في حديث فيرويه بعضهم متصلاً وآخر مرسلاً، كحديث "لا نكاح إلا بولي" رواه إسرائيل وجماعة عن أبي إسحق السبيعي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه الثوري وشعبة عن أبي إسحق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل الحكم للمسند إذا كان عدلاً ضابطًا، قال الخطيب وهو الصحيح، وسئل عنه البخاري فحكم لمن وصل، وقال الزيادة من الثقة مقبولة، هذا مع أن المرسل شعبة وسفيان ودرجتهما من الحفظ والإتقان معلومة، وقيل الحكم للأكثر، وقيل للأحفظ، وإذا قلنا به وكان المرسل الأحفظ فلا يقدح في عدالة الواصل وأهليته على الصحيح، وإذا تعارض الرفع والوقف بأن يرفع ثقة حديثًا وقفه ثقة غيره، فالحكم للرافع لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيًا، فالمثبت مقدّم وتقبل زيادة الثقات مطلقًا على الصحيح، سواء كانت من شخص واحد، بأن رواه مرّة ناقصًا ومرّة أخرى وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة من غير من رواه ناقصًا، وقيل بل مردودة مطلقًا، وقيل مردودة منه مقبولة من غيره، وقال الأصوليون إن اتحد المجلس ولم يحتمل غفلته عن تلك الزيادة غالبًا ردّت، وإن احتمل قبلت عند الجمهور، وإن جهل تعدد المجلس، فأولى بالقبول من صورة اتحاده، وإن تعددت يقينًا قبلت اتفافًا.
والمقطوع ما جاء عن تابعي من قوله أو فعله موقوفًا عليه وليس بحجة.
والمنقطع ما سقط من رواته واحد قبل الصحابيّ، وكذا من مكانين وأكثر، بحيث لا يزيد كل ما سقط منها على راوٍ واحد.
والمعضل ما سقط من رواته قبل الصحابيّ اثنان فأكثر، مع التوالي، كقول مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعدم التقيد باثنين، قال ابن الصلاح إن قول المصنفين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبيل المعضل، ومنه أيضًا حذف لفظ النبي والصحاب معًا، ووقف المتن على التابعي، كقول الأعمش عن الشعبي "يقال للرجل يوم القيامة عملت كذا وكذا فيقول ما عملته فتنطق جوارحه" الحديث.
والمعنعن الذي قيل فيه فلان عن فلان، من غير لفظ صريح بالسماع أو التحديث أو الإخبار أتى عن رواة مسمين معروفين موصول عند الجمهور، بشرط ثبوت لقاء المعنعنين بعضهم بعضًا ولو مرة، وعدم التدليس من المعنعن، لكن في شرطية ثبوت اللقاء بينهما. وكذا طول الصحبة ومعرفة الرواية للمعنعن عن المعنعن عنه خلف، صرح باشتراط اللقاء علي بن المديني وعليه البخاري، وجعلاه شرطًا في أصل الصحة، وعزاه النووي للمحققين، وهو مقتضى كلام الشافعي، ولم يشترطه مسلم بل أنكر اشتراطه في مقدمة صحيحه، وادّعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه.
والمؤنن قول الراوي حدثنا فلان أن فلانًا قال، وهو كعن في اللقاء والمجالسة والسماع مع السلامة من التدليس.
والمعلق ما حذف من أوّل إسناده لا وسطه، مأخوذ من تعليق الجدار لقطع اتصاله، وسبق ويأتي حكمه إن شاء الله تعالى في الفصل التالي بعون الله سبحانه.
والمدلس بفتح اللام المشددة ثلاثة:
أحدها، أن يسقط اسم شيخه ويرتقي إلى شيخ شيخه أو من فوقه، فيسند عنه ذلك بلفظ لا يقتضي الاتصال، بل بلفظ موهم له، فلا يقول أخبرنا وما في معناها، بل يقول عن فلان أو قال فلان أو أن فلانًا، موهما بذلك أنه سمعه ممّن رواه عنه، وإنما يكون تدليسًا إذا كان المدلس قد عاصر الذي روى عنه أو لقيه ولم يسمع منه أو سمع منه ولم يسمع ذلك الذي دلسه عنه، فلا يقبل ممن عرف بذلك إلا ما صرح فيه بالاتصال، كسمعت. وفي الصحيحين من حديث أهل هذا القسم المصرح فيه بالسمع كثير، كالأعمش والثوري وما فيهما من حديثهم بالعنعنة ونحوها، محمول على ثبوت السماع عند المخرج من وجه آخر، ولو لم نطلع عليه تحسينًا للظن بصاحبي الصحيح.
ثانيها، تدليس التسوية بأن يسقط ضعيفًا بين شيخيهما الثقتين، فيستوي الإسناد كله ثقات، وهو شر التدليس، وكان بقية بن الوليد أفعل الناس له.
ثالثها، تدليس الشيوخ، بأن يسمي شيخه الذي سمع منه بغير اسمه المعروف، أو ينسبه أو يصفه بما لم يشتهر به تعمية، كيلا يعرف، وهو جائز لقصد تيقظ الطالب واختباره ليبحث عن الرواة.
والمدرج كلام يذكر عقب الحديث متصلاً، يوهم أنه منه، أو يكون عنده متنان بإسنادين فيرويهما بأحدهما، كرواية سعيد بن أبي مريم "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تنافسوا" أدرج ابن أبي مريم ولا تنافسوا من متن آخر. أو يسمع حديثًا من جماعة مختلفين في إسناده أو متنه فيرويه عنهم على الاتفاق، أو يسوق الإسناد فيعرض له عارض فيقول كلامًا من قبل نفسه، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام من متن الحديث فيرويه عنه كذلك، ويكون في المتن تارة في أوّله كحديث أبي هريرة "أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال ويل للأعقاب من النار" فأسبغوا، من قول أبي هريرة والباقي مرفوع. ويكون أيضًا في أثنائه وفي آخره وهو الأكثر، كحديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم علّمه التشهد في الصلاة، فقال التحيات لله الخ. أدرج فيه أبو خيثمة. زهير بن معاوية أحد رواته عن الحسن بن الحر هنا كلامًا لابن مسعود، وهو فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد.
والعالي خمسة: المطلق، وهو القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدد قليل بالنسبة إلى سند آخر يرد بذلك الحديث بعينه بعدد كثير، أو بالنسبة لمطلب الأسانيد والقرب من إمام من أئمة الحديث ذي
صفة عالية كالحفظ والضبط كمالك والشافعي، والقرب بالنسبة لرواية الشيخين وأصحاب
السنن والعلو بتقدم وفاة الراوي، سواء كان سماعه مع متأخر الوفاة في آن واحد أو قبله، والعلوّ بتقدّم السماع، فمن تقدم سماعه من شيخ أعلى ممن سمع من ذلك الشيخ نفسه بعده.
والنازل كالعالي بالنسبة إلى ضد الأقسام العالية.
والمسلسل ما ورد بحالة واحدة في الرواة أو الرواية وأصحها قراءة سورة الصف.
والغريب ما انفرد راوٍ بروايته أو برواية زيادة فيه عمّن يجمع حديثه كالزهري أحد الحفاظ في المتن أو السند، وينقسم إلى غريب صحيح كالأفراد المخرجة في الصحيحين، وإلى غريب ضعيف وهو الغالب على الغرائب، وإلى غريب حسن. وفي جامع الترمذي منه كثير.
والعزيز ما انفرد بروايته اثنان أو ثلاثة دون سائر رواة الحافظ المروي عنه.
والمعلل ولا يقال المعلول، خبر ظاهره السلامة لجمعه شروط الصحة، لكن فيه علة خفية فيها غموض تظهر للنقاد أطباء السنة الحاذقين بعللها عند جمع طرق الحديث والفحص عنها، كمخالفة راوي ذلك الحديث لغيره ممّن هو أحفظ وأضبط وأكثر عددًا وتفرّده وعدم المتابعة عليه، مع قرائن تنبّه على وهمه في وصل مرسل أو رفع موقوف أو إدراج حديث في حديث، أو لفظة أو جملة ليست من الحديث أدرجها فيه، أو وهم بإبدال راوٍ ضعيف بثقة، ويقع في الإسناد والمتن، فالأوّل كحديث يعلى بن عبيد عن الثوري عن عمرو بن دينار "البيعان بالخيار" صرح النقاد بأن يعلى غلط إنما هو عبد الله بن دينار لا عمرو بن دينار، وشذّ بذلك عن سائر أصحاب الثوري، وسبب الاشتباه اتفاقهما في اسم الأب وفي غير واحد من الشيوخ، وتقاربهما في الوفاة. وأما علة المتن فكحديث مسلم من جهة الأوزاعي عن قتادة، أنه كتب إليه يخبره عن أنس أنه حدّثه أنه قال صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل قراءة ولا في آخرها، فقد أعلّ الشافعي رضي الله عنه وغيره هذه الزيادة التي فيها عدم البسملة، بأن سبعة أو ثمانية خالفوا في ذلك واتفقوا على الاستفتاح بالحمد لله رب العالمين، ولم يذكروا البسملة. والمعنى أنهم يبدؤون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، ولا يعني أنهم يتركون البسملة. وحينئذ فكأن بعض رواته فهم من الاستفتاح نفي البسملة، فصرّح بما فهمه وهو مخطىء في ذلك. ويتأيد بما صح عن أنس أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم، فقال للسائل إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك، على أن قتادة ولد أكمه وكاتبه لم يعرف، وهذا أهم في التعليل، وهذا من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها ولا يقوم به إلا ذو فهم ثاقب وحفظ واسع ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية
بالأسانيد والمتون، وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفيّ في نقد الدينار والدرهم.
والفرد يكون مطلقًا بأن ينفرد الراوي الواحد عن كل واحد من الثقات وغيرهم، ويكون بالنسبة إلى صفة خاصة، وهو أنواع: ما قيد بثقة، كقول القائل في حديث قراءته صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر بقاف واقتربت، لم يروه ثقة إلا ضمرة بن سعيد، فقد انفرد به عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي واقد الليثي صحابيه، أو ببلد معين كمكة والبصرة والكوفة. كقول القائل في حديث أبي سعيد الخدري المروي عند أبي داود في كتابيه السنن، والتفرد، عن أبي الوليد الطيالسي عن همام عن قتادة عن أبي نضرة عنه، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. لم يرو هذا الحديث غير أهل البصرة. قال الحاكم إنهم تفردوا بذكر الأمر فيه من أول الإسناد الخ، ولم يشركهم في لفظه سواهم. وكذا قال في حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أن قوله ومسح رأسه بماء غير فضل يده، سنّة غريبة تفرّد بها أهل مصر لم يشركهم أحد. ولا يقتضي شيء من ذلك ضعفه إلا أن يراد تفرّد واحد من أهل البصرة، فيكون من الفرد المطلق. والثالث ما قيد براوٍ مخصوص حيث لم يروه عن فلان إلا فلان، كقول أبي الفضل بن طاهر عقب الحديث المروي في السنن الأربعة من طريق سفيان
بن عيينة عن وائل بن داود عن ولده بكر بن وائل عن الزهري عن أنس، أن النبي أولم على صفية بسويق وتمر. لم يروه عن بكر إلا وائل، ولم يروه عن وائل غير ابن عيينة فهو غريب.
وكذا قال الترمذي إنه حسن غريب. قال وقد رواه غير واحد عن ابن عيينة عن الزهريّ يعني بدون وائل وولده، قال وكان ابن عيينة ربما دلسهما، والحكم بالتفرّد يكون بعد تتبّع طرق الحديث الذي يظن أنه فرد هل شارك راويه آخر أم لا، فإن وجد بعد كونه فردًا أن راويًا آخر ممن يصلح أن يخرج حديثه للاعتبار والاستشهاد به وافقه، فإن كان التوافق باللفظ سمي متابعًا، وإن كان بالمعنى سمي شاهدًا، وإن لم يوجد من وجه بلفظه أو بمعناه فإنه يتحقق فيه التفرّد المطلق حينئذ. ومظنة معرفة الطرق التي يحصل بها المتابعات والشواهد وتنتفي بها الفردية الكتب المصنفة في الأطراف، وقد مثل ابن حبان لكيفية الاعتبار بأن يروي حماد بن سلمة حديثًا لم يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين، فإن وجد علم به أن للحديث أصلاً يرجع إليه، وإن لم يوجد ذلك فثقة غير ابن سيرين، رواه عن أبي هريرة، وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأي ذلك وجد علم به أن للحديث أصلاً يرجع إليه، وإلا فلا. وكما أنه لا انحصار للمتابعات في الثقة كذلك الشواهد، فيدخل فيهما رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودًا في الضعفاء، وفي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك. وكذا قال الدارقطني فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به. وقال النووي في شرح مسلم "وإنما يدخلون الضعفاء لكون التابع لا اعتماد عليه وإنما الاعتماد على من قبله " اهـ.
قال شيخنا ولا انحصار له في هذا، بل قد يكون كلٌّ من المتابع والمتابع لا اعتماد عليه، فباجتماعهما تحصل القوة، ومثال المتابع والشاهد ما رواه الشافعي في الأم عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه. فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". فإنه في جميع الموطآت عن مالك بهذا السند بلفظ فإن غمّ عليكم فاقدروا له. وأشار البيهقي إلى أن الشافعي تفرد بهذا اللفظ عن مالك فنظرنا فإذا البخاري روى الحديث في صحيحه، فقال حدّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدّثنا مالك به بلفظ الشافعي سواء، فهذه متابعة تامة في غاية الصحة لرواية الشافعي، ودلّ هذا على أن مالكًا رواه عن عبد الله بن دينار باللفظين معًا وقد توبع فيه عبد الله بن دينار من وجهين عن ابن عمر، أحدهما أخرجه مسلم من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع، فذكر الحديث، وفي آخره فإن غمّ عليكم فاقدروا ثلاثين. والثاني أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه عن جدّه ابن عمر بلفظ فإن غمّ عليكم فكملوا ثلاثين. فهذه متابعة لكنها ناقصة، وله شاهدان أحدهما من حديث أبي هريرة رواه البخاري عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين. وثانيهما من حديث ابن عباس، أخرجه النسائي من رواية عمرو بن دينار عن محمد بن حنين عن ابن عباس بلفظ حدّثنا ابن دينار عن ابن عمر سواء. وإنما أطلت الكلام في هذا لكثرة ما في البخاري منه والله سبحانه الموفق والمعين.
والشاذ ما خالف الراوي الثقة فيه جماعة الثقات بزيادة أو نقص فيظن أنه وهم فيه. قال ابن الصلاح الصحيح التفصيل، فما خالف فيه المنفرد من هو أحفظ وأضبط فشاذ مردود، وإن لم يخالف بل روى شيئًا لم يروه غيره وهو عدل فصحيح أو غير ضابط، ولا يبعد عن درجة الضابط فحسن، وإن بعد فشاذ منكر. ويكون الشذوذ في السند كرواية الترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلاً توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع وارثًا إلى مولى هو أعتقه الحديث. فإن حماد
بن زيد رواه عن عمرو مرسلاً بدون ابن عباس، لكن قد تابع ابن عيينة على وصله ابن جريج وغيره. ويكون في المتن كزيادة يوم عرفة في حديث "أيام التشريق أيام أكل وشرب" فإن الحديث من جميع طرقه بدونها، وإنما جاء بها موسى بن علي (بالتصغير) ابن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر، كما أشار إليه ابن عبد البر. على أنه قد صحح حديث موسى هذا ابنا خزيمة وحبان والحاكم، وقال على شرط مسلم، وقال الترمذي حسن صحيح. وكأن ذلك لأنها زيادة ثقة غير منافية لإمكان حملها على حاضري عرفة.
والمنكر الذي لا يعرف متنه من غير جهة راويه فلا متابع له ولا شاهد، قاله البرديجي. والصواب التفصيل الذي ذكره ابن الصلاح في الشاذ، فمثال ما انفرد به ثقة يحمل تفرّده حديث مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما رفعه
"لا يرث المسلم الكافر" فإن مالكًا خالف في تسمية راويه عمر بضم العين، غيره، حيث هو عندهم عمرو بفتحها. وقطع مسلم وغيره على مالك بالوهم فيه. ومثال ما انفرد به ثقة لا يحمل تفرده حديث أبي ذكير يحيى بن محمد بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعًا: كلوا البلح بالتمر. الحديث تفرد به أبو ذكير وهو شيخ صالح أخرج له مسلم في صحيحه، غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحمل تفرده، وقد ضعفه ابن معين وابن حبان، وقال ابن عدي أحاديثه مستقيمة سوى أربعة عدّ منها هذا.
والمضطرب ما روي على أوجه مختلفة متدافعة على التساوي في الاختلاف من راوٍ واحد، بأن رواه مرة على وجه وأخرى على آخر مخالف له، أو رواه أكثر بأن يضطرب فيه راويان فأكثر، ويكون في سند رواته ثقات، كحديثًا "شيبتني هود وأخواتها"، فإنه اختلف فيه على أبي إسحق، فقيل عنه عن عكرمة عن أبي بكر، ومنهم من زاد بينهما ابن عباس، وقيل عنه عن أبي جحيفة عن أبي بكر، وقيل عنه عن البراء عن أبي بكر، وقيل عنه عن أبي ميسرة عن أبي بكر، وقيل عنه عن مسروق عن عائشة عن أبي بكر، وقيل عنه عن علقمة عن أبي بكر، وقيل عنه عن عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر، وقيل عنه عن عامر بن سعد عن أبيه عن أبي بكر، وقيل عنه عن مصعب بن سعد عن أبيه عن أبي بكر، وقيل عنه عن أبي الأحوص عن ابن مسعود. وقد يكون الاضطراب في المتن، وقل أن يوجد مثال سالم له كحديث نفي البسملة، حيث زال الاضطراب عنه بحمل نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر كما قرر في موضعه من المطوّلات. ثم إن الاضطراب سواء كان في السند أو في المتن موجب للضعف لإشعاره بعدم ضبط الراوي.
والموضوع هو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمى المختلق الموضوع، وتحرم روايته مع العلم به إلا مبينًا، والعمل به مطلقًا وسببه نسيان أو افتراء أو نحوهما، ويعرف بإقرار واضعه أو قرينة في الراوي والروي، فقد وضعت أحاديث يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها. وروينا عن الربيع بن خيثم التابعي الجليل أنه قال إن للحديث ضوءًا كضوء النهار يعرف، وظلمة كظلمة الليل تنكر.
والمقلوب كحديث متنه مشهور براو كسالم أبدل بواحد من الرواة نظيره في الطبقة كنافع ليرغب فيه لغرابته، أو قلب سند لمتن آخر مروي بسند آخر بقصد امتحان حفظ المحدث، كقلب أهل بغداد على البخاري رحمه الله تعالى مائة حديث امتحانًا، فردّها على وجوهها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته.
والمركب كإبدال نحو سالم بنافع كما مر، أو الذي ركب إسناده لمتن آخر ومتنه لإسناد متن آخر.
والمنقلب الذي ينقلب بعض لفظه على الراوي فيتغير معناه، كحديث البخاري في باب أن رحمة الله قريب من المحسنين عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه،
"اختصمت الجنة والنار إلى ربّهما" الحديث. وفيه أنه ينشىء للنار خلقًا صوابه كما رواه في موضع آخر من طريق عبد الرزاق عن همام عن أبي هريرة بلفظ، فأما الجنة فينشىء الله لها خلقًا، فسبق لفظ الراوي من الجنة إلى النار، وصار منقلبًا. ولذا جزم ابن القيم بأنه غلط، ومال إليه البلقيني حيث أنكر هذه الرواية، واحتج بقوله ولا يظلم ربك أحدًا.
والمدبج
بالموحدة والجيم رواية القرينين التقاربين في السن والإسناد، أحدهما عن الآخر، كرواية كلٌّ من أبي هريرة وعائشة عن الآخر، وكرواية التابعي عن تابعي مثله كالزهري وعمر بن عبد العزيز وكذا من دونهما.
والمصحف الذي تغير بنقط الحروف أو حركاتها أو سكناتها، كحديث جابر رمي أُبيّ يوم الأحزاب على أكحله، صحفه غندر فقال أبي بالإضافة، وإنما هو أُبيّ بن كعب وأبو جابر استشهد قبل ذلك في أُحُد.
والناسخ والمنسوخ ويعرف النسخ بتنصيص الشارع عليه كحديث بريدة "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" أو بجزم الصحابي بالتأخر كقول جابر في السنن، كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسّت النار أو بالتاريخ، فإن لم يعرف فإن أمكن ترجيح أحدهما بوجه من وجوه الترجيح متنًا أو إسنادًا لكثرة الرواة وصفاتهم تعين المصير إليه، وإلا فيجمع بينهما، فإن لم يمكن يوقف عن العمل بأحدهما.
والمختلف أن يوجد حديثان متضادان في المعنى بحسب الظاهر، فيجمع بما ينفي التضاد، كحديث "لا عدوى ولا طيرة" مع حديث "فرّ من المجذوم" وقد جمع بينهما بأن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن جعل الله تعالى مخالطة المريض للصحيح سببًا لإعدائه وقد يتخلف.
ومن الأنواع رواية الآباء عن الأبناء، وهو كرواية الأكابر عن الأصاغر، ورواية الأبناء عن الآباء، ويدخل في رواية الابن عن أبيه عن جدّه، وأكثر ما انتهت الآباء فيه إلى أربعة عشر أبًا، والسابق اللاحق وهو من اشترك في الرواية عنه راويان متقدم ومتأخر تباين وقت وفاتيهما تباينًا شديدًا فحصل بينهما أمر بعيد، وإن كان المتأخر غير معدود من معاصري الأوّل ومن طبقته. ومن أمثلة ذلك أن البخاري حدث عن تلميذه أبي العباس السراج بأشياء في التاريخ وغيره، ومات سنة ست وخمسين ومائتين، وآخر مَن حدّث عن السراج بالسماع أبو الحسين الخفات ومات سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، ومنه أن الحافظ السلفي سمع منه أبو عليّ البرداني أحد مشايخه حديثًا رواه عنه ومات على رأس الخمسمائة، ثم كان آخر أصحابه بالسماع سبطه أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي، وكانت وفاته سنة خمسين وستمائة.
ومن فوائده تقرير حلاوة الإسناد في القلوب والإخوة والأخوات، فمن أمثلة الاثنين هشام وعمرو ابنا العاصي وزيد ويزيد ابنا ثابت، ومن الثلاثة سهل وعباد وعثمان بنو حنيف بالتصغير،
ومن الأربعة سهيل وعبد الله الذي يقال له عباد ومحمد وصالح بنو أبي صالح ذكوان السمان، وفي الصحابة عائشة وأسماء وعبد الرحمن ومحمد بنو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، وأربعة ولدوا في بطن وكانوا علماء وهم محمد وعمر وإسماعيل، ومن لم يسمّ بنو أبي إسماعيل السلمي، ومن الخمسة الرواة سفيان وآدم وعمران ومحمد وإبراهيم بنو عيينة، ومن الستة محمد وأنس ويحيى ومعبد وحفصة وكريمة أولاد سيرين وكلهم من التابعين. من لم يرو عنه إلا واحد كرواية الحسن البصري عن عمرو بن تغلب في صحيح البخاري، فإن عمرًا لم يرو عنه غير الحسن قاله مسلم والحاكم، من له أسماء مختلفة ونعوت متعددة وفائدته الأمن من جعل الواحد اثنين، وتوثيق الضعيف وتضعيف الثقة والاطلاع على صنيع المرسلين، ومن أمثلته محمد بن السائب الكلبي المفسّر هو أبو النضر الذي روى عنه ابن إسحق وهو حماد بن السائب الذي روى عنه أبو أسامة، وهو أبو سعيد الذي يروي عنه عطية العوفي موهمًا أنه الخدري، وهو أبو هشام الذي روى عنه القاسم بن الوليد، والمفردات من الأسماء فمن الصحابة سندر بفتح السين والدال المهملتين بينهما نون ساكنة آخره راء، وكلدة بالدال المهملة، وفتحات ابن الحنبل بمهملة مفتوحة بعدها نون ساكنة فموحدة فلام، ووابصة بموحدة مكسورة فمهملة ابن معبد. ومن غير الصحابة تدوم بفوقية مفتوحة ودال مهملة مضمومة ابن صبح، أو بالتصغير الحميري وسعير بالمهملتين مصغرًا ابن الخمس بكسر الخاء المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة، والمفردات من الألقاب سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن غير الصحابة مندل بن علي العنزي واسمه فيما قيل
عمرو، ومشكدانة بضم أوّله وثالثه وبعد الميم شين معجمة وهي وعاء المسك. ومن الكنى أبو العبيد بضم المهملة ثم موحدة مفتوحة تصغير عبد، وأبو العشراء بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة الدارمي، ومن الأنساب اللبقيّ بفتح اللام والموحدة وكسر القاف علي بن سلمة. والكنى تسعة أقسام كنية لصاحب كنية أخرى غيرها ولا اسم له غيرها، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث أحد الفقهاء السبعة كنيته أبو عبد الرحمن، أو تكون الكنية اسمه ولا كنية له كأبي بلال الأشعريّ بن شريك، أو تكون الكنية لقبًا وله اسم وتكنية غيرها كأبي تراب لعليّ بن أبي طالب أبي الحسن، وأبي الزناد لعبد الله ين ذكوان أبي عبد الرحمن. أو يكون له كنية أخرى غيرها أو أكثر من غير سبب لذلك. فمن أمثلة ذلك ذو الكنيتين عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج يكنى أبا خالد وأبا الوليد، ومن الثلاثة منصور الفراوي يكنى أبا بكر وأبا الفتح وأبا القاسم، وكان يقال له ذو الكنى، أو تكون كنيته لا خلاف فيها وفي اسمه اختلاف كأبي بصرة الغفاري، قيل في اسمه جميل بفتح الجيم، وقيل بالحاء المهملة المضمومة وفتح الميم وهو الأصح، أو يكون مختلفًا في كنيته دون اسمه كأبيّ بن كعب، قيل في كنيته أبو المنذر وقيل أبو الطفيل، أو يكون في كلٍّ من اسمه وكنيته خلف كسفينة مو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لقب، وقيل في اسمه صالح، وقيل عمير، وقيل مهران، وكنيته قيل أبو عبد الرحمن وقيل أبو البحتري، أو اتفقا عليهما معًا كأبي عبد الله مالك بن أنس، أو يكون بكنيته أشهر منه باسمه كأبي إدريس الخولانيّ اسمه عائذ الله.
وفائدة هذا النوع البيان، فربما ذكر الراوي مرة بكنيته ومرة باسمه فيتوهم التعدّد مع كونهما واحدًا، والألقاب نوع مهم قد تأتي في سياق الأسانيد مجردة عن الأسماء فيظن أنها أسماء فيجعل ما ذكر باسمه في موضع وبلقبه في موضع آخر شخصين، والذي في البخاري منه: الأحول عامر بن سليمان، الأزرق إسحق بن يوسف، الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، الأعمش سليمان بن مهران، الأغر أبو عبد الله سلمان، الباقر محمد بن علي بن حسين أبو جعفر، الحبر عبد الله بن عباس، البطين مسلم بن عمران، بندار محمد بن بشار، البهيّ عبد الله بن بشار، الحذاء خالد بن مهران، ختن المقري بكر بن خلف، دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم. ذو البطن أسامة بن زيد، ذو اليدين الخرباق، الرشك يزيد الضبعي، سعدان اللخميّ سعيد بن يحيى بن صالح، سلمويه سليمان بن صالح المروزي، سنيد مصغرًا اسمه الحسين، شاذان الأسود بن عامر، عارم محمد بن الفضل السدوسي، عبدان عبد الله بن عثمان، عبدة بن سليمان اسمه عبد الرحمن، عبيد بن إسماعيل هو عبيد الله، عويمر أبو الدرداء اسمه عامر، غندر محمد بن جعفر، فليح بن سليمان قيل اسمه عبد الملك، قتيبة بن سعيد قيل اسمه يحيى، كاتب المغيرة اسمه وراد، الماجشون أبو سلمة، مسدد اسمه عبد الملك، النبيل أبو عاصم الضحاك بن مخلد أبو الزناد لقب وكنيته أبو عبد الرحمن، ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
والأنساب معرفتها مهمة فكثيرًا ما يكون نسبه لقبيلة أو بطن أو جدّ أو بلد أو صناعة أو مذهب أو غير ذلك مما أكثره مجهول عند العامة معلوم عند الخاصة، فربما يقع في كثير منه التصحيف ويكثر الغلط والتحريف، والذي في البخاري منها: الأشجعي عبيد الله بن عبد الرحمن، الأويسي عبد العزيز بن عبد الله، الأنصاري شيخ البخاري محمد بن عبد الله بن المثنى، البدري أبو مسعود عقبة بن عمرو، البراء أبو العالية نسب إلى بري السهام، التيمي سليمان، الثقفي عبد الوهاب بن محمد بن عبد المجيد، الزبيدي محمد بن الوليد، الزبيري أبو أحمد محمد بن عبد الله الأسدي، الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، السبيعي عمرو بن عبد الله أبو إسحق، السعيدي عمرو بن يحيى بن سعيد، الشعبي عامر بن شراحيل، الشيباني أبو إسحق سليمان بن أبي سليمان، الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة، العدني عبد الله بن الوليد، العقدي عبد الملك بن عمرو أبو عامر، العمري
عبيد الله بن عمر بن حفص، الفروي إسحق بن محمد، الفريابي محمد بن يوسف، الفزاري أبو إسحق إبراهيم بن محمد الدمشقي، القمي هو يعقوب بن عبد الله له موضع واحد في الطب، المجمر نعيم بن عبد الله، المحاربي عبد الله بن محمد، المسعودي اسمه عبد الرحمن بن عبد الله، المعمري أبو سفيان محمد بن حميد، المقبري أبو سعيد كيسان وابنه سعيد، المقدمي محمد بن أبي بكر، المقري أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، الملائي أبو نعيم الفضل بن دكين.
ومن الرواة من نسب إلى غير أبيه كيعلى ابن مية نسب إلى جدّته واسم أبيه أمية، ومعاذ ومعوذ
وعوذ بنو عفراء هي أمهم وأبوهم الحرث بن رفاعة، وعبد الله ابن بحينة هي أمه وأبوه مالك، وعبد الله بن أُبي ابن سلول هي أم أُبيّ، ومنهم من نسب إلى زوج أمه كالمقداد بن الأسود. وقد ينسب الراوي إلى نسبة يكون الصواب خلاف ظاهرها كأبي مسعود عقبة بن عمرو البدري، إذ إنه لم ينسب لشهوده بدرًا في قول الجمهور وإن عدّه البخاري فيمن شهدها، بل كان ساكنًا بها، وكسليمان بن طرخان التيمي ليس من تيم بل نزل بها.
وأما المبهمات في الحديث وتكون في الإسناد والمتن من الرجال والنساء، ويتوصل لمعرفتها بجمع طرق الحديث غالبًا. مثاله في السند إبراهيم بن أبي عبلة عن رجل عن واثلة، فالرجل هو الغريق بفتح الغين المعجمة، وفي المتن حديث أبي سعيد الخدري في ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرّوا بحيّ فلم يضيفوهم فلدغ سيدهم فرقاه رجل منهم، الراقي هو أبو سعيد الراوي المذكور. وما في البخاري من هذا النوع يأتي مفسرًا في مواضعه من هذا الشرح إن شاء الله تعالى بعون الله تعالى.
المؤتلف والمختلف وهو ما تتفق صورته خطأ وتختلف صفته لفظًا وهو مما يقبح جهله بأهل الحديث، ومنه في البخاري الأحنف بالحاء المهملة والنون، وبالخاء المعجمة والمثناة التحتية، مكرز بن حفص بن الأحنف، له ذكر في الحديث الطويل في قصة الحديبية. وبشار بالموحدة والمعجمة المشدّدة والد بندار شيخ البخاري والجماعة، وبقية من فيه بهذه الصورة بالتحتية والسين المهملة المخففة وبتقديم السين وتثقيل التحتية أبو المنهال سيار بن سلامة التابعي، إلى غير ذلك مما لا نطيل بسرده لا سيما مع الاستغناء بذكره في هذا الشرح إن شاء الله تعالى بعونه. وإذا علم هذا فليعلم أن شرط الراوي للحديث أن يكون مكلفًا عدلاً متقنًا ويعرف إتقانه بموافقة الثقات، ولا تضرّ مخالفته النادرة، ويقبل الجرح إن بان سببه للاختلاف فيما يوجب الجرح بخلاف التعديل فلا يشترط، ورواية العدل عمن سماه لا تكون تعديلاً، وقيل إن كانت عادته أن لا يروي إلا عن عدل كالشيخين فتعديل وإلا فلا، ولا يقبل مجهول العدالة وكذا مجهول العين الذي لم تعرفه العلماء، وترفع الجهالة عنه رواية اثنين مشهورين بالعلم. والصحابة كلهم عدول، وقبل المستور قوم ورجحه ابن الصلاح. ولا يقبل حديث مبهم ما لم يسمّ إذ شرط قبول الخبر عدالة ناقله، ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه فكيف تعرف عدالته ولا يقبل من به بدعة كفر، أو يدعو إلى بدعة، وإلا قبل لاحتجاج البخاري وغيره بكثير من المبتدعين غير الدعاة، ويقبل التائب. وينبغي أن يعرف من اختلط من الثقات في آخر عمره لفساد عقله وخرفه ليتميز من سمع منه قبل ذلك فيقبل حديثه أو بعده فيرد، ومن روى عنه منهم في الصحيحين محمول على السلامة، وقد أعرضوا عن اعتبار هذه الشروط في زماننا لإبقاء سلسلة الإسناد فيعتبر البلوغ والعقل والستر والإتقان ونحوه. ولألفاظ التعديل مراتب أعلاها ثقة أو متقن أو ضابط أو حجة، ثانيها خير صدوق مأمون لا بأس به وهؤلاء يكتب حديثهم، ثالثها شيخ وهذا يكتب حديثه للاعتبار، رابعها صالح الحديث فيكتب وينظر فيه. ولألفاظ التجريح مراتب أيضًا أدناها لين الحديث يكتب وينظر اعتبارًا، ثانيها ليس بقوي وليس بذاك، ثالثها مقارب الحديث أي
رديئه، رابعها متروك الحديث وكذاب ووضاع ودجال وواهٍ وواه بمرّة بموحدة مكسورة فميم مفتوحة وراء مشددة أي قولاً واحدًا لا تردّد فيه، وهؤلاء ساقطون لا يكتب
عنهم، وفي رواية من أخذ على الحديث (يعني أجرة) تردّد. وفي المتساهل في سماعه وإسماعه كمن لا يبالي بالنوم فيه، أو يحدّث لا من أصل مصحح، أو كثير السهو في روايته إن حدّث من غير أصل، أو أكثر الشواذ والمناكير في حديثه، ومن غلط في حديثه فبيّن له وأصرّ عنادًا ونحوه سقطت روايته، ويستحب الاعتناء بضبط الحديث وتحقيقه نقطًا وشكلاً وإيضاحًا من غير مشق ولا تعليق بحيث يؤمن معه اللبس أو إنما يشكل المشكل ولا يشتغل بتقييد الواضح. وصوَّب عياض شكل الكل للمبتدىء وغير المعرب، ورأى بعض مشايخنا الاقتصار في ضبط البخاري على رواية واحدة لا كما يفعله من ينسخ البخاري من نسخة الحافظ شرف الدين اليونينيّ، لما يقع في ذلك من الخلط الفاحش بسبب عدم التمييز ويتأكد ضبط الملبس من الأسماء، لأنه نقل محض لا مدخل للإفهام فيه، كبريد بضم الموحدة، فإنه يشتبه بيزيد بالتحتية فضبط ذلك أولى لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يدل عليه، ولا مدخل للقياس فيه، وليقابل ما يكتبه بأصل شيخه أو بأصل أصل شيخه المقابل به أصل شيخه أو فرع مقابل بأصل السماع، وليعن بالتصحيح بأن يكتب صح على كلام صح رواية، ومعنى لكونه عرضة للشك أو الخلاف. وكذا بالتضبيب ويسمى التمريض بأن يمدّ خطًّا أوّله كرأس الصاد ولا يلصقه بالممدود عليه على ثابت نقلاً فاسد لفظًا أو معنىً أو ضعيف أو ناقص، ومن الناقص موضع الإرسال. وإذا كان للحديث إسنادان فأكثر كتب عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ح مفردة مهملة إشارة إلى التحويل من أحدهما إلى الآخر، ويأتي مبحثها إن شاء الله تعالى في أوائل الشرح. وإذا قرأ إسناد شيخه المحدّث أوّل الشروع وانتهى عطف عليه بقوله في أوّل الذي يليه، وبه قال حدثنا ليكون كأنه أسنده إلى صاحبه في كل حديث.
وأنواع التحمل أعلاها السماع من لفظ الشيخ سواء قرأ بنفسه أو قرأ غيره على الشيخ، وهو يسمع ويقول فيه عند الأداء أخبرنا، والأحوط الإفصاح. فإن قرأ بنفسه قال قرأت على فلان، وإلا قال قرىء على فلان وأنا أسمع. ثم الإجازة المقرونة بالمناولة بأن يدفع إليه الشيخ أصل سماعه أو فرعًا مقابلاً عليه، ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عني وأجزت لك روايته. ثم الإجازة وهي أنواع أعلاها لمعين كأجزتك البخاري مثلاًَ أو أجزت فلانًا الفلاني جميع فهرستي ونحوه، أو أجزته بجميع مسموعاتي أو مروياتي، أو أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي أو لأهل الإقليم الفلاني. ويقول المحدث بها أنبأنا أو أنبأني، ثم المكاتبة بأن يكتب مسموعه أو مقروءه جميعه أو بعضه لغائب أو حاضر بخطه أو بإذنه مقرونًا ذلك بالإجازة أولاً، ثم الإعلام بأن يقول له هذا الكتاب رويته أو سمعته مقتصرًا على ذلك من غير إذن، وهذه جوّزها كثير من الفقهاء والأصوليين منهم ابن جريج وابن الصباغ. ثم الوصية بأن يوصي الراوي عند موته أو سفره لشخص بكتاب يرويه، فجوّزه محمد بن سيرين وعلّله عياض بأنه نوع من الإذن، والصحيح عدم الجواز إلا إن كان
له من الموصي إجازة فتكون روايته بها لا بالوصية. ثم الوجادة بأن يقف على كتاب بخط يعرفه لشخص عاصره أولاً فيه أحاديث يرويها ذلك الشخص ولم يسمعها ذلك الواجد ولا له منه إجازة، فيقول وجدت أو قرأت بخط فلان كذا ثم يسوق الإسناد والمتن.
(تنبيه): وشرط صحة الإجازة أن تكون من عالم بالمجاز، والمجاز له من أهل العلم المجاز به صناعة، وعن ابن عبد البر الصحيح أن الإجازة لا تقبل إلا لماهر بالصناعة حاذق فيها يعرف كيف يتناولها، وما لا يشكل إسناده لكونه معروفًا معينًا وإن لم يكن كذلك لم يؤمن أن يحدث المجاز عن الشيخ بما ليس من حديثه أو ينقص من إسناده الرجل والرجلين، وقال ابن سيد الناس أقل مراتب المجيز أن يكون عالمًا بمعنى الإجازة العلم الإجمالي من أنه روى شيئًا، وأن معنى إجازته لذلك الغير في رواية ذلك الشيء عنه بطريق الإجازة المعهودة لا العلم التفصيليّ بما روى، وبما يتعلق بأحكام الإجازة. وهذا العلم الإجمالي حاصل فيما رأيناه من عوّام الرواة، فإن انحط راوٍ في الفهم عن هذه الدرجة، ولا إخال
أحدًا ينحط عن إدراك هذا إذا عرف به فلا أحسبه أهلاً لأن يتحمل عنه بإجازة ولا سماع، قال وهذا الذي أشبرت إليه من التوسع في الإجازة هو طريق الجمهور، قال شيخنا: وما عداه من التشديد فهو منافٍ لما جوّزت الإجازة له من بقاء السلسلة، نعم لا يشترط التأهل حين التحمل ولم يقل أحد بالأداء بدون شرط الرواية، وعليه يحمل قولهم أجزت له رواية كذا بشرطه، ومنه ثبوت المرويّ من حديث المجيز، وقال أبو مروان الطبنيّ أنها لا تحتاج لغير مقابلة نسخة بأصول الشيخ، وقال عياض: تصح بعد تصحيح روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها وصحة مطابقة كتب الراوي لها والاعتماد على الأصول المصححة، وكتب بعضهم لمن علم منه التأهيل أجزت له الرواية عني، وهو لما علم من إتقانه وضبطه غنيّ عن تقييدي ذلك بشرطه انتهى. وليصلح النيّة في التحديث بحيث يكون مخلصًا لا يريد بذلك عرضًا دنيويًّا بعيدًا عن حب الرياسة ورعوناتها، وليقرأ الحديث بصوت حسن فصيح مرتل، ولا يسرطه سردًا لئلا يلتبس أو يمنع السامع من إدراك بعضه، وقد تسامح بعض الناس في ذلك وصار يعجل استعجالاً يمنع السامع من إدراك حروف كثيرة بل كلمات، والله تعالى بمنه وكرمه يهدينا سواء السبيل.
(لطيفة): أنبأني الحافظ نجم الدين ابن الحافظ تقيّ الدين وقاضي القضاة أبو المعالي محب الدين المكيان بها، والمحدّث العلامة ناصر الدين أبو الفرج المدني بها، قالوا: أخبرنا الإمام زين الدين بن الحسين وآخرون عن قاضي القضاة أبي عمر عبد العزيز عن قاضي القضاة بدر الدين الكنانيّ، قال: قرأت على الأستاذ أبي حيان محمد بن يوسف بن عليّ، قال حدّثنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير، قال أبو عمرو منه إجازة، قال حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الأزدي، قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن حسن بن عطية ح، قال أبو حيان وأنبأنا الأصولي أبو الحسين ابن القاضي أبي عامر بن ربيع عن أبي الحسن أحمد بن عليّ الغافقي، قال أخبرنا عياض ح، قال أبو حيان وكتب لنا الخطيب أبو الحجاج يوسف بن أبي ركانة عن القاضي أبي القاسم
أحمد بن عبد الودود بن سمجون، قال وعياض أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري، قال أخبرنا أبو محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني، قال حدّثنا الحافظ عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكناني الدمشقي، حدّثنا أبو عصمة نوح بن الفرغاني، قال: سمعت أبا المظفر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن قتّ الخزرجي وأبا بكر محمد بن عيسى البخاري، قال سمعنا أبا ذر عمار بن محمد بن مخلد التميمي يقول: سمعت أبا المظفر محمد بن أحمد بن حامد بن الفضل البخاري يقول: "لما عزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن زيد الهمداني عن قضاء الريّ ورد بخارى سنة ثمان عشرة وثلاثمائة لتجديد مودة كانت بينه وبين أبي الفضل البلعمي فنزل في جوارنا، فحملني معلمي أبر إبراهيم إسحق بن إبراهيم الختلي إليه فقال له أسالك أن تحدث هذا الصبي عن مشايخك، فقال ما لي سماع، قال فكيف وأنت فقيه فما هذا، قال لأني لما بلغت مبلغ الرجال تاقت نفسي إلى معرفة الحديث ورواية الأخبار وسماعها، فقصدت محمد بن إسماعيل البخاري ببخارى صاحب التاريخ والمنظور إليه في علم الحديث، وأعلمته مرادي وسألته الإقبال على ذلك، فقال لي يا بني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره، فقلت عرّفني رحمك الله حدود ما قصدتك له ومقادير ما سألتك عنه، فقال لي: اعلم أن الرجل لا يصير محدّثًا كاملاً في حديثه إلاّ بعد أن يكتب أربعًا مع أربع، كأربع مثل أربع، في أربع عند أربع، بأربع على أربع، عن أربع لأربع، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع، فإذا تمت له كلها كان عليه أربع، وابتلي بأربع، فإذا صبر على ذلك أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع، وأثابه في الآخرة بأربع. قلت له فسّر لي رحمك الله ما ذكرت من أحوال هذه الرباعيات من قلب صافٍ بشرح كافٍ وبيان شافٍ طلبًا للأجر الوافي، فقال: نعم، الأربعة التي يحتاج إلى كتبها هي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وشرائعه والصحابة رضي الله عنهم ومقاديرهم