الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العبد المؤمن بقرينة قوله: "خرج منه الإيمان": قيل: ليس المراد منه: حقيقة الخروج؛ بل هو نوره أو كماله، سلك مسلك المبالغة والتشديد في باب الزجر والوعيد.
"وكان فوق رأسِهِ كالظُّلة": وهي سحابة تُظِلُّ على الأرض، وهذا تشبيه المعنى بالمحسوس بجامع معنوي، وهو: الإشراف على الزوال؛ لأنَّه من شأن الظُّلة.
"فإذا خرج من ذلك العمل، رجعَ إليه الإيمان": وفيه إيذان بأنَّ المؤمن في حال اشتغاله بالشهوة يصير فاقداً أو كالفاقد للإيمان، ولكن لا يزول حكمه واسمه، بل هو بعدُ في ظل رعايته، وكنف بركته؛ إذ يصيرُ فوقه كالسحابة تظله، فإذا فرغ من شهوته، عاد الإيمان إليه.
وقيل لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؛ قال: هكذا، وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه.
* * *
فصل في الوَسْوَسةِ
(فصل في الوسوسة)
مِنَ الصِّحَاحِ:
44 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تَجاوَزَ عنْ أُمَّتي ما وَسوستْ به صُدورُهَا ما لمْ تعمَلْ به أو تتكلَّم".
"من الصحاح":
" عن أبي هريرة: أنه قال: قال رسول الله - صلَّي الله تعالى عليه وسلم -:
إن الله تجاوز"؛ أي: عفا.
"عن أمتي ما وسوست به صدورُها" بالرفع فاعلاً، والمراد: القلوب؛ أي: ما خطرت في قلوبهم من الخواطر المذمومة، ويجوز نصبه مفعولاً به؛ أي: وسوست النفوسُ به صدورَها، وهي إما ضرورية، وهي: التي يستجلبها الطبع البشري من غير قصد، وإما اختيارية، وهي: التي تُلقَى في نفس المؤمن من تزيين المعصية والكفر.
والمراد بها في الحديث هي الاختيارية؛ لأنَّ الضرورية معفوٌ عن جميع الأمم إذا لم يصر عليه؛ لامتناع الخلو عنها؛ يعني: لا يؤاخذهم بما وقع في قلوبهم من القبائح، "ما لم تعمل به أو تتكلم".
وأمَّا قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فمنسوخ بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، والوُسع: اسم لما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه.
* * *
45 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءَ ناسٌ منْ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسألُوه: إنَّا نجدُ في أنفُسِنَا ما يتعاظَمُ أحدُنَا أنْ يتكلَّمَ بِهِ، قال:"أَوَقَدْ وجدتُمُوهُ؟ "، قالوا: نعم، قال:"ذاكَ صريحُ الإيمانِ".
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال: جاء ناس"؛ أي: جماعة.
"من أصحاب النَّبيّ - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم - إلى النَّبيّ فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به"؛ أي: عظم وشقَّ علينا ذلك بأن يجري في قلوبنا؛ من خلق الله؟ فكيف هو؟ ومن أيِّ شيء هو؟ وغير ذلك ممَّا نعلم أنه قبيحٌ لا نعتقده.
"قال عليه الصلاة والسلام: أوقد وجدتموه؟ ": الهمزة للاستفهام
والواو المقرونة بها عطف على مقدر؛ أي: أكان ذلك، وقد وجدتم ذلك المخاطر في أنفسكم؟
"قالوا: نعم، قال: ذلك"؛ أي: تعاظمك التكلم بذلك الخاطر إجلالاً لله تعالى وخشية منه هو: "صريح الإيمان"؛ أي: خالصه؛ فإن من كان إيمانه مشوباً غير صريح يقبل الوسوسة، ولا يردها.
وقيل: المعنى: أن الوسوسة أمارة الإيمان في قلوبكم، ولولا ذلك لما وسوس في أنفسكم؛ لأنَّه لمن لا يدخل الموضع الخالي.
* * *
46 -
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأْتي الشَّيطانُ أحدَكُمْ فيقول: مَنْ خلقَ كذا؟ من خلَق كذا؟ حتَّى يقول: مَنْ خلَقَ رَبَّك؟ فإذا بلغَهُ فليَسْتَعِذْ بالله، وَلْيَنتهِ".
"وعنه أنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يأتي الشيطان أحدكم"؛ أي: يوسوس في قلبه.
"فيقول: من خلق كذا؟ "؛ يعني: السماء.
"من خلق كذا؟ "؛ يعني: الأرض، وعلي هذا يسأله.
"حتَّى يقول: من خلق ربك؟ " وغرضه أن يوقع الرجلَ في الغلط والكفر والاعتقادات الباطلة.
"فإذا بلغه"؛ أي: الشيطان أو أحدكم هذا القول.
"فليستعذ بالله"؛ طرداً للشيطان عنه.
"ولينته"؛ أي: عن تلك الوساوس؛ لئلا يستحوذَ الشيطان عليه بها.
* * *
47 -
وقال: "لا يزالُ النَّاسُ يَتَساءَلونَ حتَّى يُقالَ: هذا خَلَقَ الله الخلْقَ، فمَنْ خلَقَ الله؟ فمنْ وجدَ مِنْ ذلكَ شيئًا فليقُلْ: آمنتُ بالله ورُسُلِهِ"، رواهما أبو هريرة رضي الله عنه.
"وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال النَّاس يتساءلون"؛ أي: سأل بعضهم بعضاً في كلِّ نوع.
"حتَّى يقال: هذا": قيل: لفظُ (هذا) مع ما عُطِف بيانه المحذوف - وهو القول - مفعولُ (يقال) أُقيمَ مقام الفاعل.
"وخلق الله الخلق": تفسير لـ (هذا).
"فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك"؛ أي: من ذلك القول شيئًا، "فليقل: آمنت بالله ورسله".
* * *
48 -
وقال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ إلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قرينُهُ مِنَ الجنِّ"، قالوا: وإِيَّاكَ يا رسولَ الله! قال: "وإيَّايَ، إلَّا أنَّ الله أَعَاننِي عليه فأَسْلَمُ، فلا يأْمُرُني إلَّا بخيْرٍ"، رواه ابن مسعود.
"وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد إلَّا وقد وُكِّل به" عليّ بناء المجهول، من (التوكيل)؛ بمعنى: التسلبط.
"قرينه"؛ أي: مصاحبه "من الجن"؛ أي: الشياطين أولاد إبلبس، تأمره بالشرِّ وتحثه عليه.
"قالوا: وإياك يا رسول الله؟ "؛ أي: وقد وُكِّل به وإياك.
"قال": وُكلِّ به "وإياي"، فالضمير المنفصل فيهما عطف على محل الضمير المجرور المقدر، وقيل: وقع الضمير المنصوب المنفصل موقع
المنفصل المرفوع؛ إذ حقه أن يقال: وأنت يا رسول الله وُكِّل بك قرينك؟ فيقول: وأنا، وهذا شائع.
"إلَّا أن الله أعانني عليه فأسلم": بفتح الميم؛ أي: انقاد وامتنع عن وسوستي، أو معناه: دخل في الإسلام الحقيقي، فسلمت من شره، يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"فلا يأمرني إلَّا بخير"، ويروى برفع الميم؛ أي: أسلم من شره.
وقيل: هو أفعلُ التفضيل خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: فأنا أسلمُ منكم؛ لأنَّ النَّبيّ عليه الصلاة والسلام كان يجري عليه بعضُ الزلات في بعض الأوقات بوسوسة، فيكون المراد بقوله عليه الصلاة والسلام:"فلا يأمرني إلَّا بخير" في أعم الأوقات.
وفي رواية: (ما منكم من أحد إلَّا وقد وُكِّل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة).
"رواه ابن مسعود". وعن بعض المشايخ: أن قرينه من الجن ربما يدعوه إلى الخير، وقصده بذلك الشرُّ بأنَّ يدعو إلى المفضول؛ ليمنعه عن الفاضل، ويدعوه إلى الخير؛ ليجره إلى ذنب عظيم لا يفي خيره بذلك الشرِّ من عُجبٍ أو غيره.
* * *
49 -
وقال: "إنَّ الشَّيطانَ يجري مِنَ الإنسانِ مَجْرَى الدَّمِ".
"وعن أنس رضي الله عنه فيه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من الإنسان مَجرى الدمِ"؛ أي: كيد الشيطان يجري، ووساوسه تسري في الإنسان حيث يجري فيه الدم؛ أي: في جميع عروقه، أو يجري فيه مثل جريان الدم في أعضائه من غير إحساس له بجريانه، أو معناه: أن الشيطان لا ينفكُّ عن الإنسان ما جرى دمه في عروقه؛ أي: ما دام حيًّا.
وقيل: يجوز إرادة الحقيقة؛ فإن الشياطين أجسامٌ لطيفةٌ قادرة بأقدار الله تعالى على كمال التصرف ابتلاء للبشر.
* * *
50 -
وقال: "ما مِنْ بني آدَمَ [مِنْ] مَوْلُودٍ إلَّا يَمسُّهُ الشيطانُ حين يولد، فيَستهلُّ صارخاً من مسِّ الشيطانِ، غيرَ مريمَ وابنها"، رواه أبو هريرة.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: ما من مولود من بني آدم إلَّا يمسُّهُ الشيطانُ"؛ يعني: لا يولد مولود في حال من الأحوال إلَّا في حال مسِّ الشيطان.
"حين يولد": قالوا: المراد بالمس هنا: المسُّ الحسي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه بإصبعه حين يُولَد".
"فيستهلُّ"؛ أي: يصيح.
"صارخاً"؛ أي: رافعاً صوته بالبكاء.
"من مسِّ الشيطان غيرَ مريم وابنها"؛ أي: إلَّا مريم وعيسى عليهما السلام؛ فإنَّ الله تعالى عصمهما من مسِّه؛ لاستجابة دعاء حَنَّةَ أمِّ مريم في حقهما حين قالت: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، وتخصيصاً لهما بهذه الفضيلة.
والأوجه أن يراد من المس: الطمعُ في الإغواء، لا حقيقة المسِّ، واستعاذة حَنَّةَ يجوز أن تكون من الإغواء، لا من المس؛ لأنَّ الاستعاذة كانت بعد وضعها، والمسُّ إنَّما كان بحال الولادة.
* * *
51 -
وقال: "صِياحُ المولودِ حينَ يقَعُ نزغةٌ مِنَ الشَّيطانِ"، رواه أبو هريرة.
"وعنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: صياح المولود حين يقع"؛ أي: حين يسقطُ وينفصلُ عن أمه.
"نَزْغَة من الشيطان"؛ أي: وسوسة، وقيل: إفساد؛ فإن النزغ هو الدخول في أمر لإفساده، والشيطان يبتغي إفساد ما وُلِدَ المولود عليه من الفطرة.
وقيل: معناه: سببُ صياحه نزغةٌ من الشيطان، من باب تسمية الشيء بما هو من بعض أسبابه، فإن صياحَهُ يُسمَّى نزغة؛ لأنها سببه.
"رواه أبو هريرة".
* * *
52 -
وقال: "إنَّ إبْلِيْسَ يضَعُ عرْشَهُ على الماءَ، ثم يبعثُ سَراياهُ يفتِنُونَ النَّاسَ، فأدناهُمْ منه منزلة أعظمُهُمْ فِتْنةً، يجيءُ أحدُهُمْ فيقولُ: فعلتُ كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعْتَ شيئًا، قال: ثم يجيءُ أحدُهُمْ فيقولُ: ما تركتُهُ حتَّى فرَّقْتُ بينَهُ وبينَ امرأَتِهِ، فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنتَ؟ "، قال الأعمش: أُراهُ قال: "فيلتزِمُهُ".
"وعن جابر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبليس يضع عرشه"؛ أي: سريره.
"على الماء": قيل: وضعُهُ كناية عن التسلط التَّام والاستيلاء العظيم.
وقيل: عمله يحمل على حقيقته بأنَّ جعله الله تعالى قادرًا عليه استدراجاً؛ ليغترَّ بأنَّ له عرشاً على هيئة عرش الرحمن، تؤيده قصة ابن صيَّاد حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى عرشاً على الماء، فقال عليه الصلاة والسلام:"ترى عرش إبليس".
"ثم يبعث سراياه"؛ أي: جنوده التي يسيرها لإثارة الفتنة، جمع: سرية، وهي: قطعة من الجيش.
"يفتنون النَّاس"؛ أي: يضلونهم، ويأمرونهم بالمعاصي، وقيل: معناه: يمتحنون ويتعرفون إيمانكم بنبوتي؛ إذ الفتنة في كلامهم الابتلاء والامتحان.
"فأدناهم منه"؛ أي: أقربهم من إبليس "منزلة أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا"؛ يعني: يقول: أمرت النَّاس بشرب الخمر والسرقة وغير ذلك من المعاصي.
"فيقول" إبليس: "ما صنعت شيئًا، قال" صلى الله عليه وسلم: "ثم يجيء أحدهم سيقول: ما تركته"؛ أي: الإنسان.
"حتَّى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه"؛ أي: يقرب إبليس ذلك الغَوِيَّ من نفسه.
"فيقول: نعم أنت": (نعم) حرف إيجاب، و (أنت) مبتدأ خبره محذوف؛ أي: أنت صنعت شيئًا عظيمًا.
وفي بعض النسخ: نِعمَ - بكسر النون - على أنه فعل مدح، وفاعله مضمر على خلاف القياس؛ أي: نعمَ العونُ أنت، والصواب هو الأول.
"قال الأعمش": هو راوي هذا الحديث عن جابر: "أراه"؛ أي: أظن أن جابراً "قال" في حديثه: "فيلتزمه"؛ أي: يعانقه إبليس ويعذره من غاية حبه للتفريق بينهما؛ لأنَّه أعظم فتنة؛ لما فيه من انقطاع النسل، والوقوع في الزنا؛ الذي هو أفحش الكبائر بعد الإشراك بالله.
* * *
53 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشَّيطانَ قد أَيسَ من أنْ يعبدَهُ المُصلُّونَ في جزيرةِ
العَرَبِ، ولكنْ في التَّحريشِ بينهُم"، رواهما جابرٌ رضي الله عنه.
"وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان قد أيس"؛ أي: صار محروماً.
"من أن يعبده المصلون"؛ أي: المؤمنون، عبَّر عنهم بالمصلين: لأنَّ الصَّلاة هي الفارقة بين الإيمان والكفر، أراد بها: عبادة الصنم، وإنَّما نسبها إلى الشيطان؛ لكونه داعياً إليها.
"في جزيرة العرب": وهي كل أرض حولها الماء، فعيلة بمعنى مفعولة، من جزر عنها الماء؛ أي: ذهب، وقد اكتنفت تلك الجزيرةَ البحارُ والأنهار، كبحر البصرة وعمان وعدن إلى بركة بني إسرائيل التي أهلك الله تعالى فرعونَ بها، وبحر الشام والنيل ودجلة والفرات، أضيفت إلى العرب؛ لأنها مسكنهم، وخُصَّت بالذكر؛ لأنها معدنُ العبادة ومهبطُ الوحي، ولم يكن الإسلام يومئذٍ إلَّا بها.
"ولكن في التحريش بينهم"؛ أي: لكن الشيطان غيرُ آيس في إغراء المؤمنين وحملهم على الفتن، بل له مطمع في ذلك، من حرَّش بين القوم: إذا أغرى بينهم.
* * *
54 -
عن ابن عبَّاس رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاءَهُ رجل فقال: إنِّي أُحَدِّثُ نفْسي بالشيء، لأَن أَكون حُمَمَةً أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أتكلَّمَ بِهِ، قال:"الحمدُ لله الذي رَدَّ أمرَهُ إلى الوَسْوَسة".
"من الحسان":
" عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النَّبيّ - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم - جاءه رجل
فقال: إنِّي أحدث نفسي بالشيء لأنَّ أكون حُمَمَةً"؛ أي: فحماً، اللام توطئة للقسم، أو للابتداء، والجملة صفة للشيء؛ يعني: يجري في قلبي من الأشياء لأَنْ احترقتُ وصرتُ فحماً "أحبَّ إلي من أن تكلم به"؛ أي: بذلك الشيء من غاية قبحه.
"قال"؛ أي: النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي ردَّ أمره"؛ أي: أمرَ هذا القائل المسلم، أو أمرَ الشيطان.
"إلى الوسوسة" بأن لم يجعل له سلطاناً على المسلم غير الوسوسة، فإنَّه قبل الإسلام كان يأمرهم بالكفر وعبادة الأوثان.
* * *
55 -
وقال: "إنَّ للشيطان لَمَّةً بابن آدمَ، وللملَك لَمَّةً، فأمَّا لَمَّةُ الشيطانِ فإيعادٌ بالشرِّ وتكذيب بالحق، وأمَّا لَمَّةُ الملَكِ فإِيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمنْ وجدَ ذلك فلْيَعلَمْ أنه مِنَ الله، فليحمَدِ الله، ومَنْ وجدَ الأخرى فليتعوذْ بالله من الشَّيطان"، ثم قرأ:" {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} "، غريب.
"وعن ابن مسعود: أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: إن للشيطان لمة بابن آدم"؛ أي: نزلة في قلبه بالدعوة، من قولهم: لَمَّ بالمكان، وألمَ به: إذا نزل.
"وللملك لمة، فأمَّا لمة الشيطان؛ فإيعاد بالشر" كالكفر والفسق.
"وتكذيب بالحق" كأحوال القيامة والقبر.
"وأمَّا لمة الملك؛ فإيعاد بالخير": كالصلاة والصوم وغيرهما من الخيرات، وإنما ذكر الإيعاد مجرى الوعد بالخير على سبيل الإتباع والازدواج؛
للاكتفاء عن الفارق بين الوعد والوعيد بكلمتي (الخير) و (الشر).
"وتصديق بالحق" ككتب الله تعالى ورسله.
قيل: إن اللمة الشيطانية تكون عن يسار القلب، والرحمانية عن يمينه.
وزاد بعض الصوفية: عليهما خاطران؛ خاطر الحق، وخاطر النفس.
وفي "العوارف": هذان اللمتان هما الأصل، والخاطران الآخران فرع عليهما؛ لأنَّ لمة الملك إذا حرَّكت الروح واهتز بالهمة الصالحة، قرب باهتزازه بها إلى حظائر القرب، فورد عليه عند ذلك خواطرُ من الحق، وإذا تحقق بها بالقرب يتحقق الغناء، فتثبت الخواطرُ الربانية عند ذلك، فيكون أصل خواطر الحقِّ لمة الملك.
ولمة الشيطان إذا حرَّكت النفسَ، هوت بجبلَّتها إلى مركزها من الغريزة والطبع، فظهر من ذلك خواطرُ ملائمة بحالها، فصارت خواطرُ النفس نتيجةَ لمة الشيطان.
"فمن وجد"؛ أي: في نفسه.
"ذلك"؛ أي: لمة الملك على تأويل المذكور.
"فليعلم أنه من الله، فليحمدِ الله" على هذه النعمة بأنَّ أرسل عليه ملكاً يأمره بالخير، ويهديه إلى الحق، وإنَّما قدَّمها هنا وأخرها أولاً؛ لأنَّ لمة الشيطان شرّ، والابتلاءُ بها أكثر، فكان الحاجة إلى بيانها أمَس، ولما فرغ منه قدَّم لمة الملك تعظيماً لشأنها.
"ومن وجد الأخرى"؛ أي: لمة الشيطان.
"فليتعوذ بالله من الشيطان" وليخالفه فيما يأمر به من فعل السوء.
"ثم قرأ" عليه الصلاة والسلام هذه الآية استشهاداً لما قال:
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} ؛ أي: يخوِّفكم الفقر، ويقول: لا تنفقوا أموالكم في الزكاة والصدقات فإنكم تحتاجون إلى ذلك.
{وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} ؛ أي: بالبخل وسائر المعاصي.
{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} ؛ أي: لذنوبكم.
{وَفَضْلًا} ؛ أي: خلفاً في الدُّنيا؛ يعني: يقول لكم: أنفقوا أُعطكم أضعاف ما تنفقون في الدُّنيا.
"غريب".
* * *
56 -
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يزال النَّاسُ يَتسَاءَلون حتَّى يُقال: هذا خَلَقَ الله الخلْقَ، فمَنْ خَلَقَ الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: {اللَّهِ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، ثمَّ ليتفُلَ عنْ يسارِه ثلاثًا، وليستعِذْ بالله من الشَّيطان".
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: لا يزال النَّاس يتساءلون حتَّى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله" وقد مر البيان فيه.
"فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد" تقدم معناه.
"ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً" والتفل شبيه بالبزاق وهو أقل منه، أوله البزاق، ثم التفل، ثم النفث، ثم النفخ، كذا في "الصحاح"، وهذا كناية عن كراهيته (1)
(1) في "م" و "غ": "كراهية".
ذلك وتنفرِ طبعه عنه، كمن وجد جيفة منتنة كره ريحها وتفل من نتنها.
وتخصيص اليسار لإكرام اليمين، وقيل: لأنَّ مأتاه من اليسار.
"وليستعذ بالله من الشيطان"؛ أي: ليطلب المعاونة من الله الكريم على دفعه.
* * *
57 -
عن عَمْرو بن الأَحْوَص رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول في حَجَّة الوداع: "ألا لا يجني جانٍ على نفسِهِ، ألا لا يجني جانٍ على ولده، ولا مَولود على والِده، ألا إنَّ الشيطانَ قَدْ أيسَ أنْ يُعبَدَ في بلادِكُمْ هذ أبدًا، ولكنْ ستكونُ له طاعةٌ فيما تحتَقِرُونَ مِنْ أعمالكُمْ، فسيرضى بهِ".
"وعن عمرو بن الأحوص أنه قال: سمعت النَّبيّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يقول في حجة الوداع" إنَّما سمي بها؛ لأنَّه عليه الصَّلاة السلام لما قال: "هل بلغت" وقالوا: نعم، قال صَلَّى الله تعالى عليه وسلم:"اللهم اشهد"، ثم ودعَّ النَّاس، فقالوا: هذه حجة الوداع.
"ألا لا يجني جان على (1) نفسه" الأَوْلى أنه نفيٌ بمعنى النَّهي؛ لئلا يخلو الكلام عن الفائدة؛ لأنَّ الجاني إذا جنى فإنما يجني على نفسه، وبجنايته يؤخذ في الدُّنيا والآخرة، فكيف ينفي عنه الجناية؟ فيحمل على معنى النَّهي، وفيه مزيد التأكيد والحث على الانتهاء، ولذا أضاف الجناية إلى نفسه، والمراد الجناية على الغير بسبب الجناية على النفس؛ لأنَّ تلك الجناية سبب الجناية على النفس، فإضافتها إليها ليكون أدعى إلى الكف، وتتأيد إرادة النهي من هذا الخبر برواية بعضهم إياه بصيغة النَّهي.
(1) في "ت": "إلَّا على"، وهي رواية كما في "م".
"ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده": المراد منه النَّهي عن الجناية عليهما، وخصَّهما بالذكر لمزيد قبح الجناية عليهما وشناعته.
وقيل: المراد حقيقة النفي، وذلك لأنَّ أهل الجاهلية كانوا يعتقدون مؤاخذة المرء بجناية غيره من قرابته وذوي أرحامه، فكانوا يقتلون الولد بجناية الوالد وبالعكس، وكذا القريب والحميم، فأعلمهم أن الجاني إنَّما يجني على نفسه لا على غيره.
واقتصر على ذكر الولد والوالد لكون (1) نسبهما أقرب الأنساب، وإنَّما يحتمل العواقل للمعاقل أخذاً بجنايتهم وهو التقصير في الحفظ والمنع.
"إلَّا أن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أبدًا" والمراد من الأبد طول المدة؛ لئلا ينافي الأحاديث التي في (باب قيام الساعة على الأشرار).
"ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم"؛ أي: فيما لا تعظمون قَدْرَه من الذنوب كالصغائر منها، أو المراد من الأعمال: الواجبة، وذلك إما بتركها أو بإقامتها على وجه غير مَرْضيٍّ.
"فسيرضى به"؛ أي: الشيطان بذلك القدر من الاحتقار ولا يأمركم بالكفر؛ لأنَّه يعلم أنكم لا تطيعونه في ذلك وبالله العون.
* * *
58 -
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كتبَ الله مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلُقَ السماواتِ والأَرضَ بخمسينَ ألْفَ سَنَة. قال: وكان عرشُهُ على الماءَ".
* * *
(1) في "م": لأن.