الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - كِتابُ العِلْمِ
2 -
كِتابُ العِلْمِ
(باب العلم)
مِنَ الصِّحَاحِ:
147 -
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلَّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومَنْ كذبَ عليَّ مُتعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مقعدَهُ مِنَ النّارِ"، رواه عبد الله بن عمرو.
"من الصحاح":
" عن عبد الله بن عمرو أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلَّغوا عني" ما استطعتم.
"ولو": كان "آيةً"، المراد بـ (الآية) هنا: الكلام المفيد، وهذا تحريضٌ على نشرِ العلم، وتعليمِ الناسِ العلمَ وأحكامَ الدِّين، ونشرِ الحديث.
"وحدِّثوا عن بني إسرائيل"؛ أي: عما وقع فيهم من القصص والوقائع العجيبة، كحكاية عُوج بن عُنُق، وقتل بني إسرائيل أنفسَهم لتوبتهم عن عبادة العِجل، ونحو ذلك.
"ولا حَرَجَ"؛ أي: لا إثمَ عليكم إنْ تحدَّثتم عنهم ما سمعتم؛ فإن في ذلك لعِبرةً وموعظة لأولي الألباب.
وأما نهيُه صلى الله عليه وسلم في حديث جابر عن أن يُكتب من أحاديثهم؛ فلأنهم أرادوا الكتابة من أحكام التوراة وشريعة موسى عليه السلام، فإن جميع شرائع الأديان والكتب قد صارت منسوخة بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
"ومَن كَذَبَ على متعمدًا": نصب على الحال، ليس حالًا مؤكدة؛ لأنَّ الكذب قد يكون من غير تعمُّد، وفيه: تنبيهٌ على عدم دخول الناسي فيه.
"فَلْيتبوَّأْ": لفظه أمر ومعناه خبر؛ يعني: فإن الله يُبَوِّئه "مقعده من النار"، فتعبيره بصيغة الأمر للإهانة.
وفيه: إشارة إلى أن مَن نَقلَ حديثاً وعلمَ كذبه يكون مستحقاً للنار؛ إلا أن يتوب، لا مَن نَقلَ عن راوٍ عنه - أو رأى في كتابٍ ولم يعلم كذبَه.
* * *
148 -
وقال: "مَنْ حدَّثَ عني بحديثٍ يُرى أنَّه كذبٌ فهُوَ أحدُ الكاذِبَينَ".
"وعن سَمُرة بن جندب والمغيرة بن شعبة أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن حدَّث عني بحديث يُرَى" - بضم الياء وفتح الراء - بمعنى: يظن، وفتحهما بمعنى يعلم.
"أنَّه كَذب" بكسر الكاف وفتحها: مصدر؛ أي: ذو كذب، على حذف المضاف، أو المصدر بمعنى الفاعل.
"فهو أحد الكاذبين"، رُوي على صيغة التثنية باعتبار المفترِي والناقل عنه، وبصيغة الجمع باعتبار كثرة النقَلَة.
* * *
149 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُردِ الله بهِ خيرًا يُفقهْهُ في الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسمٌ والله يُعطي، ولا تَزالُ منْ أُمَّتي أُمَّة قائمةٌ بأمر الله لا يضرُّهمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا مَنْ خالفهُمْ حتى يأتيَ أمرُ الله وهمْ على ذلك"، رواه مُعاوية رضي الله عنه.
"وعن معاوية أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن يُرِدِ الله به خيرًا": تنكيره للتفخيم.
"يُفقّهْه في الدِّين"؛ أي: يجعله عالمًا بأحكام الشريعة، ذا بصيرةٍ فيها، يستخرج المعاني الكثيرةَ من الألفاظ القليلة.
"وإنما أنا قاسم": لا أرجح أحدًا على غيره في قسمةِ ما أُوحي إليَّ من العلم والحكمة، بل أُسوِّي في الإبلاع، وإنما التفاوتُ في الفهم الذي يُهتدَى به إلى خفيات علوم الكتاب والسُّنة، فهو طريق عطاء الله.
"والله يعطي" ذلك لمن يشاء مِن عباده، وإنما لم يقل: مُعْطٍ؛ لأنَّ إعطاء الله تعالى يتجدَّد كلَّ ساعة.
وقيل: المراد به: قسمة المال، قاله عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يكونَ في القلوب تنكُّر من التفاضل في القِسمة، فإنَّه أمرُ الله تعالى.
"ولا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله، لا يضرُّهم مَن خَذَلَهم ولا مَن خالَفَهم، حتى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك": تقدم بيانه.
* * *
150 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "الناسُ معادنُ كمعادنِ الذَّهبِ والفضَّةِ، خِيارُهم في الجاهليَّةِ خِيارُهم في الإِسلامِ إذا فَقُهوا"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
"وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الناسُ معادنُ" جمع: مَعدن، وهو مُستقَر الجواهر، والمُستوطَن أيضًا، من: عَدَنَ بالمكان: استقرَّ به، وعَدَنتُ البلدَ توطَّنته؛ أي: الناسُ معادنُ الأخلاق والأعمال والأقوال، ولكن يتفاوتون فيها.
"كمعادن الفضة والذهب" وغيرهما، إلى أن ينتهي إلى الأدنى فالأدنى؛ فمَن كان اسعداده أقوى كانت فضيلتُه أتمَّ، ومَن كان على خلافه ففضيلتُه أنقصُ.
وفيه: إشارة إلى أن ما في معادن الطبائع من جواهر مكارم الأخلاق ينبغي
أن يُستخرجَ برياضة النفوس، كما تُستخرج جواهر المعادن بالمقاساة والتعب.
"خيارهم في الجاهلية" بمكارم الأخلاق.
"خيارهم في الإِسلام" أيضًا بها.
"إذا فقهوا"؛ أي: صاروا فقهاءَ عالِمينَ.
* * *
151 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حَسَدَ إلا في اثنتَيْنِ: رجل أَعطاه الله مالًا فسَلَّطهُ على هَلَكَتِهِ في الحقِّ، ورجل آتاهُ الله حِكْمةً فهُوَ يقضي بها ويُعلِّمُها"، رواه ابن مَسْعود رضي الله عنه.
"وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حسدَ"، المراد بالحسد هنا: الغِبْطَة، وهي أن تتمنى أن يكون لك مثلُ ما لأخيك المسلم من غير تمنّي زواله عنه، والحسد على عكسه؛ أي: لا غِبطةَ "إلا في اثنتين"؛ أي: في خصلتين اثنتين، ويروى "في اثنين"؛ أي: في شأن اثنين:
"رجل أتاه الله مالًا فسلَّطه"؛ أي: وكَّلَه الله ووفَّقَه "على هَلَكته" بفتحتين؛ أي: إنفاقه.
"في الحق"، قُيدَ به؛ لأنَّ الإنفاقَ في الحق دون الباطل.
"ورجل آتاه الله"؛ أي: أعطاه "حكمةً"؛ أي: علمَ أحكامِ الدّين، وقيل: أي: إصابةَ الحقِّ بالعلم والفعل.
"فهو يقضي بها"؛ أي: يحكم بالحكمة التي أُوتيَها.
"ويعلِّمها" غيرَه، وفي الحديث: ترغيب على التصدق بالمال وتعليم العلم.
152 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنهُ عملُهُ إلا منْ ثلاثةٍ: إلا منْ صَدَقَةٍ جاريةٍ، أو عِلم يُنتفَعُ بهِ، أو ولدٍ صالح يدعُو لهُ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عملُه"؛ أي: لا يُكتب له بعد موته أجرٌ وثوابٌ؛ لأنَّ الأجرَ جزاءُ العمل الصالح، وهو انقطع عنه بموته.
"إلا من ثلاثة: من صدقة جارية"؛ أي: يجري نفعُها ويدوم أجرُها، كالوَقْف، وبناء المسجد والجامع، وحفر البئر، والطريق، وإحياء العيون، وغيرهما من الأفعال في وجوه الخير.
"أو علم ينتفع به"، قيَّد العلم بالمُنتفَع به؛ لأنَّ ما لا يُنتفَع به لا يثمر أجرًا، والمراد بالمُنتفَع به؛ العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته، ويدخل فيه علم الكلام؛ أي: العقائد، والعلم بكتبه]، ويدخل فيه التفسير، وبملكوت أرضه وسمائه، ويدخل فيه علم الرياضي، والعلم بشريعة محمَّد عليه الصلاة والسلام، ويدخل فيه علم التفسير أيضًا والحديث والفقه وأصوله.
"أو ولد صالح يدعو له"، قيَّد الولد بالصالح؛ لأنَّ الأجر لا يحصل من غيره، وإنما ذَكَرَ الدعاءَ له تحريضاً للولد على الدعاء لأبيه، حتى قيل: يحصل للوالد ثوابٌ مِن عملِ الولد الصالح، سواءٌ دعا لأبيه أو لا، كما أن مَن غرسَ شجرةً مثمرةً يحصل للغارس ثوابٌ بأكل ثمراتها، سواءٌ دعا له الآكِلُ أو لا؛ فإن ثوابَ هذه الأشياء الثلاثة غيرُ منقطع بالموت.
* * *
153 -
وقال: "مَنْ نفَّسَ عنْ مُؤمنٍ كُربَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا نفسَ الله عنهُ كُربةً مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعسِرٍ يَسَّرَ الله عليهِ في الدُّنيا
والآخرة، ومَنْ سَتَرَ مُسلِماً ستَرهُ الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عَوْنِ العبْدِ ما دام العبْدُ في عَوْنِ أَخيه، ومَنْ سلكَ طَريقاً يلتمِسُ فيهِ عِلْماً سهَّلَ الله لهُ بهِ طريقًا إلى الجنَّة، وما اجتمعَ قومٌ في مَسْجدٍ مِنْ مَساجدِ الله تعالى يتْلُونَ كتابَ الله ويتدارسُونه بينهُمْ إلَّا نزلَتْ عليهِمُ السَّكينةُ، وغشِيتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتْ بهِم الملائكةُ، وذكرهُمُ الله فيمنْ عنده، ومَنْ بطَّأ به عمَلُهُ لمْ يُسْرعْ بهِ نسَبُه"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن نفس"؛ أي: فرَّج "عن مؤمنٍ كُربةً"؛ أي: حزناً، وهي شدة الغَمّ، تنوينها للتحقير؛ يعني: جعله في سَعَة.
"من كُرَب الدنيا" بماله أو مساعدته أو رأيه أو إشارته، قُيد بالمؤمن؛ لأنه مَظنةُ الكُرَب في الدنيا، فأما الكافر فالله تعالى قد وسَّع عليه في الدنيا على الأعم.
"نفَّس الله عنه كربةً": تنوينها للتعظيم.
"من كُرَب يوم القيامة، ومَن يسَّر"؛ أي: سهَّل (على مُعسِر)؛ أي: فقير، وهو يشمل المؤمن والكافر؛ أي: مَن كان له على فقير دَينٌ، فسهَّل عليه بإمهالِه أو تركِ بعضه.
"يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن سَتَرَ مسلمًا" ملتبساً بفعلٍ قبيحٍ، بألا يفضحه، أو سترَ عرياناً بأن أَلبسَه ثوباً.
"سترَه الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد"؛ أي: في نصره.
"ما كان العبد": مشغولاً "في عون أخيه" المسلم وقضاء حاجته.
"ومَن سَلَكَ"؛ أي: ذهبَ.
"طريقًا يلتمس"؛ أي: يطلب، حال أو صفة.
"فيه علمًا"، نكَّره ليشملَ كلَّ نوع من أنواع علوم الدِّين، قليله وكثيره، وفيه: استحباب الرحلة في طلب العلم.
وقد ذهب موسى إلى خضر عليه السلام وقال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66].
ورحل جابر بن عبد الله مسيرةَ شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد.
"سهَّل الله له به"؛ أي: بسبب ذلك "طريقاً إلى الجنة"؛ يعني: جعلَ الله ذهابَه في طلب العلم سبباً لوصوله إلى الجنة من غير تعب، ويُجازَى عليه بتسهيل قطع العقبات الشاقة، كالوقوف والجواز على الصراط وغير ذلك.
"وما اجتمع قومٌ في مسجد من مساجد الله ": احترز به عن مساجد اليهود والنصارى؛ فإنه يُكره الدخولُ فيها.
"يتلون كتاب الله"؛ أي: يقرؤون القرآن.
"ويتدارسون بينهم": وهو قراءة بعض مع بعض تصحيحاً لألفاظه، أو كشفاً لمعانيه.
"إلا نَزلتْ عليهم السَّكينة"؛ أي: الوقار والخشية.
"وغشيتْهم الرحمة"؛ أي: أحاطت بهم، وقيل: أي: تَعْلُوهم الرحمة والبركة من الله تعالى.
"وحفَّت"؛ أي: أَحدقَتْ "بهم الملائكة": أو طافُوا بهم ودارُوا حولَهم، يسمعون القرآنَ ودراستَه، ويحفظونهم من الآفات، ويصافحونهم ويزورونهم.
"وذكرَهم الله فيمَن عنده"، المراد من العِنْدية: الرُّتبة؛ يعني: في الملائكة المقرَّبين، ويقول: انظروا إلى عبادي يذكرونني ويقرؤون كتابي، وأيُّ شرفٍ
أعظمُ من ذِكر الله تعالى عبادَه بين ملائكته؟
"ومَن بطَّأ به" - بتشديد الطاء - من: التبطئة، ضد التعجيل، والباء للتعدية؛ أي: أخَّره في الآخرة "عملُه" السيئ، أو تفريطُه في العمل الصالح.
"لم يُسرِع به نَسَبُه"؛ أي: لم ينفعه شرفُ نسبه، ولم ينجبر نقيضه به؛ فإن التقرُّبَ إلى الله تعالى لا يحصل بالنسب وكثرة العشائر والأقارب، بل بالعمل الصالح.
* * *
154 -
وقال: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى عليهِ يومَ القيامةِ: رجلٌ استُشْهِدَ، فأَتى بهِ الله فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فِيها؟ قال: قاتلْتُ فيكَ حتَّى استُشْهِدتُ، قَالَ: كذبتَ، ولكنَّكَ قاتلتَ لأنْ يُقالَ: إنك جَريءٌ، فقد قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلقيَ في النّار، ورجلٌ تعلَّم العِلْمَ وعلَّمَهُ وقَرأَ القُرآنَ، فأُتيَ بهِ فعَرَّفهُ نِعَمَهُ فعرفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: تعلمت العِلْمَ وعلَّمْتُهُ وقرأْتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذبْتَ ولكنَّكَ تعلمتَ العِلمَ لِيُقالَ: عالمٌ، وقرأْتَ القُرآنَ ليقالَ: هو قارئٌ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فَسُحِبَ على وجهِهِ حتَّى أُلقيَ في النّار، ورجلٌ وسَّعَ الله عليهِ وأعطاهُ مِنْ أصنافِ المالِ كلِّهِ، فأُتيَ بهِ فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعرفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِنْ سَبيلٍ تُحبُّ أنْ يُنفقَ فيها إلَّا أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلْتَ ليُقالَ: هو جَوادٌ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجهِهِ، ثُمَّ أُلقيَ في النّار"، رواه أبو هُريرة رضي الله عنه.
"وعنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أولَ الناس يُقضَى عليه يومَ القيامة"؛ أي: يُسأل فيه عن أفعاله ويُحاسَب.
"رجلٌ استُشهد"؛ أي: قُتل في سبيل الله.
"فأُتي به"؛ أي: بالرجل للحساب.
"فعرَّفه الله نِعَمَه"؛ أي: أَعلَمَه وذكَره بما أنعم عليه من أنواع النعم، من إعطاء القوة والشجاعة والفرس والسلاح، وغير ذلك من أسباب المحاربة مع الكفار.
"فعَرَفَها"؛ أي: الرجلُ تلك النعمَ وأقرَّ بها.
"قال"؛ أي: الله تعالى: "فما عملتَ فيها؟ " وعلى أيِّ وجه صرفتَها؟ "قال"؛ أي: الرجلُ: "قاتلتُ فيك"؛ أي: حاربتُ لإعلاء دينك ولرضاك "حتى استُشهدتُ"؛ أي: قُتلتُ في سبيلك.
"فقال"؛ أي: الله تعالى: "كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأنَّ يقال: رجل جريء"؛ أي: شجاع؛ يعني: غرضُك مِن قتالِك إظهارُ شجاعتك، لا لإعلاء دِيني ولا لرضائي.
"فقد قيل ذلك، ثمَّ أُمر به"؛ أي: قيل لخَزَنة جهنم: ألقوه "في النار، فسُحِبَ"؛ أي: جُرَّ "على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل تعلَّم العلمَ وعلَّمه الناسَ وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه بنعمه"؛ أي: ما أنعم عليه من الفهم والفصاحة والعلم والقرآن.
"فَعَرفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلمَ وعلَّمتُه وقرأتُ فيك"؛ أي: القرآنَ في رضاك.
"قال: كذبتَ، ولكنك تعلَّمتَ العلمَ ليقال: هو عالم، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثمَّ أُمر به فسُحب"؛ أي: جُرَّ "على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه"؛ أي: كثَّر مالَه.
"وأعطاه من أصناف المال كله"؛ أي: من أنواعه من الإبل والبقر وغيرهما، ومن الذهب والفضة وغير ذلك.
"فأتي به، فعرَّفه نعمَه، فعَرَفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنفَق فيها إلا أنفقت فيها لك"، كبناء المساجد والمدارس، وإعطاء الزكاة والصدقات، وغير ذلك من وجوه الخيرات.
"قال: كذبتَ، ولكنك فعلتَ ليقال: هو جَواد"؛ أي: سَخِيٌّ.
"فقد قيل، ثمَّ أُمر به فسُحب"؛ أي: جُرَّ "على وجهه، ثمَّ أُلقي في النار".
* * *
155 -
وقال: "إنَّ الله تعالى لا يقبضُ العِلْمَ انتزاعاً ينتزِعُهُ مِنَ العِبادِ، ولكنْ يَقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماء حتى إذا لم يُبقِ عالِمًا اتَّخذَ الناسُ رُؤَساءَ جُهّالاً، فسُئِلُوا، فأَفْتَوْا بغيرِ عِلْم، فضَلُّوا، وأَضَلُّوا"، رواه عبد الله بن عَمْرو بن العاص.
"وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم"، المراد به: علم الكتاب والسُّنة وما يتعلق بهما.
"انتزاعًا": مفعول مطلق للفعل بعده، وهو "ينتزعه"، والجملة حالية؛ يعني: لا يقبض العلم "من العباد" على سبيل أن يرفعه من بينهم إلى السماء، ويجوز أن يكون (انتزاعا) مفعولاً مطلقًا لـ (يقبض) من غير لفظه، و (ينتزعه): صفته.
"ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالمًا" يقبضُ أرواحهم "اتخذ الناس رؤُوساً" بضم الهمزة والتنوين: جمع رأس، ورأس القوم: كبيرهم، ويروى:"رؤساء" بالمد، جمع: رئيس.
"جُهّالًا، فسُئلوا فأَفْتَوا بغير علم، فضَلُّوا"؛ أي: صاروا ضالِّين.
"وأَضَلُّوا"؛ أي: جعلوا قومَهم ضالِّين أيضًا؛ لأنَّ مَن اتبع جاهلاً يدلُّه
على سبيل الضلال.
* * *
156 -
وقال عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتخَوَّلُنا بالمَوعظةِ في الأَيامِ كراهَةَ السّآمَةِ علَينا.
"وقال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا" بالخاء المعجمة؛ أي: يتعهدنا.
"بالموعظة في الأيام"؛ يعني: لا يَعِظُنا متوالياً.
"كراهةَ السّآمَة"؛ أي: المَلالة "علينا"؛ إذ لا تأثير له عند المَلالة، بل يَعِظُنا يوماً دون يوم، ووقتاً دون وقت.
ويروى بالحاء المهملة أيضًا؛ أي: يتأمَّل أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة، فيعظُنا فيها، وكذلك لِيَفعلِ المشايخُ والوعّاظُ في تربية المُرِيدين.
* * *
157 -
وقال أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثًا حتى تُفهمَ عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّمَ عليهِمْ سَلَّم عليهم ثلاثًا.
"وقال أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة"؛ أي: بكلام مفيد.
"أعادها ثلاثًا حتى تُفهَم"؛ أي: لِتُفهَمَ "عنه" تلك الكلمة.
"وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم سلَّم عليهم ثلاثاً": تسليمة للاستئذان، وتسليمة للوداع، وتسليمة للتحية، وهذه التسليمات كلُّها مسنونة، وكان عليه الصلاة والسلام يواظب عليها.
158 -
وعن أبي مَسْعُودٍ الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دلَّ على خَيْرٍ فلهُ مِثْلُ أَجْرِ فاعلِهِ".
"وعن أبي مسعود الأنصاري أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن دلَّ على خير فله مثلُ أجر فاعله": معناه ظاهر.
* * *
159 -
وقال: "مَنْ سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حسنةً فلهُ أجرُها وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بها بعدَهُ، مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أُجورِهم شيءٌ، ومَنْ سنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً سيِئَةً كان عليهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عملَ بها بعدَهُ، مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أَوزارِهم شيءٌ"، رواه جَرِيْر رضي الله عنه.
"وعن جرير أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن سَنَّ في الإِسلام سُنةً حسنةً"؛ أي: أتى بطريقةٍ مَرضيةٍ يُقتدَى به فيها.
"فله أجرُها"؛ أي: أجرُ عملِه.
"وأجرُ مَن عملَ بها"؛ أي: ومثلُ أجرِ مَن عملَ بتلك السُّنة.
"بعدَه"؛ أي: بعد ممات مَن سَنَّها، قُيد به دفعاً لِما يُتوهَّم أن ذلك الأجر يُكتب له ما دام حيّاً.
"من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سَنَّ في الإِسلام سُنَّةً سيئةً كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَن عملَ بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
* * *
160 -
وقال: "لا تُقْتَلُ نفس ظُلْمًا إلَّا كانَ على ابن آدمَ الأوَّلِ كفْلٌ مِنْ
دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ"، رواه ابن مَسْعُود رضي الله عنه.
"وعن ابن مسعود أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُقتَلُ نفسٌ ظلماً": نصب على التمييز.
"إلا كان على ابن آدم الأول": صفة لـ (ابن)، وهو قابيل، قَتلَ أخاه هابيل.
"كِفْل"؛ أي: نصيب.
"من دمها"؛ أي: دم النفس؛ يعني: كلُّ قتل باطل يجري بعد قابيل إلى نفخة الصُّور يكون لقابيل نصيبٌ من ذلك الإثم؛ "لأنه أولُ مَن سَنَّ القتلَ".
* * *
مِنَ الحِسَان:
161 -
عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: قال رسولُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَلَكَ طَريقاً يطلُبُ فيهِ عِلْمًا سَلَكَ الله به طَريقاً من طُرُق الجنَّةِ، وإنَّ الملائكةَ لتضَعُ أجنحتَها رِضًا لطالبِ العِلْم، وإنَّ العالمَ ليَستغفرُ لهُ مَنْ في السَّماواتِ وَمَنْ في الأَرضِ، والحِيْتانُ في جَوْفِ الماء وإنَّ فَضْلَ العالم على العابدِ كفضْلِ القمَرِ ليلةَ البَدرِ على سائرِ الكواكِبِ، وإِنَّ العُلَماء وَرثَةُ الأنبياءَ، وإِنَّ الأنبياء لم يوَرِّثوا دِيْنارًا ولا دِرهمًا، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أخذَ بحظٍّ وافِرٍ".
"من الحسان":
" عن أبي الدرداء أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن سلكَ طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقاً"؛ أي: أذهبه الله تعالى بسبب طلب العلم في طريق "من طرق الجنة" حتى يوصلَه إليها، وفيه: إشارة إلى أن طرق الجنة كثيرة؛ فكلُّ عملٍ صالحٍ طريقٌ من طرقها، وطلبُ العلم أقربُ طريق إليها وأعظم.
"وإن الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضاً": حال أو مفعول له؛ أي: يتواضعون "لطالب العلم" توقيراً للعلم، والسلام تتعلّق بـ (تضع).
وقيل: المراد به حقيقته، وهي فَرشُ الجناحِ وبسطُها له؛ لتحملَه عليها، وتبلِّغَه مقصدَه من البلاد تعظيماً لعلمه.
"وإن العالِم لَيَستغفر له مَن في السماوات"؛ لأنهم عُرفوا بتعريف العلماء، وعُظِّموا بقولهم.
"ومَن في الأرض"؛ لأنَّ بقاءَهم وصلاحَهم مربوطٌ برأي العلماء وفتواهم، ولذلك قيل: ما من شيء من الموجودات حيها وميتِها إلا وله مصلحة متعلقة بالعلم.
"والحِيتان" جمع: الحُوت.
"في جوف الماء"، وخصَّ الحِيتان بالذِّكر؛ لعدم دخولها في جملة المذكور، إذ هي في الماء، وإن سلم أن قوله:(في الأرض) يشملها فذِكرُها للإيماء إلى أن العلم ما به حياة كل شيء، فلذلك استغفر للعالِم المسبب له مَن بقاؤُه مختصٌّ به.
قال الله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، قال ابن عباس: الماء العلم، والأودية القلوب.
"وإن فضل العالِم" الذي يقوم بنشر العلم وتعليمه مع أدائه ما توجَّه إليه من فرائض الله تعالى.
"على العابد" الذي يصرف أوقاتَه بالنوافل، ويشتغل بالتطوعات، مع كونه عالمًا بما يصح به العبادة.
"كفضل القمر ليلةَ البدر": وهي الليلة الرابع عشر من الشهر.
"على سائر الكواكب"، شبَّه العالِم بالقمر والعابد بالكواكب؛ لأنَّ كمالَ
العبادة ونورَها لا يتخطى العابد، وكمالَ العلم ونورَه يتعدى إلى غيره، فيُستضاء بنوره المتلقَّى من نور النبي عليه الصلاة والسلام كالقمر المتلقِّي نورَه مِن الشمس المنيرة بالذات من خالقها عز وجل.
"وإن العلماءَ وَرثَةُ الأنبياء"، وإنما لم يقل: وَرثَةَ الرُّسل؛ ليشملَ الكلَّ.
"وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهماً"، خصَّ الدرهم بالذكر؛ لأنَّ نفيَ الدينار لا يستلزم نفيَه.
ولا يَرِدُ الاعتراض على هذا بأنّه عليه الصلاة والسلام كان له صفايا بني النضير، وفَدَك خيبر إلى أن مات، وخلَّفها، وكان لشعيب عليه السلام أغنام كثيرة، وكان أيوب وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - كلٌّ منهما ذا نعمة كثيرة؛ لأنَّ المراد: أنَّه ما وَرِثَتْ أولادهم وأزواجهم شيئًا من ذلك، بل بقي ذلك بعدهم مُعداً لنوائب المسلمين.
"وإنما ورَّثوا العلمَ" وإظهارَ الدِّين ونشرَ الأحكام.
"فمَن أخذَه"؛ أي: العلمَ؛ يعني: تَعَلَّمَه.
"أخذَ بحظٍّ": الباء زائدة للتأكيد؛ أي: [أخذَ] حظًّا، وهو النصيب، أو المعنى: ملتبساً بحظ "وافر" من الحظوظ؛ أي: تام كامل؛ أي: لا حظَ أوفرُ منه، ويجوز أن يكون (أخذ) بمعنى: الأمر، والمعنى: مَن أراد أخذَه فَلْيأخذْ وافراً منه، ولا يَقْنع بقليله؛ فإن وضعَ الملائكةِ أجنحتَها واستغفارَ المخلوقات لطالِبه من أعلى المراتب للإنسان.
* * *
162 -
وقال أبو أُمامة الباهلي: ذُكِرَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلانِ أحدُهُما عابدٌ والآخَرُ عالمٌ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فضلُ العالِم على العابدِ كفَضْلي على
أَدناكُمْ"، ثمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله وملائكتَهُ وأهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملَةَ في جُحرِها وحتَّى الحوتَ لَيُصلُّونَ على معلّم النّاسِ الخير".
"وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: وُصف عندَه "رجلان: أحدهما عابد والآخر عالِم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل العالِم على العابد كفضلي على أدناكم" في العلم، وهو يُشعِر أن درجةَ العلماء قاصيةٌ لا تُنال إلا باجتهاد عظيم.
"ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النَّملةَ في جُحرها"؛ أي: ثقبها.
"وحتى الحوتَ في الماء لَيُصلُّون على معلِّم الناسِ الخيرَ"؛ أي: يدعُون له.
قيل: أراد بالخير هنا: علم الدّين وما به نجاة الرَّجل.
وإنما لم يطلق (المعلّم) ليُعلَم أن استحقاق الصلوات لأجل تعليم علم يوصل إلى الخير؛ أي: إلى الله تعالى.
* * *
163 -
وقال أبو سَعيد الخُدريُّ رضي الله عنه: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ النّاسَ لكُمْ تَبَعٌ، وإِنَّ رِجالًا يأتونكُمْ مِنْ أقطارِ الأرضِ يتفقَّهُونَ في الدِّينِ، فإذا أتوْكمْ فاسْتَوْصُوا بهِمْ خَيْرًا".
"وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الناسَ لكم تَبَعٌ" جمع: تابع، والخطاب لعلماء الصحابة رضي الله عنه؛ يعني: يتبعونكم في أفعالكم وأقوالكم؛ لأنكم أخذتم أفعالي وأقوالي.
"وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض"؛ أي: جوانبها.
"يتفقَّهون"؛ أي: يطلبون الفقه ويتعلَّمونه.
"في الدِّين"؛ أي: في أمور الدِّين وأحكامه.
"فإذا أتَوكم فاستَوصُوا بهم"؛ أي: اطلبوا من أنفسكم الوصيةَ مني بالإحسان إليهم وتعليمهم العلمَ، وقيل: معناه: مُرُوهم بالخير وعِظُوهم.
"خيراً": وعلّموهم إياه.
* * *
164 -
وقال: "الكلِمةُ الحِكْمَةُ ضالَّةُ الحَكيم، فحيثُ وجدَها فَهُوَ أَحَقُّ بها"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه. غريب.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمةُ الحكمةُ"، يروى بالإضافة وبالوصف، والمراد بـ (الكلمة) هنا: الجملة المفيدة، وبـ (الحكمة): المُحكَمة الممنوعة عن الخطأ والفساد.
وقيل: الحكمة: الفقه في الدِّين، فُسّر به في قوله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
"ضالَّة الحكيم"؛ أي: مطلوبه، والحكيم: هو المُتقِن للأمور، الذي له غَور فيها.
"فحيث وجدَها فهو أحقُّ بها"؛ أي: بقَبولها والعمل بها، أو المعنى: كلمة الحكمة ربما تفوَّه بها مَن ليس لها بأهل، فإذا وقعت في أهلها فهو أَولى بها من قائلها من غير التفاتٍ إلى حاسة قائلها، كالضالَّة؛ إذا وجدها صاحبها فإنَّه أحقُّ بها من غيره.
"غريب".
* * *
165 -
وقال: "طلَبُ العِلْم فريضةٌ على كُلِّ مُسلم"، رواه أنسٌ رضي الله عنه.
"وعن أنس رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلبُ العلم"؛ أي: العلمِ الشرعيِّ "فريضة"؛ أي: فرضُ عينِ.
"على كل مسلم"؛ أي: بالغِ، كعلم الكلام المتكفل ببيان معرفته تعالى بالوحدانية ومعرفة صفاته وصدق الرسول، وكعلم الطهارة والصلاة والصوم، والزكاة إن كان له مال، والحج إذا وجبَ عليه، وأما بلوغُ رتبة الاجتهاد والفُتيا ففرضُ كفايةٍ.
* * *
166 -
وقال: "لَفَقيهٌ أشدُّ على الشيطانِ مِنْ ألفِ عابدٍ"، رواه ابن عباس رضي الله عنهما.
"وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَفقيهٌ واحدٌ"؛ أي: بقاؤُه وحياتُه.
"أشدُّ" وأبغضُ "على الشيطان مِن" بقاءِ "ألف عابدٍ" غيرِ فقيهِ وحياتِهم؛ لأنَّ الفقيه يأمر الناس بالإيمان والطاعة، ويدعوهم إلى سبيل الرحمن، فيكون عدوّاً للشيطان، ولا كذلك العابد، والمراد بالألف هنا: الكثرة.
* * *
167 -
وقال: "خَصلَتانِ لا تجتمعانِ في مُنافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ، ولا فِقْهٌ في الدِّين"، رواه أبو هُريرة رضي الله عنه.
"وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خصلتان لا تجتمعان في منافق": بألا يكون فيه واحدة منهما، أو تكون واحدة منهما دون الأخرى.
"حسن سَمْت"؛ أي: سيرة وطريقة في الدِّين.
"ولا فقه في الدِّين"؛ أي: معرفة بالعلوم الشرعية؛ إذ لا اعتقادَ له، ولو تعلم منها يكون لمصلحة الأمور الدنيوية ودفع السيف عن نفسه.
والحديث يدل على عظم قَدر هاتين الخصلتين، وفيه: تحريض للمسلمين عليهما لينالوا فضيلةَ ما لا يناله المنافقون.
* * *
168 -
وقال: "مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ العِلْمِ فهو في سَبيلِ الله حتَّى يرجِعَ"، رواه أنس رضي الله عنه.
"وعن أنس رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن خرج" من بيته "في طلب العلم فهو في سبيل الله"؛ أي: في الجهاد.
"حتى يرجع" إلى بيته؛ يعني: يحصل له أجر الجهاد؛ لأنَّ الدِّينَ يعلو بالعلم ويحيا به، كما يعلو بالجهاد.
* * *
169 -
وقال: "مَنْ طَلَبَ العِلمَ كان كفّارةً لِما مضَى"، رواه عبد الله بن سَخْبَرَة الأزدي رضي الله عنه. ضعيف.
"وعن سَخْبَرة الأزدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: مَن طلبَ العلمَ كان كفارة لما مضى" من ذنوبه، والكفارة: ما يَستر الذنوبَ ويُزيلها، من "كَفَرَ" إذا سَتَرَ.
"ضعيف".
* * *
170 -
وقال: "لَنْ يَشبَعَ المؤمنُ مِنْ خَيْرٍ يسمَعُهُ حتَّى يكونَ مُنتهاهُ الجنَّةُ"،
رواه أبو سَعيد الخُدري رضي الله عنه.
"وعن أبي سعيد الخُدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: لن يَشبعَ المؤمنُ من خيرٍ"؛ أي: من علمٍ.
"يسمعُه حتى يكونَ منتهاه"؛ أي: غايتُه ونهايتُه "الجنةَ"؛ يعني: يكون حريصاً على طلب العلم، ولا يَشبَع ولا يَمَلّ منه، حتى يموتَ فيدخلَ الجنةَ.
* * *
171 -
وقال: "مَنْ سُئلَ عن عِلْمٍ عَلِمَهُ ثمَّ كتمَهُ أُلجمَ يومَ القيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
"وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن سُئل عن علمٍ عَلِمَه"، والسائل محتاجٌ إليه في أمور دينه.
"ثمَّ كتَمَه"؛ أي: سترَه.
"أُلجمَ يومَ القيامة بلِجامٍ"؛ أي: أُدخل في فمه لِجامٌ "من نارٍ"، وإنما عُذِّبَ فمُه؛ لأنه موضعُ خروج العلم منه، فلما لم يُجِبِ السائلَ وسكتَ جازاه الله تعالى عن سكوته بإلجامه من النار.
* * *
172 -
وقال: "مَنْ طلَبَ العِلْمَ ليُجارِيَ بِهِ العُلماءَ، أو ليُمارِيَ بِهِ السّفهاءَ، أو يَصرِفَ بِهِ وُجُوهَ النّاسِ إليهِ أدخلَهُ الله النّار"، رواه كعب بن مالك رضي الله عنه.
"وعن كعب بن مالك، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه قال: مَن طلبَ العلمَ ليُجارِيَ"؛ أي: ليُقاوِمَ، وقيل: لِيُفاخرَ.
"به العلماءَ"، ويقول لهم: أنا عالِمٌ مثلُكم، ويترفَّع ويتفاخر، كما ابتُلي به أكثر الناس إلا مَن عصمَه الله تعالى.
"أو لِيُمارِيَ": أو ليُجادلَ.
"به السفهاءَ" جمع: سفيه، وهو خفيف العقل، والمراد به هنا: الجاهل؛ يعني: ليجادل الجاهلين ويقول لهم: أنا عالِمٌ، وأنتم لستُم بعالِمين، فأنا خيرٌ منكم.
وقيل: المراد بـ (السفهاء): شِرار العلماء، الذين ضيَّعوا أعمارَهم في الطلب، ولم ينفعهم علمهم، بل زادهم ذلك سفاهةً وشرًا، سماهم سفهاء؛ لأنَّ عقولَهم ناقصةٌ، بالنسبة إلى العلماء الربّانيين.
"أو يصرفَ به"؛ أي: يُميلَ بالعلم "وجوهَ الناس إليه"، فيُعظّمونه ويُعطونه المال.
"أدخلَه الله النارَ". وفي الحديث: وعيد لمن لم يكن له غرض صحيح في طلب العلم.
* * *
173 -
وقال: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مما يُبتغى بهِ وَجْهُ الله، لا يتعلَّمُهُ إلا لُيصيبَ بهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنيا لمْ يَجد عَرفَ الجنةِ يومَ القيامَةِ"؛ يعني: ريحَها، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
"وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: مَن تعلَّم علمًا مما مما يُبتغَى"؛ أي: يُطلَب.
"به وجهُ الله"؛ أي: رضاه، كالعلوم الشرعية.
"لا يتعلَّمه إلا ليُصيبَ به عَرَضًا من عَرَض الدنيا"؛ يعني: لم يَقصد في تعلُّمه إلا أن ينالَ الحظوظَ الدنيويةَ كالمال والجاه، نكَّر (عَرَضاً) ليتناول جميعَ
أنواع الأغراض، قليلَه وكثيرَه.
"لم يجد عَرفَ الجنة يومَ القيامة؛ يعني: ريحها" الطيبة حين يجدها علماء الدِّين من مكان بعيد، فيكون يومَئذٍ كصاحب الأمراض الكائنة في الدماغ المانعة عن إدراك الروائح، وهذا تهديدٌ وزجرٌ عن طلب الدنيا بعمل الآخرة.
* * *
174 -
وقال: "نضَّرَ الله عبدًا سَمعَ مَقالَتي فحفِظَها ووَعاها وأَدّاها، فرُبَّ حامِلٍ فِقْهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أفقهُ مِنْهُ".
"وعن ابن مسعود، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه قال: نضَّر الله عبدًا"؛ أي: يجعله ذا نَضارة، وهي النعمة والبَهجة.
"سمعَ مقالتي، فحفظَها"؛ أي: عملَ بموجبها؛ فإن الحفظَ قد يُستعار للعمل، قال الله تعالى:{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112]؛ أي: العاملون لفرائضه.
"ووَعاها"؛ أي: دامَ على حفظها.
"وأدّاها"؛ أي: أوصلَها إلى الناس وعلَّمها، وفيه: إشارة إلى الفُسحة في الأداء؛ حيث لم يُوجبْه معجَّلًا، وإنما دعا عليه الصلاة والسلام بالنضارة؛ لأنه جدَّد بحفظِه ونقلِه طراوةَ الدِّين وجلبابَه، ورواه كما سمعه غضّاً طريّاً من غير تحريف وتغيير.
"فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيهٍ": صفة لـ (حامل)، وهذا تعليل للحفظ والوعي؛ فإن الحاملَ قد لا يكون فقيهاً، فيجب عليه أن يحفظَ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤدِّيَه إلي الفقيه ليَفهمَ المرادَ به.
"ورُبَّ حاملِ فقهٍ" قد يكون فقيهاً ولا يكون أفقه، فيحفظه فيَعِيه ويبلِّغه
"إلى مَن هو أفقهُ منه"؛ ليُبرزَ الأفقهُ من جوامع الكلم النبوية كوامنَ الأحكام.
* * *
174/ -م - وقال: "ثلاث لا يُغَلُّ عليهِنَّ قلبُ مُسلمٍ: إخلاصُ العَملِ لله، والنَّصيحةُ للمُسلمينَ، ولزومُ جماعَتِهِمْ، فإنَّ دعوتَهُمْ تُحيطُ مِنْ ورائِهِمْ"، رواه ابن مَسْعود رضي الله عنه.
"وعن ابن مسعود، عن النبي عليه الصلاة والسلام: ثلاث"؛ أي: ثلاث خصال.
"لا يَغِلُّ" بفتح الياء وكسر الغين: وهو الحِقد.
"عليهن قلب مسلم"؛ أي: لا يكون ذا حقد على هذه الخِصَال، ويروى بضم الياء من: الإغلال، وهو الخيانة؛ أي: لا يخون قلب مسلم في هذه الخصال، والنفي هنا بمعنى النهي.
"إخلاص العمل لله": بألا يكونَ للرِّياء وتحصيل جاهٍ أو مالٍ.
"والنصيحة للمسلمين": بإرادة الخير لهم، وبأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه.
"ولزوم جماعتهم": بألا يخالفا في الاعتقاد وفيما عليه إجماعُ المسلمين.
"فإن دعوتَهم"؛ أي: دعوة الجماعة. "تُحيط"؛ أي: تَدُورُ "مِن ورائهم"، فيحرسهم ويحفظهم عن كيد الشيطان وإغوائه.
وفيه: تنبيه على أن مَن خرجَ مِن جماعتهم لم تَنَلْه بركةُ دعائهم؛ لأنه خارجٌ عما أحاطَ بهم.
* * *
175 -
وقال: "نَضَّرَ الله امْرءًا سَمعَ مِنَّا شيئًا فَبَلَّغَهُ كما سَمِعَهُ، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى له مِنْ سامِعٍ"، رواه ابن مَسْعود رضي الله عنه.
"وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: نضَّر الله امرأً سمع منَّا شيئًا فبلَّغَه كما سمعه": هذا أخص من قوله: "سمع مقالتي"؛ لأنه لا يندرج فيه غير الصحابي.
"فرُبَّ مبلَّغ أَوْعَى له"؛ أي: أحفظُ "مِن سامعٍ".
* * *
176 -
وقال: "اتَّقُوا الحديثَ عنِّي إلَاّ ما عَلِمْتُمْ، فَمَنْ كَذبَ عليَّ مُتَعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّار".
"وعنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: اتَّقُوا الحديثَ"؛ أي: احذروا روايةَ الحديث "عني" فيما لا تعلمون أنه حديثي؛ أي: لا تُحدِّثوا. "إلا ما عَلِمتُم" أنه حديثي.
"فمَن كَذَبَ عليَّ متعمدًا فَلْيتبوَّأْ مقعدَه من النار": تقدم بيانه.
* * *
176/ -م - وقال: "مَن قالَ في القُرْآنِ برأْيهِ فليتبوَّأْ مَقعدَهُ مِنَ النَّار"، رواه ابن عباس رضي الله عنه.
وفي روايةٍ أُخرى: "مَنْ قالَ في القُرآنِ بغيْرِ علْمٍ فليتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّارِ".
"وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَن قال في القرآن برأيه"؛ أي: فسَّره مِن تِلقاء نفسه من غير أن يتبعَ (1) أقوالَ الأئمة.
(1) في "م": "من غير تتبع".
"فَلْيتبوَّأْ مقعدَه من النار، وفي رواية: مَن قال في القرآن"؛ أي: قال فيه قولًا "بغير علم": من غير أن يكونَ له وقوفٌ على لغة العرب ووجوه استعمالاتها من الحقيقة والمجاز، والمشترك والعام والخاص، وغير ذلك من سبب نزول الآية والناسخ والمنسوخ.
"فَلْيتبوَّأْ مقعده من النار".
* * *
177 -
وقال: "مَنْ قالَ في القُرآنِ برأْيهِ فأَصابَ فقدْ أخطَأَ"، رواه جُندُب رضي الله عنه.
"وعن جُندب، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: مَن قال في القرآن برأيه" على حَسْب ما يقتضيه عقله.
"فأصاب"؛ أي: صار مصيبًا فيما قاله.
"فقد أَخطَأ" وأَثِمَ؛ لأنه لا إذنَ في التكلُّم فيه من غير علم.
* * *
178 -
وقال: "المِراءُ في القُرآنِ كُفْرٌ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
"وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: المِرَاءُ في القرآن كفرٌ"؛ أي: الشك في كونه كلامَ الله، أو المِراء: المجادلة فيما فيه مِرية؛ أي شك، وهو من أعمال الكفار، أو المِرَاء: الجدال المشكِّك في الآي المتشابه منه، المؤدِّي إلى الجُحود، فسمَّاه كفرًا باسم ما يُخشى عاقبتُه إلا مَن عصمَه الله.
وقيل: هو المِرَاء في قراءته المَروية، بأن يُنكرَ بعضَها، فتوعَّدهم به لينتهوا
عن المِرَاء فيها والتكذيب بها؛ إذ كلُّها يجب الإيمان به.
* * *
179 -
وقال عَمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه: سمعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قومًا يَتَدَارَؤُنَ في القُرآن، فقال:"إنَّما هلكَ مَنْ كَانَ قبلَكُمْ بهذا، ضَربُوا كتابَ الله بعضَهُ ببعضٍ، وإنَّما نزَلَ كتابُ الله يُصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، فلا تُكَذِّبُوا بعضَهُ ببعضٍ، فما عَلِمْتُمْ منه فقولُوه، وما جهلتُم فكِلُوهُ إلى عالمِهِ".
"وقال عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: سمع النبي عليه الصلاة والسلام قومًا يَتَدارَؤُون"؛ أي: يختلفون "في القرآن"، ويدفع بعضُهم دليلَ بعضٍ منه، كما يَستدل أهلُ السُّنة على كون الخير والشر من الله بقوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، وأنكره القَدَري مستدلًا بقوله:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
"فقال: إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا" التدارُؤ.
"ضَرَبُوا"؛ أي: خَلَطُوا.
"كتابَ الله بعضَه ببعضٍ"، فلم يميزوا بين المُحكَم والمُتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمُطلَق والمُقيَّد ونحوها، بل حَكَمُوا في كلِّها حكمًا واحدًا.
وقيل: معناه: صرفوا كتاب الله بعضه ببعض عن المعنى المراد إلى ما مالَ إليه أوهامهم، كما فعلت اليهود بالتوراة، والنصارى بالإنجيل.
"وإنما نزل كتاب الله مصدقًا (1) بعضُه بعضًا"؛ يعني: الإنجيلُ بيَّن أن التوراةَ كلامُ الله، وهو حق، والقرآنُ بيَّن أن جميع الكتب المنزلة من الله تعالى كلامُ الله، أنزله بالحق على عباده.
(1) في "م": "يصدق".
"فلا تكذِّبوا بعضَه ببعض"، بل قولوا: كل ما أنزل الله على رسوله حق، وفيه: حثٌّ على طلب التخلُّص من التناقض الظاهر.
"فما عَلِمتُم منه فقولوا، وما جهلتم" كالمتشابهات وغيرها "فكِلُوه"؛ أي: فوِّضُوه "إلى عالِمِه"، وهو الله تعالى، أو مَن هو أعلمُ منكم مِن العلماء، ولا تقولوا معنًى من تِلقاء أنفسكم.
* * *
180 -
وقال: "أَلا سأَلوا إذْ لم يعلَمُوا، فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤال"، رواه جابر.
"وعن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ألا": حرف تخصيص بمعنى: هلا.
"سألوا إذا لم يعلَموا": وهذا يدل على أن السؤالَ عند عدم العلم واجبٌ.
"فإنما شفاءُ العِيِّ" بكسر العين وتشديد الياء: التحيُّر في الكلام، والمراد به هنا: الجهل؛ يعني: شفاء الجهل "السؤال" والتعلُّم، فكلُّ جاهل لا يستحيى عن التعلُّم يجد شفاء دائه الذي هو الجهل، وإلا فلا يَبرَأ أبدًا منه.
* * *
181 -
وقال: "أُنْزِلَ القُرآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لكلِّ آيةٍ منها ظَهْرٌ وبَطْنٌ، ولكلِّ حدٍّ مَطْلَعٌ"، رواه ابن مسعود رضي الله عنه.
"وعن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: أُنزل القرآنُ على سبعة أحرف" جمع: حرف، وهو الطَّرَف، والمراد: أطراف اللغة العربية.
وقيل: المراد بها: القراءات السبع المعروفة، وقيل: اللغات السبع المشهورة بالفصاحة، وهي قريش وهُذَيل وهوازن واليمن، وبنو تميم، وطيئ وثقيف.
وقيل: معناه: أُنزل مشتملًا على سبعة معانٍ، هي: الأمر، والنهي، والقصص، والأمثال، والوعد، والوعيد، والموعظة.
"لكل آية منها"؛ أي: من القرآن.
"ظَهر": وهو لفظها المَتلوُّ.
"وبَطن": وهو تأويلها، وقيل: ظَهرها: ما ظَهر بيانُه من غير رؤية وفكر، وبَطنها: ما هو بخلافه.
"ولكلِّ حدٍّ" من حدود الله تعالى، وهي أحكام الدِّين التي شُرعت للعباد.
"مُطَّلَع"؛ أي: موضع اطِّلاع من القرآن، فمَن وُفِّق أن يرتقيَ ذلك المُرتقَى اطَّلع منه على الحد الذي يتعلق بذلك المُطَّلع.
وقيل: المطَّلع: الفَهم، وقد يفتح الله تعالى على المتدبر المتفكِّر فيه من المعاني والتأويلات ما لا يَفتحَ على غيره، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} .
* * *
182 -
وقال: "العِلْمُ ثلاثةٌ: آيةٌ مُحْكَمَةٌ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ، أو فريضةٌ عادِلَةٌ، وما كان سِوى ذلكَ فَهُوَ فَضْلٌ"، رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
"وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: العلم"؛ أي: أصل علوم الدِّين ومسائل الشرع.
"ثلاثة: آية مُحْكَمَة"؛ أي: غير منسوخة.
"أو سُنَّة قائمة"؛ أي: ثابتة صحيحة عن أصحاب الحديث.
"أو فريضة عادلة"، قيل: هي الحكم المستنبط من الكتاب والسُّنة لمعادلة الحكم المنصوص فيهما، ومساواته له في وجوب العمل به.
وقيل: معناه: معدَّلة بالكتاب والسُّنة والفريضة: ما اتفق عليها المسلمون، وهو إشارة إلى الحكم الثابت بالإجماع.
"وما كان سوى ذلك" المذكور "فهو فَضْلٌ"؛ أي: زائدٌ لا ضرورةَ إلى معرفته، كالنحو والتصريف والعروض والطب، وغير ذلك.
* * *
183 -
وقال: "لَا يَقُصُّ إلَاّ أميرٌ، أو مأْمورٌ، أو مُختالٌ" رواه عَوْف بن مالك الأَشجَعي رضي الله عنه.
"وعن عوف بن مالك الأشجعي، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: لا يَقُصُّ"، القَصُّ: التكلُّم بالقصص، ويُستعمل في الوعظ؛ أي: لا يَعِظ.
"الناسَ إلا أمير"؛ أي: حاكم.
"أو مأمور": وهو الذي يأمره الأمير ويَأذَن له، فهذان يجوز لهما الوعظ.
"أو مختال" من اختالَ: إذا تكبَّر، فالمراد به: الواعظ بلا إذن الأمير، فهو متكبر فُضُولي طالب للرئاسة.
وفي هذا زجر عن الخطابة والوعظ بغير إذن الإمام؛ فإن الإمامَ أعرفُ بمصالح الرعية وبمن هو أهلٌ للوعظ من العلماء؛ وهو مَن كان فيه ديانةٌ وتركُ الطمعِ، وحسنُ العقيدةِ، وسكونُ النفس عن العداوة مع الناس.
* * *
184 -
وقال: "مَنْ أُفتيَ بغيرِ عِلْمٍ كان إثمُهُ على مَنْ أفتاه، ومَنْ أشارَ على أخيهِ بأمْرٍ يعلَمُ أنَّ الرُّشْدَ في غيرهِ فقدْ خانَهُ"، رواه أبو هريرة.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: مَن أُفتي" على صيغة المجهول من: الإفتاء.
"بغير علم"؛ يعني: كلُّ جاهلٍ سألَ عالِمًا عن مسألة من أحكام الشرع، فأفتاه العالِم بجواب باطل، فعملَ السائلُ بها ولم يعلم بطلانها.
"كان إثمه على مَن أفتاه، ومَن أشار على أخيه" بعد الاستشارة "بأمر يعلم"، المراد بالعلم أعمُّ من الظَّنِّ وغيره.
"أن الرُّشدَ" والمصلحةَ "في غيره فقد خانَه"؛ لأنه دلَّه على ما ليس فيه مصلحة.
* * *
185 -
وقال مُعاوية رضي الله عنه: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الأُغلوطات.
"وقال معاوية رضي الله عنه: إن النبي عليه الصلاة والسلام نَهَى عن الأُغلوطات" جمع: أُغْلُوطة، وهي ما يُغلَط به من المسائل الملتبسة، وإنما نهى عنها لعدم نفعها في الدِّين.
وقيل: الأُغلُوطة: هي المسألة التي يُوقِع السائلُ بها المسؤولَ عنها في الغلط؛ لغموضه فيها، فيَمتحنه ليظهر فضل نفسه، وهذا مَنهيٌّ عنه؛ لأن فيه تحقيرًا وإذلالًا (1).
* * *
(1) في "م": "إيذاء وإذلالًا".
186 -
عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَلَّمُوا الفَرائضَ والقُرآنَ؛ فإنِّي مَقْبُوضٌ".
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: تعلَّموا الفرائضَ"، قيل: هو علم الميراث، وقيل: ما فرضَه الله تعالى على عباده، وقيل: المراد بها: السُّنَن المشتملة على الأوامر والنواهي، والصحيح: أنه أراد بها جميع ما يجب على الناس معرفتُه، وإنما حثَّ على تعلُّمها؛ لأن العقابَ لا يتعلق إلا بها.
"والقرآنَ"؛ وإنما حث عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وهو الأصل الذي لا بد منه.
"فإني مقبوضٌ"؛ أي: سأُقبَض، وخصَّهما لانقطاعهما بقبضه عليه الصلاة والسلام.
* * *
187 -
عن رضي الله عنه: أنه قال: كُنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فشخَصَ ببصرهِ إلى السَّماءِ، ثمَّ قال:"هذا أَوانٌ يُخْتَلَسُ فيه العِلْمُ مِنَ النَّاسِ حتَّى لا يقدِرُوا منهُ على شيءٍ".
"وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشَخَصَ ببصره"؛ أي: نظرَ بعينيه.
"إلى السماء، ثم قال: هذا أوانُ"؛ أي: وقتُ.
"يُختلَس"؛ أي: يُسلَب "فيه العلم" بسرعة "من الناس"، قيل: المراد: استلاب علم الوحي، بأن كُوشِفَ صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله، فأَعلَمَهم بذلك.
"حتى لا يَقدروا منه"؛ أي: من العلم. "على شيء"، إلا ما تعلَّموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
188 -
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه روايةً: "يُوشِكُ أنْ يضربَ النَّاسُ أكبادَ الإبلِ يطلُبُونَ العِلْمَ، فلا يَجِدُونَ أحدًا أعلمَ مِنْ عَالِم المدينةِ".
قال ابن عُيَينة: هو مالك رضي الله عنه، ومثله عن عبد الرزَّاق، وقيل: هو العُمَرِيُّ الزَّاهِدُ.
"وعن أبي هريرة روايةً: يُوشِك"؛ أي: يَقرُب.
"أن يَضربَ الناسُ أكبادَ الإبل"، أي: يُجهدون الإبلَ ويُركضونها، كنى بضرب الأكباد عن سرعة السَّير والرَّكض؛ لأن أكبادَ الإبل والفَرَس وغيرهما تتحرك عند الركض، ويلحقها ضررٌ من قطع المسافة؛ يعني: قَرُبَ أن يأتي زمانٌ يسير الناس سيرًا شديدًا من البلاد البعيدة.
"يطلبون العلمَ، فلا يجدون أحدًا أعلمَ من عالم المدينة"، وهذا في زمان الصحابة والتابعين، وأما بعد ذلك فقد ظهرت العلماء الفحول في كل بلدة من بلاد الإسلام أكثر مما كانوا في المدينة.
"وقال ابن عيينة"، اسمه سفيان: هذا العالِم الذي أشار إليه عليه الصلاة والسلام "هو مالك" بن أنس، وهو أستاذ الشافعي، وكان صاحبَ فراسة وحديث واجتهاد.
"ومثله"؛ أي: مثل ما قال ابن عيينة في مالك.
"عن عبد الرزاق"، وهو من فُضَلاء أصحاب الحديث.
"وقيل: هو العُمَري الزاهد"، أراد به: عمر بن عبد العزيز الخليفة، قيل
له: العُمَري نسبةً إلى عمر بن الخطاب؛ لأنه ابن ابن ابنته.
وقيل: هو عبد الله [بن عمر] بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
قيل: كان أحد العلماء الراسخين، وكان يُقدَّم على مالك بن أنس.
* * *
189 -
عن أبي هُريرة رضي الله عنه فيما أعلمُ - عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله عز وجل يَبْعَثُ لهذهِ الأُمَّةِ على رأْسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دينَهَا".
"عن أبي هريرة فيما أعلم"؛ أي: هذا الحديث كائنًا في علمي هو عن أبي هريرة.
"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة" إذا قلَّ العلمُ وغلبت المبتدعون.
"على رأس كل مئة سَنةٍ مَن يجدِّد": مفعول (يبعث)؛ أي: يبعث عالِمًا ربَّانيًا يجدِّد.
"لها"؛ أي: لهذه الأُمة.
"دِينَها"، بأن يعلِّمَهم علومَ الدِّين، ويُبينَ لهم السُّنةَ عن البدعة، وَيكسرَ أهلَ البدعة ويُذلَّهم، ويؤيدَ الدِّينَ، ويُعزَّ أهلَه، ويكثرَ العلمَ بين الناس.
* * *
190 -
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحملُ هذا العلمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنفُون عنهُ تَحْريفَ الغالِيْن، وانتِحالَ المُبْطِلين، وتأْويلَ الجاهلين". والله أعلم وأحكم.
"وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري أنه قال: قال رسول الله - قال
الله تعالى عليه وسلم -: يَحملُ"؛ أي: يَحفظُ.
"هذا العلمَ" الذي صدر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الكتاب والسُّنة؛ أي: يأخذ ويقوم بإحيائه وتعليمه.
"مِن كل خَلَف"، وهو بتحريك اللام: الرجل الصالح الآتي بعد السَّلَف الصالح.
"عُدُولُه"؛ أي: يَحملُه منهم مَن كان عَدْلًا صاحبَ التقوى والدِّيَانة.
"يَنْفُون": جملة حالية؛ أي: نافين "عنه"؛ يعني: طاردين عن هذا العلم "تحريفَ الغالِين"؛ أي: تبديلَ المتجاوزين في أمر الدِّين عما حُدَّ وبُين له؛ يعني: المبتدعين الذين يتجاوزون في الكتاب والسُّنة عن المعنى المراد، فيحرِّفونه عن جهته، كأقوال القَدَرية والجَبْرية والمشبهة وغيرهم من أهل البدع.
"وانتحالَ المُبطِلين"؛ أي: كذبَهم في نسبة القول، أراد بـ (المُبطِلين) هنا: الواضعين أحاديثَ وأقوالًا مِن تِلقاء أنفسهم، ويقولون: هذا حديث رسول الله أو فعله أو سُنته؛ ليَستدلَّ به على باطله.
"وتأويلَ الجاهلين" في القرآن والأحاديث بما ليس بصواب؛ أي: يبين العلماءُ للناس بطلان تلك التأويلات، ويمنعهم عن قَبولها، وفيه: ثناءٌ منه عليه الصلاة والسلام على طَلَبَة العلم ونَقَلَته، وشهادةٌ لهم بالعدالة.
* * *