الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزموا السكينة، وهي: الوقار، ومن خاف التكبيرة الأولى، قيل: إنه يسرع، وقيل: يهرول، وقيل: يمشي على وقار؛ للحديث.
"فما أدركتم": الفاء جزاء شرط محذوف؛ أي: إذا بينت لكم ما هو أولى لكم فما أدركتم.
"فصلوا وما فاتكم فأتموا"، ويحصل لكم الثواب كاملاً.
وفيه دليل على أن ما أدركه المرء من صلاة إمامه هو أول صلاته؛ لأن لفظ الإتمام يقع على باقي شيء تقدم أوله، وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد.
"ويروى: فإن أحدكم إذا كان يعتمد"؛ أي: يقصد.
"إلى الصلاة فهو في الصلاة" من حين قصدها؛ لأن المشارِفَ قريبٌ من الشيء كأنه فيه، وهذا إذا لم يقصِّرْ في التأخير.
* * *
6 - باب المَساجِد ومَواضع الصَّلاةِ
(باب المساجد ومواضع الصلاة)
وهي أعم من المساجد.
مِنَ الصِّحَاحِ:
478 -
قال ابن عبَّاسٍ: لمَّا دَخَلَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم البيتَ دَعا في نواحيهِ كُلِّها، ولم يُصَلِّ حتى خرجَ، فلمَّا خرجَ ركعَ ركعَتَيْنِ في قُبُلِ الكَعْبَةِ، وقال:"هذِهِ القِبْلةُ".
"من الصحاح":
" قال ابن عباس: لمَّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت"؛ أي الكعبة عام فتح مكة.
"دعا في نواحيه كلها"؛ يعني: وقف في كل جانب من جوانب الكعبة من داخلها ودعا.
"ولم يُصلِّ حتى خرج، فلما خرج ركع"؛ أي: صلى "ركعتين في قُبل الكعبة": بضم القاف؛ أي: مُقدَّمها، والمراد: الجهة التي فيها الباب؛ أي: في مستقبل باب الكعبة.
روي: أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة مستقبلاً بيت المقدس، وكان يحب أن يُوجَّه إلى الكعبة، فأنزل عليه:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].
"وقال هذه"؛ أي: تلك البقعة "القبلة"؛ أي: أمرها قد استقر على الكعبة، لا تنسخُ بعد اليوم، فصلوا إليها أبداً، فهي قبلتكم.
* * *
479 -
وقال عبد الله بن عمر: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخلَ الكعبةَ هو وأُسامَةُ بن زيدٍ وعُثْمَانُ بن طَلحةَ الحَجَبيُّ وبلالُ بن رَباح، فأغلقَها عليه، ومكثَ فيها، فسألتُ بلالاً حينَ خرجَ: ماذا صنعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: جَعَلَ عَموداً عن يسارِهِ، وعَمودَيْنِ عن يمينِهِ، وثلاثةَ أعمدةٍ وراءَهُ، ثمَّ صلَّى.
"وقال عبد الله بن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة الحجبي وبلال بن رباح، فأغلقها"؛ أي: الكعبة؛ يعني: بابها.
"عليه"؛ أي: على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية:(عليهم)، وهو ظاهر.
"ومكث فيها، فسألت بلالاً حين خرج: ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة": جمع عمود.
"ورائه"، والوراء يطلق على الخلف والقدام، فللكعبة يومئذٍ ستة أعمدة، وأما الآن فهي ثلاثة أعمدة؛ لأنه غيَّرها حجاج بن يوسف.
"ثم صلى" ركعتين، وهذا يدل على جواز الصلاة داخل الكعبة، وبه قال الأكثرون، ويتوجَّه كيف شاء.
* * *
480 -
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صَلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ مِنْ ألفِ صلاةٍ فيما سِواهُ إلَاّ المسجدَ الحرامِ".
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا"؛ يعني: مسجد المدينة.
"خير من ألف صلاة فيما سواه إلا في المسجد الحرام"؛ فإن صلاةَ فيه أفضل من ألف صلاة في مسجدي.
* * *
481 -
وقال: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَاّ إلى ثلاثةِ مساجِدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومَسجدِي هذا"، رواه أبو سعيد الخُدْرِيُّ رضي الله عنه.
"وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال": جمع الرحل، وهو: رحل البعير على قدر سنامه، هذا خبر بمعنى النهي، والمراد نفي الفضيلة التامة؛ يعني: لا فضيلة في شدِّ الرحال إلى مسجد للصلاة فيه.
"إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى"، وصفه بالأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام.
"ومسجدي هذا"؛ يريد: مسجد المدينة، ومزية هذه المساجد؛ لكونها أبنية الأنبياء ومساجدهم، ولهذا قالوا: لو نذر أن يصلي في أحد هذه الثلاثة تعيَّن بخلاف سائر المساجد؛ فإن من نذر أن يصلي في أحدها له أن يصلي في آخر.
* * *
482 -
وقال: "ما بينَ بَيتي ومِنبَري رَوضةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي على حَوْضي"، رواه أبو هريرة.
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين بيتي ومنبري": المراد بالبيت: بيت سكناه، وقيل: قبره؛ لما جاء في حديث آخر: "ما بين قبري ومنبري"، ولا تنافيَ بينهما؛ لأن قبره في بيته.
قيل: أراد بذلك المحراب؛ لأنه بين المنبر وبين بيته؛ لأن باب حجرته كان مفتوحاً إلى المسجد.
"روضة من رياض الجنة"؛ يعني: أن العبادة في ذلك الموضع تؤدِّي إلى روضة من رياضها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"الجنة تحت ظلال السيوف"؛ يريد: أن الجهاد يؤدي إلى الجنة.
قيل: سماه روضة لأن زوَّار قبره وعُمَّار مسجده من الملائكة والإنس والجن مُكِبُّون على الذكر والعبادة، إذا صدرَ عنها فريقٌ ورد آخر.
وقد سمى صلى الله عليه وسلم حِلَق الذكر رياضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا".
"ومنبري على حوضي"؛ أي: على حافته، وقد رُوي: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ومنبري على ترعة حوضي"، وهذا يدل على أن يكون له صلى الله عليه وسلم في الآخرة منبر، ويجوز أن يراد به: منبره في الدنيا.
وفيه تنبيهٌ على استمداده من الحوض الزاخر النبوي.
وقيل: فيه تنبيهٌ على مناسبة بينهما من حيث إن المنبر مورد القلوب الصادية في بيداء (1) الجهالة، كما أن الحوض مورد الأكباد الظامئة من حرِّ يوم القيامة، وأن كلاً منهما متعلق بالآخر، لا مطمعَ لأحد في الآخر دون الاتعاظ بالأول، فمن شهد المنبر مستمعاً اليوم يشهد الحوض غداً.
* * *
483 -
عن ابن عُمر قال: كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأْتي مسجدَ قُباءٍ كُلَّ سَبْتٍ ماشِياً وراكباً، فيُصلِّي فيهِ ركعَتْينِ.
"وعن ابن عمر أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قُباء" بضم القاف ممدوداً: قرية على ثلاثة أميال من المدينة، قيل: أصحاب الصفة كانوا في ذلك المسجد، فيأتيه صلى الله عليه وسلم.
"كلَّ سبت ماشياً وراكباً، فيصلي فيه ركعتين"، وهذا يدل على أن التقرب بالمساجد ومواضع الصلحاء مستحب، وأن الزيارة يوم السبت سنة.
* * *
484 -
وقال: "أحبُّ البلادِ إلى الله مسَاجِدُها، وأبغضُ البلادِ إلى الله تعالى أسواقُها"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب البلاد": جمع بلد، والمراد منه: مأوى الإنسان.
"إلى الله مساجدها"؛ لأن المسجد موضع الصلاة والذكر.
(1) في "ت": "ميدان".
"وأبغض البلاد إلى الله أسواقها"؛ لأن السوق موضع الغفلة عن الله والحرص والطمع والخيانة، والمراد بحب الله المسجد: إرادة الخير لأهله، وببغضه السوق: خلافها لأهله.
* * *
485 -
وقال: "مَنْ بنى لله مسجداً بنى الله لهُ بَيْتاً في الجَنَّةِ"، رواه عثمان رضي الله عنه.
"وعن عثمان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بنى لله مسجداً"؛ أي: مَعْبَداً، فيتناول معبدَ الكفرة فيكون لله؛ لإخراج ما بنى معبداً لغير الله.
"بنى الله له بيتاً في الجنة".
* * *
486 -
وقال: "مَنْ غَدا إلى المسجدِ أو رَاحَ، أعدَّ الله لهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدا أو راحَ".
"وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من غدا إلى المسجد"؛ أي: ذهب إليه في الغفلة.
"وراح"؛ أي: ذهب إليه بعد الزوال.
"أعد الله"؛ أي: هيَّأ له "نزله" بضم الزاي وسكونها: ما يهيأ للضيف.
"من الجنة، كلما غدا أو راح": ظرف، وجوابه ما دلَّ عليه ما قبله، وهو العامل فيه، المعنى: كلما استمر غدوه أو رواحه يستمر إعداد نزله في الجنة.
487 -
وقال: "أعظمُ النَّاسِ أجْراً في الصَّلاةِ أبعَدُهُمْ فأبعَدُهُمْ مَمْشًى، والذي يَنتظِرُ الصَّلاةَ حتَّى يُصَلِّيها مع الإمام أعظمُ أجراً مِنَ الذي يُصَلِّي ثمَّ ينامُ"، رواه أبو موسى رضي الله عنه.
"وعن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم مَمشى": مصدر ميمي أو اسم مكان؛ يعني: من كان بيته إلى المسجد أبعد مسافة، فأجره أكثر؛ لأن الأجر بقدر التعب.
"والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي"؛ أي: منفرداً، "ثم ينام"، ولا ينتظر الإمام.
* * *
488 -
وقال جابر: أرادَ بنو سَلِمَةَ أَنْ يَنتقِلُوا إلى قُرْب المسجدِ، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا بني سَلِمَةَ! دِيارَكُمْ، تُكْتَبْ آثارُكُمْ، دِيارَكُمْ، تُكْتَبْ آثارُكم".
"وقال جابر: أراد بنو سَلِمة" بكسر اللام: قبيلة من الأنصار.
"أن ينتقلوا إلى قرب المسجد": وكان ديارهم على بعد من المسجد، وكان يلحقهم مشقة من المشي في سواد الليل إلى المسجد؛ خصوصاً عند وقوع المطر، فكره النبي صلى الله عليه وسلم انتقالهم إلى قرب المسجد؛ لئلا تعرى جوانب المدينة، فرغبهم فيما عند الله من الأجر على نقل الخطأ.
"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني سلمة! ديارَكم" بالنصب على الإغراء؛ أي: الزموا دياركم، ولا تنقلوا عنها.
"تكتب" بالجزم جواب الأمر المقدر؛ أي: حتى تكتب.
"آثاركم": أجر خطاكم؛ فإن لكل خطوة درجة، فما كان الخطأ أكثر يكون الأجر أيضًا أكثر، وبالرفع حال أو استئناف.
"وتكتب آثاركم": كرره للتأكيد.
* * *
489 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يُظلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلَّهُ: إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشأَ في عِبادَةِ الله تعالى، ورجُلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ بالمَسجدِ إذا خَرَجَ مِنْهُ حتَّى يَعودَ إليه، ورجُلَانِ تحابَّا في الله اجتَمَعَا عليهِ، وتَفرَّقا عليه، ورجُلٌ ذكرَ الله خالِياً ففاضَتْ عَيْنَاهُ، ورجُلٌ دَعَتْهُ امرأَةٌ ذاتُ حَسَبٍ وجَمالٍ فقال: إنِّي أَخافُ الله، ورجُلٌ تَصَدَّقَ بصدَقَةٍ فأَخْفاهَا حتَّى لا تعلمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يمينُهُ".
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله"؛ أي: يدخلهم في رحمته ورعايته.
"يوم لا ظلَّ إلا ظله"؛ أي: لا قدرة ولا رحمة في يوم القيامة إلا لله، وقيل: المراد ظل العرش.
"إمام عادل": المراد هنا: من يلي أمور المسلمين من الأمراء وغيرهم.
"وشاب نشأ"؛ أي: نما "في عبادة الله"؛ أي: يكون في العبادة من أول بلوغه من التمييز إلى أن كبر.
"ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله"؛ أي: جرى المحبة بينهما لله، لا لغرض دنيوي.
"إن اجتمعا اجتمعا عليه"؛ أي: على التحابِّ في الله.
"وإن تفرقا"، تفرقا "عليه"؛ أي: على ذلك التحابِّ؛ أي: يكون تحابهما في الله غيبةً وحضوراً.
"ورجل ذكر الله خالياً"؛ أي: خاف الله في خلوته من ذنوبه السالفة وتقصيره السابق.
"ففاضت عيناه"؛ أي: جرت دموعه من عينيه خوفاً من عذاب الله؛ لتقصيره في الطاعات، وانهماكه في الشهوات.
"ورجل دعته امرأة" إلى الزنا بها.
"ذات حسب": وهو ما يعده الإنسان [من] مفاخر آبائه، وقيل: الخصال الحميدة له ولآبائه.
"وجمال"؛ أي: لها جمال كامل، والمرأة إذا كانت شريفة ذات خصال حميدة تكون النفس أميل إليها ممن لم تكن بهذه الصفة.
"فقال: إني أخاف الله"، وهذا القول أعم من أن يكون بلسانه أو في قلبه.
"ورجل تصدق بصدقة فأخفاها": هذا محمولٌ على التطوع؛ لأن الزكاة إعلانها أفضل.
"حتى لا تعلمَ شماله ما تنفق يمينه"، وهذا تأكيد ومبالغة في كتم الصدقة وإخفائها؛ فإن نسبة العلم إلى الشمال استعارة، أو معناه: لا يعلم من شماله ما تنفق يمينه، قال الله تعالى:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].
* * *
490 -
وقال: "صلاةُ الرجلِ في الجماعةِ تُضَعَّفُ على صلاتِهِ في بيتِهِ وفي سُوقِهِ خَمْساً وعشرينَ ضعفاً، وذلكَ أنَّهُ إذا تَوَضَّأَ فأحسَنَ الوُضوءَ، ثمَّ خرجَ إلى المسجد لا يُخرجُهُ إلاّ الصَّلاةُ، لم يَخْطُ خُطوةً إلَاّ رُفِعَتْ له بها درجةٌ، وحُطَّ عنهُ بها خَطيئةٌ، فإذا صَلَّى لمْ تَزَلِ الملائكةُ تُصَلِّي عليهِ ما دامَ في
مُصَلَاّهُ: اللهم! صلِّ عليه، اللهم! ارحمْهُ".
وقال: "لا يزالُ أحدُكُمْ في صَلاةٍ ما دامَ ينتظِرها، ولا تزالُ الملائكَةُ تُصلِّي على أحدِكُمْ ما دامَ في المسجدِ تقول: اللهمَّ! اغفِرْ لهُ، اللهمَّ! ارحَمْهُ ما لم يُحدِثْ".
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الرجل في الجماعة تضعف"؛ أي: تزداد الأجر.
"على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً"؛ أي: مثلاً، والمراد: الكثرة لا الحصر.
"وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه"؛ أي: من بيته إلى المسجد، "إلا الصلاة"، لا شغلَ آخر، جملة حالية.
"لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه"؛ أي: تدعو له وتستغفر له.
"ما دام في مصلاه"؛ أي: في الموضع الذي صلى فيه.
"ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة"؛ أي: مادام ينتظرها.
"وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزال أحدكم في صلاة ما دام ينتظرها، ولا تزال الملائكة تصلي عليه ما دام في المسجد، تقول"؛ أي: الملائكة: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث" بالتخفيف من (الحدث)؛ أي: ما لم يبطل وضوءه؛ لما روي أن أبا هريرة لما روى هذا الحديث قال له رجل من حضرموت: وما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط، ومن شدَّد الدال فقد غلط.
491 -
وقال: "إذا دَخَلَ أحدُكُمُ المسجدَ فليَقُلْ: اللهمَّ! افتَحْ لي أبوابَ رَحمَتِكَ، وإذا خرجَ فليَقُل: اللهمَّ! إني أسألُكَ مِنْ فَضْلِكَ".
"وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك": لعل السر في تخصيص ذكر الرحمة بالدخول والفضل بالخروج: أن من دخل اشتغل بما يؤلفه إلى الله تعالى وإلى ثوابه وجنته، فناسب أن يذكر الرحمة، فإذا انتشر في الأرض اشتغل بابتغاء الرزق، فناسب أن يذكر الفضل، كما قال تعالى:{فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
* * *
492 -
وقال: "إذا دخلَ أحدُكُمُ المسجدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قبلَ أنْ يَجْلِسَ".
"وعن أبي قتادة السلمي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع"؛ أي: فليصل "ركعتين"؛ يعني: تحية المسجد "قبل أن يجلس".
* * *
493 -
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يَقْدُمُ مِنْ سفَرٍ إلَاّ نهاراً في الضُّحى، فإذا قَدِمَ بدأَ بالمسجدِ، فصلَّى فيهِ ركعَتَيْنِ، ثمَّ جلسَ فيه.
"وقال كعب بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضُّحى": وهو وقت تشرق الشمس، فالسنة إذا رجع من السفر أن يدخل في أول نهاره.
"فإذا قدم بدأ بالمسجد"؛ أي: بدخوله.
"فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه" لحظة؛ ليزوره المسلمون ويزورهم، ثم يدخل بيته.
* * *
494 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمعَ رجُلاً ينشُدُ ضالَّةً في المسجدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّها الله عليكَ، فإنَّ المساجِدَ لمْ تُبن لهذا".
"عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من سمع رجلاً ينشد ضالة"؛ أي: يطلبها برفع الصوت.
"في المسجد فليقل: لا ردها الله تعالى عليك؛ فإن المساجد لم تُبن لهذا"؛ أي: لنشدان الضالة، بل لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن والوعظ، يعرف منه كراهة كلِّ أمر لم يُبن المسجد لأجله، حتى كره مالك البحث العلمي فيه، وجوَّزه أبو حنيفة وغيره؛ لأنه مما يحتاج إليه الناس؛ لأن المسجد مجمعهم.
* * *
495 -
وقال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجرةِ المُنْتَنِةَ فلا يَقْرَبن مَسجدَنَا، فإنَّ الملائكَةَ تتأذَّى ممَّا يَتَأَذَّى منهُ الإِنسُ".
"وعن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: من أكل من هذه الشجرة المنتنة": كالثوم والبصل والكراث.
"فلا يقربن مسجدنا": قيل: النهي يتعلق بكل المساجد، فالإضافة للملابسة، أو التقدير: مسجد أهل ملتنا؛ لأن العلةَ وهي "فإن الملائكة": أريد بهم: الحاضرون مواضع العبادات "تتأذى مما يتأذى منه الإنس" = عامةٌ؛ أي:
توجد في سائر المساجد، فيعم الحكم، ويدل هذا التعليل على أنه لا يدخل المسجد وإن كان خالياً عن الإنسان؛ لأنه محل الملائكة.
* * *
496 -
وقال: "البُزاقُ في المَسجدِ خَطيئةٌ، وكفَّارتُها دَفْنُها".
"وعن أنسٍ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: البزاق في المسجد خطيئة"؛ أي: إلقاء البزاق في أرض المسجد وجدرانه إثمٌ.
"وكفارتها دفنها"؛ يعني: إذا أزال ذلك البراق أو ستره بشيء طاهرٍ عقيبَ الإلقاء، أزال عنه تلك الخطيئة.
* * *
497 -
وقال: "عُرِضَتْ عليَّ أَعمالُ أُمَّتِي حَسَنُها وسيئُها، فوجدتُ في مَحاسِنِ أعمالِها الأَذَى يُماطُ عنِ الطَّريقِ، ووجدتُ في مَساوئ أعمالِها النُّخَاعةَ في المسجدِ لا تُدْفَنُ".
"وعن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عرضت علي أعمال أمتي؛ حسنها وسيئها": بالرفع بدل من (أعمال).
"فوجدت في محاسن أعمالها": جمع (حُسن) - بضم الحاء - على غير قياس.
"الأذى"؛ أي: إزالة الأذى، وهو: ما يتأذى به الناس من حجر أو غيره، واللام فيه للعهد الذهني.
"يماط"؛ أي: يبعد.
"عن الطريق": وهذه الجملة صفته.
"ووجدت في مساوئ أعمالها": جمع السُّوء على غير قياس أيضًا، والباء فيها مقلوبة عن الهمزة.
"النُّخاعة" - بضم النون: البزقة التي تخرج من أصل الفم، والمراد بها: إلقاءُها.
"تكون في المسجد لا تدفن"؛ أي: لا تستر، الجملتان صفة (النخاعة)، أو حال؛ يعني: إماطة الأذى عن الطريق من جملة الحسنات وإلقاء البزاق في المسجد من جملة السيئات.
* * *
498 -
وقال: "إذا قامَ أحدُكُمْ إلى الصَّلاةِ فلا يَبصُقْ أَمامهُ، فإنما يناجي الله ما دام في مُصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملَكاً، وليبصُق عن يَسارِهِ أو تحتَ قدَمِهِ فَيَدْفِنُها"، وفي رواية:"أو تحتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى".
"عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقْ أمامه"؛ أي: لا يرمي البزاق تلقاءَ وجهه نحو القبلة.
"فإنما يناجي الله تعالى"؛ أي: يخاطبه.
"ما دام في مصلاه"، ومن يناجي أحدٌ لا يبصق نحوه، وتخصيص القبلة مع استواء جميع الجهات بالنسبة إليه تعالى؛ لتعظيمها.
"ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً"، وتخصيص يمين المصلي بالملك، وقد قال الله تعالى:{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]؛ للإيذان بمزية ملك اليمين على الشمال بالشرف؛ لأنه كاتب الحسنات التي هي علامة الرحمة، فالتنكير للتعظيم؛ أي: ملكاً عظيم الشأن، فكان حقه الإكرام، ولذا قال - عليه
الصلاة والسلام -: "كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات".
قيل: هذا النهي عام في المسجد وغيره.
"وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها".
"وفي رواية": أبي سعيد "أو تحت قدمه اليسرى".
* * *
499 -
وقال: "لَعنةُ الله على اليَهودِ والنَّصارَى، اتَّخَذُوا قُبورَ أَنبيائهم مَساجِدَ".
"وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد": وذلك إما لسجودهم لقبور أنبيائهم تعظيماً لها، وهذا شرك جلي؛ لأن السجود لا يجوز إلا لله، وإما لاعتقادهم أن الصلاة إلى قبورهم أفضل وأعظم موقعاً عند الله؛ لاشتماله عبادةَ الله تعالى وتعظيمَ أنبيائهم، وهذا شرك خفيٌّ من حيث إنه أتى في عبادته بما يرجع إلى تعظيم مخلوق، ولذا قال عليه الصلاة والسلام:"اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبَدُ".
* * *
500 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا فلا تتَّخِذُوا القُبُورَ مساجَدَ، إنِّي أنهاكمْ عَنْ ذلك".
"ألا فلا تتخذوا القبور مساجد": نهى عليه الصلاة والسلام أمته عن الصلاة في المقابر؛ احترازاً عن المشابهة لليهود والنصارى.
"إني أنهاكم عن ذلك": تأكيد للنهي قبله، أما من صلَّى في مقبرة، وقصدَ به وصول أثرٍ من آثار عبادته إليه، لا التعظيم والتوجُّه نحوه؛ فجائز.
501 -
وقال: "اجْعَلُوا في بُيوتِكُمْ مِنْ صَلاتِكُمْ، ولا تتَّخِذُوهَا قُبوراً".
"عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم": مفعول (اجعلوا)؛ أي: اجعلوا بعضَ صلاتكم في بيوتكم.
"ولا تتخذوها قبوراً" بإخلائها عن الصلوات وقراءة القرآن، وهو من باب الاستعارة، أو المراد: لا تجعلوا بيوتكم أوطاناً للنوم الذي هو أخٌ للموت، لا تصلون فيها.
وقيل: إن مثل الذاكر لله ومثل غير الذاكر لله كمثل الحي والميت؛ الساكن في البيوت والساكن في القبور، فالذي لا يصلي في بيته جعله بمنزلة القبر، كما جعل نفسه بمنزلة الميت.
* * *
مِنَ الحِسَان:
503 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بينَ المَشرقِ والمَغربِ قِبْلةٌ".
"من الحسان":
" عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين المشرق والمغرب قبلة": المراد به: قبلة أهل المدينة؛ لوقوعها بينهما، وهي إلى طرف الغرب أميلُ.
قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة.
504 -
وقال طَلْق بن علي: خرجْنَا وَفْداً إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فبايعناهُ، وصَلَّيْنَا معهُ، وأخبَرْنَاهُ أنَّ بأرضنَا بِيْعةٌ لنا، فقال:"إذا أَتيتُمْ أرضَكُمْ فاكسِروا بِيعَتَكُمْ، وانضَحُوا مَكانهَا بهذا الماءِ، واتَّخِذُوهَا مسجداً".
"وقال طَلْق بن علي: خرجنا وفداً": نصب على الحال؛ أي: حال كوننا وافدين "إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: قاصدين لتعلم الدين منه.
"فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا": وهي الموضع الذي تعبد فيه النصارى.
"فقال: إذا أتيتم أرضكم، فاكسروا بيعتكم"؛ أي: غيروا محرابها، وحولوه إلى الكعبة، وقيل: خرِّبوها.
"وانضحوا"؛ أي: رشوا وأريقوا.
"مكانها بهذا الماء": قيل: الإشارة إلى فضل وَضوئه عليه الصلاة والسلام؛ لما روي: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا بماء فتوضأ منه، فتمضمض، ثم صبَّه في إداوة، وقال:"اذهبوا بهذا الماء، فإذا قدمتم بلدكم، فاكسروا بيعتكم، ثم انضحوا مكانها بهذا الماء".
"واتخذوها مسجداً فقلنا: يا نبي الله! إن البلد بعيد، والماء ينشف، فقال: أمدوه من الماء؛ فإنه لا يزيده إلا طيباً".
* * *
505 -
قالت عائشة رضي الله عنها: أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببناءِ المَساجدِ في الدُّورِ، وأنْ تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ.
"قالت عائشة: أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: أذِن
"ببناء المسجد في الدُّور": جمع الدار، والمراد هنا: المحلات؛ فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلةٌ داراً، أو محمولٌ على اتخاذ بيت في الدار للصلاة كالمسجد يصلي فيه أهلُ البيت.
"وأن ينظف"؛ أي: يُطهَّر بإزالة التبن والتراب والقاذورات.
"ويطيب"، أي: يُجعَل فيه الطيب.
* * *
506 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أُمِرْتُ بتشييدِ المَساجِدِ"، قال ابن عباس: لَتُزَخْرِفُنَّها كما زَخْرَفَتِ اليهودُ والنَّصارى.
"وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أمرت بتشييد المساجد": (ما) نافية، و (تشييدها): رفع بنائها وتطويلها، وقيل: تجصيصها.
"قال ابن عباس: لتزخرفنها": بفتح اللام توطئة للقسم؛ أي: والله لنزينن المساجد.
"كما زخرفت اليهود والنصارى"؛ أي: مساجدهم عندما حرَّفوا وبدَّلوا أمر دينهم، وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم من المراءاة والمباهاة بالمساجد بتشييدها وتزيينها.
* * *
507 -
عن أنس رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ مِنْ أشراطِ السَّاعةِ أنْ يتَبَاهَى النَّاسُ في المساجِدِ".
"وعن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إن
من أشراط الساعة": جمع شرط، وهو: العلامة؛ أي: من علامات القيامة.
"أن يتباهى الناس"؛ أي: يتفاخر.
"في المساجد"؛ أي: في شأنها، فيقول كل واحد: مسجدي أرفع بناء وأكثر زينة من مسجد فلان.
* * *
508 -
وقال: "عُرِضَتْ عليَّ أُجُورُ أُمَّتي حتَّى القَذَاةَ يُخرِجُها الرجُلُ مِنَ المسجدِ، وعُرِضَتْ عليَّ ذُنُوبُ أُمَّتي، فلمْ أَر ذنباً أعظمَ مِنْ سورَةٍ مِنَ القُرآنِ أو آيةٍ أُوتيَها رجلٌ، ثمَّ نسَيَها".
"وقال عليه الصلاة والسلام: عرضت علي أجور أمتي"؛ أي: أجور أعمال أمتي.
"حتى القَذاة" بفتح القاف: التبن والتراب وغير ذلك مما يُطهَّر منه المسجد.
"يخرجها الرجل من المسجد"؛ يعني: تطهير المسجد حسنة، ويجوز في (القذاة) الرفع والجر.
"وعرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن، أو آية أوتيها رجل"؛ أي: تعلمها.
"ثم نسيها"؛ يعني: يكون ذنبه أعظم من سائر الذنوب الصغائر؛ لأن نسيان القرآن من الحفظ ليس بذنب كبير إن لم يكن عن استخفاف وقلة تعظيم، وإنما قال عليه الصلاة والسلام بهذا للتشديد والتحريض على مراعاة حفظ القرآن.
509 -
وقال: "بَشِّر المشَّائينَ في الظُّلَم إلى المساجِدِ بالنُّور التَّامِّ يومَ القِيامَةِ".
"وعن بريدة الأسلمي أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بشِّر المشائين": جمع المشَّاء، وهو: كثير المشي.
"في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة": قيل: لو مشى في الظلام بضوء وأرأد به دفع آفات الظلام، فالجزاءُ بحاله، وإلا فلا.
* * *
510 -
وقال: "إذا رأَيتُم الرجل يتعاهد المَسجدَ فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ".
"وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد"؛ أي: يخدمه ويعمره.
وقيل: المراد التردد إليه في أوقات الصلاة وإقامة جماعته، وهذا هو التعهد الحقيقي؛ إذ ذلك عمارته صورة ومعنى.
"فاشهدوا له بالإيمان"؛ أي: بأنه مؤمن.
"فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: قال صاحب "الكشاف": عمارتها: كنسها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذكر، وصيانتها عما لم تُبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث.
* * *
511 -
قال عُثمان بن مَظْعُون رضي الله عنه: قلت: يا رسولَ الله! ائذَنْ لنا في الاخْتِصَاءِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ليسَ مِنَّا مَنْ خَصَى، ولا مَنِ اخْتَصى، إنَّ
خِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيامُ"، فقال: ائذَنْ لنا في السِّياحَةِ، فقال: "إنَّ سياحَةَ أُمَّتِي الجهادُ في سَبيلِ الله"، فقال: ائذَنْ لنا في التَّرَهُّبِ، فقالَ: "إنَّ تَرَهَّبَ أُمَّتِي الجُلُوسُ في المَساجِدِ انتِظارَ الصَّلاةِ".
"وقال عثمان بن مظعون": حين أرسله جماعة من أهل الصُّفة؛ ليستأذن لهم في الاختصاء؛ لأنهم يشتهون النساء، ولا طَول لهم بذلك:"يا رسول الله! ائذن لنا في الاختصاء، فقال: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ نهياً عن ذلك: "ليس منا"؛ أي: ممن يتمسك بسنتنا ويقتدي بهدينا.
"من خصى"؛ أي: أخرج خصية أحد.
"ولا اختصى": بحذف (من)؛ لدلالة ما قبله عليه؛ أي: أخرج وسلَّ خصية نفسه.
"إن خِصاءَ أمتي الصيام"؛ فإنه يكسر الشهوة، وجعل الصيام خصاءً مجاز؛ لأنه يكاد يلحق الصوام بالخصيان في اشتهاء النكاح.
"فقال"؛ أي: عثمان: "ائذن لنا في السياحة": وهو التردد والسفر في البلاد والذهاب في الأراضي، كفعل عُبَّاد بني إسرائيل.
"فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله، فقال: ائذن لنا في الترهُّب": وهو التزهد والتعبد، والمراد به هنا: العزلة عن الناس، والفرار من بينهم إلى رؤوس الجبال والمواضع الخالية، كما فعلت زهاد النصارى، حتى إن منهم من خصى نفسه، ووضع السلسلة في عنقه، وغير ذلك من أنواع التعذيب، فنهى عليه الصلاة والسلام المسلمين عنها.
"قال: إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة": نصب بأنه مفعول له للجلوس؛ أي: لانتظار الصلاة.
512 -
عن عبد الرحمن بن عائش رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأَيتُ رَبي تبارك وتعالى في أَحْسَنِ صُورَةٍ، فقال: فيمَ يَخْتَصِمُ المَلأَ الأَعْلَى يا مُحَمَّد؟ قلتُ: أنتَ أَعْلَمُ أَي رَبِّ - مَرَّتَيْنِ - قال: فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَعَلِمْتُ ما في السَّماءِ والأَرْضِ، ثُمَّ تلا هذه الآية: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، ثم قال: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأَ الأَعْلَى يا مُحَمَّد؛ قلتُ: في الكَفَّاراتِ، قالَ: وما هُنَّ؟ قُلْتُ: المَشْيُ على الأقْدَامِ إلى الجماعَاتِ، والجُلُوسُ في المَساجِدِ خَلْفَ الصَّلواتِ، وإبلاغُ الوُضوءِ أماكِنَهُ في المَكَارِهِ، مَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَعِشْ بِخَيْرٍ وَيَمُتْ بِخَيْرٍ، ويكونَ مِنَ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، ومِنَ الدَّرَجَاتِ إطْعَامُ الطَّعامِ، وبَذْلِ السَّلامِ، وأنْ يَقُومَ بالليلِ والنَّاسُ نِيامٌ، قال: قُلِ: اللهمَّ! إنِّي أَسْأَلُكَ الطَّيبَاتِ، وتَرْكَ المُنْكَراتِ، وحُبَّ المساكين، وأَنْ تَغْفِرَ لي خَطِيئتِي وتَرْحَمَني وتَتُوبَ عَلَيَّ، وإذا أَرَدْتَ فِتْنَةً في قَوْمٍ فَتَوَفَّني غَيْرَ مَفْتُونٍ".
"وعن عبد الرحمن بن عائش أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رأيت ربي تبارك وتعالى في أحسنِ صورة": حال من النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي: رأيته وأنا في تلك الحالة في أحسن صورة وصفة من غاية لطفه تعالى بي وإنعامه علي.
ويحتمل أن يكون حالاً من المرئي؛ فالسلفُ على الإيمانِ بظاهر مثله، وتفويضِ أمر باطنه إليه تعالى.
ثم هذا الحديث مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن عائش يرويه عن مالك بن عامر، عن معاذ بن جبل: قال معاذ رضي الله عنه: لم يخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لصلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع، فخرج، فصلى بنا صلاة الغداة على العجلة، ثم قال: "قمت الليلة، وصليت ما قدر الله لي أن أصلي، ثم غلبني
النعاس، فوضعت جنبي في المسجد، فرأيت ربي في المنام في أحسن صورة".
"فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ ": المراد بهم: الملائكة المقربون، وصفوا به لعلوِّ مكانهم، وهو السماوات، أو لعلو منزلتهم عند الله.
واختصامهم: عبارة عن تبادرهم إلى تثبيت تلك الأعمال المكفرة للذنوب والصعود بها إلى السماء، أو عن تقاولهم فيما بينهم في فضل تلك الأعمال وشرفها.
"قلت: أنت أعلم أي رب": وإنما نادى بـ (أي) دون (يا) أدباً؛ لأن (يا) ينادى به البعيد، والله تعالى أقرب من حبل الوريد.
وأما ما روي من النداء بـ (يا) في الدعوات، فلهضم النفس واستبعادها عن مظانِّ الإجابة، وهو اللائق بحال الدعاء.
"مرتين": متعلق بقوله: (فيم يختصم)؛ أي: جرى السؤال من ربي مرتين، والجواب مني مرتين.
"قال: فوضع كفه بين كتفي": وهذا مجاز عن تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه وتكريمه؛ فإن من شأن الملوك إذا أراد أحدهم أن يقرب من نفسه بعضَ خدمه، ويذكر معه بعض أحوال مملكته: أن يضع يده على ظهره؛ تعظيماً لشأنه وتكريماً له.
"فوجدت بردها"؛ أي: برد الكفِّ؛ يعني: راحة لطفه تعالى.
"بين ثديي": أراد به: قلبه، وذلك عبارة عن نزول الرحمة على فؤاده، وانصباب العلوم الوجدانية إلى صدره.
"فعلمت ما في السماوات والأرض": كناية عن سعة علمه الذي فتحه الله تعالى.
"ثم تلا هذه الآية: {وَكَذَلِكَ} "؛ أي: كما نريك يا محمد أحكام الدين
وعجائب ما في السماوات والأرض.
{نُرِي إِبْرَاهِيمَ} : مضارع في اللفظ، ومعناه الماضي؛ أي: أرينا إبراهيم.
{مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: الربوبية والإلهية، ووفقناه بمعرفتها وأرشدناه بما شرحنا صدره.
{وَلِيَكُونَ} : عطف على مقدر؛ أي: نريه الملك العظيم، وهو عالم المعقولات؛ ليستدلَّ به علينا، وليكون {مِنَ الْمُوقِنِينَ}: في أن لا إله غيري.
"ثم قال تعالى" سائلاً مرة أخرى: "فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: في الكفارات"؛ أي: الأشياء التي تكفر الذنوب؛ أي: تمحها، وفي رواية ابن عباس:(في الدرجات والكفارات).
"قال: وما هن؟ ": استفهام عن تلك الكفارات، والغرضُ منه إظهار علمه التفصيلي الذي علَّمه تعالى إياه، وأن يخبرها أمته؛ ليفعلوها.
"قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد خلف الصلوات، وإبلاغ الوَضوء": بفتح الواو؛ أي: إيصال ماء الوضوء بطريق المبالغة.
"أماكنه"؛ يعني: مواضع الفروض والسنن.
"في المكاره"؛ أي: في شدة البرد، وإنما خصَّ هذه الأشياء بالذكر حثاً على فعلها؛ لأنها دائمة، فكانت مظنة أن تُملَّ.
"ومن يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير، ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه": (يوم) مبني على الفتح؛ لإضافته إلى الماضي؛ يعني: يخرج من ذنوبه الصغائر طاهراً، أما الكبائر ففي مشيئة الله تعالى.
"ومن الدرجات"؛ أي: ومما يرفعها، أو يوصل إليها، فـ (من) هذه للتبعيض.
"إطعام الطعام، وبذل السلام"؛ أي: إفشاؤه على من عرف ومن لم يعرف.
"وأن تقوم بالليل والناسُ نيام"، وإنما عُدَّت هذه الأشياء منها؛ لأنها فضل منه على ما وجب عليه، فلا جرمَ استحقَّ بها فضلاً، وهو علوُّ الدرجات.
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: "قل: اللهم إني أسألك الطيبات"؛ أي: الأقوال والأفعال الصالحة.
"وفعل الخيرات، ترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي، وإذا أردت فتنة"؛ أي: ضلالةً.
"في قوم، فتوفني إليك": فقدِّرْ موتي "غير مفتون"؛ أي: غير ضالٍّ.
* * *
513 -
عن أبي أُمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثةٌ كُلُّهُمْ ضامِنٌ على الله: رَجُلٌ خرجَ غازِياً في سبيل الله، فهو ضامِنٌ على الله حتَّى يَتوفَّاهُ فيُدْخِلَهُ الجنَّةَ أو يَرُدَّهُ بما نالَ مِنْ أَجرٍ أو غنيمةٍ، ورجُلٌ راحَ إلى المسجدِ فهو ضامِنٌ على الله، ورجُلٌ دخلَ بيتَهُ بسلامٍ فهو ضامِنٌ على الله".
"عن أبي أمامة: عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ثلاثة كلهم"؛ أي: كلُّ واحد منهم.
"ضامن"؛ أي: ذو ضمان، وقيل: بمعنى: مضمون.
"على الله"؛ يعني: وعد الله وعداً لا خُلفَ فيه أن يعطيهم مرادهم.
"رجل خرج غازياً في سبيل الله، فهو ضامنٌ على الله حتى يتوفاه"؛ أي: يقبض روحه؛ إما بالموت، أو بالقتل في سبيل الله.
"فيدخله الجنة، أو يرده بما نال"؛ أي: بما وجده "من أجر أو غنيمة،
ورجل راح"؛ أي: مشى "إلى المسجد، فهو ضامن على الله": أن يعطيه الأجر؛ لئلا يضيعَ سعيه.
"ورجل دخل بيته بسلام"؛ أي: مسلِّماً على أهله.
"فهو ضامن على الله": أن يعطيه البركة والثواب الكثير؛ لما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأنس: "إذا دخلت على أهلك فسلِّم، يكون بركةً عليك وعلى أهل بيتك".
وقيل: معناه سالماً من الفتن؛ أي: طلبًا للسلامة منها؛ فإنه يأمن، كقوله تعالى:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} ؛ أي: سالمين من العذاب.
وإنما لم يذكر المضمون به في الأُخريين اكتفاءً.
* * *
514 -
وقال: "مَنْ خرجَ مِنْ بيتِهِ مُتطهراً إلى صَلاةٍ مكتوبةٍ فأجرُهُ كأجرِ الحاجِّ المُحرِمِ، ومَنْ خرجَ إلى تَسبيحِ الضُّحى لا يُنصِبُهُ إلَاّ إيَّاهُ فأجرُهُ كأجرِ المُعْتَمِرِ، وصلاةٌ على إثر صلاةٍ لا لَغْوَ بينَهُما كِتابٌ في عِلِّيِّين".
"عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة"؛ أي: مفروضة.
"فأجره كأجر الحاج المحرم" في استكمال المثوبات، واستيفاء الأجر من جهة التضعيف، لا بيان المماثلة من سائر الوجوه.
وخُصَّ بأجر الحاج المحرم؛ لأن الإحرامَ شرطُ الحج كالطهارة للصلاة، فكما أن الحاج إذا كان في حالة الإحرام كان عمله أتم وأفضل، كذلك الخارج إلى الصلاة متطهراً، يكون ثوابه أوفر، وسعيه أفضل.
"ومن خرج إلى تسبيح الضحى"؛ أي: إلى صلاة الضحى، وكلُّ صلاة
نافلة فهي تسبيحٌ وسُبحة، كأنها شُبهت بالأذكار في كونها غير واجبة.
"لا ينصبه": من (الإنصاب): الإتعاب.
"إلا إياه": ضمير منفصل منصوب وقع موقع المنفصل المرفوع؛ لأنه استثناء مفرغ؛ يعني: لا يعتبه إلا الخروج إلى تسبيح الضحى.
"فأجره كأجر المعتمر": إشارة إلى أن فضلَ ما بين المكتوبة والنافلة، والخروج إلى كل واحد منهما، كفضل ما بين الحج والعمرة، والخروج إلى كل واحد منهما.
"وصلاة على إِثْر صلاة" بكسر الهمزة ثم السكون، أو بفتحتين؛ أي: عقيبها.
"لا لغو بينهما كتاب"؛ أي: عمل مكتوب في عليين، أو مرفوع فيه، أو سببٌ لكتب اسم عامله.
"في عليين": وهو موضع تكتب فيه أعمال الصالحين، وقيل: هو علم لديوان الخير الذي دُوِّنَ فيه أعمال الأبرار.
* * *
515 -
وقال: "إذا مَرَرْتُمْ برياضِ الجنَّةِ فارتَعوا"، قيلَ: يا رسولَ الله! وما رياضُ الجنَّة؟ قال: "المساجِدُ"، قيل: وما الرَّتْعُ يا رسولَ الله؟ قال: "سُبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَاّ الله والله أكبر".
"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا مررتم برياض الجنة فارتَعوا"؛ أي: انعموا والهوا.
"قيل: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قيل: وما الرتع يا رسول الله؟ قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"؛ فإن هذه
الكلمات لما كانت سبباً للرتع سُمِّيت به.
* * *
516 -
وقال: "مَنْ أتى المسجدَ لشيءٍ فهو حظُّه".
"وعنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من أتى المسجد لشيء فهو حظه"؛ يعني: من أتى المسجد لعبادة، حصل له الثواب، ومن أتاه لشُغل دنيوي، لا يحصل له إلا ذلك الشُّغل.
* * *
517 -
عن فاطمة الكبرى رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ المسجدَ صَلَّى على مُحمَّدٍ وسَلَّمَ عليه السلام، وقال:"رَبِّ اغفِرْ لي ذُنوبي، وافتَحْ لي أبوابَ رحمتِكَ"، وإذا خرجَ صلَّى على مُحمَّدٍ وسَلَّمَ، وقال:"رَبِّ اغفِرْ لي ذُنوبي، وافتَحْ لي أبوابَ فضلِكَ"، ليس بمتصل.
"وعن فاطمة الكبرى رضي الله عنها": وهي بنت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وُصِفت بالكبرى؛ لكبر شأنها وفضلها.
"أنها قالت: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دخل المسجد صلَّى على محمد وسلم"؛ يعني قال: اللهم صلى على محمد وسلم.
"وقال: رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلَّى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك".
"ليس بمتصل"؛ أي: هذا الحديث ليس بمسند؛ لأن فاطمة الصغرى بنت حسين بن علي تروي هذا الحديث عن جدتها، وهي لم تُدركها.
518 -
وعن عَمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ نهى عن تَناشُدِ الأشعارِ في المسجدِ، وعن البيعِ والاشتِراءَ فيه، وأنْ يَتحلَّقَ النَّاسُ يومَ الجمعةِ قبلَ الصَّلاةِ في المسجدِ".
"وعن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد": التناشد: أن ينشد كل من المتناشدين شعراً لنفسه أو لغيره، والنهي عن ذلك خاصٌّ بغير الشعر الحسن؛ لأن حسَّان أنشده بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد مستحسناً لما أنشده.
"وعن البيع والاشتراء فيه"؛ أي: في المسجد.
"وأن يتحلق الناس"؛ أي: أن يجلسوا على هيئة الحلقة.
"يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد"، وإنما نهاهم عن ذلك؛ لأنهم إذا تحلقوا فالغالب عليهم التكلم ورفع الصوت، فلا يستمعون الخطبة.
* * *
519 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأَيْتُمْ من يبيعُ أو يَبتاعُ في المسجدِ فقولوا: لا أربَحَ الله تجارتَكَ، وإذا رأيتُمْ مَنْ ينشُدُ فيهِ ضالَّة فقولوا: لا ردَّ الله علَيْكَ".
"وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع"؛ أي: يشتري "في المسجد فقولوا: لا أربحَ الله تعالى تجارتك"؛ أي: لا يزيد المال في تجارتك عن أصل مالك.
"وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا ردَّها الله تعالى عليك": دعاء
عليه؛ زجراً له عن ترك تعظيم المسجد.
* * *
520 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُسْتَقادَ في المسجدِ، وأنْ يُنْشَدَ فيهِ الأشعارُ، وأنْ تُقامَ فيه الحُدودُ.
"وعن جابر رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يُستقاد"؛ أي: يُقتصَّ.
"في المسجد"؛ لئلا يقطر الدم فيه.
"وأن ينشد"؛ أي: يقرأ "فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود"؛ لئلا يتلوث المسجد.
* * *
521 -
عن مُعاوية بن قُرَّة، عن أبيه رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهى عنْ هاتَيْنِ الشَّجرتَيْنِ - يعني البصلَ والثُّومَ - وقال: "مَنْ أكلهُما فلا يَقْرَبن مَسجدَنا"، وقال:"إنْ كنتُمْ لا بُدَّ آكليهِما فأَمِيتُوهُما طَبْخاً".
"وعن معاوية بن قُرَّة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن هاتين الشجرتين - يعني: البصل والثوم - وقال: من أكلهما فلا يقربن مسجدنا"؛ أي: مسجد أهل مِلَّتنا.
"وقال: إن كنتم لابد آكليهما، فأميتوهما طبخاً"؛ أي: أنضجوهما حتى تذهبَ رائحتهما الكريهة بالطبخ.
* * *
522 -
وقال: "الأرضُ كُلُّها مسجدٌ إلَاّ المقبرةَ والحمَّامَ"، رواه أبو سعيد الخُدريُّ.
"وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: الأرض كلها مسجد"؛ يعني: تجوز الصلاةُ في جميع الأرض من غير كراهة.
"إلا المقبرة والحمام"؛ فإنها تكره فيهما.
* * *
523 -
عن ابن عمر: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهَى أنْ يُصلَّى في سبعةِ مَواطِنَ: في المَزبلةِ، والمَجزرَةِ، والمَقبَرةِ، وقارِعَةِ الطريقِ، وفي الحمَّامِ، وفي مَعاطِنِ الإِبلِ، وفوقَ ظهرِ بيتِ الله تعالى.
"وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى أن يُصلَّى في سبعة مواطنَ": جمع الموطن، وهو: الموضع.
"في المزبلة": وهو الموضع الذي يكون فيه الزبل، وهو السرجين.
"والمجزرة": وهو الموضع الذي تُجزَر فيه الإبل؛ أي: تذبح؛ لأن هذا المواضع محل النجاسة، فإن صلى فيهما بغير سجادة بطلت، ومع السجادة تكره؛ للرائحة الكريهة.
"والمقبرة"؛ لأنه تشبُّه باليهود.
"وقارعة الطريق": أراد به الطريق الذي يقرعه الناس والدواب بأرجلهم.
"وفي الحمام"؛ لأنه محل النجاسة.
"وفي معاطن الإبل": جمع معطِن بكسر الطاء، وهو الموضع الذي تبرك فيه الإبل عند الرجوع عن الماء، ويستعمل في الموضع الذي تكون فيه بالليل أيضًا.
وهذا ظاهر؛ لأن الرجلَ لا يأمن من ضرر الإبل هناك؛ لأنها شديدةُ النِّفارِ قويةُ الشرادِ، فيها أخلاق خبيثة وخصال شيطانية، إذا نَدَّت لا يقاومها شيء،
فربما تقطع الصلاة وتشوش قلبه، فتمنعه عن الحضور.
"وفوق ظهر بيت الله": فالصلاة فوق ظهره لا تصحُّ عند الشافعي إن لم يكن بين يديه سترة يستقبلها، وعند أبي حنيفة: تصح.
وإنما ذكر الظهر مع الفوق؛ إذ لا تكره الصلاة على موضع هو فوق البيت كجبل أبي قُبيس، وذكر (فوق)؛ لأن الحيطان كلها ظهر البيت.
* * *
524 -
وقال: "صَلُّوا في مَرابضَ الغنمِ، ولا تُصَلُّوا في أَعطانِ الإِبلِ".
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صلوا في مرابض الغنم": جمع المربض بكسر الباء، وهو الموضع الذي تكون فيه الغنم بالليل.
"ولا تصلوا في أعطان الإبل": جمع عطن، وهو مثل المعطن.
قيل: في الفرق بين المرابض الغنم ومعاطن الإبل: إن أصحاب الإبل كانوا يتغوطون ويبولون في المعاطن، فنُهي عن الصلاة فيها لذلك، فلو صلى والمكان طاهر يصح عند الأكثر، وأصحاب الغنم كانوا ينظفون المرابض، فأبيحت فيها لذلك، وإليه ذهب أبو حنيفة.
* * *
525 -
وعن ابن عباس قال: لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زائراتِ القُبورِ، والمتَّخِذينَ عليها المساجِدَ والسُّرُجَ.
"وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زائرات القبور": إنما نهى عليه الصلاة والسلام النساء من زيارة القبور؛ لقلة
صبرهن، وكثرة جزعهن.
ذهب بعض العلماء إلى أن هذا قبل ترخيص النبي عليه الصلاة والسلام في زيارة القبور، فلمَّا رخَّص دخل في الرخصة الرجال والنساء.
وفي بعض النسخ: (زوارات القبور): جمع: زوَّاة، وهي للمبالغة، يدل على أن من زار منهنَّ على النُّدرة فهي غير داخلة في الملعونات.
"والمتخذين عليها المساجد": إنما حرم اتخاذ المساجد عليها؛ لأن في الصلاة فيها استناناً بسنة اليهود.
"والسرج": جمع سراج، وهو المصباح، وإنما حرم اتخاذ السرج عليها؛ لأنها من آثار جهنم، وفيه تضييع المال بلا نفع، وللاحتراز عن تعظيم القبور، كالنهي عن اتخاذها مساجد.
* * *
525/ -م - عن أبي أُمامة الباهلي: أنَّ حَبْراً من اليهود سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ البقاع خيرٌ؟ فسكت عنه، وقال:"اسكت حتى يجيء جبريلُ"، فسكت، فجاء جبريل عليه السلام، فسأله، فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن أَسالُ ربي تعالى، ثم قال جبريل: يا محمد! إني دنوتُ من الله دُنوًّا ما دنَوتُ منه قطُّ، قال:"كيف كان يا جبريلُ؟ "، قال: كان بينه وبيني سبعون ألف حجابٍ من النور، فقال:"شرُّ البقاع أَسواقها، وخير البقاع مَساجدها"، في نسخةٍ:"بيني وبينه".
"وعن أبي أمامة الباهلي: أن حَبراً": بفتح الحاء على الأشهر؛ أي: عالماً.
"من اليهود سأل النبي عليه الصلاة والسلام: أي البقاع خير؟ " بكسر