الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - باب الإِيمان بالقَدَرِ
(باب الإيمان بالقدر)
مِنَ الصِّحَاحِ:
58 -
عن عبد الله بن عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتَبَ الله مَقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلُقَ السَّماواتِ والأَرضَ بخمسينَ ألْفَ سَنَة، قال: وكان عرشُهُ على الماء".
"من الصحاح":
" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: كتب الله"؛ أي: عيَّن وقدَّر، وقيل: أي: أجرى القلم على اللوح المحفوظ وأثبت فيه.
"مقادير الخلائق": ما كان وما يكون وما هو كائن إلى الأبد، على وَفْق ما تعلقت به إرادته أزلاً، كإثبات الكاتب ما في ذهنه بقلمه على الوجه الذي يريد.
"قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" والمراد طول الأمد، يعني: تمادي الزمان بين التقدير والخلق خمسون ألف سنة ممَّا تعدون، أريد بالزمان مقدار حركة الفلك الأعظم الذي هو العرش، وهو موجود حينئذ بدليل أنه قال:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]؛ يعني: كان عرش الله قبل أن يخلق السماوات والأرض على وجه الماء، والماء على متن الريح، والريح على القدرة، وهذا يدل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلقهما.
وقيل: ذلك الماء هو العلم.
وفيه دليل لمن زعم أن أول ما خلق الله تعالى في هذا العالم الماء، وإنَّما أوجد سائر الأجسام منه تارة بالتلطيف وتارة بالتكثيف.
* * *
59 -
وقال: "كُلُّ شيءٍ بقَدَرٍ، حتَّى العجْزُ والكَيْسُ"، رواه عبد الله بن عمرو.
"وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر"؛ أي: مقدَّر مرتَّب مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يوجد في الخارج على حسب ما اقتضته الحكمة.
"حتَّى العجز والكيس" روي بالرفع عطفاً على (كل) وبالجر عطفاً على (شيء)، لكن الأَولى أن يكون مجروراً بـ (حتَّى).
و (العجز): عدم القدرة، و (الكيس): كمال العقل وشدة معرفة الأمور وتمييز ما فيه النفع عما فيه الضر، والعجز مُقابلُه.
* * *
60 -
وقال: "احتجَّ آدمُ وموسى عند ربهِمَا، فحجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنتَ آدمُ الذي خلقكَ الله بيَدِهِ، ونفخَ فيكَ مِنْ روحِهِ، وأسجدَ لكَ ملائكتَهُ، وأسكنَكَ في جنَّتِهِ، ثمَّ أَهبَطْتَ النَّاسَ بخطيئَتِكَ إلى الأرضِ؟ فقال آدمُ: أنتَ موسى الذي اصطفاكَ الله برسالَتِهِ وبكلامِهِ، وأعطاكَ الألواحَ فيها تِبْيَانُ كُلِّ شي، وقربَكَ نجَيّاً فَبكَمْ وجدتَ الله كتبَ التوراةَ قبلَ أنْ أُخْلَقَ؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدمُ: فهلْ وجدْتَ فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}؟ قال: نعم، قال: أفتلُومُني على أنْ عَمِلْتُ عمَلاً كتبَهُ الله علَيَّ أَنْ أعملَهُ قبلَ أنْ يخلُقَني بأربعينَ سنةً؟ "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فحجَّ آدمُ مُوسَى"، رواه أبو هريرة.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتج آدم وموسى"؛ أي: جرى بينهما الخصومة ومطالبة الحجة، قيل: هذه المحاجة كانت روحانية، يؤيده قوله:"عند ربهما"، ويجوز أن تكون جسمانية بأنْ أحياهما واجتمعا، كما ثبت في حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام اجتمع مع الأنبياء وصلى بهم.
"فحج آدم موسى"؛ أي: غلب عليه بالحجة بأنَّ كلَّ ما صدر عنه كان بتقدير الله تعالى.
"قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده"؛ أي: بقدرته بلا واسطة أبٍ وأم.
"ونفخ فيك من روحه" فصرت به حياً، أضاف الروح إليه تعالى تشريفاً وتخصيصاً، كما قال الله تعالى:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]).
"وأسجد لكَ ملائكته"؛ أي: أمرهم بأنَّ يسجدوا لك تعظيماً.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان سجودهم له انحناءً لا خروراً على الذقن.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أمروا بأنَّ يأتموا به، فسجد وسجدوا لله.
وقال أبي بن كعب: خضعوا له وأقروا بفضله.
"وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس"؛ أي: أسقطتهم وأنزلتهم، فإنهم وإن لم يكونوا موجودين لكنهم كانوا على شرف الوجود، فكانوا مهبطين منها "بخطيئتك"؛ أي: بسبب عصيانك الله تعالى في أكل الشجرة.
"إلى الأرض" متعلق بـ (أهبطت).
يعني: إن الله تعالى أنعم عليك هذه النعم، فأنت عصيته بأكلها حتَّى أُخرجت من الجنة بسببها، وبقي أولادك في دار المشقة والابتلاء من المرض والفقر وغير ذلك.
"فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح": وهي التوراة، "فيها"؛ أي: في تلك الألواح "تبيان كل شيء"؛ أي: بيانُه وإظهاره، من الحلال والحرام، والقصص، والمواعظ، وغير ذلك، قال الله تعالى:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145].
"وقربك"؛ أي: خصك بسره ونجواه بلا واسطة ملك.
"نجياً"؛ أي: مناجياً، نصبٌ على الحال.
"فَبكَم": مميزُه محذوف منصوب؛ أي: بكم زماناً "وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق" على صيغة المجهول.
"قال موسى: بأربعين عامًا" والمراد منه التكثير لا التحديد.
"قال آدم: فهل وجدت فيها"؛ أي: في التوراة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} ؛ أي: بمخالفة أمره {فَغَوَى} [طه: 121]؛ أي: فخرج بالعصيان من أن يكون راشداً في فعله، وليس المراد لفظه بهذا التركيب، بل معناه بالعبرية.
"قال" موسى عليه السلام: "نعم، قال" آدم عليه السلام: "أفتلومني" بهمزة الاستفهام للإنكار، والفاء جواب شرط مقدر؛ أي: إذا وجدتَ فيها ذلك فلا ينبغي لك أن تلومني "على أن عملت عملًا كتب الله عليّ" في الألواح التي أعطاك "أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم وموسى" لامتناع ردّ علم الله في حقه، حيث أخبر الله تعالى عنه أنه إنَّما خلقه للأرض، وأنه لا يترك في الجنة بل ينقله منها إلى الأرض ليكون خليفته تعالى فيها.
وفي رواية: "فقال موسى عليه السلام: يا آدم! أنت أبونا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: يا موسى! اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده،
يا موسى! أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة".
* * *
61 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خَلْقَ أَحَدِكم يُجمعُ في بطنِ أُمِّهِ أربعينَ يوماً نطفة، ثمَّ يكونُ علَقة مثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضْغة مثْلَ ذلك، ثمَّ يَبعثُ الله إليهِ ملَكاً بأربعِ كلمات، فيكتُبُ عملَهُ، وأجلَهُ، ورزْقَهُ، وشَقي أو سعيد، ثم يُنفخُ فيهِ الروحُ، وإنَّ الرجلُ ليعملُ بعملِ أهلِ النَّارِ حتَّى ما يكونُ بينهُ وبينها إلَّا ذراع، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعمَلُ بعملِ أهلِ الجنَّة، فيدخل الجنة، وإن الرجلَ ليعمَلُ بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتَّى ما يكونُ بينهُ وبينها إلَّا ذراع، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهل النَّارِ، فيدخُلُ النَّارَ" رواه ابن مَسْعود رضي الله عنه.
"وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: إن خلق أحدكم"؛ أي: مادة خلقه.
"يجمع" - مجهولاً -؛ أي: يُحرز ويقرَّر.
"في بطن أمه"؛ أي: في رحمها.
"أربعين يومًا نطفة" قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة ثم تنزل دمًا في الرحم، فذلك جمعُها.
"ثم تكون علقة" وهي قطعة دم غليظٍ جامد.
"مثل ذلك"؛ أي: أربعين يومًا.
"ثم تكون مضغة" وهي قطعةُ لحم قَدْرَ ما يُمضغ.
"مثل ذلك"؛ أي: أربعين يومًا، ويظهر التصوير في هذه لأربعين.
"ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات"؛ أي: بكتابة أربع قضايا مقدرة،
وكل قضية تسمى كلمة قولاً كان أو فعلاً.
"فيكتب عمله"؛ يعني: أنه يعمل الخير أو الشر.
"وأجله" والمراد به هنا مدة حياته، يعني: أنه كم يعيش في الدُّنيا.
"ورزقه"؛ يعني: أنه قليل الرزق، أو كثير الرزق.
"وشقي أو سعيد" هذا إذا لم يعلم من حاله ما يقتضي تغيير ذلك، فإن علم من ذلك شيئًا كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه على وفق ما يتم به عمله، فإن مِلاك العمل خواتمه.
قيل: المراد بكتبه هذه الأشياء: إظهاره للملك، وإلا فقضاؤه تعالى سابق على ذلك.
قال مجاهد: يكتب هذه الكلمات في ورقة وتعلق في عنقه بحيث لا يراها النَّاس، قال الله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] قال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قُضي عليه أنه عاملُه، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وخص العنق؛ لأنَّه موضع القلائد والأطواق.
"ثم ينفخ فيه الروح" وهذا يدل على أن نفخ الروح يكون بعد الأطوار الثلاثة في الأربعينات بزمان.
"فإن الرجل": هذا شروع لبيان أن السعيد قد يشقى وبالعكس.
"ليَعملُ بعمل أهل النار حتَّى ما يكون": قيل: (حتَّى) هي الناصبة، و (ما) نافية غير مانعة لها من العمل، والأوجَهُ أنها عاطفة و (يكون) بالرفع معطوف على ما قبله.
"بينه وبينها"؛ أي: بين الرجل وبين النار.
"إلَّا ذراع": هذا تمثيل لغاية قربه منها.
"فيسبق"؛ أي: يغلب.
"عليه الكتاب"؛ أي: كتاب السعادة، فالتعريف للعهد، والكتاب بمعنى المكتوب؛ أي: المقدَّر.
"فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتَّى ما يكون بينه وبينها"؛ أي: بين الجنة والنار.
"إلَّا ذراع فيسبق عليه الكتاب"؛ أي: كتاب الشقاوة "فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار".
* * *
62 -
وقال: "إنَّ العَبْدَ ليعمَلُ عمَلَ أهلِ النَّارِ وإنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ، ويعملُ عملَ أهلِ الجَنَّةِ وإنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وإنَّما الأعمالُ بالخَواتيم"، رواه سَهْل بن سَعْد الساعدي.
"وعن سهل بن سعد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنَّما الأعمال بالخواتيم"؛ يعني: إنَّما اعتبار الأعمال بما يُختم عليه أمرُ عاملها، فرب كافر متعنِّدٍ يُسلم في آخر عمره ويُختم له بالسعادة، ورب مسلم متعبد يسلب إيمانه فيُختم له بالشقاوة.
* * *
63 -
وقالت عائشةُ رضي الله عنها: دُعي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى جَنازةِ صبي من الأنْصارِ، فقلتُ: طُوبى لهذا! عُصفور من عصافيرِ الجنَّةِ، لمْ يعمَل سُوءاً، قال:"أَوْ غيرُ ذلك يا عائشةُ! إن الله خلقَ الجنَّةَ وخلقَ النَّار، فخلقَ لهذه أهلاً، ولهذه أهلاً، خلقَهم لهما وهم في أَصلابِ آبائِهم".
"وقالت عائشة رضي الله عنها: دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي جنازة صبي من الأنصار فقلت: طوبى" تأنيث أطيب من الطيب في المعيشة؛ أي: الراحةُ وطِيبُ العيش حاصل "لهذا" الصَّبي، "عصفور"؛ أي: هو عصفور "من عصافير الجنة" شبهته بالعصفور إما لصغره كما أنه صغير بالنسبة إلى من هو أكبر منه من الطيور، وإما لكونه خالياً من الذنوب من عدم كونه مكلفاً.
"لم يعمل سوءاً"؛ أي: ذنباً.
"قال: أو غير ذلك" بتحريك الواو ورفع (غير)، وهو المشهور روايةً، فالهمزة للاستفهام والواو للحال؛ أي: أتعتقدين ما قلت والحق غير ذلك "يا عائشة" وهو عدم الجزم بكونه من أهل الجنة، وإنَّما نهاها عليه الصلاة والسلام عن ذلك مع أن أطفال المؤمنين أتباع لآبائهم؛ لأنها إشارة (1) إلى طفل معين، فالحكم على شخص معيَّن بأنه من أهل الجنة لا يجوز من غير ورود النص؛ لأنَّه من علم الغيب.
ويحتمل أن يكون نهاها قبل نزول ما نزل في حق وِلْدان المؤمنين بأنهم تبع لآبائهم، والتبعية في الدُّنيا من الإيمان والكفر، وحكمها من أمور الآخرة.
"إن الله تعالى خلق الجنة والنار وخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً خلقهم لهما"؛ أي: لكل واحد منهما.
"وهم في أصلاب آبائهم": جمع صلب، وهو وسط الظهر، يعني: عيَّن في الأزل من سيكون من أهل الجنة، ومن سيكون من أهل النار، فعبَّر عن الأزل بأصلاب الآباء لأنَّه أقرب إلى فهم النَّاس.
وفي الحديث: دلالة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن كما
(1) في "م": "أشارت".
هو مذهب أهل السنة، وإشارة إلى أن الثواب والعقاب ليسا لأجل الأعمال، بل الموجب لهما اللطف الربانيِّ أو الخذلان السابق المقدَّر لهم أزلاً.
* * *
64 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحدٍ إلَّا وقد كُتِبَ مَقْعدُهُ مِنَ النَّارِ ومَقْعدُهُ منَ الجنَّةِ"، قالوا: يا رسولَ الله! أفلا نتَّكِلُ على كتابنا وندع العملَ؟ فقال: "اعملوا، فكل مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له، أَمَّا مَن كان من أهلِ السعادة فسَيُيسَّر لعمَل السَّعادة، وأمَّا مَن كان من أهل الشَّقاوة فسيُيسَّر لعملِ الشَّقاوةِ"، ثمَّ قرأَ:" {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} الآية"، رواه عليّ بن أبي طالب.
"وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد إلَّا وقد كتب" الواو للحال والاستثناء مفرغ؛ أي: ما وجد أحد منكم في حال من الأحوال إلَّا وقد قدر له "مقعده من النار ومقعده من الجنة" الواو فيه بمعنى (أو) لمَا جاء في بعض الروايات: بـ (أو) مصرحاً، لكن حديث أنس في إثبات عذاب القبر يدل على أن لكل مؤمن مقعدين: أحدهما في الجنة، والآخر في النار.
"قالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل" الفاء جواب شرط مقدر؛ أي إذا كان الأمر كذلك أفلا نعتمد "على كتابنا" المقدَّرِ لنا في الأزل "وندع العمل؟ "؛ أي: نتركه، إذ لا فائدة في إتعاب أنفسنا بالأعمال؛ لأنَّ قضاء الله لا يغيَّر، فلم يرخص عليه الصلاة والسلام في ذلك، بل أعلمهم أن ها هنا أمرين لا يُبطل أحدهما الآخر: باطن هو حكم الربوبية، وظاهر هو سمة العبودية، وهو غير مفيد حقيقة العلم، فأمر عليه الصلاة والسلام بكليهما ليتعلق الخوف بالباطن المغيب، والرجاء بالظاهر البادي؛ ليستكمل العبد بذلك صفة الإيمان.
"قال: اعملوا فكل": الفاء للسببية، والتنوين عوض عن المضاف إليه؛ أي: كلُّ خلق "ميسر"؛ أي: موفق ومهيَّأ "لما خلق له"؛ أي: قدَّر له ذلك من
عمل الجنة أو النار، فيسوقه العمل إلى ما كتب له من سعادة أو شقاوة، ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب.
ثم فصل صلى الله عليه وسلم ما أجمله بقوله: "أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة"؛ أي: سيوفَّق لذلك العمل بإقداره عليه وتمكينه منه.
"وأمَّا من كان من أهل الشَّقاوة" بفتح الشين بمعنى الشقاوة ضد السعادة "فسيُيَسَّر لعمل الشِّقوة" بكسر الشين؛ أي: يسهَّل عليه ذلك بأنَّ اتبع هواه وران على قلبه الشهوات حتَّى أتى بأعمال أهل النار، وأصر عليها حتَّى طوى صحيفة أعماله على ذلك.
"ثم قرأ"؛ أي: النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} ؛ أي: حق الله من ماله {وَاتَّقَى} ؛ أي: خاف من الله {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} ؛ أي: بكلمة لا إله إلَّا الله {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7]؛ أي: الجنة. "الآية".
* * *
65 -
وقال: "إن الله - تعالى - كتبَ على ابن آدمَ حظَّهُ مِنَ الزِّنا، أدركَ ذلكَ لا محالةَ، فزِنا العين النَّظر، وزِنا اللِّسان المَنْطقُ، والنَّفسُ تتمنَّى وتشتَهي، والفَرْج يُصدِّقُ ذلك أو يُكَذِّبُه".
وفي روايةٍ: "الأذُنَانِ زناهُما الاستماعُ، واليدُ زناها البَطْشُ، والرجلُ زناها الخُطا"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى كتب"؛ أي: أثبت في اللوح المحفوظ.
"على ابن آدم حظه من الزنا" أراد به مقدِّماتِه من النظر الحرام والاستماع والبطش والتخلي له والتكلم به والاشتهاء له.
"أدرك ذلك لا مَحالة" بفتح الميم؛ أي: أصاب ذلك الحظَّ المكتوب عليه البتة.
وقيل: معناه: خلق لابن آدم الحواس التي يجد بها لذة من الزنا، وأعطاه القوى التي بها يقدر عليه، وركز في جبلَّته حب الشهوات.
"فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي" والتمنِّي أعم من الاشتهاء؛ لأنَّه يكون في الممتنعات دونه.
"والفرج يصدق ذلك": أي: ما تتمناه النفس فيدعو إليه الحواس وهو الجماع.
"أو يكذبه": ومعنى تكذيبه تركُه والكف عنه، وإسناد التصديق والتكذيب إلى الفرج بطريق المجاز.
أعلم أن هذا ليس على عمومه فإن الخواصَّ معصومون عن الزنا ومقدِّماته، ويحتمل أن يبقى على عمومه بأنَّ يقال: كتب الله على كل فرد من بني آدم صدور نفس الزنا، فمن عصمه الله تعالى بفضله عن الزنا صدر عنه شيء من مقدماته الظاهرة، ومن عصمه بمزيد فضله ورحمته عن صدور مقدماته، وهم خواص عباده، صدر عنه لا محالة بمقتضى الجبلة مقدماتُه الباطنةُ التي هي تمني النفس واشتهاؤها.
"وفي رواية: الأذنان زناهما الاستماع، واليد زناها البطش"؛ أي: الأخذ بها.
"والرجل زناها الخطى": جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، يعني: زناها نقل الخطى؛ أي: المشي إلى ما فيه الزنا.
* * *
66 -
وعن عِمْران بن حُصَيْن: أنَّ رجلَيْنِ من مُزَيْنَةَ قالا: يا رسول الله! أرأيتَ ما يعملُ النَّاسُ، ويكْدَحُونَ فيهِ، أشيء قُضيَ عليهم ومضَى فيهِم مِنْ قَدَرٍ سبَقَ، أمْ فيما يستقبلُونَ؟ فقال:"لَّا، بل شيء قُضيَ عليهم، وتصديقُ ذلكَ في كتابِ الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] ".
"وعن عمران بن حصين: أن رجلين من مزينة": اسم قبيلة.
"قالا: يا رسول الله! أرأيت"؛ أي: أخبرني.
"ما يعمل النَّاس" من الخير والشر.
"ويكدحون فيه"؛ أي: يسعون في العمل.
"أشيء" خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أهو شيء.
"قُضي عليهم": فقضي صفة (شيء)، أو (شيء) مبتدأ و (قضي) خبره.
"ومضى فيهم من قدر قد سبق، أم فيما يستقبلون"؛ أي: أم شيء لم يُقض عليهم في الأزل، بل هو كائن فيما يستقبلون من الزمان الذي فيه يتوجهون إلى العمل ويقصدون (1) من غير سَبْقِ تقديرٍ قبل ذلك.
"فقال: لا بل شيء قضي عليهم، وتصديق ذلك" إشارة إلى ما ذكر من أنه قضي عليهم.
"في كتاب الله تعالى: {وَنَفْسٍ} الواو فيه للقسم عطفًا على {وَالشَّمْسُ} ، أراد بها نفس آدم عليه السلام؛ لأنَّه الأصل، فالتنوين للتقليل.
وقيل: المراد: جميع النفوس، فالتنوين للتكثير.
{وَمَا سَوَّاهَا} (ما) بمعنى (مَن)؛ أي: ومن خلقها؛ يعني به ذاته تعالى؛ أي: خلقها على أحسن صورة، وزينها بالعقل والتمييز.
(1) في "م": "ويقصدونه".
{فَأَلْهَمَهَا} ؛ أي: أعلمها وركب فيها {فُجُورَهَا} الذي قضى به عليها {وَتَقْوَاهَا} الذي حكم به لها في السابق، والغرض: أنه تعالى ذكر {فَأَلْهَمَهَا} بلفظ الماضي الدال على أن ما يعمل النَّاس من الخير والشر قد جرى في الأزل.
* * *
67 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرةَ! جَفَّ القلمُ بما أنتَ لاقٍ، فاختَصِ على ذلكَ أو ذَرْ".
"وقال أبو هريرة رضي الله عنه ": أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنِّي رجل شاب، وإني أخاف العنت، ولست أجد طولاً أتزوج به النساء (1)، فأذن لي أن أختصي.
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! جف القلم": جفافه كناية عن الفراغ عن التقدير، وثبت المقادير، إذ جفاف قلم الكاتب يكون بعد فراغه عن الكتابة.
"بما أنت لاق"؛ أي: بما تفعله وتقوله ويجري عليك.
"فاختصِ": أمر من الاختصاء، وهو جعلُ المرء نفسَه خصياً.
"على ذلك" في موضع الحال؛ يعني: إذا علمتَ أن كل شيء مقدرٌ فاختصِ حال كون اختصائك واقعاً على ما جف القلم به من الاختصاء.
"أو ذر"؛ أي: اترك الاختصاء حال كون تركك واقعًا على ما جف القلم به من تركك، وهذا على وجه اللوم على استئذانه قطع العضو من غير فائدة.
* * *
68 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ قُلوبَ بني آدمَ كُلَّهَا بينَ إصبعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ،
(1) في "غ": "بالنساء" بدل "به النساء".
كقلْبٍ واحدٍ يُصرِّفُه كيفَ يشاءُ" ثمّ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمَّ! مُصَرِّفَ القُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبنا على طاعَتِكَ" رواهُ عبد الله بن عمرو.
"وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين" إطلاق الإصبع عليه تعالى مجاز، قيل: هذا استعارة تخييلية والمستعارُ له التقليب؛ أي: تقليب القلوب في قدرته يسيرٌ.
وقيل: معناه: بين أثرين من آثار رحمته وقهره؛ أي: هو قادر على أن يقلِّبها من حال إلى حال، من الإيمان، والكفر، والطاعة، والعصيان، والغلظ، واللين، وغير ذلك.
"من أصابع الرحمن": وفي إضافة الأصابع إلى الرحمن إشعار بأنَّ الله تعالى من كمال رحمته على عباده تولى بنفسه أمر القلوب، ولم يكل ذلك إلى أحد من ملائكته كيلا يطَّلع على سرائرهم، ولا يكتب عليهم ما في ضمائرهم.
"كقلب واحد يصرفه كيف يشاء"؛ يعني: يتصرف في جميع القلوب كتصرفه في قلب واحد لا يشغله قلب عن قلب.
"ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم": أصله: يا الله، فحذف (يا) من أوله وأدخل ميم مشددة في آخره عوضاً عنه.
"مصرف القلوب" بالإضافة، نصب صفة (اللهم) عند المبرد والأخفش، ومنادى برأسه عند سيبويه، وقد حذف منه النداء.
"صرف قلوبنا إلى طاعتك" وإنَّما قال عليه الصلاة والسلام ذلك إرشاداً للأمة التعوذ بالله في جميع أحوالهم من تحول النعمة إلى النقمة، يعني: اطلبوا من الله توفيق الإيمان والطاعة والثبات والدوام على الخيرات، ولا تأمنوا مكر الله.
* * *
69 -
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ مَولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرَةِ، فأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، أو يُنصرانِهِ أو يُمَجِّسانِه، كما تُنْتَجُ البَهيمَةُ بَهيمةً جَمْعاء، هل تُحِسُّونَ فيها مِنْ جَدْعاءَ حتَّى تكونُوا أنتمْ تَجدعونهَا؟ "، ثم يقول:" {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ".
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلَّا يولد على الفطرة"؛ أي: على استعداد قبول الإسلام الذي خلقه الله تعالى في الإنسان من العقل والتمييز بين الحق والباطل والخير والشر بواسطة الشريعة، ولو لم تعترضه آفة من جهة أبويه لاستمر عليها، ولم يختر غير دين الإسلام.
"فأبواه يهودانه"؛ أي: يعلمانه اليهودية، ويجعلانه يهودياً.
"أو ينصرانه"؛ أي: يجعلانه نصرانياً.
"أو يمجسانه"؛ أي: يجعلانه مجوسياً، أو غير ذلك من الأديان ومذاهب البدعة، فإن [طبيعة] الإنسان مخلوقة على قبول ما عرض عليها من الاعتقاد والأفعال والأقوال.
"كما تنتج البهيمة": صفة لمصدر محذوف، و (ما) مصدرية؛ أي: يولد على الفطرة ولادةً مثلَ إنتاج البهيمة.
"بهيمة جمعاء" الجمعاء من البهيمة هي التي لم يذهب من بدنها شيء، صفة لبهيمة، و (بهيمة) منصوب على الحال على تقدير كون (تنتج) مجهولاً؛ أي: ولدت في حال كونها بهيمة سليمة الأعضاء، أو على أنه مفعول ثان لتنتج معروفاً من أنتج: إذا ولد.
"هل تحسون فيها"؛ أي: هل تجدون وتبصرون في تلك البهيمة "من جدعاء": تأنيث الأجدع، وهو مقطوع الأنف أو الأذن أو الشفة، صفة أخرى لبهيمة بتقدير: مقولاً في حقها.
"حتَّى تكونوا أنتم تجدعونها"؛ أي: حتَّى يكون جادعها أنتم لا غيركم، ولولا تعرضكم لها بالجدع لبقيت سليمة كما ولدت، شبه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ولادته على الفطرة السليمة بولادة البهيمة السليمة عن العيوب، غير أن المراد فيها سلامتها عن العيوب الظاهرة، وهنا سلامتها عن العيوب المعنوية.
"ثم يقول": بمعنى قال؛ أي: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{فِطْرَتَ اللَّهِ} : منصوب على الإغراء؛ أي: الزموا فطرة الله وداوموا عليها ولا تغيروها.
{الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ} ؛ أي: خلقهم {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] ": هذا نفي بمعنى النَّهي؛ أي: لا تبدلوا ولا تغيروا ما خلق الله فيكم من قبول الإسلام.
* * *
70 -
وعن أبي مُوسَى الأَشعَري رضي الله عنه قال: قامَ فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بخمسِ كلِماتٍ، فقال:"إنَّ الله تعالى لا يَنامُ، ولا ينبغي له أَنْ يَنامَ، يخفِضُ القِسْطَ ويرفعُهُ، يُرْفَعُ إليه عملُ الليلِ قبلَ عملِ النهارِ، وعملُ النهارِ قبلَ عملِ الليلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليهِ بصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ".
"وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي: خطبنا وذكَّرنا.
"بخمس كلمات": جمع كلمة، والمراد بها الكلام المفيد المستقل.
"فقال: إن الله لا ينام": لأنَّ النوم استراحة القوى والحواس، تعالى الله عن ذلك، كما قال الله تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255].
"ولا ينبغي له أن ينام"؛ أي: يستحيل عليه ذلك؛ لأنَّه المتصرف في ملكه أبدًا بميزان العدل، والأولى تدل على عدم صدور النوم عنه، والثانية على نفي
جوازه عنه مؤكِّدة للأولى.
"يخفض القسط ويرفعه" المراد بالقسط: الميزان؛ يعني: يخفض ويرفع ميزان أعمال العباد المرتفعة إليه، يقللها لمن يشاء، ويكثرها لمن يشاء، كمن بيده الميزان يخفض تارة ويرفع أخرى، وميزان أرزاقهم النازلة من عنده، قال تعالى:{وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21].
وقيل: المراد به العدل؛ يعني: ينقص العدل في الأرض بغلبة الجور وأهله، ويرفعه تارة بغلبة العدل وأهله.
"يرفع إليه"؛ أي: إلى مخزنه.
"عمل الليل قبل عمل النهار"؛ أي: قبل أن يشرع العامل في عمل النهار.
"وعمل النهار قبل عمل الليل"؛ أي: قبل أن يشرع في عمل الليل، هكذا إلى يوم الجزاء؛ يعني: يعرض عمل كل منهما على حدة قبل عرض الآخر؛ لأنه تعالى وكّل كل واحد منهما إلى ملائكة يتعاقبون في الناس تعاقب الليل والنهار ليكتبوا أعمالهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار".
وإنما رفعت إليه وإن كان أعلمَ بها ليأمر ملائكته بإمضاء ما قضى لفاعله جزاء له على فعله.
وقيل: معناه: يقبل الله أعمال المؤمنين في ليلهم قبل النهار، وفي نهارهم قبل الليل، فيكون عبارة عن سرعة الإجابة.
"حجابه النور" هذا استئناف جواب عمن قال: لم لا نشاهد الله؟ يعني: هو محتجب بنور عظمته فلا يشاهد، وهذا بالنسبة إلى العباد.
"لو كشفه" استئناف أيضًا جواب عمن قال: لم لا يكشف ذلك الحجاب؟ يعني: لو رفع ذلك الحجاب "لأحرقت سبحات وجهه": جمع سبحة وهي العظمة، وقيل: أي: أنوار وجهه، ووجهه ذاته.
"ما انتهى"(ما) موصولة مفعول به لـ (أحرقت)؛ أي: لأحرقت ما وصل "إليه بصره"؛ أي: عِلمه "من خلقه" بيان للموصول أو متعلق بـ (أحرقت)، والمراد جميع الموجودات؛ لأن علمه تعالى محيط بجميع الكائنات ومنتهٍ إليه، يعني: لاضمحل جميع الموجودات من هيبته وفنوا.
* * *
71 -
وقال: "يَدُ الله مَلأَى، لا تَغِيضُها نفَقَةٌ، سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتُمْ ما أنفقَ منذ خَلَقَ السماءَ والأرضَ؟ فإنه لم يَغِضْ ما في يديه، وكانَ عرشُهُ على الماء، وبيدهِ الميزانُ، يَخفِضُ ويَرْفَعُ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
وفي روايةٍ أُخرى: "يمينُ الرَّحمنِ مَلأَى سَحَّاءُ".
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يد الله" هذا كناية عن محل عطائه؛ أي: خزائنه.
"ملأى" تأنيث الملآن.
"لا تغيضها نفقة"؛ أي: لا ينقصها إنفاقٌ وإعطاءُ رزق لمخلوقاته أبداً؛ لأن له القدرة على إيجاد المعدوم.
"سحاء الليل والنهار" من سح: إذا سال من فوق؛ أي: دائمةُ الصبِّ في الليل والنهار، صفة لـ (يد).
"أرأيتم"؛ أي: أتعلمون وتبصرون.
"ما أنفق"(ما) مصدرية؛ أي: إنفاق الله تعالى على عباده.
"مذ خلق السماء والأرض، فإنه"؛ أي: الإنفاق "لم يغض"؛ أي: لم ينقص "ما في يده"(ما) هذه موصولة، وهي مع صلتها مفعول (لم يغض).
"وكان عرشه على الماء وبيده الميزان"؛ أي: ميزانُ الأرزاق والأعمال
بقدرته. "يخفض ويرفع"
"وفي رواية: يمين الرحمن ملأى سحاء" خص اليمين؛ لأنها مظنة العطاء، وأشار إلى أنها المعطية عن ظهر غنًى؛ لأن الماء إذا انصب من فوق انصب بسهولة، وإلى جزالة عطاياه؛ لأن السح يستعمل فيما بلغ وارتفع عن القطر حد السيلان، وإلى أنه لا مانع لعطائه؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب لم يستطع أحد أن يرده.
* * *
72 -
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنْ ذَرَارِي المشركينَ فقال: "الله أعلمُ بما كانوا عامِلين".
"وعنه أنه قال: سئل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ذراري المشركين": جمع ذرية؛ أي: سئل عن حكم أطفالهم أنهم من أهل الجنة أو من أهل النار.
"فقال عليه الصلاة والسلام: الله أعلم بما كانوا عاملين" من الكفر والإيمان، يعني: من علم الله أنه إن عاش وبلغ يصدر منه الكفر يدخله النار، ومن علم الله أنه لو عاش وبلغ يصدر منه الإيمان يدخله الجنة، فلم يقطع عليه الصلاة والسلام بكونهم من أهل الجنة، ولا بكونهم من أهل النار، بل أمرهم بالاعتقاد الذي عليه أكثر أهل السنة من التوقف في أمرهم.
* * *
مِنَ الحِسَان:
73 -
عن عُبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أوَّلَ ما خلَقَ الله تعالى القلَمُ، فقال له: اكتُبْ، فقال: ما أكتبُ؟ قال: القَدَر، ما كانَ
وما هو كائن إلى الأَبَدِ"، غريب.
"من الحسان".
" عن عبادة بن الصامت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول ما خلق الله القلم" معناه: أول ما خلق الله من جنس الأقلام ذلك القلم؛ لا أنه أولُ من جميع الأشياء، وكذا تأويل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر:"أول ما خلق الله نوري"؛ أي: أنه أولُ من جنس الأنوار، إذ الأوَّلية من الأمور الإضافية.
"فقال"؛ أي: الله للقلم: "اكتب، فقال"؛ أي: القلم: "وما أكتب؟ "(ما) استفهامية مفعولٌ مقدمٌ على الفعل.
"قال: القدر" منصوب بفعل مقدَّر؛ أي: اكتب القدر؛ أي: المقدَّر المقضيَّ.
"ما كان، بدل من (القدر)، أو عطفُ بيان له، "وما هو كائن إلى الأبد".
"غريب".
* * *
74 -
وسُئلَ عمرُ بن الخطَّاب عنْ هذهِ الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال عمر رضي الله عنه: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُسأَلُ عنها، فقال:"إنَّ الله خلقَ آدمَ، ثمَّ مسحَ ظهرَهُ بيمينهِ، فاستخرَجَ منهُ ذُرِّيَّةً، فقال: خلقْتُ هؤلاء للجنّةِ، وبعملِ أهل الجنةِ يعملون، ثم مَسَحَ ظهرَهُ، فاستخرجَ منه ذُرِّيَّةً، فقال: خلقْتُ هؤلاء للنَّارِ، وبعملِ أهلِ النارِ يعملونَ"، فقالَ رجلٌ: ففيمَ العملُ يا رسولَ الله؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ إذا خَلَقَ العَبْدَ للجنَّةِ استعمَلَهُ بعملِ أهلِ الجنَّةِ حتى يموتَ على عمَلٍ مِنْ أَعمالِ أهلِ الجنَّةِ، فيُدخِلُهُ بِهِ الجنَّة، وإذا خلقَ العبدَ للنَّارِ استعمَلَهُ بعملِ أهلِ النَّارِ، حتى يموتَ على عمَلٍ
مِنْ أَعْمالِ أهلِ النَّارِ، فيُدخِلُهُ بِهِ النَّارَ".
"وسئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذه الآية"؛ أي: عن كيفية أخذ الله ذرية بني آدم عن ظهورهم، المذكورِ في هذه الآية:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} ؛ أي: أخرج {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل من {بَنِي آدَمَ} بدلَ البعض من الكل؛ أي: من ظهور بني آدم {ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ [عَلَى أَنْفُسِهِمْ]} ؛ أي: أشهد بعضهم على بعض على هذا الإقرار وعلى هذه الحالة، وقال للذرية:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} استفهام تقرير.
{قَالُوا بَلَى} [الزمر: 71] أنت ربنا. "الآية"
قيل: كان ذلك قبل الدخول في الجنة بين مكة والطائف. وقيل: ببطن نعمان وادٍ بقرب عرفة. وقيل: كان في الجنة. وقيل: بعد النزول منها بأرض هند.
"قال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يسأل عنها"؛ أي: عن هذه الآية.
"فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره" والماسح إما الملك الموكَّل على تصوير الأجنة، فإسناده إلى الله بأنه هو الآمر به والمتصرف في عباده بما يشاء، كإسناد التوفِّي إليه في قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] والمتوفي لها الملائكة؛ لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النساء: 97]، وإما البارئ تعالى فالمسح من باب التمثيل.
وقيل: هو من المساحة بمعنى التقدير، كأنه قال: قدَّر وبيَّن ما في ظهره من الذرية.
"بيمينه"؛ أي: بقدرته، وفي التنصيص على لفظ اليمين دون اليد تنبيهٌ على تخصيص آدم بالكرامة.
"فاستخرج منه ذريته" قيل: أخرجهم كأمثال الذر وجعلهم على هيئة الرجال والنساء، وجعل فيهم العقول ثم كلمهم.
"فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيده فاستخرج منه ذريته فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون" قيل: الآية تدل على أخذ الذرية من ظهور بني آدم، والحديث يدل على أخذها من ظهر آدم، فالتوفيق أنه كان بعض الذر في ظهر بعض الذرية، والكل في ظهر آدم.
"فقال رجل: ففيم العمل" الفاء في (ففيم) جواب شرط مقدَّر؛ أي: إذا كان الأمر كما ذكرت "يا رسول الله" فأي شيء يفيد العمل؟ أو بأي شيء يتعلق العمل؟
"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله"؛ أي: ألزم العمل عليه وأمره "بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به"؛ أي: بسبب ذلك العمل "الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار".
* * *
75 -
وقال عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي يديهِ كتابانِ، فقال للذي في يدهِ اليُمنى:"هذا كتاب مِنْ رَبِّ العالمينَ، فيهِ أسماءُ أهلِ الجنَّةِ وأسماءُ آبائهمْ وقبائلهِمْ، ثمَّ أُجْمِلَ على آخِرِهم، فلا يُزَادُ فيهمْ ولا يُنقَصُ منهمْ أبدًا"، ثمَّ قال للذي في شِمالِهِ:"هذا كتابٌ من ربِّ العالمينَ، فيهِ أسماءُ أهلِ النَّارِ وأسماءُ آبائِهِمْ وأسماء قبائِلِهِمْ، ثمّ أُجْمِلَ على آخِرِهِمْ، فلا يُزَادُ فيهمْ ولا يُنْقَصُ منهمْ أبدًا"، ثمَّ قال بيدَيْهِ فنبذَهُمَا، ثمَّ قال:
"فرغَ ربُّكُمْ مِنَ العِباد، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ".
"وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يديه كتابان" الواو للحال، وهذا على سبيل التمثيل والتصوير؛ ليكون أقرب إلى التفهيم.
"فقال للذي"؛ أي: لأجل الذي "في يده اليمنى" أو في شأنه، أو المعنى: أشار إليه.
"هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم" بأن كتب فيه: إن فلان بن فلان الذي من قبيلة فلان، أو من القرية الفلانية، أو المعروف بفلان، من أهل الجنة، وكذلك اسم كل واحد على هذه الصفة.
"ثم أجمل على آخرهم": بأن جميع هؤلاء المذكورين في هذا الكتاب من أهل الجنة، من الإجمال خلاف التفصيل، يقال: أجملت الحساب: إذا رددته من التفصيل إلى الجملة في الرفعة.
"فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا"؛ لأن حكم الله لا يتغير.
"ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا، ثم قال بيده"؛ أي: أشار بها "فنبذهما"؛ أي: طرح الكتابين وراء ظهره.
"ثم قال: فرغ ربكم من العباد"؛ أي: من أمرهم وشأنهم، يعني: قدَّر أمرهم فجعلهم فريقين.
"فريق في الجنة، وفريق في السعير": فلا يتغير تقديره أبدًا، ولا يُعترض عليه بقوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]؛ لأن ذلك عينُ ما قدِّر
وجرى في الأزل كذلك، لا أن يكون تغييرًا وتبديلًا للتقدير.
أو المراد منه: محو المنسوخ من الأحكام وإثبات الناسخ، أو محو السيئات عن التائب وإثبات الحسنات بمكافأته وغير ذلك من الوجوه المذكورة في تفسيره.
* * *
76 -
عن أبي خِزامَةَ، عنْ أبيه قال: قلت: يا رسول الله! أرأيتَ رُقًى نَسترقيهَا، ودواءً نتَداوَى بهِ، وتُقاةً نتَّقيها، هلْ تَرُدُّ مِنْ قدَرِ الله شيئًا؟ قال:"هيَ مِنْ قَدَرِ الله".
"وعن أبي خزامة، رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت رُقَى" بضم الراء وفتح القاف: جمع رقية، وهي الدعوات التي تقرأ لطلب الشفاء.
"نسترقيها"؛ أي: نطلب تلك الرقى أن يقرأها علينا أحد.
"ودواء نتداوى به"؛ أي: نستعمله في الأعضاء.
"وتقاةً" بمعنى الاتقاء، وهو الشيء الذي التجأ به الناس كالترس ليُحفظوا من الأعداء، من وقى يقي وقاية؛ أي: حفظ والتاء مقلوبة من الواو.
"نتقيها"؛ أي: نلتجئ بها ونحترز (1) بسببها من شر الأعداء.
"هل تَردُّ"؛ أي: هذه الأسباب.
"من قدر الله شيئًا؟ قال: هي"؛ أي: المذكورات من الاسترقاء والاتقاء والتداوي "من قدر الله أيضًا"؛ يعني: كما أن الله تعالى قدَّر الداء قدَّر زوالَه بالدواء، أو بالرقية، وكما أنه خلق في العدو قصد عدوه بالإيذاء خلق في الذي
(1) في "م": "ونحذر".
يقصده العدوُّ أن يلتجئ إلى قلعة، وأن يدفعه بشيء من الأسباب، فكل من أصابه داء فتداوى بدواء وبرء، فاعلم أنه قدَّر هذا الدواء نافعًا في ذلك الداء، وإلا لن ينفعه دواء جميع أطباء العالم، وعلى هذا فقس جميع الأسباب.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "فلا رقية إلا من عين أو حمى" فمعناه: لا رقية أولى وأنفع.
* * *
77 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علينا ونحنُ نتنازع في القَدَرِ، فغضبَ حتَّى احمرَّ وجهُهُ، فقال:"أبهذا أُمِرتُمْ؟ أَمْ بهذا أُرْسِلْتُ إليكُمْ؟ إنَّما هلكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حينَ تنازَعُوا في هذا الأمرِ، عَزَمْتُ عليكُمْ أنْ لا تتنازَعُوا فيهِ"، غريب.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع"؛ أي: نتخاصم ونتناظر "في القدر": بأن يقول أحد: إذا كان جميع ما يجري في العالم بقضاء الله تعالى وقدره فلمَ يعذَّب المذنبون، ولم ينسب الفعل إلى الشيطان، حيث قال تعالى:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120] وغير ذلك.
"فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمر وجهه" من الغضب، ولم يرض منهم التنازعَ في القدر؛ لأن القدر سرٌّ من أسرار الله لا يطَّلع عليه أحد، وطلبُ سر الله تعالى منهيٌّ عنه.
"فقال" صلى الله عليه وسلم: "أبهذا" التنازع "أمرتم" الاستفهام للإنكار، يعني: لم يأمركم الله ورسوله بالتنازع في القدر.
"أم بهذا أرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم" من الأمم السالفة
"حين تنازعوا في هذا الأمر"؛ أي: الذي لم يأمرهم الله ورسله (1) به من البحث في القدر، وتفضيل بعض الرسل على بعض من تلقاء أنفسهم.
"عزمت"؛ أي: أقسمت "عليكم" كان أصله: عزمت بإلقاء اليمين أو إلزام اليمين عليكم.
"عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه"؛ بحذف إحدى التاءين؛ أي: أن لا تبحثوا في القدر بعد هذا، و (أن) هذه يمتنع كونُها مصدرية وزائدة؛ لأن جواب القسم لا يكون إلا جملة، و (أن) لا تزاد مع (لا) فهي إذن مفسِّرة كـ (أقسمت أن لا أضربن).
"غريب".
* * *
78 -
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تعالى خلقَ آدمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جميعِ الأرضِ، فجاءَ بنو آدمَ على قَدْرِ الأرضِ، منهمُ الأحمرُ، والأبيض، والأسودُ، وبَيْنَ ذلكَ، والسَّهلُ، والحَزْنُ، والخَبيثُ، والطَّيبُ".
"وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى خلق آدم من قبضة" وهي ملءُ الكف من كل شيء، وهنا من التراب.
"قبضها من جميع الأرض"؛ أي: من جميع ما قدَّر الله تعالى أن يسكنه بنو آدم من الأرض، والقابض قيل: عزرائيل، وإنما نسب إليه تعالى لأنه بأمره وإرادته.
(1) في "م": "ورسوله".
"فجاء بنو آدم على قدر الأرض"؛ أي: على لون الأرض وطبعها.
"منهم الأحمر والأبيض والأسود" بحسب لون ترابهم.
"وبين ذلك"؛ أي: بين الأحمر، والأبيض، والأسود باعتبار أجزاء أرضه.
"والسهل" وهو اللين، "والحزن" وهو الغليظ، "والخبيث" المراد: خبث الخصال، "والطيب"؛ أي: طيب الخصال، على طبع أرضهم، وكل ذلك بتقدير الله لونًا وطبعًا وخلقًا.
* * *
79 -
وعن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الله تعالى خلَقَ خلقَهُ في ظُلْمَةٍ، فألقَى عليهِمْ مِنْ نُوره، فمَنْ أصابَهُ مِنْ ذلكَ النُّورِ اهتَدَى، ومَنْ أخطأهُ ضَلَّ، فلذلكَ أقولُ: جفَّ القلمُ على عِلمِ الله".
"وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله خلق خلقه" من الجن والإنس "في ظلمة"؛ أي: كائنين فيها، والمراد: ظلمة الطبيعة من الميل إلى الشهوات، والركون إلى المحسوسات، والغفلة عن أسرار عالم الغيب.
"فألقى عليهم من نوره" صفة لمفعول محذوف؛ أي: ألقى عليهم شيئًا من نوره، فيكون (من) للبيان، ويجوز أن يكون للتبعيض، والمراد منه: نور الإيمان وتوفيق الطاعة وقبول الشريعة.
"فمن أصابه من ذلك النور اهتدى"؛ أي: إلى طريق الحق وخرج من ظلمة الطبيعة إلى نور الإيمان.
"ومن أخطأه"؛ أي: جاوزه ولم يصل إليه من ذلك النور.
"ضل"؛ أي: خرج من طريق الحق، فبقي في ظلمة الهواء الإنسانية (1) والجهل والتكبر وغير ذلك من الخصال المذمومة.
"فلذلك"؛ أي: من أجل أن الاهتداء والضلال قد جرى في الأزل.
"أقول: جف القلم على علم الله"؛ أي: على ما علمه في الأزل.
* * *
80 -
قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثرُ أنْ يقول: "يا مُقلِّبَ القُلوبِ! ثَبتْ قلبي على دينِكَ"، فقلتُ: يا نبيَّ الله! آمنَّا بِكَ، وبما جئتَ بهِ، فهلْ تخافُ علينا؟ قال:"نعمْ، إنَّ القُلوبَ بين أَصبُعَيْنِ مِنْ أصابعِ الله يُقَلَّبهَا كيفَ يشاءُ".
"وقال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلت: يا نبي الله! آمنا بك وبما جئت به" ليس قولك هذا لأجل نفسك؛ لأنك معصوم عن الخطأ والزلة خصوصًا عن تقلب قلبك عن الدين، وإنما المراد تعليم أمتك.
"فهل تخاف علينا" من أن نرتد عن الدين بعد أن آمنا بك.
"قال: نعم"؛ يعني: أخاف عليكم.
"إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء" مفعول مطلق؛ أي: يقلِّبها تقليبًا يريده، أو حال من الضمير المنصوب؛ أي: يقلبها على أيِّ صفة شاء.
* * *
(1) في "ت": "النفسانية".
81 -
وقال: "مَثَلُ القلْبِ كرِيْشةٍ بأرضٍ فَلاةٍ تُقَلِّمُها الرياحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ"، رواه أبو موسى الأَشْعَري رضي الله عنه.
"وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل القلب كريشة" هي واحدة الريش الذي للطائر.
"بأرضٍ فلاةٍ" صفة (أرض)؛ أي: مفازة خالية من النبات والشجر.
"تقلبها"؛ أي: تلك الريشة.
"الرياح ظهرًا" بدلٌ من الضمير المنصوب بدلَ البعض من الكل.
"لبطن" اللام هنا بمعنى إلى، يعني: تقلبها الرياح [من] ظهر إلى بطن، ومن بطن إلى ظهر كل ساعة يقلبها على صفة، فكذلك القلوب تنقلب ساعة من الخير إلى الشر، وساعة من الشر إلى الخير.
* * *
82 -
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤمنُ عبدٌ حتَّى يُؤمنَ بأربعٍ: يشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله، وأنِّي رسولُ الله بعثَني بالحقِّ، ويؤمنَ بالموتِ، وبالبعْثِ بعدَ الموتِ، ويؤمنَ بالقَدَرِ".
"وعن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن عبد" نفي لأصل الإيمان.
"حتى يؤمن بأربع" فمن لم يؤمن بواحدة منها لم يكن مؤمنًا.
"يشهد" بالنصب بدل من (يؤمن).
"أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق" على كافة الجن والإنس.
"ويؤمن بالموت"؛ أي: يعتقد فناء الدنيا وأهلها، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ
عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88] لا كما ذهب الدهري من قدم العالم وبقائه، أو الإيمان بالموت اعتقاده أن الموت يحصل بأمر الله، لا كمن زعم أنه يحصل بفساد المزاج.
"وبالبعث"؛ أي: يعتقد أن الله يحشر الناس "بعد الموت": ويجمعهم في العرصات للحساب والجزاء.
"ويؤمن بالقدر"؛ أي: يعتقد أن جميع ما يجري في العالم بقضاء الله تعالى وقدره.
* * *
83 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتي ليسَ لهما في الإسلامِ نَصيبٌ: المُرْجِئه والقَدَرِيَّةُ"، غريب.
"وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب" والمراد: سوء حظهم لقلَّته، لا تكفيرهم، كما يقال للمتموِّل البخيل: ليس له من ماله نصيب؛ أي: نصيب كامل.
"المرجئة" بالهمزة من الإرجاء وهو التأخير، وهم الذين يقولون: الإيمان إقرار باللسان من غير عمل، سُموا بذلك؛ لتأخيرهم العمل.
وقيل: المرجئة هم الجبرية، وهذا أصح، وهم الذين يقولون: إن الأفعال والأقوال كلها بتقدير الله وليس للعباد فيها اختيار، وأنه لا تضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
"والقدَرية" بفتح الدال وسكونها: هم المنكرون للقدر، القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة بقدرته ودواعيهم لا بقدرة الله وإرادته، وإنما نُسبت هذه
الطائفة إلى القدر؛ لأنهم يبحثون في القدر كثيرًا.
"غريب".
* * *
84 -
عن ابن عمر قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكونُ في أُمَّتي خَسْفٌ ومَسْخٌ، وذلك في المكذِّبينَ بالقَدَرِ".
"وعن ابن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون في أمتي خسف" وهو أن يدخل الله أحدًا في الأرض كقارون.
"ومسخ": وهو أن يغير الله صورةَ إنسانٍ على غير صورته كما فَعَلَ بقوم من بني إسرائيل فجعلهم قردة وخنازير.
"وذلك"؛ أي: الخسف والمسخ.
"في المكذبين بالقدر" وإنما عاقبهم الله بهما لأنهم بإضافتهم الكوائن إلى غير الله محقوا خلق الله ومسخوا صور خلقه، فجازاهم الله بمحقٍ ومسخ.
وقيل: معناه: إن يكن الخسف والمسخ في أمتي كانا في المكذبين بالقدر؛ لأن هذه الأمة مأمونة منهما، وقيل: محمول على الزجر والوعيد.
* * *
85 -
وعنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"القَدَرِّية مَجُوسُ هذهِ الأُمَّة، إِنْ مَرِضُوا فلا تعودُوهم، وإنْ ماتُوا فلا تشهدُوهم".
"وعنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: القدرية مجوس هذه الأمة": سماهم مجوسًا لأن قولهم يشبه قول المجوس، فإنهم يقولون: الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، كذلك القدرية يقولون: الخير من الله،
والشر من الشيطان، أو من النفس، فصار مذهبهم مضاهيًا لمذهب المجوس من حيث إضافُة الكوائن إلى إلهين.
"إن مرضوا فلا تعودوهم" فإنهم ظهر بينكم وبينهم عداوة ومخالفة في الاعتقاد، فلا يجوز مقاربتهم ومجالستهم.
"وإن ماتوا فلا تَشهدوهم"؛ أي: فلا تحضروا جنائزهم للصلاة، فالنهي محمول على الزجر وتقبيحِ اعتقادهم على قولِ مَن لم يَحكُم بكفرهم، وعلى الحقيقة على قول من حكم بكفرهم.
* * *
86 -
وعن عمر رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُجالسوا أهلَ القدَرِ، ولا تفاتحوهم".
"وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم"؛ أي: لا تبدؤوهم بالكلام ولا تناظروهم في الاعتقادات؛ لكونهم ضالين مضلِّين.
وقيل: معناه: لا تحاكموهم؛ أي: لا ترفعوا الخصومة إلى حاكمهم، قال الله تعالى:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]؛ أي: احكم به، فعلم من هذه الآية مجيء الفتح بمعنى الحكم. وقيل: لا تبدؤوهم بالسلام.
* * *
87 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستةٌ لعنتُهُمْ، لعنَهُمُ الله، وكل نبيٍّ مُجابٍ: الزائدُ في كتابِ الله، والمكذبُ بقدَرِ الله، والمُتسلِّطُ بالجَبَروتِ ليُعزَّ مَنْ أَذَلَّ الله ويُذلَّ مَنْ أَعَزَّ الله، والمستحِلُّ لحُرَمِ الله، والمستحِلُّ منْ عِترتي ما حرَّمَ الله، والتاركُ لسُنَّتي".
"وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: ستة"؛ أي: ستة أشخاص.
"لعنتهم"؛ أي: دعوت عليهم باللعن، وهو الطرد والإبعاد من الخير.
"ولعنهم الله" بالواو العاطفة، ويروى بدونها إخبارًا؛ أي: إذا لعنتهم فقد لعنهم الله، أو إنشاء دعاء عليهم باللعن من الله تعالى.
"وكل نبي" مبتدأ خبره: "يجاب" بصيغة المضارع المجهول؛ أي: تجاب دعوته، ويروى بالميم؛ أي: مجاب الدعوة، والأولى أن تُجعل الجملة حالًا؛ أي: والحال أن من شأن كل نبي إجابة دعائه.
"الزائد في كتاب الله تعالى"؛ أي: في نظم القرآن، أو في حُكمه بأن يُدخل فيه ما ليس منه، وكذلك في التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب.
"والمكذب بقدر الله والمتسلط"؛ أي: المستولي والغالب "بالجبروت" مبالغة من الجبر، وهو القهر بالتكبر والعظمة.
"ليعز من أذل الله تعالى"؛ أي: لإعزاز من أذل الله كالكفار.
"ويذل من أعز الله"؛ أي: ولإذلال من أعزه الله كالمسلمين.
"والمستحل لحرم الله"؛ يعني: من يفعل في حرم مكة ما لا يجوز فعله من الاصطياد وقطع الشجر ودخولها بغير الإحرام معتقدًا حلَّها.
"والمستحل من عترتي" العترة: القرابة، وعترته عليه الصلاة والسلام: أهل بيته الذين حرِّمت عليهم الزكاة، وهم أولاده عليه الصلاة والسلام وعليٌّ وأولاده من فاطمة، يعني: من يفعل بهم "ما حرم الله" من إيذائهم وترك تعظيمهم معتقدًا تحليله.
ويحتمل أن يراد به: مَن يستحل من عترته عليه الصلاة والسلام شيئًا
من المحرمات، فـ (من) بيانية.
وخص مستحل الحُرَم والعترة بالذكر، وإن كان كلُّ مستحل لمحرم ملعونًا؛ لأن حرمتهما آكد وأشد؛ لاختصاص الأول بالله، والثاني برسوله صلى الله عليه وسلم.
"والتارك لسنتي"؛ أي: المعرض عنها بالكلية، أو عن بعضها استخفافًا.
* * *
88 -
عن مَطَرَ بن عُكامِس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضَى الله لِعبْدٍ أنْ يموتَ بأرضٍ جعَلَ لَهُ إليها حاجةً".
"وعن مطر بن عكامس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قضى الله"؛ أي: إذا أراد "لعبد أن يموت بأرض" وكان هو في غير تلك الأرض "جعل الله"؛ أي: أظهر له "إليها حاجة" من تجارة أو زيارة أو غير ذلك؛ ليأتي بها فيموت فيها.
* * *
89 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! ذَرَارِيُّ المؤمنين؟ قال: "مِنْ آبائهم"، فقلتُ: يا رسول الله! بلا عملٍ؟ قال: "الله أعلَم بما كانوا عاملين"، فقلتُ: فذراري المشركين؟ قال: "مِنْ آبائهم"، قلتُ: بلا عمَلٍ؟ قال: "الله أَعلَمُ بما كانوا عامِلين".
"وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! ذراري المؤمنين"؛ أي: ما حكم أطفالهم.
"قال: من آبائهم"؛ أي: يُعلم حكمهم من حكم آبائهم، أو هم معدودون من جملة آبائهم، يعني: إن كان آباؤهم من أهل الجنة فهم كذلك.
وقيل: معناه: أتباع لآبائهم، فإن الشرع يَحكم بإسلامه لإسلام أحد
الأبوين، فيصلَّى عليه بموته ويجري التوارث.
"فقلت: يا رسول الله! بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، قلت: فذراري المشركين"؛ أي: فما حكمهم.
"قال من آبائهم"؛ أي: يعلم من حكم آبائهم.
"قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" أو معناه: أتباع لآبائهم، فلا يصلَّى عليهم ولا يثبت الإرث بينهم وبين المسلمين كآبائهم.
* * *
90 -
عن ابن مَسْعودٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الوائدةُ والمَوؤدةُ في النَّارِ".
"وعن ابن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: الوائدة"؛ أي: التي تدفن بنتها في القبر وهي حية فرارًا من الفقر أو العار.
"والموؤدة"؛ أي: المدفونة حية.
"في النار" روي: أن ابني مليكة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا: إن أُمَّنا وأدت بنتًا لها، فقال عليه الصلاة والسلام هذا الحديث.
أما الوائدة فلأنها كانت كافرة، وأما الموؤدة فلأنها ولد الكافر، فيحتمل أنها كانت بالغة، ويحتمل أن تكون غير بالغة ولكن علم صلى الله عليه وسلم بالمعجزة كونها من أهل النار، فلا يتعين القطع بهذا الحديث على تعذيب أطفال المشركين؛ لأنه ورد في قضية خاصة فلا يجوز حمله على العموم مع الاحتمال.
وقيل: المراد بالوائدة: القابلة، وبالموؤدة لها وهي أم الطفل، وكان من عادة نساء العرب إذا أخذ إحداهن الطلقُ حفرت لها حفرة عميقة فجلست عليها، والقابلة وراءها تترقب الولد، فإن أتت بابن أمسكته، وإن أتت بنتٌ ألقتها في