الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَرْضُ الْكِفَايَةِ لَا يُبَايِنُ فَرْضَ الْعَيْنِ]
ِ) فَرْضُ الْكِفَايَةِ لَا يُبَايِنُ فَرْضَ الْعَيْنِ بِالْجِنْسِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، بَلْ يُبَايِنُهُ بِالنَّوْعِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ شَمِلَ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالثَّانِيَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ تَأْثِيمِ الْجَمِيعِ عِنْدَ التَّرْكِ لَكِنَّهُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، فَالْوُجُوبُ صَادِقٌ عَلَيْهِمَا بِالتَّوَاطُؤِ لَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَلْ يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ]
(الْمَسْأَلَةُ) الثَّانِيَةُ (هَلْ يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ؟) اخْتَلَفُوا هَلْ يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؟ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِتَعَذُّرِ خِطَابِ الْمَجْهُولِ بِخِلَافِ خِطَابِ الْمُعَيَّنِ بِالشَّيْءِ الْمَجْهُولِ، فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ كَالْكَفَّارَةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ " الْأُمِّ ": مِنْهَا قَوْلُهُ: حَقٌّ عَلَى النَّاسِ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ، لَا يَسَعُ عَامَّتَهُمْ تَرْكُهُ، وَإِذَا قَامَ مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ أَجْزَأَهُ عَنْهُمْ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - وَهُوَ كَالْجِهَادِ عَلَيْهِمْ حَقٌّ أَنْ لَا يَدَعُوهُ، وَإِذَا انْتَدَبَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْفِي النَّاحِيَةَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْجِهَادُ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، وَالْفَضْلُ لِأَهْلِ الْوِلَايَةِ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ التَّخَلُّفِ عَنْهُمْ.
وَقَالَ فِي بَابِ السَّلَفِ فِيمَنْ حَضَرَ كِتَابَ حَقٍّ بَيْنَ رَجُلَيْنِ: وَلَوْ تَرَكَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ الْكِتَابَ خِفْت أَنْ يَأْثَمُوا بَلْ لَا أَرَاهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِثْمِ وَأَيُّهُمْ قَامَ بِهِ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ فِي الشُّهُودِ إذَا دُعُوا لِلْأَدَاءِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ فِي طُرُقِهِمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ.
قَالُوا: وَالْجُمْلَةُ مُخَاطَبَةٌ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ، وَمَتَى لَمْ تَقَعْ الْكِفَايَةُ فَالْكُلُّ آثِمُونَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُمَا افْتَرَقَا فِي السُّقُوطِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ. ثُمَّ عِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ وَجَبَ عَلَى عَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا: إنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ. قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَمِيعٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَإِنْ قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ الْجَمِيعُ. وَيَظْهَرُ تَغَايُرُ الْقَوْلَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّأْثِيمِ عِنْدَ التَّرْكِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَأْثِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ يَكُونُ وَاقِعًا بِالذَّاتِ، وَعَلَى الثَّانِي بِالْعَرَضِ، وَقَدْ ضَعَّفَ صَاحِبُ " التَّنْقِيحَاتِ " الْقَوْلَ الثَّانِيَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ إذَا تَعَيَّنَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِالْفِعْلِ، وَلَيْسَ الشَّيْءُ مِمَّا يَفُوتُ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِسْقَاطُهُ عَنْ الْبَاقِينَ رَفْعٌ لِلطَّلَبِ بَعْدَ التَّحَقُّقِ فَيَكُونُ نَسْخًا، وَلَا يَصِحُّ دُونَ خِطَابٍ جَدِيدٍ، وَلَا خِطَابَ، فَلَا نَسْخَ، فَلَا سُقُوطَ. بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ وُجُوبُهُ عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَمِيعٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ هَذَا الْإِشْكَالُ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْحُكْمِ
عَلَى جُمْلَةٍ إيجَابُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ الثَّانِي، فَإِنَّ تَكْلِيفَ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ لَا يُعْقَلُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْأَفْرَادُ رَجَعَ لِقَوْلِنَا.
وَقَوْلُهُ: يَلْزَمُ مِنْهُ رَفْعُ الطَّلَبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّسْخِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ رَفْعَ الطَّلَبِ كَمَا يَكُونُ بِالنَّسْخِ يَكُونُ بِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ احْتِرَامًا لِلْمَيِّتِ كَمَا أَوْجَبَ دَفْنَهُ سَتْرًا لَهُ، فَإِذَا قَامَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ زَالَتْ الْعِلَّةُ فَيَسْقُطُ الْوُجُوبُ؛ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ، كَمَا أَنَّهُ يَسْقُطُ وُجُوبُ الدَّفْنِ إذَا احْتَرَقَ الْمَيِّتُ أَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.
وَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: " وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ " فِيهِ تَجَوُّزٌ، فَإِنَّ عِلَّةَ السُّقُوطِ بِالْحَقِيقَةِ هِيَ انْتِفَاءُ عِلَّةِ الْوُجُوبِ لَا فِعْلُ الْبَعْضِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِعْلُ الْبَعْضِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الْوُجُوبِ نُسِبَ السُّقُوطُ إلَيْهِ تَجَوُّزًا. هَذَا إنْ عَلَّلْنَا أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَقَاصِدِ، وَمَنْ لَمْ يُعَلِّلْهَا بِالْمَقَاصِدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ بَعْضِهِمْ أَمَارَةً عَلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْ الْبَاقِينَ، وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكُلِّ لَمَا سَقَطَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ الْآخَرَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ، وَتَارِكُ الْوَاجِبِ مُسْتَحِقُّ الْعِقَابِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْإِيجَابَ مُتَعَلَّقٌ بِالْجَمِيعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالْجَمِيعِ تَعَلُّقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ سُقُوطَهُ عَنْ الْبَاقِينَ لَتَعَذُّرِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَالتَّكْلِيفُ تَارَةً يَسْقُطُ بِالِامْتِثَالِ، وَتَارَةً يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: هَلْ نَقُولُ إذَا فَعَلَهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُمْ، أَوْ نَقُولُ بِأَنَّ آخِرَ الْأَمْرِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَتَنَاوَلْ سِوَى مَنْ فَعَلَهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ.
قُلْت: وَهُوَ يُشْبِهُ الْقَوْلَ الْمَحْكِيَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِالْفِعْلِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا فَهَلْ هُوَ مُبْهَمٌ أَوْ مُعَيَّنٌ؟ قَوْلَانِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ هَلْ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ أَوْ مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ دُونَ النَّاسِ؟ قَوْلَانِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَجْهُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِطَائِفَةٍ مُبْهَمَةٍ وَيَتَعَيَّنُ بِالْفِعْلِ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ تَفْصِيلًا بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا يَجِبُ وَإِلَّا وَجَبَ، وَاسْتَحْسَنَهُ. قَالَ: وَالْخِلَافُ عِنْدِي لَفْظِيٌّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. قُلْت: وَقَدْ يُقَالُ: بِأَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي صُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ هَلْ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ؟ فَمَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَوْجَبَهُ بِالشُّرُوعِ لِمُشَابِهَتِهِ فَرْضَ الْعَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: إذَا فَعَلَتْهُ طَائِفَةٌ، ثُمَّ فَعَلَتْهُ أُخْرَى هَلْ يَقَعُ فِعْلُ الثَّانِيَةِ فَرْضًا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ.
وَكَلَامُ الْإِمَامِ فِي الْمَحْصُولِ مُضْطَرِبٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقُولُ: عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُتَنَاوِلًا لِجَمَاعَةٍ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، وَمُرَادُهُ بِالْجَمْعِ أَعَمُّ مِنْ التَّعْمِيمِ وَالِاجْتِمَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَسَمَهُ إلَيْهِمَا، فَقَالَ فِي التَّنَاوُلِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ: إنَّهُ مُمْكِنٌ فَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ بَعْضِهِمْ شَرْطًا فِي فِعْلِ الْبَعْضِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْجَمِيعِ لَا جَمِيعًا وَلَا إنْسَانًا، وَإِنَّمَا عَلَى الْبَعْضِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ بِالْبَعْضِ لَمْ يَلْزَمْ الْبَاقِينَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْجَمِيعِ لَمَا قَالَ:" لَمْ يَلْزَمْ الْبَاقِينَ " بَلْ كَانَ يَقُولُ: (سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ) غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ السُّقُوطِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ لِيُجْمَعَ كَلَامَاهُ.