الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرَّأْسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالسِّتْرِ إلَّا بِسَتْرِهِ، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ السِّتْرَ أَحْوَطُ مِنْ الْكَشْفِ. (التَّنْبِيهُ) السَّابِعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَأْمُورِ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَتَأَتَّى أَدَاءُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَجْرِي مِثْلُهُ فِي النَّهْيِ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْكَفُّ عَنْ الْمَحْظُورِ إلَّا بِالْكَفِّ عَمَّا لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَبَاحِثِ الْمَحْظُورِ.
مَسْأَلَةٌ (الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاجِبًا وَلَا نَدْبًا) الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ إذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاجِبًا وَلَا نَدْبًا، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مَنْدُوبَةً وَالْمَوْصُوفُ وَاجِبًا، كَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَكُونُ الصِّفَةُ كَالْمَوْصُوفِ مَنْدُوبًا، كَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ كَالْأَمْرِ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمَوْصُوفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِتْيَانُ إلَّا بِهِ. قَالَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ".
[مَسْأَلَةٌ حَقَائِقُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ مُتَبَايِنَةٌ]
ٌ) حَقَائِقُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ مِنْ حَيْثُ تَمَامُهَا مُتَبَايِنَةٌ فَلَا يَجْتَمِعُ شَيْءٌ مِنْهَا مَعَ الْآخَرِ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ حُدُودِهَا
وَقَالَ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ تَبَايُنَ الْحَقَائِقِ: إنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَمُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ: وَأَنْكَرَ الْقَاضِي إطْلَاقَ هَذَا، وَقَالَ: لَا مَعْنَى لِلْجَوَازِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ، إذْ لَا يَحْسُنُ تَسْمِيَةُ الْوُجُوبِ جَوَازًا، وَتَسْمِيَةُ الْوَاجِبِ جَائِزًا، وَالْأَحْكَامِ مَضْبُوطَةً. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَا يَتَحَقَّقُ خِلَافٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ حَقِيقَةُ الْجَائِزِ أَوْ الْمُبَاحِ حَقِيقَةُ الْوَاجِبِ، وَغَرَضُ الْخَصْمِ أَنَّ مَا يُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ وَيَقْتَضِي اللُّزُومَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ مَا يُحَرِّضُ عَلَى فِعْلِهِ أَنْ يَجُوزَ لَك الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ غَيْرَ أَنَّ غَرَضَ الْمُوجِبِ الْإِلْزَامُ، وَالْبَاقِي يَقَعُ ضِمْنًا وَلَكِنْ عَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ وَالْجَوَازِ، وَالْمَحْكِيُّ قَصْرُ الْخِلَافِ عَلَى الْجَوَازِ.
إذَا عَرَفْت هَذَا فَلَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ. فَهَلْ يَبْقَى الْجَوَازُ أَمْ لَا؟ ، فِيهِ مَذَاهِبُ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَبْقَى الْجَوَازُ وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ لِلْأَكْثَرِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى الْحَظْرِ. حَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ وَهُوَ غَرِيبٌ. الثَّالِثُ: يَبْقَى النَّدْبُ حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ ". قَالَ: وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ، فَإِنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ لَمَّا نُسِخَ بَقِيَ صِيَامُهُ مُسْتَحَبًّا، وَلَمَّا نُسِخَ فَرْضُ قِيَامِ اللَّيْلِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَقِيَ مُسْتَحَبًّا، وَكَذَلِكَ الضِّيَافَةُ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ كُلُّ حَقٍّ كَانَ فِي الْمَالِ بِالزَّكَاةِ، وَبَقِيَ
ذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَحَبًّا، فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يُحْتَجَّ بِالْآثَارِ الْمَنْسُوخَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَعَلَى الْجَوَازِ. قَالَ: هَكَذَا حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ الْمَذْهَبِ. قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: وَصَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الْغَزَالِيِّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ ": أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ إلَى النَّدْبِ أَحَدٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا نُسِخَ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَثْبُتْ نَدْبٌ وَلَا إبَاحَةٌ إلَّا بِدَلِيلٍ حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ، قَالَ: وَمَنَعُوا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ فَضْلًا عَنْ النَّدْبِ، وَالْخَامِسُ: لَا تَبْقَى الْإِبَاحَةُ الَّتِي تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ بَلْ يَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ تَحْرِيمٍ أَوْ إبَاحَةٍ، وَصَارَ الْوُجُوبُ بِالنَّسْخِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ.
قَالَ: إلَّا أَنْ يَأْتِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ أَيْضًا. قَالَ: وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ يَبْقَى الْجَوَازُ لَسَاغَ أَنْ يُقَالَ: يَبْقَى النَّدْبُ، لَا سِيَّمَا وَالِاقْتِضَاءُ كَائِنٌ فِي النَّدْبِ كَمَا أَنَّهُ كَائِنٌ فِي الْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ لَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ لِلْوُجُوبِ، وَالْجَوَازُ إنَّمَا دَخَلَ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَيَمْتَنِعُ فِعْلُهُ، وَإِذَا انْتَفَى اللَّفْظُ فَلَا يَبْقَى مَا كَانَ فِي ضِمْنِهِ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: إنَّهُ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِهِمْ. قَالَ: وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ لْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ، فَإِنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ سَابِقٌ عَلَى الْحِنْثِ، وَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، فَبَقِيَ الْجَوَازُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَنَا. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِبَقَاءِ الْجَوَازِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِ، هَلْ هُوَ عَدَمُ الْحَرَجِ عَنْ الْفِعْلِ فَقَطْ، أَوْ رَفْعُهُ عَنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؟ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا: عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْحَرَجِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مَا تَسَاوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَهُوَ جُزْءُ مَاهِيَّةِ الْوُجُوبِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ قَيْدُ الْمَنْعِ مِنْ التَّرْكِ بَقِيَ الْجَوَازُ قَطْعًا، وَالثَّانِي لَيْسَ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْوُجُوبِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ارْتِفَاعِ قَيْدِ الْمَنْعِ مِنْ التَّرْكِ بَقَاءُ التَّسَاوِي. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْرَضَ الْخِلَافُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ: أَوْجَبْت عَلَيْك الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ، ثُمَّ قَالَ: نَسَخْت الْوُجُوبَ، هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ أَمْ لَا؟ . وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ
شَرْعًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: حَقِيقَةُ الْجَوَازِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا بِتَسْوِيَةِ الشَّارِعِ.
وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ: أَكْثَرُهُمْ يَجْعَلُ الْخِلَافَ لَفْظِيًّا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ عَنَى بِالْجَوَازِ الَّذِي لَا يَبْقَى بَعْدَ رَفْعِ الْوُجُوبِ التَّخْيِيرَ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا لِلْوَاجِبِ بَلْ هُوَ قَسِيمُهُ وَمُقَابِلُهُ، وَمَنْ قَالَ يَبْقَى، لَمْ يَعْنِ بِالْجَوَازِ الْجُزْءَ بَلْ عَنَى بِهِ رَفْعَ الْحَرَجِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْوَاجِبِ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الرَّازِيَّ يَقُولُ: يَبْقَى الْجَوَازُ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. قَالَ: وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ التِّلِمْسَانِيُّ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَقَالَ الْقَرَافِيِّ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ بِمَعْنَى مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، قَالَ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ ثُمَّ يَقُولُ الْآمِرُ: رَفَعْت الْوُجُوبَ فَقَطْ. أَمَّا إنْ نُسِخَ الْأَمْرُ بِالتَّحْرِيمِ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ قَطْعًا، أَوْ قَالَ رَفَعْت جُمْلَةَ مَا دَلَّ الْأَمْرُ السَّابِقُ مِنْ جَوَازٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ قَطْعًا.
قُلْت: الْغَزَالِيُّ مُنَازِعٌ فِي أَصْلِ بَقَاءِ الْجَوَازِ؛ لِقَوْلِهِ: إنَّ الْحَالَ يَعُودُ إلَى مَا قَبْلُ مِنْ تَحْرِيمٍ أَوْ إبَاحَةٍ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْحَالُ قَبْلَ الْوُجُوبِ تَحْرِيمًا، فَعِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ يَكُونُ الْفِعْلُ الْآنَ مُحَرَّمًا كَمَا كَانَ أَوْ لَا، وَعِنْدَ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ مُطْلَقَ الْجَوَازِ الَّذِي كَانَ دَاخِلًا فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ بَاقٍ يُصَادِمُ مَا دَلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَالْخِلَافُ مَمْنُوعٌ قَطْعًا.
وَلِلْمَسْأَلَةِ الْتِفَاتٌ إلَى بَحْثٍ عَقْلِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْفَصْلَ عِلَّةٌ لِوُجُودِ حِصَّةِ النَّوْعِ مِنْ الْجِنْسِ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْفَصْلِ عَدَمُ حِصَّةِ النَّوْعِ مِنْ الْجِنْسِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلَّةِ عَدَمُ الْمَعْلُولِ، وَابْنُ سِينَا هُوَ الْقَائِلُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَالرَّازِيَّ يُخَالِفُهُ فِيهَا، وَيَقُولُ: ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِلَى بَحْثٍ أُصُولِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُبَاحَ هَلْ هُوَ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ، وَالْجَائِزُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ أَمْ لَا؟ وَالْمُرَادُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ مَا لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ جَوَازِ تَرْكِهِ، وَبِالْأَهَمِّ مَا لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، وَلِهَذَا قَدَّمْت ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهَا.
وَعَبَّرَ عَنْهَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الْأَدَاءِ، أَمْ لَا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ شَرْعًا، وَلَا يَكُونُ الْمُؤَدَّى جَائِزًا، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُحِيطِ " بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ الْفَرْضُ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ النَّفْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ نَفْلٌ وَزِيَادَةٌ أَوْ هُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ؟ خِلَافٌ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا إذَا قَامَ عَنْ السُّجُودِ نَاسِيًا، وَقَصَدَ الِاسْتِرَاحَةَ، فَإِنْ قُلْنَا: النَّفَلُ دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْفَرْضِ فَلَمْ تَكُنْ الِاسْتِرَاحَةُ فِيهِ مُنَاقِضَةً لِنِيَّةِ الْفَرْضِ الْبَاقِيَةِ كُلِّهَا، بَلْ تَعَرَّضَتْ لِبَعْضِهَا فَصَحَّتْ الْجِلْسَةُ عَنْ الْفَرْضِ بِالنِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلْنَا النَّفَلَ غَيْرَ الْفَرْضِ فَلَمْ يُجْزِ عَنْ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ. انْتَهَى.
وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ الْمَعْدُودَةُ فِي إقَامَةِ النَّفْلِ مَقَامَ الْفَرْضِ كَاللُّمْعَةِ وَغَيْرِهَا.