الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا سُلِكَ فِي اقْتِنَاصِهِ الْقِسْمَةُ أَوْ التَّرْكِيبُ، وَكَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ تَصَفُّحِ جَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ وَحْدَهُ كَانَ الْحَدُّ الْمُقْتَنَصُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مَعْلُومًا، فَأَوَّلُ الْعَقْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ، فَإِذَنْ اقْتِنَاصُ الْحَدِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي طَلَبِ الْبُرْهَانِ مِنْ وَسَطٍ يُحْمَلُ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ لَهُ لَا عَلَى أَنَّهُ جِنْسٌ لَهُ وَلَا فَصْلٌ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ لَهُ أَيْضًا. مِثَالُهُ: أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ حَدَّ الْعِلْمِ الْمَعْرِفَةُ، فَيُقَالَ لَنَا: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ طَلَبِ وَسَطٍ يُحْمَلُ عَلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ لَهُ، وَتُحْمَلُ الْمَعْرِفَةُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهَا حَدٌّ لَهُ أَيْضًا وَلْيَكُنْ ذَلِكَ الْحَدُّ الِاعْتِقَادَ. فَنَقُولُ: لِكُلِّ عِلْمٍ بِالِاعْتِقَادِ يُؤْخَذُ لَهُ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ، وَكُلُّ اعْتِقَادٍ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ لَهُ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ، فَالْمَعْرِفَةُ تُؤْخَذُ لَهُ عَلَى أَنَّهَا حَدٌّ. فَإِذَنْ كُلُّ عِلْمٍ فَالْمَعْرِفَةُ تُؤْخَذُ لَهُ عَلَى أَنَّهَا حَدٌّ، فَيُنَازَعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ هَذَا الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّهَا حَدٌّ، وَيُطْلَبُ الْبُرْهَانُ كَمَا طُلِبَ عَلَى الْحَدِّ الْأَوَّلِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَهَا بِدَلِيلَيْنِ. فَيُنَازَعُ أَيْضًا فِي كُلِّ مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِك الدَّلِيلَيْنِ. فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلَّلَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ عِنْدَ أَمْرٍ بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ.
[مَسْأَلَةٌ صُعُوبَةُ الْحَدِّ]
ِّ] ادَّعَى ابْنُ سِينَا أَنَّ الْحُدُودَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى
مَعْرِفَةِ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ تَفْصِيلًا حَتَّى يُعْلَمَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَاهِيَّةِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي بِهِ يَنْفَصِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَنْ الْأُخْرَى، وَلَا شَكَّ فِي صُعُوبَةِ مَعْرِفَتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَبِهِ يَضْعُفُ تَرْكِيبُ الْحُدُودِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ الْمُطَابِقَةِ لَهَا. وَنَاقَضَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُعْتَبَرِ " فَقَالَ: الْحُدُودُ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ هِيَ حُدُودُ الْأَسْمَاءِ، وَالْأَسْمَاءُ أَسْمَاءُ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ، وَكُلُّ أَمْرٍ مَعْقُولٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُعْقَلَ أَنَّ كَمَالَ الْمُشْتَرَكِ أَيْشٍ هُوَ؟ وَكَمَالُ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ أَيْشٍ هُوَ؟ فَكَانَ الْحَدُّ سَهْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَلِجُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي الْمَضَايِقِ، وَيَمْنَعُ كَوْنَ الْحَدِّ هُوَ الدَّالُّ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، بَلْ هُوَ تَفْصِيلُ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ إجْمَالًا، وَقَالَ فِي " الْمُلَخَّصِ ": الْإِنْصَافُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَفْصِيلَ مَدْلُولِ الِاسْمِ كَانَ سَهْلًا، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مَعْرِفَةَ الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ الْكَاشِفَةَ لِلْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ تَفْصِيلِ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ إجْمَالًا، بَلْ الْحَدُّ: هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ. وَصَنَّفَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ رِسَالَةً بَيَّنَ فِيهَا صُعُوبَةَ الْحَدِّ.
وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ": الْعِلَّةُ فِي عُسْرِ حَدِّ بَعْضِ الْمُدْرَكَاتِ هُوَ أَنَّ أَصْلَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ كُلِّهَا الْحَوَاسُّ، فَإِذَا قَوِيَ الْحِسُّ عَلَى إدْرَاكِ أَمْرٍ مِمَّا اتَّضَحَتْ فُصُولُهُ الذَّاتِيَّةُ عِنْدَ الْعَقْلِ فَأَدْرَكَ حَقِيقَةَ مَاهِيَّتِهِ سَاغَ لَهُ حَدُّهُ، وَإِذَا ضَعُفَ الْحِسُّ عَنْ إدْرَاكِ شَيْءٍ مِمَّا خَفِيَتْ فُصُولُهُ الذَّاتِيَّةُ عَنْ الْعَقْلِ، فَلَمْ يُدْرِكْ حَقِيقَتَهُ وَمَاهِيَّتَهُ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى حَدِّهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الرَّوَائِحُ وَالطُّعُومُ لَمَّا ضَعُفَ الْحِسُّ عَنْ إدْرَاكِهَا عَسِرَ حَدُّهَا، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: عُسْرُ الْحَدِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِّ تَصَوُّرُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَصْلُ غَلَطِهِمْ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا فِي الْأَذْهَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَائِمَةٌ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ طَابَقَ أَمْ لَا، وَلَيْسَ هُوَ تَابِعًا لِلْحَقَائِقِ فِي نَفْسِهَا.
تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ [الْقَصْدُ مِنْ الْحَدِّ] بَانَ مِمَّا سَبَقَ عَنْ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْحَدِّ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْإِرْشَادِ ": قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْقَصْدُ مِنْ
التَّحْدِيدِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْفَرْقُ بِخَاصَّةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. اهـ. وَلِهَذَا كَانَ الِاضْطِرَادُ وَالِانْعِكَاسُ لَا يَتِمُّ الْحَدُّ إلَّا بِهِمَا. وَأَمَّا الْمَنَاطِقَةُ فَقَالُوا: إنَّ فَائِدَةَ الْحَدِّ التَّصْوِيرُ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أُمُورًا سَتَأْتِي. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمِيعُ الطَّوَائِفِ أَنَّ فَائِدَتَهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُجَوِّزُ الْحَدَّ إلَّا بِمَا يُمَيِّزُ الْمَحْدُودَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إلَى مَا صَارَ إلَيْهِ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ شَرِيفٌ يَنْبَغِي الْإِحَاطَةُ بِهِ فَإِنَّ بِسَبَبِ إهْمَالِهِ دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْمَعْقُولِ وَالْأَدْيَانِ عَلَى كَثِيرٍ، إذْ خَلَطُوا مَا ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ فِي الْحُدُودِ بِالْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ، وَصَارُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْحُدُودِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقَائِقِ، وَطُولُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مِمَّا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ.
قُلْت: وَبَنَى الْمَنْطِقِيُّونَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَوَاعِدَ: إحْدَاهَا: قَالُوا: الْحَدُّ لَا يُكْتَسَبُ بِالْبُرْهَانِ أَيْ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِبُرْهَانٍ وَعَقَدُوا الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْبُرْهَانَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَضَايَا الَّتِي فِيهَا حُكْمٌ، وَالْحَدُّ لَا حُكْمَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَوُّرٌ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَقُّ أَنَّا إذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ مَثَلًا حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَلَهُ أَرْبَعُ اعْتِبَارَاتٍ: أَحَدُهَا: تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ، وَهُوَ تَصَوُّرٌ لَا حُكْمَ فِيهِ فَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ. ثَانِيهَا: دَعْوَى الْحَدِّيَّةِ، وَهَذَا يُمْنَعُ وَيُسْتَدَلُّ بِبَيَانِ صَلَاحِيَةِ هَذَا الْحَدِّ
لِلتَّعْرِيفِ مِنْ اطِّرَادِهِ وَانْعِكَاسِهِ، وَصَرَاحَةِ أَلْفَاظِهِ. ثَالِثَهَا: دَعْوَى الْمَدْلُولِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْمَعْنَى لُغَةً أَوْ شَرْعًا فَهَذَا يُمْنَعُ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ " نِهَايَةِ الْعُقُولِ "، وَكَذَلِكَ قَيَّدَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ إطْلَاقَهُمْ مَنْعَ اكْتِسَابِهِ بِالْبُرْهَانِ. قَالَ: أَمَّا لَوْ أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ مَدْلُولُهُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ النَّقْلِ. رَابِعَهَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ ذَاتَ الْإِنْسَانِ مَحْكُومٌ عَلَيْهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ وَالْمُطَالَبَةُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حَدًّا بَلْ دَعْوًى. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَيْضًا.
وَقَالَ فِي " الْمُلَخَّصِ ": هَذَا بِحَسَبِ الِاسْمِ، أَمَّا إذَا كَانَ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ أَنْ يُشِيرَ إلَى مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ، وَيَزْعُمَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَذَا وَكَذَا، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحُجَّةِ، وَاَلَّذِي أَطْلَقَهُ هُنَا ابْنُ سِينَا فِي كُتُبِهِ امْتِنَاعُ الِاكْتِسَابِ لِلْحَدِّ بِطَرِيقِ الْبُرْهَانِ مُطْلَقًا. وَذُكِرَ عَنْ " أَفْلَاطُونَ " أَنَّهُ يُكْتَسَبُ بِالْقِسْمَةِ، وَزَيَّفَهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ عَلَى الْحَدِّ، وَقَدْ اتَّفَقَ النُّظَّارُ عَلَى تَوَجُّهِهِمَا. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَنَا: أَنَّ الْحَدَّ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّعَاوَى، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ النَّقْضُ، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ النَّقْضُ عَلَى تَسْلِيمِ بُعْدِ الْحَدِّ. مِثَالُهُ: إذَا قِيلَ: الْعِلْمُ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ مِنْ الْمَوْصُوفِ بِهِ أَحْكَامُ الْفِعْلِ،
فَإِذَا قِيلَ هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْعِلْمِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَالَاتِ، فَإِنَّهُ عِلْمٌ وَلَا يُفِيدُ أَحْكَامًا، فَهَذَا النَّقْضُ إنَّمَا يَسْلَمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُحَالَاتِ. فَلَوْ لَمْ تَسْلَمْ هَذِهِ الدَّعْوَى لَمْ يُمْكِنْ تَوَجُّهُ النَّقْضِ إلَيْهِ. قَالَ: وَكَذَا الْمُعَارَضَةُ لَا يُمْكِنُ الْقَدَحُ بِهَا فِي الْحَدِّ إلَّا عِنْدَ تَسْلِيمِ الدَّعْوَى، وَإِلَّا فَالْحَقَائِقُ غَيْرُ مُتَعَانِدَةٍ فِي مَاهِيَّاتِهَا، فَإِنَّ مَنْ عَارَضَ هَذَا الْحَدَّ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُقْتَضِي سُلُوكَ النَّفْسِ فَلَيْسَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ تَعَانُدٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ مُنَافَاةٌ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُعَارَضَةُ فِي الْحُدُودِ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يُمْنَعُ، فَإِنَّ الْمَنْعَ يُشْعِرُ بِطَلَبِ الدَّلِيلِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يُبَرْهَنُ عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ، وَبَيَانُ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَنَّهُ فِي إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ. ثُمَّ فِي إثْبَاتِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَهَكَذَا إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، فَيَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ، وَهُمَا بَاطِلَانِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: يَجُوزُ مَنْعُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَجَازَ أَنْ يُصَادَمَ بِالْمَنْعِ كَغَيْرِهِ مِنْ الدَّعَاوَى. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَرْجِعَ الْمَنْعِ طَلَبُ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ عَلَى مَا قَرَّرُوهُ، وَلَيْسَ كُلُّ دَعْوَى تُصَادَمُ بِالْمَنْعِ بِدَلِيلِ الْأَوَّلِيَّاتِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا، وَلَمْ يُسْمَعْ مَنْعُهَا. وَقَالَ الْجَاجَرْمِيُّ فِي رِسَالَتِهِ " إنَّ هَذَا يَنْشَأُ عَنْ حَدِّ الْحَدِّ مَا هُوَ؟ حَتَّى يُنْظَرَ فِيهِ أَنَّهُ هَلْ يُمْنَعُ أَمْ لَا؟ وَالْحَدُّ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا وَقَدْ يَكُونُ رَسْمِيًّا.