الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ أَكْثَرَ الرُّويَانِيُّ فِي " الْحِلْيَةِ " مِنْ اخْتِيَارَاتِ خِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَيَقُولُ: فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ فِي فَتَاوِيهِ ": الصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ تُحْتَمَلُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَأَفْتَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بِالْقِيَامِ لِلنَّاسِ، وَقَالَ: لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ لَمَا كَانَ بَعِيدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِنْبَاطٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ لَا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ. فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَجِيبٌ.
[مَسْأَلَةٌ مُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَدَا الْمَذْكُورِ]
مُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَدَا الْمَذْكُورِ ذَكَرَهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " ذَيَّلَ هَذِهِ، فَقَالَ: مُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى سُقُوطِ مَا عَدَا الْمَذْكُورِ كَمَا يَدُلُّ عِنْدَ مَنْ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَالِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ. وَذَلِكَ عَلَى ضُرُوبٍ. أَمَّا سُكُوتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشَّيْءِ يُفْعَلُ بِحَضْرَتِهِ وَلَا يُنْكِرُهُ فَدَلِيلُ الْجَوَازِ. وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا الشَّيْءُ إذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ السُّقُوطِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ
اسْتِغْنَاءٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَيَانِ فِيهِ، وَلَيْسَ تَكْرِيرُ الْبَيَانِ وَاجِبًا فِي كُلِّ حَالٍ.
وَمَرَاتِبُ الِاسْتِدْلَالِ بِالسُّكُوتِ تَخْتَلِفُ، فَأَقْوَى مَا يَكُونُ مِنْهُ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْوَاقِعَةِ جَاهِلًا بِأَصْلِ الْحُكْمِ فِي الشَّيْءِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ «كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ الْجُبَّةُ فَقَالَ: انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك الصُّفْرَةَ وَسَكَتَ عَنْ الْكَفَّارَةِ» فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْ الْجَاهِلِ وَالسَّاهِي، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا، إذْ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ إهْمَالُ ذِكْرِهَا تَعْوِيلًا عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْحُكْمِ، وَدُونَ هَذَا فِي الْمَرْتَبَةِ خَبَرُ الْأَعْرَابِيِّ الْمُجَامِعِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَانَ قَوْلُهُ:(افْعَلْ كَذَا) دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ وَعَنْ زَوْجَتِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ فِي هَذَا الْخَبَرِ قَدْ أَنْبَأَ عَنْ عِلَّتِهِ، فَإِنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً، لِقَوْلِهِ:«هَلَكْت وَأَهْلَكْت» ، وَإِذَا كَانَ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ كَانَ دَلِيلُ السُّكُوتِ فِيهِ أَوْهَى وَأَضْعَفَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا خَرَجَ عَنْ السَّبِيلَيْنِ: ذَكَرَ اللَّهُ الْأَحْدَاثَ فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] فَإِنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِنَا تَعَلَّقُوا بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ إلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا وَجَّهَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُتَطَهِّرَ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ إلَّا بِحَدَثٍ وَمَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَدَثِ فَأَصْلُ الطُّهْرِ كَافٍ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ عليه السلام:«لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا» وَمَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ.
فَائِدَةٌ: ادَّعَى الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِتَصْرِيحِهِمْ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الْإِقْدَامِ إذْ ذَاكَ، إذْ لَا حُكْمَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْإِجْمَاعُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَقْدَمَ بِلَا سَبَبٍ، وَمَحَلُّ عَدَمِ الْحَرَجِ مَا إذَا أَقْدَمَ مُسْتَنِدًا إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَقِيلَ: بَلْ الْمَنْفِيُّ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ حَقٌّ، إذْ الْغَرَضُ أَنْ لَا حُكْمَ فَلَا جَوَازَ، لَكِنَّهُ إذَا أَقْدَمَ فَلَا يُعَاقَبُ إذْ لَا حُكْمَ.