الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَنْبِيهٌ [جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّخْيِيرُ] مَا وَقَعَ فِيهِ التَّخْيِيرُ قَدْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَقْلًا وَشَرْعًا، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ يُمْنَعُ عَقْلًا وَشَرْعًا، كَالتَّأْجِيلِ وَالتَّعْجِيلِ بِمِنًى، وَقَدْ يُمْكِنُ عَقْلًا لَا شَرْعًا كَالتَّزْوِيجِ مِنْ الْخَاطِبِينَ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ عَقِيمٌ. وَقَسَّمَ الصَّيْرَفِيُّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ إلَى مَا يَرْجِعُ لِشَهْوَةِ الْمُكَلَّفِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْأَصْلَحِ وَلَا لِلْمَسَاكِينِ، وَإِلَى مَا يَجِبُ فِيهِ اخْتِيَارُ الْأَصْلَحِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْمَلِينَ، كَتَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الْكَافِرِ الْأَسِيرِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، وَالرِّقِّ، وَكَأَخْذِ الصَّدَقَةِ إذَا اجْتَمَعَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَأَرْبَعُ حِقَاقٍ فِي فَرْضِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصْلَحَ لِلْمَسَاكِينِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَسَطُ مَالَهُ.
[تَتِمَّةٌ وُجُوبُ الْأَشْيَاءِ قَدْ يَكُونُ عَلَى التَّخْيِيرِ]
ِ] وُجُوبُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ قَدْ يَكُونُ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَرَامًا، كَالتَّزْوِيجِ مِنْ الْكُفْأَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ بِثَوْبٍ بَعْدَ ثَوْبٍ، وَقَدْ يَكُونُ نَدْبًا، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، كَذَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ " وَفِي الْأَوَّلِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنْ الْمُخَيَّرِ، نَعَمْ نَظِيرُهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ أَحَدَ
هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ. وَكَذَا تَمْثِيلُهُ الثَّانِي بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِثَوْبٍ زَائِدٍ عَلَى الثِّيَابِ الْمُسَوَّمَةِ، وَأَيْضًا فَالْمُبَاحُ لُبْسُ الثَّانِي، ثُمَّ الزَّائِدُ لَيْسَ بِسَاتِرٍ لِلْعَوْرَةِ، وَحُكْمُهُ بِالنَّدْبِ عَلَى الثَّالِثِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ نَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ.
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِالِاحْتِيَاطِ لَهُ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى تَعْدَادِ الرِّقَابِ فِيمَنْ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا بِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَكَانَتْ نَذَرَتْ تَرْكَ كَلَامِهِ أَعْتَقَتْ رِقَابًا كَثِيرَةً. وَلَعَلَّ مُرَادَ الْإِمَامِ أَنَّ الْجَمْعَ قَبْلَ فِعْلِهِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، بَلْ إذَا فَعَلَهُ بَعْدَ فِعْلِ غَيْرِهِ يَقَعُ مُسْتَحَبًّا بِنَاءً عَلَى ثَوَابِ النَّدْبِ كَالنَّافِلَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَيَشْهَدُ لَهُ تَمْثِيلُهُمْ لِلْمُخَيَّرِ الْمُبَاحِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ بِثَوْبٍ بَعْدَ آخَرَ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُمَثَّلَ لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَدْ يَكُونُ الْجَمْعُ حَرَامًا كَالْمُضْطَرِّ الْوَاجِدِ مُذَكَّاةً وَمَيْتَةً كَذَا مَثَّلَهُ فِي الْمَحْصُولِ "، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ إنَّمَا هُوَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، إذْ لَا تَدْخُلُ الْمُذَكَّاةُ فِي الْحُرْمَةِ، وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ إنَّمَا يَكُونُ لِعِلَّةٍ دَائِرَةٍ بَيْنَ الْمُفْرَدَيْنِ. وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، وَمَثَّلَهُ فِي الْمَحْصُولِ " بِالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَغَلِطَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَخْتَصُّ بِحَالِ الْعَجْزِ.
وَصَوَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا خَافَ مِنْ اسْتِعْمَالِ
الْمَاءِ لِمَرَضٍ وَلَمْ يَنْتَهِ خَوْفُهُ إلَى الْقَطْعِ أَوْ الظَّنِّ بِالضَّرَرِ الْمَانِعِ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ التَّيَمُّمُ، لِأَجْلِ الْخَوْفِ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْوُضُوءُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الضَّرَرِ، فَإِذَا تَوَضَّأَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ جَازَ، ثُمَّ خَدَشَ فِيهِ بِأَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ بَطَلَ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ، إذْ الْمُبِيحُ قَائِمٌ، وَيُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُوَرٍ: أَحَدُهَا: إذَا وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ، فَلَوْ تَيَمَّمَ، ثُمَّ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، أَرَادَ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِشِرَاءِ الْمَاءِ وَالْوُضُوءِ بِهِ جَازَ.
الثَّانِيَةُ: لَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِعَطَشٍ، وَلَوْ تَوَضَّأَ بِهِ لَاحْتَاجَ إلَى شِرَائِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا مَعَهُ فِي الْوُضُوءِ وَيَشْتَرِي الْمَاءَ لِلشُّرْبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَيَمَّمَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالَ مَا مَعَهُ وَشِرَاءَ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إذَا ارْتَفَعَ سِعْرُهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، وَحَاجَتُهُ إلَى الشُّرْبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الَّذِي مَعَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا تَوَضَّأَ بَطَلَ التَّيَمُّمُ إذْ لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بُطْلَانُهُ بَلْ التَّيَمُّمُ الْمُتَقَدِّمُ لَا يُبْطِلُهُ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إدْخَالُ عِبَادَةٍ عَلَى أُخْرَى وَهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: التَّيَمُّمُ لَا يَصِحُّ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ الَّذِي يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ. أَمَّا مَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَهُ كَهَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي صَوَّرْنَاهَا فَلَا.
وَيُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا أَيْضًا مَعَ تَأَخُّرِ التَّيَمُّمِ فِي صُوَرٍ. إحْدَاهَا: إذَا وَجَدَ مَاءً لِلْوُضُوءِ، ثُمَّ لَمْ يُوجَدْ مَاءٌ يَغْتَسِلُ بِهِ لِلْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ عَنْ الْغُسْلِ، وَمِثْلُهُ مُرِيدُ الْإِحْرَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ: جَوَازُ الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ: لَوْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى وَأَرَادَ التَّجْدِيدَ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ عِوَضًا عَنْ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ، كَمَا يَتَيَمَّمُ لِلْغُسْلِ عَنْ الْجُمُعَةِ. هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْفِقْهُ.
الثَّالِثَةُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ الْوَدَائِعِ " فِي الْمَاءِ الْمُخْتَلَفِ فِي طَهُورِيَّتِهِ، كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَالنَّبِيذِ الَّذِي يُجَوِّزُ أَبُو حَنِيفَةَ الطَّهَارَةَ بِهِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ.
الرَّابِعَةُ: الرَّائِدُ لِلْجُمُعَةِ إذَا وَجَدَ مَا لَا يَكْفِيهِ لِلْغُسْلِ، وَيَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ تَوَضَّأَ بِهِ وَتَيَمَّمَ، وَكَذَلِكَ مَرِيدُ الْإِحْرَامِ. كُلُّ التَّيَمُّمِ هَاهُنَا عَنْ الْغُسْلِ، وَهَذِهِ صُورَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الدَّوَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ صُورَةَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ بِعُضْوِهِ جِرَاحَةٌ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَتَيَمَّمُ عَنْ الْجَرِيحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ سَكَتَ فِي هَذَا الْقِسْمِ عَنْ الْمَكْرُوهِ الْجَمْعِ، وَالْوَاجِبِ الْجَمْعِ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْجَمْعِ مَعَ التَّرْتِيبِ فَلَا يُمْكِنُ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُرَتَّبِ فَكَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ وَالْمُذَكَّى لِلْمُضْطَرِّ.
فَائِدَةٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ: الْوَاجِبُ هَذَا وَالْآخَرُ بَدَلٌ عَنْ هَذَا، كَمَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، هَلْ الْوَاجِبُ الْقَوَدُ وَالدِّيَةُ بَدَلٌ عَنْهُ أَوْ أَحَدُهُمَا؟ أَنَّ الثَّانِيَ فِيهِ تَرْتِيبٌ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَالْأَوَّلُ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ. فَائِدَةُ ثَانِيَةٌ حُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَمَرَ اللَّه بِأَشْيَاءَ، وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ نَظَرْت، فَإِنْ بَدَأَ بِالْأَغْلَظِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْأَخَفَّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى التَّرْتِيبِ بِدَلِيلِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْأَخَفِّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى التَّخْيِيرِ بِدَلِيلِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ". وَقَدْ يُورَدُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ قَتْلِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهَا مَبْدُوءَةٌ بِالْأَغْلَظِ، وَهُوَ إيجَابُ مِثْلِ الصَّيْدِ مَعَ أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ. نَعَمْ حَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ كَفَّارَاتِ النُّفُوسِ لَا تَخْيِيرَ فِيهَا، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ: كَلِمَةُ " أَوْ " مَتَى ذُكِرَتْ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَسْبَابِ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ، كَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ، وَإِلَّا فَلِلتَّخْيِيرِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهِ " أَوْ " فَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إلَّا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] فَلَيْسَ بِمُخَيِّرٍ فِيهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَبِمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَقُولُ. أَيْ: إنَّهَا لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ بَلْ لِبَيَانِ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحُرْمَةِ، وَمِثْلُهُ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» فَإِنَّ أَصَحَّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَخَيَّرُ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ " أَوْ " فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ أَيْ: صَاعًا مِنْ
تَمْرٍ إنْ كَانَ غَالِبَ قُوتِ بَلَدِهِ، أَوْ مِنْ شَعِيرٍ إنْ كَانَ غَالِبَ قُوتِ بَلَدِهِ. تَنْبِيهٌ [تَمْثِيلُ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِآيَةِ الْكَفَّارَةِ] اسْتَشْكَلَ الْعَبْدَرِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى " تَمْثِيلَ الْأَئِمَّةِ لِلْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِآيَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ " أَوْ " تَكُونُ فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ وَفِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ لِلْإِبَاحَةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ الْفِعْلَيْنِ فِي التَّخْيِيرِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِذَا فَعَلَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فِي الْإِبَاحَةِ كَانَ مُطِيعًا. قَالَ: فَالشَّائِعُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ تُسَمَّى الْكَفَّارَةُ وَاجِبًا مُبَاحَةٌ أَنْوَاعُهُ، لَا وَاجِبَ مُخَيَّرٍ فِي أَنْوَاعِهِ. وَهَذَا السُّؤَالُ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْبَسِيطِ " عَنْ النَّحْوِيِّينَ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَحْظُورِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْأَمْرُ، وَالْآخَرُ يَبْقَى مَحْظُورًا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا عَدَا الْوَاجِبِ تَبَرُّعًا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّبَرُّعِ. وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ فِي الْجَمْعِ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهُ الْوَاجِبُ، أَمَّا لَوْ أَتَى بِالْجَمِيعِ لَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ جَائِزٌ قَطْعًا، وَأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَجَوَازُ غَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا لَمْ يَجُزْ، كَمَا إذَا قَالَ: بِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ ذَاكَ.
فَائِدَةٌ [الْأَبْدَالُ تَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلَاتِ] قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي الْقَوَاعِدِ ": الْأَبْدَالُ إنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلَاتِ فِي وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِهَا إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ مُبْدَلَاتِهَا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِالْإِتْيَانِ بِهَا، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُمَا لَيْسَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ الْأَجْرَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، وَلَيْسَ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْإِعْتَاقِ وَلَا الْإِطْعَامُ كَالصِّيَامِ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ التَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ إذْ لَوْ تَسَاوَتْ الْأَبْدَالُ وَالْمُبْدَلَاتُ لَمَا شُرِطَ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْأَبْدَالِ فَقْدُ الْمُبْدَلَاتِ. اهـ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ أُمُورٌ مِنْهَا: الْجُمُعَةُ بَدَلٌ مِنْ الظُّهْرِ عَلَى رَأْيٍ مَعَ أَنَّ حُكْمَهَا عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ اشْتِرَاطِ تَعَذُّرِ الْمُبْدَلِ، فَإِنَّهُ هُنَا أَعْنِي الْجُمُعَةَ لَا تُعْدَلُ إلَى الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُبْدَلِ. فَمَنْ لَازَمَهُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ هَاهُنَا أَفْضَلَ مِنْ الْمُبْدَلِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَعْدِلُ مِنْ شَيْءٍ إلَى آخَرَ لِلْأَفْضَلِيَّةِ غَالِبًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى مَا إذَا كَانَ سَبَبُ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مُتَّحِدًا، كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ، أَوْ عَلَى الْغَالِبِ، أَوْ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْبَدَلُ أَخَصَّ مِنْ الْمُبْدَلِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، ثُمَّ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ قِيلَ: إنَّهُ بَدَلٌ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الْوُضُوءِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْغَسْلُ أَوْ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، وَالْحَقُّ خِلَافُهُ كَمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّخْيِيرِ.
مَسْأَلَةٌ [الْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَزِيدَ عَنْ وَقْتِهِ وَإِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ] الْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى وَقْتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ إيقَاعَ الْفِعْلِ جَمِيعِهِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي لَا يَسَعُهُ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ. يُجَوِّزُهُ مَنْ يُجَوِّزُهُ وَيَمْنَعُهُ مَنْ يَمْنَعُهُ، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيُتِمَّ بَعْدَهُ، أَوْ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ وَيَفْعَلَهُ كُلَّهُ بَعْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ، كَإِيجَابِ الظُّهْرِ عَلَى مَنْ زَالَ عُذْرُهُ آخِرَ الْوَقْتِ، فَأَدْرَكَ قَدْرَ رَكْعَةٍ مِنْ آخِرِهِ، وَكَذَا تَكْبِيرَةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ قَدْرَ إمْكَانِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ. وَإِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ وَيُسَمَّى " بِالْمِعْيَارِ " كَالصَّوْمِ الْمُعَلَّقِ بِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَوَقْتِ الْمَغْرِبِ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَكَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْعَمَلِ فِيهِ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ.
[الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ] وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ التَّسَاوِيَ إلَى مَا يَكُونُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَقَضَائِهِ، وَأَثْبَتُوا مِنْ الْأَقْسَامِ مَا لَا يُعْلَمُ زِيَادَتُهُ وَلَا مُسَاوَاتُهُ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُشْكِلُ كَالْحَجِّ. وَإِمَّا نَاقِصٌ عَنْهُ كَالصَّلَاةِ، وَيُسَمَّى " الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِهِ، وَهُمْ الْجُمْهُورُ، وَالْإِشْكَالُ فِيهِ وَفِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ سَوَاءٌ، إذْ لِأَجْلِهِ أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ
هُنَا، وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَلْزَمُهُ الْمَنْعُ مِنْ التَّرْكِ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ إخْلَاؤُهُ عَنْ الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْوُجُوبَ. وَحَلُّ الْإِشْكَالِ فِيهِمَا أَنْ يُقَالَ: كُلُّ فَرْدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْرَادِ أَعْنِي: مِنْ أَفْرَادِ الْوَقْتِ وَأَفْرَادِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ لَهُ جِهَةُ عُمُومٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَجِهَةُ خُصُوصٍ وَهُوَ مَا بِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمُتَعَلَّقُ الْوُجُوبِ جِهَةُ الْعُمُومِ وَتِلْكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا بِوَجْهٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُتْرَكُ فِي الْمُوَسَّعِ بِإِخْلَاءِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَفِي الْمُخَيَّرِ تَرْكُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يُوجَدْ الْمُنَافِي لِلْوُجُوبِ، فَهُوَ جَائِزُ التَّرْكِ فِيمَا جَعَلْنَاهُ مُتَعَلَّقَ الْوُجُوبِ. أَمَّا جِهَةُ الْخُصُوصِ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لِجَوَازِ تَرْكِهَا إلَى غَيْرِهَا وَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا.
قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ اضْطَرَبَ الْمُحَصِّلُونَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ، فَقِيلَ: إنَّمَا يَعْصِي بِتَفْوِيتِهِ وَلَا تَفْوِيتَ إلَّا بِالْمَوْتِ، وَالزَّمَانُ ظَرْفٌ لِلْوُجُوبِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُنْسَبُ إلَى زَمَانٍ، كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الثَّانِي، فَقِيلَ لَهُمْ: الْعَزْمُ نَتِيجَةُ الِاعْتِقَادِ ضَرُورَةً لَا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَلَا يُتَخَيَّلُ ذَلِكَ مَعَ التَّمَكُّنِ. اهـ. إذَا عَرَفْت هَذَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّ الْمُوَسَّعَ مَوْجُودٌ وَالْوَقْتُ جَمِيعُهُ