الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
واعلم أنّ القبر أوّل منازل الآخرة، كما أخرجه ابن ماجه عن سيدنا عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبلّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنَّة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا ذُكر القبر؟ قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ القبرَ أوّل منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشدّ منه"(1). وقال صلى الله عليه وسلم: "مار أيتُ منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه"(2).
وأخرجه الترمذي، وزاد فيه: وسمعت عثمان يُنشد على قبر:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
…
وإلا فإني لا أخالك ناجيا
قلت: وأنكر الحفاظ هذه الزيادة وقال بعضهم: ليست هذه الزيادة في الترمذي، والله أعلم (3).
قال القرطبي (4): القبرُ واحد القبور في الكثرة، وأقبرٌ في القلّة، ويقال للمَدفن مقبر قال الشاعر:
لكلّ أناس مقبرٌ بفنائهم
…
فهم ينقصون والقبور تزيد
قال: واختُلف في أوّل من سنّ القبر، فقيل: الغُراب لما قتل
(1) أخرجه ابن ماجه (4267)، والترمذي (2308)، وعبد الله بن أحمد 1/ 63 (454)، والحاكم 4/ 330 - 331، والبيهقي في "الشعب"(397)، وحسنه الترمذي والحاكم.
(2)
انظر التخريج السابق وسيأتي في ص 215 ت (1).
(3)
هذه الزيادة ليست في المطبوع من الترمذي.
(4)
"التذكرة" 1/ 118.
قابيل هابيل، وقيل بنو إسرائيل، وليس بشيء، وقد قيل: إنّ قابيل كان يعلمُ الدفن، ولكن؛ ترك أخاه استخفافًا به، فبعث الله غُرابًا يبحثُ في الأرض، يعْني يبحثُ الترابَ على هابيل ليدفنه، كذا في "التذكرة"، فقال: عند ذلك {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المَائدة: الآية 31] حيث رأى كرامة الله لهابيل، بأن قيّض الله الغراب حتى واراه، ولم يكن ذلك ندم توبة.
وقيل: ندمه إنما كان على فقده لا على قتله، وقيل: على عدم معرفته الدّفن، فقد قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: لو كان ندمه على قتله لكان ندمه توبة (1).
ويقال: إنه لمّا قتله قعد يبكي عند رأسه، إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فدفنه، ففعل قابيل بأخيه كذلك، فكان ندمُه لعدم هدايته أن يفعل كَما فَعل الغُراب، فكان الدّفن سنّة في بني آدم. وفي التنزيل {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)} [عَبَسَ: الآية 21] أي جعل له قبرًا يُوارى فيه إكرامًا له، ولم يجُعل ممّا يُلقى على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي، قاله الفرّاء (2).
فائدة: الأفضل في القبر أن يكون مُسنمًا، وأن يُرفع قدر شبر، إلّا بدار حرب فالأولى تسويته بالأرض، وإخفاؤه ولا يُجصّص القبر، ولا يُزوّق ولا يُخلّق أي يبخّر، ولا يُقبّل.
(1) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 6/ 142.
(2)
ذكره القرطبى في "الجامع لأحكام القرآن" 19/ 219. معاني القرآن (3/ 237).
فقد روى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه (1).
وأخرج التّرمذيّ عنه: نهي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تُجصّص القُبور، وأن يُكتَب عليها، وأن يُبنى عليها، وأنْ تُوطأ. وقال: حديث حسن صحيح (2).
قُلْتُ: وجزم صاحب (3)"الإقناع" بكراهة تجصيص القبور (4).
وأمّا شيخ الإسلام، وتلميذه المحقق فشن الغارة على فاعل ذلك، قال في "التذكرة"(5)؛ لأنّ ذلك من المباهاة فيه، وزينة الحياة الدنيا، وهو من منازل الآخرة، وليس بموضع المباهاة وإنما يُزيِّن الميتُ في قبره عمله.
وقد قلت في ذلك نظمًا:
ولربّ قبر في القبور منقّشا
…
سطحا وجوف القبر شعلة نار
ما النقش يُغني ظالمًا عن ظلمه
…
كلّا ولا التزويق يُرضي الباري
ما زينةُ الأمواتَ في جدث سوى
…
فعلِ الجميل وصُحبة الأخيار
(1) رواه مسلم (970)، والنسائي 3/ 339، والإمام أحمد 3/ 255، وابن حبان (3165)، والبيهقي 4/ 4.
(2)
رواه الترمذي (1052)، وأبو داود (3226)، والنسائي 4/ 86، وابن ماجه (1563)، والإمام أحمد 3/ 295، وابن حبان (3164)، والحاكم 1/ 370، والبيهقي 4/ 4.
(3)
كلمة (صاحب) ليست في (ب).
(4)
"الإقناع" ص 60.
(5)
"التذكرة" 1/ 119.
وفي صحيح مسلم عن عليّ كرّم الله وجهه: "لا تَدَعْ تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلّا سوّيته"(1).
وإنما قالت العُلماء: يُسنَّم القبرُ ليعرف فيحترم، لا أنه يُتّخذ مَعبدًا فيمُنع من الارتفاع الكثير الذي كانت الجاهلية تفعله، فإنها كانت تُعلى عليها، وتبني فوقها تفخيمًا وتعظيمًا، ومن ثَمّ شَدّد النكير الإمامُ المحققُ غاية التشديد على فعل ذلك (2)، وقال: إن فاعل ذلك من إخوان الكفار عَبَدةِ الأحجار. ذكره في المجلد الثاني من "الهدى"(3).
وما أحسن قول القائل:
أرى أهل القُصور إذا أميتوا
…
بنوا في المقابر بالصّخور
أبَواْ إلّا مُباهاة وفَخْرًا
…
على الفُقراء حتى في القبور
لعمرُك لو كشفْتَ التّرب عنهم
…
لمَا تدْرِي الغنيَّ من الفقير
ولا الجلدَ المباشرَ ثوبَ صوفٍ
…
من الجلد المباشِر للحرير
إذا أكلَ الثّرى هذا وهذا
…
فما فضلُ الغنيّ على الفقير
يا هذا أين الذي جمعتَهُ من المال؟ وأعددتَه للشدائد والأهوال.
لقد أصبحت كفك منه صفرًا، وبُدّلت من بَعد غناك فقرا، فكيف أصبحت يا رهين أوزاره؟!
ويا من سُلِب من ماله وداره؟!
ما كان أخَفى عليك سبيل الرّشاد، وأقل اهتمامك بحمل الزاد،
(1) مسلم (969) وقال في رواية: "ولا صورة إلا طمستَها".
(2)
في (ب) تقديم وتأخير في بعض العبارات.
(3)
"زاد المعاد" 1/ 524.
فيا من غرّه طول الأمل. أما تفكّرت فيمن قبلك عن أهله قَدِ أرتَحَل؟!
ويا مَن غرّه طولُ العمر: أفلا يتفكر في حاله وهو في القبر؟!
ويا من أعجبته شُرُفات قصره، أمَا يتأمّل في ظُلمات قبره؟
ويا من اغتر بإخوانه ونجدته. ألا يتذكّر حالته في وحدته؟ أنَسي ما صار إليه إخوانه؟!
أم لم يعتبر فيما سار إليه أقرانه؟!
أمَا سمعَ قول الرسول لمن في فعل الخير جدوا، وقد جلس على قبر [يا إخواني](1) لمثل هذا فأعِدّوا.
أوما سمع قول الذي خلق فسوى. {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البَقَرَة: الآية 197].
وما أحسنَ قول القائل:
تزوّد من معاشك للمعاد
…
وقُمْ لله واعمل خير زاد
ولا تجمع من الدنيا كثيرا
…
فإن المال يجمع للنّفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم
…
لهم زادٌ وأنت بغير زاد
وقول الآخر: (2)
(1) ليست في (أ) والمثبت من (ب)، ومثبتة في التذكرة (1/ 151).
(2)
نسبه ابن هشام في "السيرة النبوية" 1/ 414. إلى أعشى بني قيس بن ثعلبة عند خروجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مريدًا الإسلام، فأنشأ مادحًا النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة مطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
…
وبت كما بات السليم مسهدا