المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في التذكر بأهل القبور والتفكر في أحوالهم، وذكر طرف من أحوال السلف الصالح في ذلك - البحور الزاخرة في علوم الآخرة - جـ ١

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمةفي ذِكْرِ الموتِ وما يتعلقُ بِهِ، والرُّوح

- ‌الفصل الأول في النَّهْي عن تمَنِّي الموتِ وحِكْمتِه

- ‌الفصل الثاني في فَضْلِ المْوتِ وَذِكْرِهِ

- ‌الفصل الثالث في علامة خاتمة الخير، ومن دنى أجله، والكلام على شدة الموت

- ‌الفصل الرابع فيما يقول الإنسان في مَرض الموت وما يقرأ عنده. وما يقال إذا احتضر وتوابع ذلك

- ‌الفصل الخامس فيما جاء في ملك الموت وأعوانه

- ‌الفصل السادس فيما يحضر الميت من الملائكة وغيرهم وما يَراه المحتضر، وما يقال له، وما يبشر به المؤمن، وينذر به الكافر

- ‌الفصل السابع في الكلام على الروح وما يتعلق بذلك

- ‌خاتمة

- ‌الكتاب الأول في أحوال البرزخ

- ‌البابُ الأول في ذكر حال الميت عند نزوله قبره، وسؤال الملائكة له، وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه، وما يرى من منزله في الجنة والنّار، وكلام القبر للميت عند نزوله إليه

- ‌فصل في كلام القبر للميت عند نزوله

- ‌فصل

- ‌تَتِمَّة:

- ‌فصل

- ‌فوائد

- ‌فصل في فظاعة القبر وسعته على المؤمن وضيقه على الكافر وفي ضمة القبر

- ‌من أسباب ضمة القبر

- ‌فائدتان:

- ‌البابُ الثاني في عذاب القبرِ ونعيمه

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثالث فيما ورد من سَماع الموتى كلامَ الأحياء وتلاقيهم، ومعرفتهم بحالهم بعد الموت، وحال أقاربهم في الدنيا، ومحل الأرواح فى البرزخ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي:

- ‌فصل

- ‌تتمة

- ‌فصل

- ‌تنبيه

- ‌الباب الرابع في ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنوّرها عليهم، وفي زيارة الموتى والاتّعاظ بحالهم والتفكر بهم

- ‌فصل

- ‌تنبيه

- ‌فصل

- ‌تنبيه

- ‌فصل في التذكر بأهل القبور والتفكر في أحوالهم، وذِكْر طرفٍ من أحوال السلف الصالح في ذلك

- ‌فوائد:

- ‌الأولى:

- ‌الثانية:

- ‌الثالثة:

- ‌ الرابعة:

- ‌الخامسة:

الفصل: ‌فصل في التذكر بأهل القبور والتفكر في أحوالهم، وذكر طرف من أحوال السلف الصالح في ذلك

‌فصل في التذكر بأهل القبور والتفكر في أحوالهم، وذِكْر طرفٍ من أحوال السلف الصالح في ذلك

.

أخرج الإمام أحمدُ والترمذي والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"استحيوا من الله حق الحياء" وقالوا: إنا نستحي والحمد لِلّه، قال:"ليس ذاك ولكن: الاستحياء من الله حق الحياء أنْ يحفظَ الرأس وما وَعى ويحفظَ البطنَ وما حوى، وليذكر الموتَ والبلى ومَنْ أرادَ الآخرة تركَ زينةَ الدُنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء"(1).

وأخرج الترمذي والحاكم عن أسماء بنتِ عُميس رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس العبدُ عبد تخيَّلَ واختال، ونسى الكبير المتعال، بئس العبدُ عبدٌ تجبَّرَ واعتدى ونسى الجبارَ الأعلى، بئس العبدُ عبدٌ سها ولهى ونسى المقابِر والبلى، بئسَ العبدُ عبد عتا وطَغَى ونسى المبتدأ والمنتهى، بئس العبدُ عبدٌ يَخْتِلُ الدنيا بالدِّين، بئس العبدُ عبدٌ يَخْتِلُ (الدين)(2) بالشبهات، بئسَ العبدُ عبدٌ طمع يقوده للنار (3)، بئس العبدُ

(1) رواه أحمد 1/ 387 (3671)، والترمذي (2458)، وأبو يعلى (5047)، والحاكم 4/ 323. وإسناده ضعيف.

(2)

في (ب): (للسيادة).

(3)

كلمة (للنار) ليست في (ب) وفي الترمذي: يقوده.

ص: 401

عبدٌ هَوى يُضلُّهُ، بئسَ العبدُ عبدُ رغَبٌ يُذله" (1).

وأخرج ابن أبي الدنيا أن رجُلا قال: يا رسول الله من أزهدَ الناس؟ قال: "من لم ينس القبر والبلى، وترك فضلَ زينةِ الدُنيا، وآثِر ما يبقى على ما يَفْنَى، ولم يَعُدّ غدًا من أيامه، وعدَّ نفسه من أهل القبور"(2).

وأخرج الترمذي عن ابن عُمرَ رضي الله عنهما، قال: أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بمنكبي فقال:"كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل وعُدَّ نفسَكَ من أهل القبُور"(3).

وخَرَّج البخاريُّ أوله (4).

وذَكَر الحافظ في "أهوال القبورِ"(5) عن محمد بن كعب القُرظي، قال: بعث إليّ عمر بن عبد العزيز، فقدمت عليه فأدمت النظر إليه فقال لي: يا ابن كعب إنك لتنظرُ إليّ نظرًا ما كُنتَ تنظُره إليّ بالمدينة قال: فقلتُ: أجل يا أمير المؤمنين، يعجبني ما حال من لونك، ونحل من جسمك، قال: فكيف بك يا ابن كعب لوْ رأيتَني بعد ثالثةٍ في

(1) رواه الترمذي (2448)، والحاكم 4/ 316.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي.

(2)

رواه البيهقي في الشعب (10565) من حديث الضحاك بن مزاحم مرسلًا.

(3)

رواه الترمذي (2333). وهو في الصحيح دون زيادة "وعد نفسك من أهل القبور".

(4)

البخاري (6416).

(5)

القبور ص 115، "أهوال القبور" ص 243.

ص: 402

القبور، وقد نَتِنَتْ حَدَقتايّ! وفي نسخة: عيناي على وجنتي، وخرَجَ الدّودُ والصّديدُ من منخري، لكنتَ لي أشد نُكرة (1).

وقال رجلٌ لعمرَ بن عبد العزيز رضي الله عنه، تغيّرتَ بعدنا فقال له عمر: وتبيّنتَ ذلك فقال له: الأمر أعظم من ذلك، فقال له: يا أبا فُلان: فكيفَ لو رأيتَني بعد ثلاث، وقد أدخلتُ قبري، وقد خَرجَت الحدقتانِ فسالتا على الخدينِ، وتقلَّصتِ الشفتان عن الأسنان، وانفتح الفم ونتأ البطن فَعَلىَ على الصّدر، وخرج الصديد من الدُبر (2).

قال الحافظ وقد رُوي عنه من وُجوه متعددة، أنَّه قال في آخر خُطبة خَطَبها رضي الله عنه: ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، ثم يرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كلّ يومٍ تُشيعون غاديًا ورائحا قد قُضى به نحبه، فتودعونه، وتَدَعُونه في صاع من الأرض غير ممهد، ولا مُوَسَّد، قد فارق الأحباب وخلع الأسباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنيًا عما خَلَّفَ فقيرًا إلى ما قدم (3).

وكان ينشدُ هذه الأبيات، قال الحافظ ويروى أنه كان في جنازة

(1) رواه ابن سعد في الطبقات 5/ 371.

(2)

رواه البيهقي في "الشعب"(7437).

(3)

حلية الأولياء 5/ 266 و 287 و 295.

ص: 403

في مقبرة، فرأى قومًا يهربون من الشمس إلى الظل، فأنشدها وهي هذه:

من كانَ حينَ تُصيب الشمسُ جبهته

أو الغبار يخافُ الشين والشعثا

ويألفُ الظلَّ كي تبقى شبابتهُ

فسوفَ يسكنُ يومًا راغمًا جدثا

في ظلِّ مقبرة غبراء مُظْلمةٍ

يُطيل تحتَ الزى في غمها اللُّبثا

تجهزي بجهاز تبلغين به

يا نفسُ قبل الردَى لم تُخْلَقي عبثا

وأخرج ابن أبي الدُنيا أن محمد بن واسع دخل على بلال بن أبي بردة فسأله عن القَدر، فقال له: جيرانكُ من أهل القبور فكر فيهم، فإن فيهم شُغلًا عن القَدر.

وقال مُغيث الأسود الزاهد: زوروا القبور كُل يوم تفكركم (1).

قال النصرُ بن المنذر لإخوانه: زوروا الآخرة في كل يوم بقلوبكم، وشاهدوا الموقف بتوهمكم، وتوسدوا القبور بقلوبكم، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة، فمختارُ لنفسه ما أحب من المنافع والضرر (2).

قال الحافظ: كانَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يقولُ في خطبته: أين الوضاءة الحسنةُ وجوههمُ، المعجبون بشبابهم، الذين كانوا لا يُعطون الغلبة في مواطن الحرب، أين الذين بَنَوا المدائن وحَصَّنوها بالحيطان، قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا في ظلمات

(1) رواه أبو الشيخ في "العظمة"(29)، وأبو نعيم في "الحلية" 10/ 143.

(2)

"أهوال القبور" ص 238: 242.

ص: 404

القبور، الوحا الوحا النجا النجا (1).

وأخرج ابن أبي الدُنيا أنه مرّ على الحسن شابٌ وعليه بزةٌ حسنة، فدعاه فقال: ابن آدم معجبٌ بشبابه، معجبٌ بجماله، كأنَ القبر قد وارى بدنك، وكأنك قد لاقيتَ عملك، ويحك دَاوِ قلبك، فإن حاجة الله إلى عباده صلاحُ قلوبهم (2).

وقال عبيد الله بن العيزار: لابن آدمَ بيتان، بيتٌ على ظهر الأرض، وبيتٌ في بطن الأرض، فعمَد إلى الذي في ظهر الأرض فزخرفه، وزيَّنه وجعلَ فيه أبوابا للشمال وأبوابًا للجنوب، ووضع فيه ما يُصلحه لشتائه وصيفه، ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض، فخرَّبَه فأتى عليه فقال: أرأيت هذا الذي قد أصلحته كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري قال: فالذي خرّبته كم تقيم فيه؟ قال فيه مقامي، قال: تقر بهذا على نفسك، وأنت رجل تعقل (3).

وعن الحسن قال: يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط ليلة تبيتُ مع أهل القبور ولم تبت قبلها، وليلة صبيحتُها يومُ القيامة، ويوم يأتيك البشير فيه من الله تعالى، إما إلى الجنَّة وإمَّا إلى النار، ويوم تُعطى كتابُك إما بيمينك وإما بشمالك (4).

قال الحافظ: وكان أبو عمران الجوني يقول: لا يغرنكم من

(1) حلية الأولياء 1/ 34 و 10/ 325 وإسناده منقطع.

(2)

الحلية 2/ 154، لعل الحسن لا يقصد الحاجة بمعنى الطلب وإنما مقصوده رحمه الله العبادة وكل عبارة ترد في هذا الكتاب حاجة الله فإن المراد به العبادة،

(3)

القبور ص 104، "أهوال القبور" ص 244.

(4)

القبور ص 121. رواه البيهقي في "الشعب" 7/ 388 من رواية الزهري عن أنس موقوفًا.

ص: 405

ربكم طول النسية، وحسن الطلب، فإن أخذه أليمٌ شديد حتى متى تبقى وجوه أولياء الله بين أطباق الثّرى؟ فإنما هم محبوسون لبقية آجالهم، حتى يبعثهم الله إلى جنته وثوابه.

وذكر ابن أبي الدنيا عن حامد بن أحمد بن أسد، قال: أخذت بيد علي بن جبلة يومًا فأتينا أبا العتاهية فوجدناه في الحمام، فانتظرناه فلم يلبث أن جاء، فدخل عليه إبراهيم بن مقاتل بن سهل وكان جميلًا فتأمله أبو العتاهية وقال متمثلا:

يا حسان الوجوه سوف تمو

تون، وتبلى الوجوهُ تحت التراب

فأقبل على ابن جبلة فقال اكتبْ:

يا مربيّ شبابه للتُراب

سوفَ يلهو البِلا بغضِّ الشباب

يا ذوي الأوجه الحِسانِ المصونا

ت وأجسامها الغضاضُ الرطاب

أكثروا من نعيمها وأقلوا سوف تهدونها لعفر التراب

قد نعتكَ الأيام نعيًا صحيحًا بفراق الإخوان والأصحاب

فقال أبو العتاهية: قُل يا حامد: قلت معك ومع أبي الحسن قال نعم فقلتُ:

يا مقيمين ارحلوا للذهاب

لشفير القبور حط الركاب

نعموا الأوجه الحسان فما صَوْ

نُكمُوها إلَّا لعفر التراب

وألبسوا ناعم الثياب ففي الحف

ـرِة تعرون من جميع الثياب

قد ترون الشباب كيف يموتونَ

إذا استنضروا بماء الشباب (1)

قال ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن خلف قال: سمعت أبي قال:

(1) القبور ص 161، "أهوال القبور" ص 246.

ص: 406

رجعنا من دفن ميت مع ابن السماك، فأنشأ ابن السماك يقول:

يَمُر أقاربي جنباتِ قبري

كأن أقاربي لا يعرفوني

وذُو الميراث يقتسمون مالي

ولا يألون أن جَحدوا ديوني

وقد أخذوا سهامهم وعاشوا

فبالله، أسرع ما نسوني

وقال ابن السماك أيضًا لما انصرفت الناس من جنازة داود الطائي رحمه الله:

انصرف الناس إلى دورهم

وغُودر الميت في رمسه

مرتهنُ النفس بأعماله

لا يرتجى الإطلاقَ من حبسه

لنفسه صالح أعماله

وما سواها فعلى نفسه

ولبعضهم:

قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها

لله درّك ماذا تستر الحفُر

ففيهم لك يا مغرورُ

موعظة وفيهم لك يا مغترُ معتبر

ولبعض المتقدمين:

تزوَّد قرينا من فعالك إنما

قرينُ الفتى في القبرِ ما كان يعملُ

وإن كنت مشغولًا بشيء فلا تكن

لغير الذي يَرضَى به الله تشغلُ

فلن يصحبَ الإنسانُ من بعد موته

إلى قبره إلَّا الذي كان يَفعل

ألا إنما الإنسان ضيفٌ لأهله

مقيمٌ قليلا عندهم ثم يرحل (1)

وقال مؤلّف هذا الكتاب، وقلبه في طماطيم التّحسّر والالتهاب شعرًا:

(1)"أهوال القبور" ص 244: 248.

ص: 407

تنبّه قبل الموت إن كنت تعقلُ

فعمّا قليل للمقابر تُنقَل

وتمُسي رهينا في القبور وتُنسَى

لدى جدثُ تحت الثرى تتجندل

فريدًا وحيدًا في التراب وإنما

قرين الفتى في القبر ما كان يَعمل

فوا أسفىَ ما يفعلُ الدود والثرى

بوجهٍ جميل كان لِلهِ يخجَل

وما يفعل الجسمُ الوسيم إذا ثوى

وصارَ ضجيعَ القبر يعلوه جندل

وبطنى بَدا فيه الرَدى ثم لو ترى

دقيق الثرى في مقلتي يتهرول

أعينايَ جُودا بالدمُوع عليكما

فحزني على نفسي أحق وأجملُ

أيا مدّعي حُبِّي هلمّ بنا إذا

بكى الناسُ نبكي للفراق ونهملُ

دَعِي اللهوَ نفسي واذكري حفرة البلا

وكيفَ بنا دود المقابر يفعل

إلى الله أشكو لا إلى الناس حالتى

إذا صرتُ في قبري فريدًا أململ

ولبعضهم:

أبقيْتَ مالك ميراثًا لوارثه

فليتَ شعري ما يُبقي لك المالُ

القومُ بعدك في حال تسرُهم

فليتَ شعري ما آلت بك الحالُ

مَلُّوا البكاء فما يبكيك من أحد

واسْتحكم القيلُ في الميراث والقالُ

مالت بهم عنك دنيا أقبلت لهم

وأدبرت عنك والأيام أحوال

تتمّه في حكايات غريبة، وأخبار عجيبة عن الموتى

منها ما رواه الحافظ الذّهبي (1)، أن أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله، أحد أئمة الحديث، دعاه الواثق إلى القول بخلق القرآن فأبى، فضرب عنقه وصُلب رأسه ببغداد، ووُكِّلَ بالرأس مَنْ يَحفظه، ويصرفُه

(1) انظر "سير أعلام النبلاء" 11/ 167 - 168.

ص: 408

عن القِبلة برمح فذكر الموكل به، أنه رآه بالليل يستديرُ إلى القبلة ويقرأ سورة يس بلسان طلق.

قال الذهبي: رويتْ هذه الحكاية من غير وجه، ومنْ طُرُقها: ما أخرجه الخطيب، عن إبراهيمَ بن إسماعيل بن خلف قال: كان أحمد بن نصرٍ خالي، فلما قتُل في المحنة وصلب أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن، فمضيت فبتُ قريبًا منه فلما هدأت العيون سمعت الرأس يقرأ {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: 1، 2] فاقشعرّ جلدي (1).

ومنها ما ذكره ابن عساكر عن عمير بن حبَّاب السلمي، قال (2): أسرت إنا وثمانية معي في زمان بني أميّة، فأدخلنا على ملك الروم، فأمر بأصحابي فضُربت رقابهم، ثم أني قُدّمت لضرب عُنُقي، فقام إليه بعضُ البطارقة، فلم يزل يُقبل رأسه ورجليه ويطلبُ أن يهبني إليه، حتى وهبني له فانطلق إلى منزله فدعا ابنة له جميلة فقال لي: هذه ابنتي أزوجك بها وأقاسمك مالي، وقد رأيت منزلتي من الملك، فادخل في ديني حتى أفعل بلث هذا، فقلت: ما أئرك ديني لزوجة ولا لدنيا، فمكث أيامًا يعرض علي ذلك فلا أجيب، فدعتني ابنتُه إلى بستان لها، فقالت: ما يمنعك مما عرض عليك أبي، فقلت: ما أترك لامرأة ولا لشيء، فقالت: أتحبُّ المكثَ عندنا أو، اللحاق ببلادك؟ فقلت:

(1) الخبر في صفة الصفوة 3/ 364.

(2)

"تاريخ دمشق" لابن عساكر: 46/ 473.

ص: 409

الذهاب إلى بلادي، قال: فأرتني نجمًا في السّماء وقالت: دِرْ على هذا النجم باللّيل وأكمن بالنهار، فإنه يُلقيك إلى بلادك، ثم زوَّدَتنْي وانطلقتُ، فسرتُ ثلاث ليال أسيرُ بالليل وأكمن بالنهار، فبينا أنا اليوم الرابع مكمن فإذا الخيل فقلت: طُلبت فأشرفوا علي، فإذا بأصحابي المقتولين على دواب معهم آخرون على دواب شهب، فقالوا: عُمير؟ قلت: عُمير، فقلت: أوليس قد قُتلتم قالوا: بلى، ولكن الله نشر الشهداء، وأذن لهم أن يشهدوا جنازة عُمر بن عبد العزيز، فقال لي بعض الذين معهم: ناولني يدك يا عُمير فناولته يدي، فأردفني خَلفه ثم سرنا سيرًا ثم قذف بي قذفة وقعتُ قرب منزلي بالحيرة من غير أن يكون لحقني شيء.

ومنها ما ذكره الإمام ناصر السنة الحافظ ابن الجوزي في "عيون الحكايات"، بسنده عن أبي علي البربري، وهو أوّل من سكن طرسوس، حين بناها أبو سليم قال: إن ثلاثة إخوة من الشام كانُوا يغزون، وكانوا فرسانًا شُجعانًا فأسرهم الروم مرة فقال الملك إني أجعل فيكم المُلك، وأزوّجكم بناتي، وتدخلون في النصرانية، فأبَوا وقالوا:[يا محمد](1)، فأمر بثلاث قدور، فصُبَّ فيها الزيت ثم أوقد تحتها ثلاثة أيام يعرضون في كل يوم على تلك القدر، ويُدعَوْن إلى النصرانية فيأبون، فألقي الأكبر في القِدر، ثم الثاني ثم أدنى الأصغر فجعل يفتنه عن دينه بكل أمر، فقام إليه علج فقال: أيُّها المَلِك أنا أفتنُه عن دينه قال: بماذا قال:

(1) ليس لها معنى إلَّا إذا كان الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز؟

ص: 410

قد علمت أن العرب أسرع شيء إلى النِّساء وليس في الرُّوم أجمل من ابنتي، فادفعْه إليّ حتى أخلّيه معها، فإنها ستفتنه، فضرب له أجلًا أربعين يومًا ودفَعَه إليه، فأدخله مع ابنته، وأخبرها بالأمر فقالت له: دَعْه فقد كَفيتك أمره، فقام معها نهاره صائم، وليله قائم، حتى مَضى أكثر الأجَل فقال العلج لابنته: ما صنعت فقالتْ: ما صنعت شيئًا، هذا الرجل فقد أخويه في هذه البلدة، فأخاف أن يكونَ امتناعُه من أجلهما، كلما رَأى آثارهما، ولكن استزد الملِك في الأجل، وانقلني أنا وإيّاه إلى بلدٍ آخرٍ غير هذا، فزاده أيّامًا وأخرجهما إلى بلد آخر، فمكث على ذلك أيامًا صائمٌ النهارَ قائمٌ الليل، حتى إذا بقى من الأجل أيام قالت له الجارية ليلةً: يا هذا أراك تقدّس رَبّا عظيمًا وإني قد دخلتُ في دينك وتركُت دين آبائي قال لها: فكيف تكون الحيلة في أمر الهرب؟ قالت: أنا أحتال لك فجاءتهُ بدواب، فركبا فكانا يسيران بالليل، ويكمنان بالنهار فبينما هما يسيران ليلة، إذْ سمعا وقع خيل فإذا هو بإخوته، ومعهما ملائكة، فسلم عليهما، وسألهما عن حالِهما فقالا: ما كانت إلَّا الغطسة التي رأيت حتى خرجنا في الفردوس، وإنّ الله أرسلَنا إليك، لنشهد تزويجك بهذه الفتاة، فزوجوه إياها وخرجَ إلى بلاد الشام، فأقام معها وكانوا مشهورين بذلك، معروفين في الشام في الزمن الأوّل، وقد قال فيهما الشعراء أبياتًا منها:(1)

(1) سقطت صفحة من (أ) بعد هذا الموضع واستدركاها من (ب) و (ط).

ص: 411

سُيعطى الصادقين بفضل صدقٍ

نجاةً في الحياةِ وفي المماتِ

والله أعلم.

ومنها: ما حكاه الحافظ ابن رجب (1) رحمه الله قال: (روينا من طريق مراد بن جميل قال: قال أبو المغيرة: ما رأيتُ مثل المعافى بن عمران وذكر من فضله قال: حدَّثَني بعض إخواني أن غانمًا جاء والمعافى بن عمران يلقن بعد ما دُفِن (2) فسمعته وهو يلقن في قبره وهو يقول: لا إله إلَّا ألنّه فيقول المعافى لا إله إلَّا الله". ومنها ما حكاه اليافعي (3) عن الشيخ إسماعيل الحضرمي؛ أنه مر على بعض مقابر اليمن فبكى بكاء شديدًا وعلاه حزن ثم ضَحِكَ ضحكًا شديدًا وعلاه سرور، سُئل عن ذلك فقال: كُشِفَ لي عن أهلِ (4) هذه المقبرة فرأيتهم يُعذَبون فبكيتُ ثم تضرعتُ إلى اللهِ فقِيل: قد شفعناك فيهم، فقالت صاحبة هذا القبر: وأنا معهم يا فقيه إسماعيل أنا فلانة المغنية فقلتُ: وأنتِ معهم. فلذلك ضحكت ..

(1) أهوال القبور ص 25.

(2)

تلقين الميت بعد الدفن لم يرد فيه حديث صحيح ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وإنما المستحب بعد الدفن الدعاء له بالتثبيت عند السؤال والاستغفار له.

(3)

روض الرياحين ص 201.

(4)

هذه من مكاشفات الصوفية وهذه الحكاية مبالغ فيها جدًا مما يدل على تلفيقها.

ص: 412

ومنها: ما حكاه الحافظ ابن رجب في "طبقات الأصحاب"(1) في ترجمة الإمام العلامة ولي الله (2) بلا نزاع الشيخ أبي عمر أخى موفق الدين بن قدامة رضي الله عنهما عن الضياء - قدس الله روحه - عن عبد المولى بن محمد "أنه كان يقرأ عند قبر الشيخ سورة البقرة وكان وحده فبلغ إلى قوله تعالى {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة: 68]، قال: فغلطت فرد عَليّ الشيخ من القبر فخفت وفزعت وارتعدتُ وقمتُ، ثم مات القارئ بعد ذلك بأيام: قال الحافظ: وهذه الحكاية مشهورة قال: وقرأ بعضُهم عند قبره سُورةَ الكهفِ فسمعه من القبر يقول: لا إله إلَّا الله".

(1)"طبقات الأصحاب" 2/ 65.

(2)

من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لأحد بعينه بأنه ولي لله لأنها من الأمور الباطنة ولأن الخواتيم بيد الله لكن يشهدون بأن المؤمنين هم أولياء الله.

ص: 413