المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تنبيه قد ذكرنا فيما تقدم أن أرواح الشهداء في طير خضر - البحور الزاخرة في علوم الآخرة - جـ ١

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمةفي ذِكْرِ الموتِ وما يتعلقُ بِهِ، والرُّوح

- ‌الفصل الأول في النَّهْي عن تمَنِّي الموتِ وحِكْمتِه

- ‌الفصل الثاني في فَضْلِ المْوتِ وَذِكْرِهِ

- ‌الفصل الثالث في علامة خاتمة الخير، ومن دنى أجله، والكلام على شدة الموت

- ‌الفصل الرابع فيما يقول الإنسان في مَرض الموت وما يقرأ عنده. وما يقال إذا احتضر وتوابع ذلك

- ‌الفصل الخامس فيما جاء في ملك الموت وأعوانه

- ‌الفصل السادس فيما يحضر الميت من الملائكة وغيرهم وما يَراه المحتضر، وما يقال له، وما يبشر به المؤمن، وينذر به الكافر

- ‌الفصل السابع في الكلام على الروح وما يتعلق بذلك

- ‌خاتمة

- ‌الكتاب الأول في أحوال البرزخ

- ‌البابُ الأول في ذكر حال الميت عند نزوله قبره، وسؤال الملائكة له، وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه، وما يرى من منزله في الجنة والنّار، وكلام القبر للميت عند نزوله إليه

- ‌فصل في كلام القبر للميت عند نزوله

- ‌فصل

- ‌تَتِمَّة:

- ‌فصل

- ‌فوائد

- ‌فصل في فظاعة القبر وسعته على المؤمن وضيقه على الكافر وفي ضمة القبر

- ‌من أسباب ضمة القبر

- ‌فائدتان:

- ‌البابُ الثاني في عذاب القبرِ ونعيمه

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثالث فيما ورد من سَماع الموتى كلامَ الأحياء وتلاقيهم، ومعرفتهم بحالهم بعد الموت، وحال أقاربهم في الدنيا، ومحل الأرواح فى البرزخ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي:

- ‌فصل

- ‌تتمة

- ‌فصل

- ‌تنبيه

- ‌الباب الرابع في ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنوّرها عليهم، وفي زيارة الموتى والاتّعاظ بحالهم والتفكر بهم

- ‌فصل

- ‌تنبيه

- ‌فصل

- ‌تنبيه

- ‌فصل في التذكر بأهل القبور والتفكر في أحوالهم، وذِكْر طرفٍ من أحوال السلف الصالح في ذلك

- ‌فوائد:

- ‌الأولى:

- ‌الثانية:

- ‌الثالثة:

- ‌ الرابعة:

- ‌الخامسة:

الفصل: ‌ ‌تنبيه قد ذكرنا فيما تقدم أن أرواح الشهداء في طير خضر

‌تنبيه

قد ذكرنا فيما تقدم أن أرواح الشهداء في طير خضر (1)، وفي بعض الأحاديث:(نسمة)(2) المؤمن طائر والأوّل: يدلّ على أن الطير ظرف للروح، والثاني: يدل على أن الطير هو الروح، وكذلك في أطفال المسلمين في بعض الأحاديث، في أجواف طير خضر، وفي بعضها في أجواف عصافير، وفي بعضها أنهم دعاميص الجنة.

قال القرطبي في حديث كعب: نسمةُ المؤمن طائر، هذا يدلّ على أنها نفسها تكون طائرًا أي على صورته لا أنها تكون فيه ويكون الطائر ظرفًا لها، وكذا في رواية ابن مسعود عند ابن ماجه:"أرواح الشهداء عند الله كطير"(3) وفي لفظ عن ابن عباس، " (تجولُ) (4) في طير خضر"، ولفظ ابن عمرو "في صورة طير بيض"، وفي لفظ عن كعب "أرواح الشهداء طيرٌ خضر" قال: وهذا كله أصح من رواية "في جوف طير"، وقال القابسي (5): أنكر العلماء رواية في حواصل طير خضر؛ لأنها حينئذ تكونُ محصورةً مُضَيَّقاً عليها، ورُدَّ بأنَّ الرواية ثابتة، والتأويل مُحتمل بأن تُجعل "في" بمعنى "على"، والمعنى:

(1) ص 331 ت (3).

(2)

في (ب): (تسمية)، انظر ص 298 ت (2) سيأتي في ص 352 ت (1).

(3)

في (ب)، (ط):(كطير خضر).

(4)

في (ب)، (ط):(تحول).

(5)

هو الإمام الحافظ الفقيه أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القروي القابسي المالكي صاحب "الملخَّص"، كان عارفًا بالعلل والرجال والفقه والأحوال والكلام. توفي في ربيع الآخر بمدينة القيروان سنة ثلاث وأربع مئة. انظر:"وفيات الأعيان" 3/ 320، "تذكرة الحفاظ" 3/ 1079، "سير أعلام النبلاء" 17/ 158.

ص: 346

أرواحهم على جوف طير خضر كقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي على جذوع النخل، وجائز أن تسمَّى الطيرُ جوفًا إذا هي مُحيط به، ومُشتمل عليه.

قاله الحافظ عبد الحق الإشبيلي، في "العاقبة" وقال غيره: لا مانع من أن تكون في الأجواف حقيقة، ويوسعها الله لها، حتى يمون أوسع من الفضاء.

وقال ابن دحية في "التنوير"(1): قال قومٌ من المتكلمين هذه رواية منكرة، إذ لا تكون روحان في جسد واحد، فإن ذلك محال، وقولهم جهل بالحقائق، واعتراض على السّنّة الثابتة، فإنّ معنى الكلام بَيّنٌ، فإن روح الشهيد، الذي كان في جوف جسده في الدنيا، يجعل في جوف جسد آخر، كأنّه صورة طائر فيكون في الجسد الآخر، كما كان في الأوّل وذكر مدّة البرزخ، إلى أن يعيده الله يوم القيامة كما خلقه، وإنما الذي يَستحيل في العقل: قيامُ حياتين بجوهر واحد، فيحْيىَ الجوهر بهما جميعًا، وأما روحان في جسد، فليس بمحال إذ لم نقل بتداخل الأجسام، فهذا الجنين في بطن أمه وروحه غير روحها، وقد اْشتمل عليهما جسد واحد، وهذا أقرب لو قيل لهم: إن الطائر له روح غير روح الشهيد، وهما في جسد واحد، فكيف؟ وإنما قيل في أجواف طير خضر، أي: في صورة طير، كما تقول ملكاً في صورة إنسان، وهذا في غاية البيان. اْنتهى

(1)"شرح الصدور" ص 321.

ص: 347

قُلْتُ: ليس هذه بأوّل جناية من المتكلمين على السنة الغراء، بل هم غالبًا نابِذُوها خلف ظهورهم، فالله يأخذ منهم ومن أتباعهم، فالحقُ للديان، والذي جزم به المحقق وابن عبد السلام، وجمعٌ أن أرواح الشهداء كما قال الصادق في جوف طير خضر ولا حاجة إلى تأويل؛ غير أنّ الشهداء يتفاوتون، والله الموفق.

القسم الثاني: أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء. وقد اْختلف العُلماء فيهم قديمًا وحديثًا، والمنصوص عن الإمام أحمد رضي الله عنه، أن أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار.

قال الخلالُ في كتاب السنة، من رواية حنبل سمعتُ أبا عبد الله يقول: أرواحُ الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة، وفي موضع آخر عن حنبل قال: قال عميّ رضي الله عنه: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار، والأبدان في الدنيا يُعذّب الله من يشاء، ويرحم من يشاء، قال أبو عبد الله ولا نقول إنهما يفنيان، بل هما على علم الله باقيان، يبلغ النه فيهما علمه نسأل الله التثبيت وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا.

وقوله ولا نقول إنهما يفنيان، يعني: الجنة والنار، فإنّ في أوّل الكلام عن حنبل، أن أبا عبد الله حكى قصّة ضرار، وحكايته واختلاف العلماء في خلق الجنّة والنار، وأن القاضي أهدر دمَ ضرار لذلك، فاستخفى إلى أن مات، وأن أبا عبد الله قال: هذا كُفر يعني القول بأنهما لم يُخلقا بعد، وسيأتي الكلامُ على هذا مبسوطًا (1).

(1)"أهوال القبور" ص 177.

ص: 348

وقيل إنّ أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر، كما في حديث أمّ بشر مرفوعاً "إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر، ترعى في الجنة تأكل من ثمارها، وتشرب من مائها، وتأوى إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فتقول: ربّنا ألحقْ بنا إخواننا، وآتنا ما وعدتنا، وإنَّ أرواح الكفار في حواصل طير يعود، تأكل من النار، وتشرب من النار، وتأوي إلى حِجرٍ في النار، يقولون: ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا". رواه ابن منده (1).

وأخرج الإمام مالك عن كعب بن مالك مرفوعاً "إنما نسمة المؤمن طائر يُعلق في شجر الجنة، حتى يُرجعه الله إلى جَسده"(2).

ورواه الإمام أحمد في مسنده وخرّجه النسائي من طريق مالك، وخَرّجه ابن ماجه، ورواه خلق كثير، وخرج ابن منده عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرواح المؤمنين في طير كالزرازير تأكل من ثمر الجنة"(3) قال ابن منده رحمه الله: رواه جماعة عن الثوري موقوفاً،

(1) رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"(7885)، وابن الأثير في "أسد الغابة" 7/ 306. وروي بعضه من حديث كعب بن مالك، وفيه ذكر أم بشر (وهي أم مبشر) رواه ابن ماجه (1449)، وتقدم حديث أم بشر ص 126 ت (2).

(2)

مالك في الموطأ ص (164)، وأحمد 6/ 386 وفي 3/ 455، و 456، وابن ماجه (4271)، والترمذي (1641)، والنسائي (4/ 108).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 7/ 31، وابن المبارك في الزهد (446)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 290، وابن عبد البر في التمهيد 11/ 64 من قول عبد الله بن عمرو. وأورده الهيثمي 2/ 329، وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه يحيى بن يونس ولم أجد من ذكره وبقية رجاله ثقات انظر: ص 135، ت (2)، وص 331 موقوفاً على ابن عمرو.

ص: 349

يعني: على عبد لله بن عَمرو بن العاص رضي الله عنهما.

قال الحافظ ابن رجب (1)، قدّس الله روحه: الصوابُ وقفُه، وقد ذكره الإمام أحمد موقوفاً وروى ابن المبارك عن كعب من رواية الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف، قال: كُنا جلوساً إلى كعب فجاء ابن عباس رضي الله عنهم، فقال: يا كعب كُل ما في القرآن قد عرفتُ غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن، فسأله عن سجّين وعلّيين. فقال كعب: أما علَيّون فالسماء السابعة، فيها أرواح المؤمنين، وأما سجين فالأرض السابعة السُّفلى، فيها أرواح الكفار، تحت خدِّ إبليس.

قال الحافظ: وقد ثبتَ بالأدلّة أن الجنّةَ فوقَ السماء السابعة، وأن النار تحت الأرض السابعة.

وسيأتي بيانُ ذلك في الكتاب الرابع من هذا التأليف، إن شاء الله تعالى (2).

وقال وهب بن منبّة: إنَّ لله عز وجل في السماء السابعة داراً يقال لها البيضاء: يجتمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح، فيسألونه عن أخْبار الدنيا، كما يَسألُ الغائب أهله إذا قدمَ عليهم (3).

وروى ليث من حديثٍ عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: إنَّ

(1)"أهوال القبور" ص 179.

(2)

ص 935.

(3)

حلية الأولياء 4/ 60، انظر ص 127 ت (3).

ص: 350

أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، تغدوا على جهنم وتروح عليها، فذلك عرضُها. أخرجه ابن أبي حاتم (1).

واعلم أنه: إنما تَدخُل أرواح المؤمنين من الشهداء وغيرهم الجنة، إذا لم يمنع مانع من نحو كبيرة، كما لو غَلّ، أو كان عليه دين، فإنه يُحبَس عن الجنة إن لم يلطف الله به، ويتغمده برحمته حتى يُقضى عنه دينه.

وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن مِدْعَمًا قُتل يوم خيبر، فقال الناسُ: هنيئًا له الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلاّ والذي نفسي بيده، إنَّ الشملة التي أخذها يومَ خيبر، لم تُصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً"(2).

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"هاهنا أحد من بني فلان؟ " ثلاثًا فلم يُجبه أحد، ثم أجابه رجل. فقال:"إن فُلانا الذي تُوفِّى احتُبس عن الجنة، من أجل الدَّين الذي عليه، فإن شئتم فافْتَكُّوه، أو فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله تعالى" خرّجه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي بألفاظٍ مُختلفة (3).

وقالت طائفة: الأرواح في الأرض، ثم اْختلفوا فقالت فرقة منهم: الأرواح تستقرُ على أفنية القبور، وهذا القول هو الذي ذكره

(1) ذكره القرطبي في تفسيره لسورة غافر آية (46).

(2)

رواه البخاري (4234)، ومسلم (115).

(3)

رواه أحمد 5/ 20، وأبو داود 3341، والنسائي 7/ 315.

ص: 351

عبد الله بن الإمام أحمد، في سؤاله لوالده رضي الله عنهما، حيث قال سألت أبي عن أرواح الموتى أفتكون في أفنية قبورها أم هي في حواصل طير؟ أم تموتُ كما تموتُ الأجساد؟ قال: رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"نسمة المؤمن إذا مات طائرٌ يُعلق في شجر الجنة، حتى يُرجعَه اللهُ إلى جسده يوم يبعثه"(1).

وحكى القول الذي هو: أن أرواح الموتى في أفنية قبورها ابن حزم، عن عامة أهل الحديث، ورجّحه ابن عبد البرِّ. وقال مجاهد: الأرواح على القبور سبعةَ أيام، من يوم دَفن الميت لا تفارقه، ذلك واستدل هو وغيره بحديث ابن عُمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، "إذا مات أحدُكم عُرضَ عليه مقعَدُه بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمِنْ أهل النار، يُقالُ له هذا مقعدُك حتى يَبعثَك الله"(2).

فهذا يدلّ على أن الأرواح ليست في الجنّة، وإنما تُعرض عليها بكرة وعشيّا.

واحتج ابن عبد البر أيضًا: بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، حين خَرج إلى المقبرة فقال:"السلامُ عليكم دارَ قوم مؤمنين"(3)، قال: فهذا يدل على

(1) تقدم تخريجه ص 298 ت (2)، 329 ت (3)، 346.

(2)

مسلم 4/ 2199 (2866).

(3)

أحمد 6/ 76، و 6/ 111 من طريق القاسم عن عائشة وأحمد 6/ 71، وابن ماجه 1546، والنسائي 7/ 75 من طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة عن عائشة.

ص: 352

أن الأرواح بأفنية القبور، لكنه رُجح بأنّ أرواح الشهداء فى الجنة وما عداهم على أفنية قبورها كما ذكرنا (1)، وَردّ الإمام المحقق على عموم هذا، يَعني كونُ الأرواح على أفنية القبور، حيثُ قال: إن أراد أنها تكون على أفنية قبورها، أي: هذا الأمر لازم لها لا تفارق أفنية القُبور أبدًا، فهذا خطأ يردّه نصوص الكتاب والسنة، من وجوه كثيرة، وإن أراد أنّها تكون على أفنية القبورِ وَقْتاً من الأوقات أو لها إشراق على قُبورها، وهي في مقرها، فهذا حقّ لكن: لا يُقال مستقرها أفنيةُ القُبور، وذكرَ المحقِّق شُبَه من قال بذلك، ثم ردها بأنَّ عَرْض مقعد الميت عليه من الجنة أو النار لا يدل على أن الروح في القبر، ولا على فنائه دائمًا من جميع الوجوه، بل لها إشراق واتصالٌ بالقبر وفنائه، وذلك القدرُ منها يُعرض عليه مقعده، فإن للروح شأناً آخر يكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اْتصال بالبدن، بحيث (2) إذا سلم المسلم على الميت رُدَّ عليه روحه، فيردُّ عليه السلام. قال: وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع، بحيث يعتقد أن الروحَ من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكانًا، لم يمكن أن تكونَ في غيره، وهذا غلط محض، بل الروح تكونُ فوق السموات في علّيّين، فترد إلى القبر، وترد السلام، وتعلم بالمسلم وهي، في مكانها هناك.

(1)"أهوال القبور" ص 187: 190.

(2)

في الأصل حاشية، لعله: ما يعتقد وما أثبت من كتاب "الروح" ص 101.

ص: 353

قال: وروحُ نبينا صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى دائمًا، ويردها الله سُبحانه إلى القبر، فيردّ السلام على من سلّم عليه، ويسمع كلامه، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، موسى قائمًا يصلي في قبره، وراءه في السماء السادسة أو السابعة، فإما أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر، وإما أن تكون متصلة بالقبر وفنائه، بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السّماء إلى أن قال: وأما السلام على أهل القبور وخطابهم فلا يدلّ على أنّ أرواحهم ليست في الجنة، وإنها على أفنية قبورها، فهذا سيّدُ العالم صلى الله عليه وسلم، الذي روحه في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى، نسلم عليه عند قبره، فيسمع سلام المسلم. اْنتهى.

وذكر نحوه تلميذه الحافظ ابن رجب، وقال تبعًا له: ويشهد لذلك الأحاديث المرفوعة والموقوفة.

وذكر عن أبي الدارداء وعبد الله بن عَمرو بن العاص، في أن النائم يُعرجُ بروحه إلى العرش مع تعلقها ببدنه، وسرعة عودها إليه عند اْستيقاظه، فأرواح الموتى المتجردة عن أبدانهم أولى بعروجها إلى السماء وعودها إلى القبر في مثل تلك السرعة اْستدل الخصم بحديث البراء بن عازب، حيث قال فيه في صفة قبض روح المؤمن، " .. فإذا اْنتهى إلى العرش، كتُب كِتَابهُ في عليين، ويقول الرّبّ عز وجل: رُدّوا عبدي إلى مضجعه، فإني وعدتهم أنّي منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيُرد إلى مضجعه. الحديث. وقال في روح الكافر: فيُصعد بها إلى السماء فَتُغلقُ دونه، فيقول الرّبّ:

ص: 354

رُدّوا عبَدي إلى مضجعه، فإنّي وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخُرجُهم تارة أخرى".

وفي لفظ: "رُدُّوا روح عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أن أرُدَّهم فيها"، ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] الآية (1).

وهذا يدل على أنّ أرواح المؤمنين تستقر في الأرض، ولا تعود إلى السّماء بعد عرضها ونزولها إلى الأرض. قال الحافظ: لكن حديث البراء وحده لا يعارض الأحاديث المتقدمة في أنّ الأرواح في الجنة لاسيمّا الشهداء.

وأخرج أبو يعلى في مسنده، وابن أبي الدنيا من طريق يزيد الرقاشي، عن أنس، عن تميمٍ الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يقولُ الله لملك الموت: اْنطلق إلى وَليِ فأْتني به، قد جَرّبتُه بالسَّرَّاء والضّرّاءِ فوجدته حيث أحب، فأْتني به لأريحه من هموم الدنيا وغمومها، فينطلق إليه ملك الموت، ومعه خمسمائة من الملائكة، معهم أكفان وحنوط من الجنة، ومعهم ضبائر الريحان"(2) والضبائر: بضاد معجمة وباء مُوحدة آخره راء هي الجماعات، واحدتها: ضِبارة بكسر أوّله مثل عِمارة، وكل مجتمع ضبارة قاله في النهاية (3).

قال في الحديث لا أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونًا لكل

(1) انظرص (365) ت (4).

(2)

هذا الحديث الطويل سيأخذ عدة صفحات وهو حديث منكر كما سيأتي الكلام عليه.

(3)

"النهاية في غريب الحديث" 3/ 71 - 72.

ص: 355

لون منها ريح سوى ريح صاحبه، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر، فيجلس ملك الموت عند رأسه وتحتوشه الملائكة، ويضع كُل ملك منهم يده على عضو من أعضائه، ويبسط ذلك الحرير الأبيض، والمسك الأذفر تحت ذقنه، ويُفتح لهُ باب إلى الجنة، قال: فإن نفسه لتُعلَّل عند ذلك بُطُرف الجنة"، وهو بضم الطاء المهملة، وضم الراء وفاء: جمع طُرفة المستحدث من المال كالطريف، والطارف وهو خلاف التليد والتالد، قاله السيوطي، "مرّة بأزواجها" يَعني أزواج الجنة، "ومرّة بكسوتها ومزة بثمارها، كما يُعلل الصَبيَّ أهلُهُ إذا بكا، وإنَّ أزواجه ليبتهشنَّ عند ذلك ابتهاشاً".

قال في النهاية: يُقالَ للإنسان إذا نظر إلى شيء فأعجبه واشتهاه وأسع نحوه، قد بَهش إليه (1).

وفي الصحاح: بهش (2) إليه يبهش بهشًا إذا اْرتاح له وخف إليه. انتهى "وتنزُو الروح نَزوا" أي تُسرع وتشبُ كما في الصّحاح (3). ويقول ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة، إلى سِدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب" قال: "ولمَلك الموت أشد تلطفاً به من الوالدة بولدها، يَعرف أن ذلك الروح حبيب إلى ربه، كريم على الله، فهو يلتمس بلطفه بتلك الروح رضى الله عنه، فَتُسَل روحه كما تسل الشعرة من العجين. قال: وإنّ روحه لتخرُجُ والملائكة حوله يقولون: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]

(1)"النهاية في غريب الحديث" 1/ 166.

(2)

"الصحاح" 3/ 996 مادة [بهش].

(3)

"الصحاح" 6/ 2507 مادة [نزا].

ص: 356

وذلك قول {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} قال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)} [الواقعة: 88 - 89] قال: روْحٌ من جهة الموت وريَحان يتلقى به عند خروج نفسه، وجنّة نعيم أمامه، أو قال مقابله فإذا قبضَ ملك الموت روحه يقول الروحُ للجسد: جزاك الله خيرا، لقد كنت بي سريعًا إلى طاعة الله بطيئًا عن معصيته، فهنيئًا لك اليوم، فقد نجوت وانجعت، ويقول الجسد للروح مثل ذلك قال وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيعُ اللهَ عليها، وكلّ باب من السّماء كان يصعد منه عمله، وينزل منه رزقه أربعين ليلة فإذا قَبضت الملائكة روحه أقامت الخمسمائة ملك عند جسده، لا يقلّبه بَنوا آدم لشق، إلا قلبته الملائكة قبلهم وَعَلَته بكفانٍ قبل أكفانهم، وحنوطٍ قبل حنوطهم، ويقوم من باب بيته إلى باب قبره صفان من الملائكة، يستقبلونه بالاستغفار وَيصيحُ إبليسُ عند ذلك صيحةَ يتصدع منها بعض عظام جسده، ويقول لجنوده: الويلُ لكم كيف خلص هذا العبد منكم؟ فيقولون: إن هذا كان معصوماً، فإذا صَعَد ملك الموت بروحه إلى السماء، يستقبله جبريل في سبعين ألفاً من الملائكة، كلهم يأتيه ببشارة من ربه، فإذا انتهى ملك الموت إلى العرش خرّت الروحُ ساجدة لربها، فيقول الله لملك الموت اْنطلق بروح عبدي، وضعه في سدر مخضود، وطلح منضود، وظلّ ممدود وماء مسكوب، فإذا وُضع في قبره جاءت الصلاة، فكانت عن يمينه وجاء الصيام، فكان عن يساره، وجاء القرآن والذكر فكانا عند رأسه، وجاء مشيه للصلوات،

ص: 357

فكان عند رجليه، وجاء الصبر فكان ناحية القبر، ويَبعثُ الله عنقاً أي طائفة من العذاب، فيأتيه عن يمينه، فتقول الصلاة وراك، والله ما زال دائبَا بالدال المهملة وموحدة آخره أي جاداً عمره كله، وإنما اْستراح الآن، حين وضع في قبره قال: فيأتيه عن يساره فيقول الصيام مثل ذلك، فيأتيه من قِبَل رأسه فيقال مثل ذلك، فلا يأتيه العذاب من ناحية فيلتمسُ، هل يجد إليه مساغاً إلاّ وجد وليَّ الله قد أحرزته الطاعة، فيَخرجُ عنه العذاب عندما يرى ويقول الصبر لسائر الأعمال: أما إنه لم يمنعْني أن أباشرَهُ بنفسي، إلا أني نظرت ما عندكم، فلو عجزتم كنتُ أنا صاحبه، فأما إذ أجزأتُم فأنا ذخر له عند الصراط، وذخر له عند الميزان، قال: ويبَعثُ الله ملكين أبصارُهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كالصّياصي، أي: بمهملتين هي: قرون البقر، واحدهما صيصيه وأنفاسهما كاللهب، يَطآن في أشعارهما، بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا، وقد نُزعت منهما الرأفة والرحمة، إلا بالمؤمنين يُقال لهما منكر ونكير، في يد كل واحد منهما مِطرقة، لو اْجتمع عليها الثقلان لم يقلوها فيقولان له: اْجلس، فيستوي جالسًا في قبره فتسقط في حقويه فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وحده لا شريك له، والإسلام ديني، ومحمدٌ نَبِيِّ، وهو خاتم النّبيّين، فيقولان له: صدقت فيدفعان القبر، فيوسعانه من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره، ومن قِبل رأسِه ومن قِبَل رجليه، ثم يقولان له انظرُ فوقك فينظرُ، فإذا

ص: 358

هو مفتوح إلى الجنة، فيقولان له هذا منزلك يا وَليَّ الله، لما أطعتَ الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فوالذي نفسُ محمد بيده، إنَّه لتصلُ إلى قلبه فرحةٌ، لا ترتدُ أبداً، فيقال له: اْنظر تحتك فينظر تحته، فإذا هو مفتوح إلى النار فيقولان يا وليّ الله نجوت من هذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، إنه لتصلُ إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا، ويُفتَح لى سبعةُ وسبعون باباً إلى الجنة، فيأتيه ريحُها وبردُها حتى يبعثه اللهُ من قبره قال: ويقولُ الله تعالى لملك الموت: اْنطلق إلى عدوّي فأتني به فإني قد بسطت له رزقي، وسربلته بنعمتي فأبى إلاّ معصيتي، فأتني به لأنتقَم منه اليوم، فينطلق إليه ملك الموت، في "أكره صورة رآها أحد من الناس قط، له اْثنا عشر عينا ومعه سَفّود، وهو بفتح المهملة وضمّ الفاء المشددة آخره مهملة: الحديدة التي يُشوَى بها اللحم من نار، كثير الشوك ومعه خمسمائة من الملائكة، معهم نحاس أي: دخان لا لهب فيه، ومنه قوله تعالى:{شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] وجمرٌ من جمر جهنم ومعهم سياطٌ من النار، تتأجج فيضربه ملك الموت بذلك السفّود ضربةَ يغيب أصل كّل شوكة من ذلك، في أصل كلّ شعرة وعِرق من عروقه، ثم يلويه ليّا شديداً فينزع روحه من أظفار قدميه، فيلقيها في عقبيه، فيَسكرُ عدوُّ الله عند ذلك سكرةَ، وتضرب الملائكةُ وجهه ودبره بتلك السياط، ثم يجبذه جبذة (1) فتُنزع روحه من عقبيه،

(1) ورد في هامش الأصل: قوله: يجبذه جبذةً هو مثل يجذبه جذبةً وهو مقلوب منه. انتهى.

ص: 359

فيُلقيها في ركبتيه فيسكر عدوّ الله سكرة، وتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط، ثم كذلك إلى حقويه، ثم كذلك إلى صدره، ثم كذلك إلى حلقه، ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه، ثم يقولُ ملكُ الموت أُخرجي أيتها النفس اللعينة الملعونة إلى سَموم وحميم، وظل من يحموم لا باردٍ ولا كريم، فإذا قَبضَ ملكُ الموتِ روحه، قال الرّوحُ للجسد جزاك الله عني شراً، فقد كنت سريعًا إلى معصية الله تعالى، بطيئاً عن طاعة الله، فقد هلكتَ وأهلكتَ ويقولُ الجسد للروح مثل ذلك، وتلعنه بقاعُ الأرض التي كان يَعصي الله عليها، وتنطلق جنود إبليس إليه، يبشرونه بأنهم قد أوردوا عبداً من بني آدم النار، فإذا وُضع في قبره ضُيّق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، فتدخل اليمنى في اليُسرى واليُسرى في اليمنى، وببعثُ الله إليه حيات دُهما".

قال السيوطي: يُحتمل أن يكونَ بضم أوّله أي سُود فيكون جمع دُهم، وأن يكون بفتح أوّله أي عَددًا كثيرًا، فيكون مفردًا والجمع دهوم اْنتهى. "فتأخذ برأسه (1) وإبهام قدميه، فتقوضه" بقاف ثم واو ثم ضاد معجمة، أي: تنقصه. بمعنى تفسخه وتفرقه وفي النهاية (2). تقويض الخيام قلعها وإزالتها اْنتهى حتى تلتقي في وسطه قال: ويبعث اللهُ إليه الملكين، فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن

(1) في (ب)، و (ط):(بأزبنته).

(2)

"النهاية في غريب الحديث" ص/ 132.

ص: 360

نبيك؟ فيقول: لا أدري فيقال: لا دَريت ولا تليت فيضربانه ضربة، يتطاير الشرار في قبره، ثم يعود فيقولان له اْنظر فوقك فإذا باب مفتوح إلى الجنة، فيقولان يا عدوّ الله لو كنت أطعت الله كان هذا منزلك، قال: فوالذي نفسي بيده ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترقد أبداً، ويُفتح له باب إلى النار فيقالُ يا عدو الله: هذا منزلك لما عصيت، ويفتح له سبعة وسبعون باباً إلى النار، يأتيه حرُّها وسمومُها حتى يبعثه الله من قبره يوم القيامة إلى النار ففيه أن الله يقولُ لملك الموت في حقّ المؤمن: اْنطلق بروح عبدي، وضعه في سدر مخضود، وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب" (1). والله أعلم.

وفي صحيح مسلم (2) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هُريرة رضي الله عنه، في صفة قبض روح المؤمن قال:" يُصعد به إلى ربه عز وجل فيقول: ردّوه إلى أحد الأجلين" وذكر مثله في الكافية، وفي حديث ابن أبي الدنيا في روح المؤمن "ويبعث بها إلى عليين"، وفي روح الكافر "وينصب بها إلى سجين" وخرجَّهُ النسائي وغيره (3).

(1) أورده الحافظ ابن كثير في تفسيره 2/ 537 - 539 تفسير {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27]. وفيه ضرار بن عمرو.

قال ابن حبان في المجروحين 1/ 380: منكر الحديث جداً.

قال أبو نعيم في كتاب "الضعفاء" ص 95: حديث منكر، انظر ص 95 ت (1).

(2)

"صحيح مسلم"(2872) ولفظه: "إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها" وقد رواه بنفس اللفظ ابن منده في "الإيمان"(1069).

(3)

"ذكر الموت" لابن أبي الدنيا ص 279 - 280 (555) ورواه النسائي 4/ 8 - 9، وابن حبان في صحيحه" (3014)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 353.

ص: 361

وقال ابن مسعود: إن الروح بعد السؤال في القبر ترفع إلى عليين، وتلا قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)} [المطففين: 18] وقالت فرقة: تجتمع الأرواح بموضع من الأرض.

كما روى همّام عن قتادة: حدَّثني رجلٌ عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو قال: إن أرواح المؤمنين تَجتمعُ بالجابية، وأما أرواح الكفار فتجتمع بسبخة بحضرموت، يقال لها برهوت. خرّجه أبو عبد الله ابن منده (1).

ورواه هشام الدستوائي، عن قتادة عن سعيد بن المسيب من قوله: لم يَذكر عبد الله بن عَمرو على أن قتادة لم يسمعه من سعيد، بل بينه وبينه من لم يُعرف.

وأخرج ابن منده (2) عن عليّ رضي الله عنه قال: شرُّوادٍ بئرٌ في الأحقاف، وبرهوت بئر في حضرموت. ترده أرواح الكُفّار.

ورواه من طريق آخر (3) عن ابن عباس عن علي رضي الله عنهم، قال: أبغض بُقعة في الأرض بئرٌ بحضرموت يقال له برهوت، فيه أرواح الكفار، وفيه بئر ماؤه بالنهار أسود كأنه قيح، تأوي إليه الهوام.

(1) ذكره ابن حبان في "صحيحه"(7/ 284) دون إسناد، قال: قال قتادة: وحدثني رجل عن سعيد بن المسيب

فذكره.

(2)

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(9118)، والفاكهي في "أخبار مكة"(1110).

(3)

أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة"(1111) وفي إسناده علي بن زيد وهو ابن جدعان ضعيف، ويوسف بن مهران لين الحديث.

ص: 362

وأخرج ابن مَنده أيضًا (1): أن ابن عَمرو سُئل عن أرواح المؤمنين، وأرواح الكافرين، فقال: أرواحُ المؤمنين بالجابية، وأرواحُ الكفار ببرهوت. وأخرج أيضًا عن سفيان عن إبان بن تغلبٍ قال: قال رجلٌ: بتُّ فيه، يعني: وادي برهوت فكأنما حشرتْ فيه أرواح الناس، وهمُ يقولون يا دومة، يا دومة قال أبان: حدثنا رجل من أهل الكتاب، أنّ دومة هو الملك الذي على أرواح الكفار.

قال سفيان: وسألنا الحضرميين فقالوا: لا يستطيع أحدٌ أن يبيتَ فيه بالليل.

وقال ابن قتيبة في كتابه "غريب الحديث"(2): ذَكَر الأصمعي عن رجُل من أهل برهوت: يعني البلد الذي فيه هذا البئر قال: نجدُ الرائحة المنتنة الفظيعة جدًا، ثم تمكثُ حينا، فيأتينا الخبرُ بأنّ عظيمًا من عظماء الكفار قد مات، فزى أنّ تلك الرائحة منه.

وقال ابن عيينة أخبرني رجلٌ أنه أمسى ببرهوت، فكأن فيه أصوات الحاج قال: وسألتُ أهل حضرموت، فقالوا: لا يَستطيع أحدٌ أن يمُسي به.

وأخرج ابن أبي الدنيا عن عُمر بن سليمان، قال: ماتَ رجل من اليهود عنده وديعة لمسلم، وكان لليهودي ابن مسلم، فلم يعرف موضع الوديعة، فأخبر شعيبًا الجبائي فقال: اْئت برهوت، فإن دونه عينا بسيسب، فإذا جئت يومَ السبت فامش عليها، حتى تأتي هناك فادع أباك فإنه يجيبك فتسأله عمّا تُريد ففعل ذلك الرجل، ومضى حتى

(1) انظر: "أهوال القبور" ص 193.

(2)

باب "الباء مع الراء" لم يذكر هذا فيه.

ص: 363

أتى العين، فدعا أباهُ مرتين أو ثلاثاً فأجابه فقال: أين وديعة فلان؟ فقال: تحت أسكفة الباب فدفعها إليه (1)، وتقدَّمت حكايةُ الرجل صاحبِ الذهب.

وقال أبو موسى الأشعري: روح الكافر بوادي حضرموت، في أسفل الثرى من سبع أرضين.

قال الحافظ (2): وكل ما ورد من هذه الآثار فإنه محمول على أن الأرواح تنتقل من مكان إلى مكان، فلا تدل على أنها تستمر في موضع معين من الأرض. واللهُ أعلم.

قال ويشهد لهذا ما رُويَ عن شهر بن حوشب قال: كتب عبد الله بن عَمرو إلى كعب يسأله أين تلتقي أرواحُ أهل الجنة وأرواح أهل النار؟ فقال: أمّا أرواح أهل الجنَّة فبالبادية، وأما أرواحُ الكُفّار فبحضرموت. ذكره ابن منده تعليقاً (3).

وقالت طائفة من الصحابة (4): الأرواح عند الله عز وجل، وقد صحّ ذلك عن عُمر رضي الله عنه، وقال حذيفة إن الأرواح موقوفة عند الرّحمن عز وجل، تنتظر مَوعدها حتى يُنفخ فيها، قال الحافظُ إسناده ضعيف، ثم قال وهذا لا ينُافي ما وَرَدَتْ به الآثارُ من مَحل الأرواح على ما سبق.

(1)"أهوال القبور" ص 193: 195.

(2)

"أهوال القبور" ص 198 - 199.

(3)

"أهوال القبور" ص 199.

(4)

"أهوال القبور" ص 199، "الروح" ص 173.

ص: 364

وقالت طائفة (1): أرواح بني آدم عند أبيهم آدم عن يمينه وشماله، ويستدلّ له بما في الصحيحين، عن أنس رضي الله عنه عن أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج وفيه:"لما فَتح عَلوْنا السماء الدُنيا فإذا رَجل قاعدٌ على يمينه أسودة، وعلى يساره أسودة، فإذا نظر قِبَلَ يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح، قلت لجبريل من هذا؟ قال: آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، وأهل اليمين فهم أهل الجنَّة والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى"(2) وذكر بقية الحديث. قال الحافظ (3): وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن أرواح الكفار في السماء قال: وهذا مُخالف لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] الآية.

وكذلك حديث البراء (4) وأبي هُريرة (5) وغيرهما فيها "إن السماء لا تُفتح لروح الكافر، وإنما تُطرح طرحًا" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرأ:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج: 31] الآية. وقد حمله

(1)"أهوال القبور" ص 199، "الروح" ص 179.

(2)

رواه البخاري (349) و (1636) و (3342)، ومسلم (263).

(3)

"أهوال القبور" ص 250.

(4)

أحمد (30/ 399، 507)، والطيالسي (789)، والحاكم (1/ 37)، وأبو داود (3212، 4753، 4754)، انظر ص (355) ت (1).

(5)

أحمد رقم (8769)، وابن ماجة (4262) صحيح ابن ماجة (3437)، والنسائي في الكبرى (11442)، والحاكم (1/ 352، 353، 37).

ص: 365

بعضهم بأنّ هذه الأرواح التي عن يمين آدم وشماله، هي أرواح بنيه التي لم تُخلق أجسادهم بعد، قال الحافظ وهذا في غاية البُعد، مع ما فيه من النزاع في أنّ الأرواح هَل خُلقت قبل الأجساد؛، أو بعدها على ما قدّمناه.

قال الحافظ: وقد وَرَدَ من حديث أبي هُريرة رضي الله عنه، ما يُزيل هذا الإشكال كله، في حديث الإسراء وفيه:"فدخل فإذا هو برجل تام الخلق، لم ينقص من خلقه شيء، كما ينقص من خلق الناس عن يمينه باب يخرجُ منه ريح طيبة، وعن شماله بابٌ يخرجُ منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن، قال يا جبريل من هذا الرجل التام الخلق؟ الذي لم ينقص من خلقه شيء؟ وما هذان البابان، قال: هذا أبوك آدم صلى الله عليه وسلم، وهذا الباب الذي عن يمينه بابُ الجنة، فإذا نظر مَن يَدخُلُ من ذريته الجنة ضحك واستبشر، والباب الذي عن شِماله بابُ جهنم، فإذا نظر من يدخل من ذريته جهنم بكى، وحزن"(1) وذكر الحديث خرّجه بتمامه البزار في مسنده، والخلال وغيرهما، وفيه التصريح بأنّ أرواح ذريته في الجنة، والنار.

قال الحافظ: وهذا لا يقتضي أن تكون الجنة والنار في السماء الدنيا، وإنما معناه أن آدم في السماء الدنيا يُفتح له بابان إلى الجنة النار ينظر منهما إلى أرواح ولده فيهما وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، الجنَّة

(1) رواه الطبري في تفسير أول سورة الإسراء آية (1) من حديث أبي هريرة أو غيره (على الشك) وإسناده ضعيف، وضعفه ابن حجر في الفتح (1/ 462) بشرحه الحديث (349) حيث قال: فهذا لو صح لكان المصير إليه ولكن سنده ضعيف. اهـ.

ص: 366

والنارَ في صلاة الكسوف، وهو في الأرض، وليست الجنة في الأرض، ورُوي أنه رآهما ليلة الإسراء في السماء، وليست النارُ في السماء (1).

ويؤيده حديث هارون العبدي مع ضعفه، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث الإسراء الطويل، أن ذكر السماء الدنيا قال:"وإذا أنا برجل كهيئته يومَ خلقه الله، لم يتغير منه شيء وإذا هو يعرض عليه أرواح ذُرّيته، فإذا كان روح مؤمن قال: روح طيبة اجعلوا كتابه في عليين وإذا كان روح كافر قال: روحٌ خبيثة، وريح خبيثة اجعلوا كتابه في سجين، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: أبوك آدم"(2).

وذكر الحديث ففي هذا: إنه يُعرض عليه أرواح ذريته في السماء الدنيا، وأنه يأمر بجعل الأرواح في مستقرها من عليين وسجين فدل على أن الأرواح ليس محل استقرارها في السماء الدنيا وزعم ابن حزم: أن الله خلق الأرواح جملة قبل الأجساد وأنه جعلها في برزخ وذلك البرزخُ عند منقطَع العناصر، يعني حيث لا ماء ولا هواء ولا نار، ولا تُراب وإنه إذا خلق الأجساد أدخل فيها تلك الأرواح، ثم يعيدها عند قبضها إلى ذلك البرزخ، وهو الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة الإسراء به عند منقطع العناصر، أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره، وذلك عند السماء الدنيا وأما أرواح الأنبياء والشهداء فترفع إلى الجنة، قال:

(1)"أهوال القبور" ص 201.

(2)

انظر: الصفحة السابقة لتخريجه، انظر ص (373) ت (2).

ص: 367

وهذا القولُ قول جميع أهل الإسلام (1)(2).

قال المحقق في الروح: قولهُ أي ابن حزم إن ذلك عند مُنقطع العناصر: لا دليل عليه من كتابٍ ولا سُنَّة، ولا يُشبه قول أهل الإسلام، والأحاديث الصحيحةُ تدلّ على أن الأرواح فوقَ العناصر في الجنة عند الله، وأدلّة القُرآن تدلّ على ذلك، وقد وافقنا ابن حزم على أنّ أرواح الأنبياء والشّهداء في الجنة، ومعلومٌ أن الصديقين أفضل من الشهداء، فكيف يكون روح أبي بكر وعبد الله بن مسعود، وأبي الدّرداء وحُذيفة بن اليمان، وأشباههم عند منقطع العناصر، وذلك تحت هذا الفَلَكِ الأدنى، وتحتَ السماء الدنيا وتكون أرواح شهداء زماننا وغيرهم فوق العناصر، وفوق السموات (3) انتهى. وقال تلميذه الحافظ قوله:"وهذا قول جميع أهل الإسلام"(4).

وأمّا قوله وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه، أنه ذكر هذا الذي قلناه بعينه، قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم فقال المحقق قلتُ محمد بن نصر المروزي، ذكر في كتاب الرد على ابن قتيبة في تفسير قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ....} [الأعراف: 172] الآية. الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صُلبه، ثم أخذ الميثاق عليهم وردّهم في صلبه، وأنه أخرجهم

(1) جاء في هامش الأصل: لا نعرف ما قاله في هذه عن أحدٍ من أهل الإسلام غيره فكيف يكون قوله جميع أهل الإسلام؟

(2)

"أهوال القبور" ص 252.

(3)

"الروح" 179 - 181.

(4)

"أهوال القبور" ص 202، انظر ت (1) لتمام الكلام.

ص: 368

مثل الذّر؛ وأنه سبحانه قسمهم قسمين، إذ ذاك إلى شقي وسعيد، وكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وما يصيبهم من خير وشرّ، ثمّ قال: قال إسحق: أجمعَ أهلُ العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} الآية [الأعراف: الآية 172] قال المحقق: هذا نصُّ كلامه قال: وهو كما ترَى لا يَدل على أنّ مستقر الأرواح ما ذُكر بوجه من الوجوه، بل ولا يدل على أنّ الأرواح كانت قبل خلق الأجساد، بل إنما يدلّ على أنه سبحانه أخرجَها فخاطبها ثم ردها إلى صلب آدم، والله أعلم. هذا كلام المحقق، وأما الحافظ فقال: ليس هذا يعني: ما حكاهُ ابن حزم من جنس كلام المسلمين، إنما هو من جنس كلام المتفلسفة، ورَدّ الحافظ ما أخرجه ابن جرير في كتاب الآداب (1)، أنه قال سلمان لعبد الله بن سلام إن مِتّ قبلي فأخبرني بما تلقى، دمان مِتُ قبلك أخبرتك بما ألقى، فقال له الناس: يا عبد الله كيف تخبر وقد متّ؟ قال: ما روح تقبض من جسد إلاّ كان بين السماء والأرض، حتى يُردَّ في جسده الذي أخذ منه، بأن هذا لا يثبت وهو منقطع، وقد سبقت رواية ابن المسيب (2) لهذه القصّة، بغير هذا اللفظ، وهو الصحيح وقالت طائفة: تجتمعُ في الأرض التي قال الله فيها {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} الآية [الأنبياء: 105].

وهذا كما قال المحقق: إن كان قاله تفسيرًا للآية فليس هو تفسير

(1)"أهوال القبور" ص 253.

(2)

سبقت ص 313.

ص: 369

لها، وقد اختلف الناس في الأرض المذكورة هنا، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس (1): هي أرض الجنة وهو قول أكثر المفسرين، وعن ابن عباس أنها الدنيا التي فتحها الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وصححه المحقق وقالت طائفة من المفسرين: المرادُ بذلك أرض بيت المقدس.

قال المحقق: هي يعني: أرض بيت المقّدس من الأرض التي أورثها الله عباده الصالحين، وليسَت الآية مختصة بها، وهذا بناء على ما ذهب إليه من أن المراد بها: ما فُتح على هذه الأمة من الدنيا، والله أعلم.

وزعمت طائفة أن أرواح المؤمنين تجتمع ببئر زمزم، وقد قدّمنا في حكاية صاحب الذهب، ما يدل على ذلك لكن قال المحقق: هذا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ولا يجب التسليم له، ولا يوثق به، إلى أن قال: وبالجملة، فهذا أَبطلُ الأقوال وأفسدها، وهو أفسد مِن قول من قال إنها بالجابية.

وقالت طائفة: هي في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، وهو مرويّ عن سلمان الفارسي.

قال المحقق: البرزخُ هو الحاجز بين شيئين، وكأن سلمان أراد أنها بين الدنيا والآخرة مرسلة، هناك تذهبُ حيث شاءت قال: هذا قول قوي فإنها قد فارقت الدنيا، ولم تلج الآخرة، بل هي في برزخ بينهما فأرواحُ المؤمنين في برزخ واسمع، فيه الرَّوحُ والريحان والنعيم، وأرواحُ الكفار في برزخ ضيّق، فيه الغم والعذاب، قال تعالى: {وَمِنْ

(1) انظر "الدر المنثور" في تفسير آية الأنبياء (105).

ص: 370

وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]، فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة، وأصله الحاجز بين الشيئين (1)، انتهى.

وزعمت طائفة: أن مستقرّها العدم المحض.

قال المحقق: وهذا قول من قال إنها أعراض من أعراض البدن، وهو الحياة قال: وهذا قولُ ابن الباقلاني ومن تبعه.

قال المحقق: وهذا يردّه الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، وأدلة العقول والفِطر، وهو قول من لم يعرف روحه، فضلًا عن روح غيره، وقد خاطب الله سبُحانه النفس بالرجوع والدخول.

ودلت النصوص الصحيحة الصريحة: على أنها تصعد وتنزل، وتقبض وتمسك، وتُرسل وتفتح لها أبوابُ السماء وتسجد وتتكلم، وأنها تخرجُ تسيلُ كما تسيل القطرة، وتكفن وتحنط في أكفان الجنّة أو النار إلى أن قال: ودَلَّ القُرآن على أنها تنتقل من مكان إلى مكان، حتى تبلغ الحلقوم في حركتها إلى أن قال: ولمّا أورد ذلك على ابن الباقلاني لجَّ في الجواب وقال: يُخَرَّجُ هذا على أحد وجهين: إما بأن يُوضع عرض من الحياة في أوّل جزء من أجزاء الجسم، وإمّا أن يُخلق لتلك الحياة والنعيم والعذاب جزء آخر.

قال المحقق: وهذا قول في غاية الفساد، وفسادُهُ من وجوه كثيرة، وأي قولٍ أفسد من قولٍ يجعل روح الإنسان عرضًا (2) [من الأعْرَاض تَبذل كل ساعة ألوفًا من التغيرات فهذا يدل على أنه لم

(1)"الروح" 177 - 178.

(2)

هذا الموضع سقط في (1)، انظر ص (373) ت (1).

ص: 371

تكن بعد المفارقة روح تنعم ولا تعذب ولا تصعد ولا تنزل ولا تمسك، ولا ترسل وأي قول أفسد من هذا القول؟ فإنه مخالف للعقل والكتاب والسُّنة والفِطرة وهذا لم يَقُل به أحدٌ مِنْ سلفِ الأُمة ولا أئمة الإسلام. انتهى.

وقال في "الإفصاح"(1): المنَعَّم على جهات مختلفة.

منها: ما هو طائر في شجر الجنَّة. ومنها: ما هو في حواصل طير خضر. ومنها: ما يأوي في قناديلٍ تحت شجر العرش. ومنها: ما هو في حواصل طير بيض. ومنها: ما هو في حواصل طير كالزرازير، ومنها: ما هو في أشخاص صور من صور الجنَّة. ومنها: ما هو في صورة تخلق من ثواب أعمالهم. ومنها: ما تسرح وتتردد إلى جثثها وتزورها. ومنها: ما تتلقى أرواح المقبوضين وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل ومنها: ما هو في كفالة آدم، ومنها: ما هو في كفالة إبراهيم.

قال القرطبي: وهذا قول حسن يجمع الأخبار حتى لا تتدافع (2). وارتضاه السيوطي أيضًا، وقال: قلت: ويؤيده ما في حديث الإسراء عند البيهقي في الدلائل وابن مردويه من رواية أبي سعيد الخدري

(1) شبيب بن إبراهيم ونقل عنه هنا ونسبه إليه الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 376) وقال أبو الحسن بن حيدرة صاحب الأفصاح. وأبو الحسن: كنية شبيب بن إبراهيم، وحيدرة: جده كما في ترجمته. اهـ من التذكرة (62).

(2)

"التذكرة" ص 438.

ص: 372

"صعدتُ إلى السَّماءِ الثانية فإذا أنا بيحيى وعيسى ومعهما نفرٌ مِنْ قَومهما، ثم صعدتُ إلى السماء الثالثة فإذا أنا بيوسُف ومعه نفرٌ مِنْ قومه، ثُمّ صعدتُ إلى السَّماءِ الرَّابعةِ فإذا أنا بإدريسَ ومعه نفر من قومه ثم صعدت إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ومعه نفر من قومه، ثم صعدت إلى السَّماءِ السَّادسة فإذا أنا بموسى ومعه نفرٌ مِنْ قومه، ثم صعدت إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم ومعه نفر من قومه فقيل لي:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 68] وإذا أنا بأمتي شطرين شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطر] (1) عليهم ثياب مذر

الحديث (2).

فهذا يدلُ على تفاوت الأرواح في المراتب، وإن كان في كل سماء قوم (3).

وقال المحققُ: لا مُنافاة بين حديث أنه طائر يعلق في شجر الجنة، وبين حديث عرض المقعد، بل تردُ روحه أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، ويعرض عليه مقعده؛ لأنه لا يدخل إلا يوم الجزاء بدليل: أنَّ منازل الشهداء يومئذ، ليست هي الي تأوي إليها أرواحهم في البرزخ، فدُخول الجنّة التام إنما يكون للإنسان التام رُوحًا وبدنًا،

(1) إلى هنا نهاية السقط، والمشار إليه في ص 371 ت (2).

(2)

رواه الطبري 15/ 13 وأورد ابن كثير الحديث في تفسيره 3/ 13 - 14 بروايته وأسانيده ويغلب عليها الضعف وفي بعضها نكارة، انظر ص 367 ت (2).

(3)

"شرح الصدور" ص 324.

ص: 373

ودخُول الروح أمر دون ذلك (1).

قال النسفي في "بحر الكلام": الأرواح على أربعة أوجه: أرواح الأنبياء تخرج من جسدها، وتصيرُ مثل صورتها، مثل المسك والكافور، وتكونُ في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم، وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش.

وأرواح الشهداء تخرج من جسدها، وتكون في أجواف طير خضر في الجنة، تأكلُ وتتنعم، وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش.

وأرواح المطيعين من المؤمنين بَربَض الجنة، لا تأكل ولا تتمتع، ولكن تنظر في الجنة.

وأرواح العصاة من المؤمنين تكون بين السّماء والأرض في الهواء.

وأما أرواح الكفار، فهي في سجين، في جوف طير سود تحت الأرض السّابعة، وهي متصلة بأجسادها، فتعذب الأرواح وتتألم الأجساد منه، كالشمس في السماء ونورها في الأرض (2). انتهى.

هذا وقد ثبت أنّ أرواح المؤمنين المطيعين تتنعم من الجنة، وما قاله يحتاج إلى دليل، على أنَّه قد تقدم رد كلام من زعم أن أرواح المؤمنين ليستْ في الجنَّة فليتنبه له والله أعلم.

(1)"الروح" ص 163 - 164.

(2)

"شرح الصدور" ص 325.

ص: 374