الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وأخرج مسلم في "صحيحه"، من حديث بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة".
وخرجه الإمام أحمد، بلفظ آخر:"فزوروها فإن في زيارتها عبرة وعظة"(1).
وأخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن زيارة القبور ثم بدا لي فيها فإنه يرق القلب وتدمع العين، وتذكر الآخرة فزوروها ولا تقولوا هجرا
…
" (2).
وأخرج مسلم، من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أستأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، فزوروها فإنها تذكر الموت"(3).
وأخرج الحاكم، عن أبي ذر، مرفوعًا قال: "من زار القبور تذكر بها الآخرة، وغسل الموتى، فإن معالجة جسد الميت موعظة بليغة، وصلِّ على الجنائز، لعل ذلك يحزنك، فإن الحزين في ظل الله تعالى يتعرض
(1) رواه مسلم (977)، وأحمد 5/ 259 و 261 و 350 و 355 و 356، وأبو داود (3235)، والترمذي (1054)، انظر ص (37) ت (1).
(2)
رواه أحمد 3/ 237، وأبو يعلى (3705) بإسناد قوي، انظر ص (38) ت (1، 2).
(3)
رواه مسلم (976)، وأحمد 2/ 441، وأبو داود (3234)، والنسائي 4/ 90، وابن ماجة (1572).
لكل خير" (1).
وأخرج ابن أبي الدنيا، عن ثابت البناني، قال: بينما أنا أمشي في المقابر إذا بهاتف من ورائي يقول: يا ثابت: لا يغرنَّك سكوتُها فكم من مغموم فيها، فالتفَتُّ فلمْ أرَ أحدًا (2).
وأخْرجَ عن بشر بن منصور قال: قال لي عطاء الأزرق: إذا حَضرتَ المقابر فليكن قلبك فيمن أنت بين ظَهريه، فإني بينما أنا قائم ذات ليلة في المقابر، تفكرتُ في شيء فإذا أنا بصوت يقول: إليك يا غافل، إنما أنت بين ناعم في تنعمه مدلل أو مُعذب في سكراته يتقلب (3).
وأخرج عن صالح المري قال: دخلت المقابر يومًا في شدة الحرّ فنظرت إلى قبور خامدة، كأنهم صُمتٌ فقلتُ: سبحان من يجمع بين أرواحكم وأجسادكم بعد افتراقها، ثمَّ يحييكم وينشركمُ من بعد طول البلى، قال: فناداني مناد بين تلك الحفر: يا صالحُ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} [الروم: 25] قال: فسقطتُ والله لوجهي جزعًا من ذلك الصوت (4).
(1) الحاكم 1/ 377 وقال الذهبى: منكر وقال في موضع آخر (4/ 330) صحيح.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الهواتف"(45).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "الهواتف"(46).
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "الهواتف"(47) وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 170.
وأخرج عن عمر بن عبد العزيز أنه خرج مع جنازة، فلمّا دفنها قال لأصحابه: دعوني حتى آتي قبور الأحبة، قال: فأتاهم فجعل يدعو ويبكي، إذ هتف به التُرابُ فقال: يا عُمر: ألا تسألني عما فعلتَ بالأحبة؟ قالَ: وما فعلت بهم؟ قال: مَزقتُ الأكفان، وأكلتُ اللحم، وشدختُ المقلتين، وأكلت الحدقتين، ونزعت الكتفين من الساعدين، والساعدين من العضدين، والعضدين من المنكبين، والمنكبين من الصلب، والقدمين من الساقين والساقين من الفخذين، والفخذين من الورك، والورك من الصُلب، قال وعمر يبكي فلمّا أراد أن ينهض قال له التراب: يا عمر ألا أدلّك على أكفان لا تبلى؟ قال: وما هي؟ قال: تقوى الله والعمل الصالح (1).
ودخل ثابت البناني المقابر مرةّ، فبكى ثم قال: بليتْ أجسادهم وبقيت أخبارهم، فالعهد قريب، واللقاء بعيد.
ووقف بعض الأعراب على قبر وأنشد فى المعنى:
لِكُلِّ أُناسٍ مُقبر بفنائهم
…
فهم ينقصونَ والقُبورُ تزيد
وما أن ترى دارًا لحيّ قَّدَ أقْفَرَت
…
وقبرٌ لميت بالفناء جديد
فهم جيرة الأحياء أما محلهم
…
فدانٍ وأما الملتقا فبعيد (2)
وقال بعضهم: وقد مرّ في سَفره بمقبرة لبعضِ المدنِ
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الهواتف"(42) بإسناد فيه مجهول، والخبر في "أهوال القبور" ص 235.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 245 - 246.
كفى حزنًا أن لا أمرُّ ببلدة
…
من الأرض إلَّا دُونَ مدخلَها قبر (1)
وعن جعفر بن سليمان قال: كُنَّا نخرجُ مع مالك بن دينار زمان الحطمة فنجمع الموق، ونجهزهم فيخرج مالك على حمارٍ قصير قحاطَى لجامُه من ليف، عليه عباءة مُرْتّديها فيعظنا في الطريق، حتى إذا أشرف على القبور قال بصوتِ له محزون:
ألَا حيِّ القبور ومِن يهنّه
…
وجوهٌ في التراب أحبّهنّه
ولو أنَّ القبورَ أجبْنَ حَيّا
…
إذا لأجبْنَني إذْ زرْ تهنّه
ولكن القبورَ صمتْن عنّي
…
أبتُ بحسرتي من عِندَ هُنَّه (2)
وأخرج الحافظُ في "أهوال القبور": عن يحيى بن عبد الله قال: كُنَّا مع عبد الله بن جعفر بن سليمان أمير البصرة، فمرّ به رجل كان يعظ الناس، فقال لهُ عبد الله عظني ببيت من الشعر فقال:
إذا ثوّى في القبر ذو خطر
…
فزره فيها ولا تنظر إلى خطر
فبكى عبد الله بن جعفر وكان ابن السّماك يتمثل بهذا البيت ويزيد فيه بيتًا آخر:
أبرزه الموتُ من مساكِنه
…
ومِن مَقاصيره ومِنْ حَجَره (3)
وأخرَج ابن أبي الدنيا حدثنا إسماعيلُ بنُ عبد الله قال: أنشدنا رجل ونحن بالمقابر:
(1) عزاه ياقوت الحموي في "معجم البلدان" إلى البحتري.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 2/ 373.
(3)
أهوال القبور ص 185.
ألا يا عسكر الأحياء
…
هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى
…
ومُنتظرون للكبرى
يحثون على الزاد وما
…
زادٌ سوى التقوى (1)
يقولولن لكم جدُّوا
…
فهذا آخر الدُنيا
وأخرجَ عن غزوان بن عبد الرحمن بن غزوان قال: كنُتُ جالسًا مع أبي بالبصرة إذْ أقبل شيخٌ على حمارٍ في عُنقه حبلُ ليف، والشيخ حافٍ عليه جبة صوف حتى وقف علينا، فسَلمَّ على أبي، فأحفل أبي المسألة به وقال: من أين أقبلت؟ قال: فكرَّتُ في أهل هذا العسكر ليلًا فغدوتُ عليهم، فقلت:
وعظتكَ أجداث صُمّتٌ
…
وبكتّكَ ساكنة جفت
وتكلمت عن أعظم تُبلى
…
وعن صورٍ سبت
وأرتك قبرك في القبور
…
وأنت حيٌّ لم تَمت
ثم ولَّى غيرَ بعيد ثم أقبل فقال:
ولربما انصرف الشُمَّاتُ
…
وحل بالقوم الشَمَت
قال الحافظ ابن رجب قلت: هذا الشيخ أبو العتاهية والأبيات معروفة له.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن سَلام بن صالح قال: فُقد الحسنُ ذاتَ يوم، فلما أمسى قال له أصحابه: أين كنتَ اليوم؟ قال: كنتُ اليومَ عند إخوان لي إن نسيتُ ذكَّروني، وإن غبتُ عنهم لمْ يغتابوني، فقال له
(1)"ذكر الموت" ص 279 (553).
أصحابُه: نِعْمَ الإخوان والله هؤلاء يا أبا سعيد دُلنا عليهم، قال هؤلاء أهل القبور (1).
ورُوي عن عليّ [كرّم الله وجهه](2)، بإسناد منقطع أنه قيل له: ما شأنك جاورت المقبرة؟ قال: إني أجدهم إخوانٍ جيران صدقٍ، يكفُّونَ الألسنة، ويُذَكِّرون الآخرة (3).
وفي "أهوال القبور" للحافظ عن الحسن: أن عثمان بن أبي العاص كان في جنازة فرأى قبرًا خاسفًا، فقَال لرجُل من أهله: يا فلان: تعالَ انظر إلى بيتك الذي هو بيتك، قال: فقال: ما لي أرى بيتي لا فيه طعام ولا شراب ولا ثياب، قال: فإنه بيتك، قال: صدقت، قال: فرجع فقال: واللهِ لأجعَلَنَّ ما في بيتي هذا في بيتي ذاك، قال الحسنُ: هوَ واللهِ التسدُّد أو الهلكة، والله لتصبرنَّ أو لتَهلَكَن. وفي رواية قال: أراهُ بيتًا ضيقًا بابًا مظلمًا، ليس فيه طعامٌ ولا شراب ولا زوجة، وقد تركتُ بيتا فيه طعام وشراب وزوجة. قال: هذا والله بيتك قال: صدقت أمّا والله لو قد رَجعتُ نقلت من ذلك إلى هذا (4).
وعن مُطرف الهذَليّ قال: كانَتْ عجوزٌ مُتعبدةٌ في عبد قيس،
(1) ورد نحو هذا الخبر عن أبي الدرداء رضي الله عنه في "إحياء علوم الدين" 1/ 211.
(2)
الأولى الاقتصار برضي الله عنه إسَوة بغيره من الصحابة.
(3)
رواه البيهقي في "الشعب"(9312).
(4)
رواه الإمام أحمد في "الزهد" ص 477 بنحوه. "أهوال القبور" ص 223: 224.
فعوتبتْ في كثرة إتيانها القبور، فقالت: إنّ القلبَ القاسي إذا حفى لم يلينه إلا رسومُ البلى، وإني لآتي القبور وكأني أنظر إليهم قد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظرُ إلى تلك الوجوه المتعفرة، وإلى تلك الأجسام البالية المتغرة، وإلى تلك الأكفان الدنسة، فيا له من مَنظرٍ (1).
ولأبي العتاهية رحمه الله:
إني سالتُ التُرَب ما فعلت
…
بَعدي وجوهٌ فيك متعفرة
فأجابني صَيّرت ريحَهم
…
يؤذيك بعدَ روائح عطرة
وأكلْتُ أجسادًا منعمة
…
كان النعيمُ يهزُها نضره
ولم يبقِ غيرَ جماجمٍ عَريتْ
…
بيضٌ تلوحُ وأعظم نخره
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي إسحق، أنه قال: شهدتُ جنازة رجل من إخواني مُنذ خمسينَ سنة فلمّا دُفن وسُوّى عليه التراب، وتفرق الناس جلستُ إلى بعض تلك القبور، ففكرت فيما كانوا فيه من الدُنيا وانقطاع ذلك عنهم فأنشأت أقول:
سلام على أهل القبور الدَّوارس
…
كأنهم لم يجلسوا في المجالس
ولم يَشربُوا من بارد الماء شَربة
…
ولم يأكلوا من (2) بين رَطب ويابس
ألا خبّروني أين قبرُ ذليلُكم
…
وقبر العزيز الماذخ المتمارس
قال فغلبتني عيني والله، فقمتُ وأنا محزون (3).
(1)"أهوال القبور" ص 226 - 227.
(2)
في المخطوطة: لعله ما بين رطب ويابس، لكن الرواية من بين؛ من المؤلف وعن نسخته.
(3)
"القبور" ص 149 - 150 (180).
قال ابن أبي الدنيا أنشَدَنا الرياشى:
مقيمٌ إلى أن يبعثَ اللهُ خلقَهُ
…
لقاؤك لا يُرجى وأنت قريبُ
تزيدُ بلاءً في كل يوم وليلة
…
وتنسَى كما تَبلى وأنتَ حبيبُ (1)
وروى أبو نعيم أن داود الطائي اجتازَ على مقبرة وامرأة عند قبر تقول: هذين البيتين فسمعهما فكان ذلك سببُ توبته يعني: انقطاعه عن الدنيا وأسبابها واشتغاله بالآخرة والاستعداد لها.
وأخرج ابن أبي الدُنيا في "كتاب الخائفين"، عن الحسن بن صالح أنه كان إذا صعد المنارة يعني: ليؤذن أشرف على المقابر، فإذا نَظر إلى الشمس تحوم على القبور، صَرخ حتى يسقط مغشيًا عليه، فيُحمل وينزل به، وشهد يومًا جنازة، فلما قرب الميت ليُدفن نظر إلى اللحد فأرفضَّ عرقًا، ثمَّ مال فغُشي عليه، فحُمل على سرير الميت فرُد إلى منزله (2).
وذُكرَ أنّ امرأة كانت بالمدينة، وكانت تزهو فدخلت يومًا المقابر، فرأت جُمجةً فصرخت، ثم رجعت مُنيبة فدَخل عليها نساؤها فقلنَ ما هذا فقالت:
بكى قلبي لذكر الموت لمّا
…
رأيْتُ جاجمَ فوق القبور
ثم قالت: أخرجْنَ من عندي، فلا تأتيني منكن امرأةٌ إلا امرأةً ترغب في خدمة الله، ثم أقبلت على العبادة.
وأخرج عن عيسى الخواص، أن رجلًا من الصَدْر الأوَّل دخل
(1)"القبور" ص 132 (148).
(2)
أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة 3/ 105.
المقابر، فمرّ بحمجمة بادية من بعض القبور، فحزن حزنًا شديدًا ثم واراها، ثم التفت فلم يَر إلا القبور، فقال: لو كشفَ لي عن بعض أحدهم فسألتهُ عما رأى قال: فأتى فى منامه فقيل له: لا تغتر بتشييد القبور من فوقهم، فإن القومَ بليت خدودُهم في التراب، فمن بين مسرور ينتظر ثواب، الله عز وجل، وبين مغموم آسفًا على عقابه، فإياك والغفلة عما رأيت، فاجتهدَ الرجل بعد ذلك اجتهادًا شديدًا حتى مات.
وأخرَج أيضًا عن جابر قال: رأى رجل جُمجمة إنسان، فحدث نفسه بشيء فخرّ ساجدًا نادمًا مما حدث نفسه، فقيل له ارفع رأسك فأنت أنت، وأنا أنا.
وعن جَعفر قال: سمعتُ أبا عمران الجوني يقول: نودي ارفع رأسك فإنك ابن آدم، وأنا الله تعالى، تتوبُ أعود عليك.
وأخرج الإمام أحمد وابن ماجة عن البراء رضي الله عنه قال: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ بَصر جماعة فقال:"عَلامَ اجضح هؤلاء؟ " قيل على قبر يحفرونه، قال ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فَجثى عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال:"أي إخواني لمثل هذا اليوم، فأعدُّوا"(1).
وأخرج ابن أبي الدنيا، عن الحسن قال: ماتَ أخٌ لنا فلما وُضع في القبر جَاء صلةُ بن أشيم، حتى أخذ بناحية الثوب ثم قال:
(1) رواه أحمد 4/ 294، وابن ماجة برقم (4195).
إنْ تَنجُ منها تَنجُ من ذي عظيمةٍ
…
وإلَّا فأني لا أخالكَ ناجيا (1)
قُلْتُ: تقدم عزو هذا البيت لسيدنا عثمان، وهذا أصح فإني رأيتُ من طعن في عزوه لسيدنا عثمان رضي الله عنه، وعلى فرض صحته فلا تنافى والله أعلم.
وأخرج ابن أبي الدنيا أيضًا عن حجاج بن الأسودِ قال: رأيت في المنام كأني دخلتُ المقابر، فإذا أنا بأهل القبور في قبورهم، وقد انشقت عنهم الأرض، فمنهم النائم على التراب، ومنهم النائم على الريحان، ومنهم كهيئة المتبسم في نومه، ومنهم قد أشرق لونه، ومنهم حائل اللون قال: فبكيْتُ عندما رأيتُ منهم، ثم قلتُ في منامي رَبّ لو شئت سوّيت بينهم في الكرامة، فناداني منادٍ مِن ناحية القبور: يا حجاج هذه منازلُ الأعمال فاستيقظتُ من كلمته فَزِعًا (2).
وعن سلمة البصري قال: وقف رجلٌ على قبر قد بُني بناءً حسنًا فجعل يتعجب من حُسنه، فلما كان من ليلته أتاهُ آت في منامه فوقف عليه وإذا رجل قد امتحت آثار وجهه فقال:
أعجبك القبر وحسنُ البنا
…
والجسمُ فيه قد حواه البلا
فسائل الأموات عن حالِهم
…
ينبئك عن ذاك ذهاب الحِلا
قال: ثم وَلَّى فاتبعتُه فدخل الجبانة، فأتى ذلك القبرَ فانساب فيه بعينه، وعنه أيضًا قال: رأيتُ مربع بن سرور العابد في منامي، وكان
(1)"أهوال القبور" ص 231، وفي حلية الأولياء 2/ 241.
(2)
"أهوال القبور" ص 194.
كثيرًا لذكر الله، كثيرًا لذكر الموت، طويل الاجتهاد قال: قلتُ كيف رأيت موضعك؟ قال: ليس يعلمُ ما في القبور داخله إلا الإله وساكن الأجداث ثم ولىّ وتركني.
وعن الفُضيل بن مُهلهل أخُ المفضل وكان من العابدين قال: كان جليسٌ لنا، حسنَ التخشع والعبادة، يقال له: مُجيب وكان من أجمل الرجال فصلَّى حتَّى انقطع عن القيام وصام حتى اسود ثم مرض فمات وكانَ محمد بنُ النظر الحارثي له صديقًا، ومات محمد قبله قال: فرأيتُ محمدًا في منامي بعد موت مجيب، فقلت: ما فعل أخوك مجيب؟ قال: لحقَ بعمله، فقُلت: كيفَ وجهُه ذاك الحسن؟ قال: أبلاهُ واللهِ الترابُ قال: قُلُت كَيفَ وأنت تقولُ لحقَ بعمله؟ قال: يا أخي أما علمتَ أن الأجسادَ في القبور تبلى وأن الأعمال في الآخرة تحيى، قلتُ: يبلون حتى لا يبقى منهم شيء، ثم يحيون يوم القيامة، قال: أي والله يا أخي يبلونَ حتى يصيرون رفاتًا، ثم يحييون عند الصيحة كأسرع من اللمح (1).
وأنشد بعضُهم:
ما حال من سكنَ الثرى ما حالُه
…
أمسى وقد رثَّت هناك حِباله
أصمى ولا روحُ الحياة تُصيبهُ
…
أبدًا ولا لطفُ الحبيب يَنالهُ
أمسى وقد دَرَسَت محاسن وجهه
…
وتفرقتْ في قبره أوصالهُ
واستُبدِلتْ منه المجالس غيرَه
…
وتقسَّمت من بعده أمواله
(1)"أهوال القبور" ص 233.
ما زالت الأيامُ تلعبُ بالفتى
…
والمالُ يذهبُ صفوهُ وجَلاله (1)
قال ابن أبي الدُنيا إنه قُرئ على قبر بشيراز هذه الأبيات:
ذَهب الأحبة بعد طول تودُّد
…
ونأى المزار فأسلموك واقشعوا
خَذَلوك أفقر ما تكونُ بغربة
…
لم يُؤنسوك وكُربه لم يدفعوا
وقضى القضاء وصرتَ صاحبَ حفرة
…
عنك الأحبة أعرضوا وتصدَّعُوا
قال وقرئ على قبر بمقابر البصرة مكتوب:
يا غافلَ القلب عن ذِكر المنيَّاتِ
…
عمَّا قليلٍ ستثوى بين أموات
فاذكرْ محلَّك من قبل الحلول به
…
وتُبْ إلى اللهِ من لهوٍ ولذّات
إن الحِمامَ له وقتٌ إلى أجل
…
فاذكر مصائب أيام وساعات
لا تطمئن إلى الدُنيا وزينَتها
…
قد حانَ للموت يا ذا اللُبّ أن يأت
وقرِئ على قبر آخر:
ستُعِرضُ عن ذكري وتنسى مودّتي
…
ويُحدثُ بعدي للخليل خليلُ
إذا انقطَعت يومًا من العيش مَودّتي
…
فإنَّ عنَّا الباكيات قليل (2)
يا هذا أهل القبور في الحبوس * أكثرهم قد نكّسَ الروس * ينتظرون هدية تدفع بعض البوس * أو دعوة ترفع ما هم فيه من الغطوس * الثرى لهم مهاد * والتراب ملبوس.
قال ابن عباس، رضي الله عنهما: مثلُ الميت في قبره كالغريق المتغوث، ينتظر دعوةً من صديق فإذا ترحَّم الإنسان عليه أخذها ملك فجاء بها إلى قبره وقال: يا صاحبَ القبر الغريب: هذه هديّة من أخ
(1)"أهوال القبور" ص 233 - 234.
(2)
"أهوال القبور" ص 235.
شفيقّ (1).
قال الحافظ ابن رجب: روى ابن أبي الدُنيا عن محمد بن الحُسين، حدثنا أبو عمر العمري حَدثني عبدُ الله بنُ صدقة بنِ مرداس البكري، عن أبيه عن شيخ حدثّه بقرية من بلاد طرابلس، قال: كان ثلاثةٌ إخوة: أمير يصحب السلطان، ويُؤمَّر على المدائن والجيوش، وتاجر مطاع في ناحيته، وزاهد قد تخلى لنفسه، وتفرَّد لعبادة ربّه، قال: فحضرت العابد الوفاة فاجتمع عنده أخواه، فقال لهما: إذا أنا مِتُّ فغسّلاني وهيِّآني وادفناني على نشز من الأرض، واكتبا على قبري:
وكيفَ يلذّ العيش من هو عالمٌ
…
بأنّ إله الخلق لابُدّ سائله
فيأخذ منه ظُلمه لعباده
…
ويَجزيه بالخير الذي هُو فاعله
فإذا فعلتمُا ذلك فأتياني كل يوم مرّة، لعلّكما أن تتعظا قال: ففعلا ذلك، فكان أخوه يركبُ في جنده، حتى يقفَ على القبر ينزل فيقرأ ما عليه، ويبكي فلما كانَ اليومُ الثالث وأراد أن ينصرف سمع هدة من داخل القبر كادَ أن يتصدّع لها قلبه، فانصرف مذعورًا فَزعًا فلما كان من الليل، رأى أخاه في منامه فقالَ له: أي أخي ما الذي سمعت في قبرك؟ قال: تلك هدة المقمعة، قيل لي: رأيت مظلومًا فلم تنصره.
(1) رواه البيهقي في الشعب 6/ 203 و 7/ 16 بمعناه من حديث ابن عباس مرفوعًا. قال الذهبي في الميزان 6/ 86 ترجمة محمد بن جابر بن عياش: لا أعرفه وخبره منكر جدًا. وأورد له هذا الخبر.
فأصبح مهمومًا فدعا أخاة وخاصته وقال: ما أرى أراد بما أوصى أن يكتُب على قبره غيري، وإني أشهدكم أن لا أقيم بين ظهرانيكم أبدًا، فترك الإمارة ولزم العبادة، وكتب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك، فكتب أن خلّوه وما أراد فحضرته الوفاة، وهو في جبل مع بعض الرّعاة، فبلّغ أخاه فأتاه فقالَ له: إذا متُّ فادفني إلى جنب أخي، واكتب على قبري:
وكيفَ يلذُّ العيش من كان موقنًا
…
بأن المنايا بغتةً ستعاجلهُ
فتُسلبه مُلكًا عظيمًا [ونخوةً](1)
…
وتُسكنه البيتَ الذي هو أهله
ثم تعاهدني ثلاثًا بعد موتي، وادعُ اللهَ لي لعلّ الله أن يرحمني، ومات ففعل به أخوه ذلك، فلمّا كانَ في اليوم الثالث، وأراد أن ينصرف سمع وجبة من قبره، كادت أن تذهل عقله، فرجع قلقًا حزينًا، فلمّا كان الليل إذا بأخيه في منامه، قد أتاه قال: فقلت له يا أخي أتيتنا زائرًا قال: هيهات يا أخي بَعُد المزار، واطمأنت بنا الدار فقلت: يا أخي كيف أنت؟ قال: بخير ما أجمع التوبة لكل خير، فقلت: فكيف أخي؟ قال: ذاك مع الأئمة الأبرار، قلت: وما أمرنا وراكم؟ قال: من قدّم شيئًا وجَده فاغتنم وجدك قبل فقدك، فأصبَح أخوه معتزلًا، ففرّق ماله وقسم رباعه، وأقبل على طاعة ربّه، ونشأ له ابن من أحسن الشباب وجهًا وجمالًا فأقبل على المكاسب والتجارة، حتى بلغَ منها وحضرت أباه الوفاة فقال له: إذا مِتُّ فادفني مع عُمومتك، واكتب على قبري هذين البيتين:
(1) في القبور (218) و (بهجة) وجميع سياق القصة هنا باختصار.
وكيفَ يلذ العيش من هو صائر
…
إلى جدث [يُبْلي الشبابَ منازلهُ]
ويُذهب رسم الوجه من بعد ضوئه
…
سريعًا ويبلِي جسمه ومَفِاصِلهُ (1)
فإذا متُ فتعاهدني بنفسك ثلاثًا، فادع لي ففعل فلما كانَ في اليوم الثالث حمع من القبر صوتًا أقشعر جسده، وتغير لونه، ورجع منه محمومًا إلى أهله.
فلما كان في الليل أتاه أبوه في منامه، فقال: أي بُني أنت عندنا عن قريب، والأمر بآخره والموتُ أقرب من ذلك، فاستعد لسفرك، وتأهَّب لرحيلك، وحوّل جهازك من المنزل الذي أنت عنه راحل، إلى المنزل الذي أنت فيه مقيم، ولا تغتر بما اغترَّ به البطالونَ فتلكَ من طولِ آمالهم، فقصروا عزائمهم وزادهم فندموا عند الموت أشد الندامة، وأسفوا على تضييع العُمر أشد الأسف، فلا الندامة عند الموت تنفعهم، ولا حَمدُوا أنفسهم على التقصير، أنقذك الله من شر ما وافَى به المغبونون مليكَهم يومَ القيامة، أي: بُنيَّ بادر ثم بادر ثم بادر.
قال فَدخلتُ عليه صبيحة ليلته من هذه الرؤيا، فقصها علينا وقال ما أرى الأمر إلَّا كما قال أبي: لا أرى الموتَ إلَّا قد أظلَّني فجعل يفرِّق ماله، ويتصدق ويقضي ما عليه من الدِّين، ويستحل خلطاءه ومُعامِليه ويسلم عليهم، ويودعهم ويودعونه، وكان يقول:
(1) في القبور (تبلى التراب مناهله) والبيت فيه:
ويُذهب وسم الوجه من بعد صورة
…
ويبلى منه جسمه ومفاصله