المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني في فضل الموت وذكره - البحور الزاخرة في علوم الآخرة - جـ ١

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمةفي ذِكْرِ الموتِ وما يتعلقُ بِهِ، والرُّوح

- ‌الفصل الأول في النَّهْي عن تمَنِّي الموتِ وحِكْمتِه

- ‌الفصل الثاني في فَضْلِ المْوتِ وَذِكْرِهِ

- ‌الفصل الثالث في علامة خاتمة الخير، ومن دنى أجله، والكلام على شدة الموت

- ‌الفصل الرابع فيما يقول الإنسان في مَرض الموت وما يقرأ عنده. وما يقال إذا احتضر وتوابع ذلك

- ‌الفصل الخامس فيما جاء في ملك الموت وأعوانه

- ‌الفصل السادس فيما يحضر الميت من الملائكة وغيرهم وما يَراه المحتضر، وما يقال له، وما يبشر به المؤمن، وينذر به الكافر

- ‌الفصل السابع في الكلام على الروح وما يتعلق بذلك

- ‌خاتمة

- ‌الكتاب الأول في أحوال البرزخ

- ‌البابُ الأول في ذكر حال الميت عند نزوله قبره، وسؤال الملائكة له، وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه، وما يرى من منزله في الجنة والنّار، وكلام القبر للميت عند نزوله إليه

- ‌فصل في كلام القبر للميت عند نزوله

- ‌فصل

- ‌تَتِمَّة:

- ‌فصل

- ‌فوائد

- ‌فصل في فظاعة القبر وسعته على المؤمن وضيقه على الكافر وفي ضمة القبر

- ‌من أسباب ضمة القبر

- ‌فائدتان:

- ‌البابُ الثاني في عذاب القبرِ ونعيمه

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثالث فيما ورد من سَماع الموتى كلامَ الأحياء وتلاقيهم، ومعرفتهم بحالهم بعد الموت، وحال أقاربهم في الدنيا، ومحل الأرواح فى البرزخ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي:

- ‌فصل

- ‌تتمة

- ‌فصل

- ‌تنبيه

- ‌الباب الرابع في ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنوّرها عليهم، وفي زيارة الموتى والاتّعاظ بحالهم والتفكر بهم

- ‌فصل

- ‌تنبيه

- ‌فصل

- ‌تنبيه

- ‌فصل في التذكر بأهل القبور والتفكر في أحوالهم، وذِكْر طرفٍ من أحوال السلف الصالح في ذلك

- ‌فوائد:

- ‌الأولى:

- ‌الثانية:

- ‌الثالثة:

- ‌ الرابعة:

- ‌الخامسة:

الفصل: ‌الفصل الثاني في فضل الموت وذكره

‌الفصل الثاني في فَضْلِ المْوتِ وَذِكْرِهِ

تقدم أنَّ الموت ليس بعدم محض، ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما وتبدل وانتقال من دار إلى دار.

أخرج أبو نعيم، عن بلال بن سعد أنه قال في وعظه: يَا أَهْلَ الخُلودِ ويَا أَهْلَ البقاءِ إنكم لم تُخْلقوا للفناء، وإنما خُلقتم للخلود والأبد، ولكنكم تنتقلون من دار إلى دارٍ (1). وقال عمر بن عبد العزيز إنما خُلقتم للأبد، ولكنكم تنتقلون من دارٍ إلى دار (2). ومن هذا قول المعري في قصيدته الداليّة (3).

خُلّقَ الناسُ للبقاء فَضَلّتْ

أُمّةٌ يَحسبونهم للنفادِ

إنما ينقلون من دارِ أعما

لٍ إلى دار شقوةٍ أو رشاد

وأخرج الحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير، وابن المبارك في الزهد، وابن أبي الدنيا، عن عبد الله بن عمرو

(1)"حلية الأولياء" 5/ 229.

(2)

"الحلية" 7/ 287 من قول الحسن.

(3)

سقط الزند لأبي العلاء المعري ص 8. من حاشية "ط".

ص: 21

رضي الله عنهما مرفوعًا: "الموتُ تحفة المؤمن"(1).

والديلمي عن الحسين بن علي رضي الله عنهما مرفوعًا: "الموت ريحانة المؤمن"(2).

وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الموت غنيمة والمعصية مصيبة والفقر راحة، والغنَى عقوبة"(3).

وقال صلى الله عليه وسلم: "اثنتان يكرهما ابن آدم: يكره الموتَ والموتُ خير له من الفتنة، ويكره قِلةَ المال وقلة المالِ [أقل] (4) للحساب"(5).

وأخرج الشيخان عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال:"مستريحُ ومستراح منه". قالوا: يا رسول الله: ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: "العبد المؤمن

(1) رواه عبد بن حميد (347)، وابن المبارك في "الزهد"(599)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 319 وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 185. وإسناده ضعيف. وعزاه في "مجمع الزوائد" 2/ 325 للطبراني في "الكبير".

(2)

الفردوس 4/ 239. وعند الديلمي أيضًا 4/ 238 من حديث جابر، وهو في "العلل المتناهية" (1480) من حديث جابر أيضًا. وإسناده ضعيف جدًا.

(3)

أورده الديلمي كما في "الفردوس" 4/ 238. ورواه البيهقي في "الشعب" 5/ 388 وإسناده ضعيف.

(4)

في الأصل: (خير) وكُتب في الهامش: في نسخة [أقل]. قلتُ: وهو الموافق لمصادر التخريج.

(5)

رواه أحمد 5/ 427 و 248، وأبو عمر الداني في السنن الواردة في الفتن" 1/ 237، والبغوي في "شرح السنة" (4066) من حديث محمود بن لبيد. وأورده الألباني في "الصحيحة" (813).

ص: 22

يستريح من تعب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب" (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن (2) وسَنته وإذا فارق الدنيا فارق السجن والسَّنة" بفتح أوله القحط والجدب. رواه ابن المبارك والطبراني من حديث عمرو بن العاص (3).

وأخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن، وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه كمثل رجل كان في سجن، فأخُرِجَ منه فجعل يتقلب في الأرض ويتفسح فيها (4).

وأخرج أبو نعيم عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ: "يا أبا ذر، الدنيا سجن المؤمن والقبر أمنه، والجنة مصيره، يا أبَا ذر إن الدنيا جنةُ الكافر، والقبرُ عذابُه، والنارُ مصيرُه"(5).

وقال ابن مسعود: حبذا المكروهان: الفقر والموت (6). وقال

(1) رواه البخاري (6512) و (6513)، ومسلم (950).

(2)

في (ب) زيادة "وجنة الكافر" ولا يستقيم بها المعنى.

(3)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(598)، والإمام أحمد 2/ 197 (6855)، وعبد بن حميد (346)، والحاكم 4/ 315، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 177. وفي إسناده ضعف.

(4)

رواه أحمد في "الزهد"(143)، وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 353، والخطيب في "تاريخه" 6/ 401.

(5)

"الحلية" 6/ 353.

(6)

رواه الطبري في "تهذيب الآثار"(مسند علي) 1/ 229 (505).

وابن المبارك في الزهد ص 199 (566). =

ص: 23

بعضُ السلف: بلغني أنّ أوّل سرور يدخل على المؤمن الموت؛ لما يرى من كرامة الله وثوابه.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله (1).

وعن أبي عنبة الخولاني الصحابي رضي الله عنه أنه قيل له: إن عبد الملك خرج هاربًا من الطاعون. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما كنت أرى أنّي أبقى حتى أسمع بمثل هذا! أفلا أخبركم عن خلال كان عليها إخوانكم أوّلها: لقاء الله كان أحبَّ إليهم من الشَّهد. والثانية: لم يكونوا يخافون عدوًّا قلّوا أو كثروا. والثالثة: لم يكونوا يخافون عَوزًا من الدنيا، كانوا وأثقين بالله أن يرزقهم. الرابعة: إن نزل بهم الطاعون لم يبرحوا حتى يقضي الله فيهم ما قضى (2).

وقال أبو عبد ربه لمكحول: أتحبُّ الجنة؟ قال: ومَن لا يحبّ الجنّة! قال: فأحبّ الموت، فإنك لن ترى الجنّة حتى تموت.

وأخرج الترمذي والنّسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثروا ذكر هادم اللذات"(3) وعن

= والطبراني في "المعجم الكبير" 9/ 92 (8505).

وأبو نعيم في "حلية الأولياء" 1/ 132.

(1)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(17) وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 136 و 8/ 133: في حاشية الأصل قال الشاعر من بحر الكامل.

فقلت من مدحوا الحياة وأطنبوا

في الموت ألف فضيلة لا تعرف

منها أمان لقائه بلقائه

وفراق كل معاند لا ينصف

(2)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(524)، وفي "الجهاد"(128)، والمزي في "تهذيب الكمال" 34/ 152.

(3)

رواه الترمذي (2307)، والنسائي 4/ 4، وابن ماجه (4258)، والإمام أحمد =

ص: 24

عمرَ مثله (1).

وأخرج البزار عن أنيس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات، فإنه ما ذكره أحدٌ في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا في سعة إلا ضيّقه عليه"(2).

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ المؤمينين أكيسَ؟ -أي: أعقل-. قال: "أكثرهم للموت تذكرًا، وأحسنهم لما بعده استحسانًا أولئَك الأكياس"(3) أي: العقلاء رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر.

وقال صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجزُ من أتبعَ نفسَهُ هواها وتمنى على الله"(4) رواه الترمذي من

= 2/ 292 - 293، وابن حبان (2992) و (2993) و (2994) و (2995) والحاكم 4/ 321. والحديث حسن بشواهده.

(1)

حديث عمر عند أبي نعيم في "الحلية" 6/ 355. وفي سنده راو مجهول.

(2)

رواه البزار (3623 - كشف) وعزاه في "المجمع" 10/ 308 للبزار، والطبراني باختصار قال: وإسنادهما حسن. قلت: الحديث المختصر عند أبي نعيم 9/ 252، والخطيب 12/ 72، والضياء في "المختارة" 1/ 521.

لكن روي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بهذا اللفظ، رواه الطبراني في "الأوسط"(5780)، والقضاعي (671)، والبيهقي في "الشعب" 7/ 353 وأورده في "المجمع" 7/ 354.

(3)

رواه ابن ماجه (4259)، وابن حبان في "المجروحين" 2/ 67، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 313، والبيهقي في "الشعب" 6/ 235 و 7/ 351. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" 4/ 249: هذا إسناد ضعيف.

(4)

رواه الترمذي (2459)، وابن ماجه (4260)، والطيالسي (1218)، والإمام =

ص: 25

حديث شداد بن أوس.

وأخرج ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه قال: أكثروا ذكر الموت، فإنه يُمَحِّصُ الذنوبَ، وَيُزَةِدُ في الدنيَا، فَإن ذكرتمُوه عندَ الغِنى هدَمَه، وإن ذكرتُموه عندَ الفَقْرِ أرضَاكم بِعَيْشكُمَ (1).

وأخرج أيضًا عن عطاء الخُراساني قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد استعلاه الضحك، فقال:"شوبوا مجلِسَكُم بمُكدّر اللذات". قالوا: وما مكدّر اللذات؟ قال: "الموت"(2).

وأخرج الطبراني عن عمّار مرفوعًا: "كفى بالموت واعظًا"(3).

وفسَّر السديُّ قوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [المُلك: الآية 2] قال: أكثركم للموت ذكرًا (4).

قال الجلال السيوطي -في "شرح الصدور" عن بعضهم-: من

= أحمد 4/ 124، والبزار في "البحر الزخار" 8/ 417، وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"(256)، والطبراني في "الصغير" 2/ 157، وفي "الكبير" 7/ 281 و 284، وفي "مسند الشاميين" 1/ 266 و 2/ 354، والحاكم 1/ 57، وأبو نعيم 1/ 267، والقضاعي (185)، والبيهقي 3/ 369، والبغوي (4116 و 4117) وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع".

(1)

قال العراقي في تخريج الإحياء - "المغني عن حمل الأسفار 4334" - رواه ابن أبي الدنيا في "الموت" بإسناد ضعيف جدًا.

(2)

قال العراقي "المغنى"(4343): رواه ابن أبي الدنيا في الموت، هكذا مرسلًا ورويناه في "أمالي الخلال" من حديث أنس ولا يصح.

(3)

القضاعي (2/ 352) قال الهيثمي 10/ 308: رواه الطبراني وفيه الربيع بن بدر وهو متروك.

(4)

عزاه في شرح الصدور لابن أبي الدنيا والبيهقي في "الشعب" 7/ 408.

ص: 26

أكثرَ ذكرَ الموت أكُرِمَ بثلاثة أشياء: تعجيلِ التوبةِ، وقناعةِ القلبِ، ونشاطِ العبادةِ. ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويفِ التوبةِ، وتركِ الرضى بالكفافِ، والتكاسلِ في العبادةِ. وقال التيمي: شيئان قطعا عَنّي لذاذة (1) الدّنيا: ذكرُ الموت، وذكر الوقوف بين يدي الله تعالى (2).

ومَن ذكر الموت في اليوم والليلة عشرين مرة حشر مع الشهداء (3).

قال القرطبي في "التذكرة"(4): قوله عليه الصلاة والسلام: "أكثروا ذكر هادم اللذات (الموت") كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة، فإنّ مَن ذكر الموت حقيقةَ ذكرِهِ نغّص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من عينها في المستقبل، وزهّده فيما كان منها يؤمّل، ولكنَّ النفوس الذاهلة والقلوبَ الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قَولِه عليه السلام:"أكثروا ذكر هادم اللذات" مع قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عِمرَان: الآية 185][الأنبياء: 35، العنكبوت: 57] ما يكفي السامع له،

(1) في (ب): لذات.

(2)

شرح الصدور للسيوطي ص 46. وأكثر النصوص التي تقدمت نقلها المصنف عنه.

(3)

هذا يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(4)

"التذكرة" للقرطبي ص 22 سبق تخريجه ص 24 ت (3) و (25) ت (1، 2).

ص: 27

ويشغل الناظر فيه. وكان أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرا ما ينشد هذه الأبيات:

لا شيء ممّا ترى تبقى بشاشته

يبقى الإله ويُودى المالُ والولدُ

لم تغن عن هرمزٍ يوما خزَائنُهُ

والخلدَ قد حاولت عادٌ فما خُلِّدو

ولا سليمانَ إذ تجري الرّياحُ له

والإنس والجنّ فيما بينهما يردُ

أين الملوكَ التي كانت لعزتها

من كلّ أوب إليها وافدٌ يفدُ

حوضٌ هنالك مورودٌ بلا كذبٍ

لابُدَّ من وردِهِ يومًا كما وردُوا (1)

وحكى القرطبي في "التذكرة"، وعبد الحق الإشبيلي (2) في "العاقبة": أن أعرابيًا كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتًا، فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به ويتفكر فيه، ويقول: مَالَك لا تقومُ؟! مَالَك لا تُبعثُ؟! هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة ما شأنك؟! ما الذي كان يحملك؟! ما الذي كان يبعثك؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك؟! ثم تركه وانصرف متفكرًا في شأنه، متعجبًا من أمره. وأنشدوا في ذلك:

(1) إلى هنا انتهى النقل من القرطبي في ص 22. وهذه الأبيات منسوبة لورقة بن نوفل، كما في "المستطرف" 1/ 174، و"المدهش" 1/ 274.

(2)

هو أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي المعروف بـ "ابن الخراط" ولد عام 510 وتوفي 582 هـ له مؤلفات عديدة ومما طُبع منها كتاب "الأحكام الوسطى"، و"الصلاة والتهجد" وكتاب "العاقبة" والأخير الذي ينقل منه المصنف هو كتاب العاقبة في أحوال الآخرة، وهو في التذكير بالموت والحشر والوعظ والزهد. وانظر "سير أعلام النبلاء" 21/ 199 - "كشف الظنون" 2/ 1437.

ص: 28

جاءته من قِبَل المنونِ إشارةٌ

فَهَوى صريعًا لليدين وللفمِ

ورمى بمحكم دِرعهِ وبرمحهِ

وامتدَّ مُلقى [كالقتيل] الأعظمِ

لا يستجيبُ لصارخٍ إنْ يَدْعُهُ

أبدًا ولا يُرجى لخطبٍ معظمِ

ذهبت بَسالتُه وَمَرَّ غرامُه

لمَّا رأى خيل المنيَّةٍ ترتمي

يا ويَحُه مِنْ فارس ما بالُه

ذهبَتْ مروءته ولم يتكلمِ

هذي يداهُ وهذه أعضَاؤه

ما منه من عضوٍ غدا بمثلمِ

هيهاتَ ما خيلُ الردى محتاجةٌ

للمشَرِفِّي ولا السنانُ اللهذمِ

هي وَيْحكُم أمرُ الإله وحُكمهُ

واللهُ يقفيى بالقضاء المحكمِ

يا حسرةً لو كان يُقدَرُ قدرُها

ومصيبة عظمت ولما يعظمِ

خبرٌ علمنا كلُّنا بمكانه

وكأنّنا في حالنا لم نعلمِ (1)

قال في "العاقبة"(1): فكيف إذا أضاف الفكرة في الموت إلى الفكرة في مَا بعد الموت، وفي حال الموت وما له وما يُجازَى به من أقواله وأفعاله وفي أيّ متّجر فاته، وأيّ بضاعة فرّط فيها، وأيّ علق نفيس من العمر ضيّعه! هنالك تطيش العَقول، وتُخْرَسُ الألسُن، وتنبذ الدُنيا بالعراء وتطرحُ بجميع ما فيها بالوراء.

قال ابن السَّمَّاك (2) رحمه الله: إن الموتى لم يبكوا من

(1) العاقبة (45، 46)"التذكرة" ص 17 وما بين القوسين في العاقبة (كالفنيق) ومعناه الجمل الضخم أو الغرارة. اهـ. من العاقبة.

(2)

محمد بن صبيح العجلي، أبو العباس الكوفي المعروف بابن السماك، الواعظ، قال ابن حبان في الثقات: مستقيم الحديث، وكان يعظ الناس في مجالسه.

وترجمة الخطيب في تاريخه 5/ 368 - 373، وقال ابن نمير: ليس حديثه بشيء. =

ص: 29

الموت، ولكن بَكَوْا من حسرة الفَوت، فاتتهم والله دارٌ لم يتزودوا منها، ودخلوا دارًا لم يتزوّدوا لها، فأيّةُ ساعةٍ مرّت على من مضى؟! وأيةُ ساعةٍ بقيت علينا؟!، والله إن المتفكر في هذا؛ لجديرٌ أن يَترُكَ الأوطانَ، ويهجرَ الخلّان، ويدَع لها ما عزّ وما هان.

قال الإشبيلي في "العاقبة"(1): رُوي أنّ ملِكًا من ملوك بني إسرائيل كان كلما وُلدَ له ولد فبلغ ما يبلغ الرّجالُ، ويعقل ما يعقل الرّجالُ؛ لبس مسوحه وتعلق برؤوس الجبال، وسلك بطون الأودية يعبد الله عز وجل.

فلم يزل ذلك دأبهُ حتى ولد له مولود فجمع رجاله وخاصّته وقال تعلمون ما كان منْ أمر بَنِيّ وأنه ليس منهم واحد بقى معي ولا التفت إليّ، وإنه ليس يصلح لكُم ولا يستقيم أمركم إلا بأن يليكم واحد من ولدي، وإني أخاف إن لم يكن ذلك تهَلكوا بهلاكي، فخذوا ولدي هذا فرَبّوه وقوموا بأمره فإذا شبّ وعقل، فزينوا له الدنيا وعظموا قدرها عنده ثمّ أمَرَ فبُنِي له قصر عظيم: فرسخ في فرسخ، وجمع له المراضع، وأكثر له من الحواضن، ووكل به رجالا من عقلاء أصحابه ووجوه دولته، وأمر إذا فَهِمَ وعَقَلَ أن لا يخرج من ذلك القصر، وأن لا يُذكرَ عنده الموت، ولا يكون ميتٌ في موضع يكون فيه، مخافة أن يسمع بالموت أو يرى ميّتا فيسأل عنه، فيفسر له، فتتنغّص عليه لذّته، وتتكدّر عليه حياتُه، ويزهد في

= وقال الدارقطني: لا بأس به.

(1)

ص 46.

ص: 30

الملك، ويسلك مسلك إخوته ويلحق بهم.

فبقي الغلام على ذلك لا يذكرون له موتا، ولا يُسمِعونه خبر موت ولا يطلعونه عليه ولا يذكر عنده إلّا الدّنيا وتعظيمها والفرح بها، والإقبال عليها، وتعظيم آبائه الملوك، وأجداده العظماء، والترغيب في الاقتداء بهم والمشي على طريقتهم، والاستنان بسنتهم، إلى أن شبّ الغلام، وعقل ما يعقله الناس.

فمشى ذات يوم في ذلك القصر وطاف في أرجائه، وقد أحدق به خاصّته الموكلون به، فانتهى إلى سور القصر فقال: ما وراء هذا السور؟ وما خلف هذا الحائط؟ فقالوا له: وراءه الأرض الوَاسعة، والبلاد الكثيرة، والجمّ الغفير من الناس، وكل ذلك لك وللملك أبيك. فقال: أخرجوني حتى أنظر وأرى، فأبَوْا حتى يشاوروا أباه، فشاوروه وأخبروه أنه يريد الخروج، ويرى الناس، وظنوا أنه يحكمهم، فأذن لهم فأخرجوه فرأى ونظر، فأوّل من وقع عليه بصره من الناس شيخ كبير، قد سال لعابه وسقط حاجباه على عينيه من الكبر. فقال: ما هذا؟ قالوا: شيخ كبير. قال: وما شيخ كبير؟ قالوا: كان شابّا فعمر وعاش حتى أصابه الهرم فعمل به ما ترى قال: وما الهرم؟ قالوا: الكبر وطول العمر، يعيش إلى أن تقل طاقته، وتضعف حركته، حتى لا يقدر أن يُمسك لعابه في فيه، مع علِل أخرى تعتريه من طول الحياة قال: أو يصيبكم هذا؟ أو هو شيء يصيب قومًا دون قوم؟ قالوا: ليس هو مختصًا بأحدٍ دون أحد، بل

ص: 31

يصيب كل من طال عمرُه. قال: ويصيبني أنا مع ما أنا فيه من النعيم، وضروب اللذات، وبلوغ الشهوات؟ قالوا: ويصيبك أنت إن طال عمرك (1). فقال: أفٍ لعيش يكون آخره هذا.

ثم رجع ورجعوا إلى قصره [وقد](2) تكدّر عليه بعض نعيمه، وتنغّص عليه بعض ما كان فيه، فعالجوه بكل لهو وباطل، حتى أستخرجوا من قلبهِ ما كان وقع فيه من أمر الهَرَم والكبر، فأقام عاما، ثمّ إنه أمرهم بأنْ يُخرجوه ثانيا، فأبَوْا عليه، وخافوا من أبيه، ثم إنَّه عزم عليهم فأخرجوه، فأوّل من رأى مِن الناس شابًا به جُذام أو غيرُهُ من الأدواء. فقال: ما هذا؟ ومِمَّ يكون هذا؟ قالوا: هذا فساد في المزاج وتحريك في الأخلاط، فيتولد عنه هذا وغيره قال: وهذا وحده أصابه، أو كلكم خائف منه أن يصيبه هذا الداء؟ فقالوا: ما عند أحدٍ أمان كلُّ واحدٍ خائف من هذا الداء ومن غيره، الدارُ دارُ أمراض وأسقام وبلايا ورزايا. قال: وأنا خائف؟ قالوا: وأنت خائف، قد أخبرناك أنه ليس لأحد أمانٌ في هذه الدنيا، فأصابه من الغم أكثر مما أصابه في المرّة الأُولى.

فرجع ورجعوا، ولم يزالوا يشغلونه بضروب المحاب، وأصناف الملاذ، حتى أخرجوا من قلبه ما كان قد وقع فيه، فأقام كذلك حولًا، ثم قال: أخرجوني فأخرجوه، فنظر فإذا ميت يُحملُ

(1) في هامش الأصل: وفي نسخة: إن طالت بك الحياة.

(2)

ساقطة من (أ).

ص: 32

على سرير، قال: ما هذا؟ قالوا: ميت قال: وما ميت؟ قالوا: رجل مثلنا نزل به قضاءٌ إلهيُّ، وحادثٌ سماويّ، فأطفأ شرارته، وأخمد حرارته، وردّه حجرًا من الحجارة، وجمادًا من الجمادات، فقال عَلَيّ به حتى أراه، فجاؤا به فكشف له عنه، فقال: كلّموه. فقالوا: إنه لا يتكلم. وقال: أجلسوه، فقالوا له: لا يجلِس. فجعل ينظر إليه، ويتفكر فيه، ثم قال: وهذا وحده خُصّ بهذا الحادث، أو أنتم كلكم ينزل به هذا الحادث؟ قالوا: كُلّنا فيه سواءٌ وكلّنا ينزلُ بنا هذا الحادث. قال: وأنا؟ قالوا: وأنت. قال: ولا يَدفَعُ عني أبي؟ قالوا: لا يدفع عنك أبوَك، ولا يدفع عن نفسه؟

فقال: إنّ نعيما يصير آخره إلى هذا لجديرٌ أن يتكدّرَ وإن قلبا يخطر به ذكر هذا لحقيق أن يتفطَّر قال؟ وما تصنعون به؟ قالوا: نحفر له حفرة في الأرض نلقيه فيها، ونتركه هنالك، ونرد عليه التراب إلى يوم النشور والعَرض قال: وما يوم النشور والعرضْ؟ قالوا له: هو يوم تبعث فيه الأموات، وتظهر فيه المخبَّآت. قال: ويكون ولابد منه؟ قالوا: ولا بدّ منه. فقال: وهذه أشد.

فعمل الكلامُ في نفسه عملَه، وأخذ من قلبه مأخذه، فتغيّر وجهُه، وضعفَ جسمه، وشحب لونه، وأقصر عما كان فيه من تلك الراحات، وتلك البطالات.

فأخُبر أبوه بخبره، ووصف له، حديثه، فقال: أو قد فعلها؟ قالوا: نعم، فداواه أبوه بكل شيء، فلم ينفع في شيء، وهَوَّن عليه

ص: 33

الأمر، فلم يهن، وسلاه، فلم يتسلَّ، فقال له أبوه: لا جَرَمَ والله لأدعنَّك تلحق بإخوتك، فبعث إليه ثيابه من المسوح فلبسها وخرج من جوف الليل فتعلق بالجبال ولحق بإخوته فتعبد معهم، وكان يقول في مناجاته: اللهم إني أسألك أمرًا ليس إليَّ، قد سبقت به المقاديرُ، ولوددت أني لو كنت كالطير في الهواء والسمك في الماء، ولم أك شيئًا مذكورًا مخافة الحساب والعقاب.

وأنشد الإمام ابن الجوزي في "تبصرته"(1):

أتنكر أمر الموت أم أنت عارفٌ

بمنزله تفنَى وفيه المتالف

كأنَك قد غُيِّبِت في اللحد والثرى

كما لقي الموت القرونُ السِوالف

أرى الموت قد أفنى القرون التي مضت

فلم يبق مألوف ولم يبق آلف

كأن الفتى لم يصحب الناس ليلة

إذا عُصبت يوما عليه اللفائف

وقامت عليه عصبة يدفنونه

فمستذكر يبكى حزينًا وهاتف

وغيّب في لحد كريه فناؤه

ونُضَّد من لبن عليه السقائف

وما صاحب البحر القطيع مكانه

إذا هاج آذى من عليه وقاصف

أحق بطول الحزن من ضيق غربة

تصدّع عنه أهله والمعارفُ

ثم قال: أين من ربح في متاجر الدنيا واكتسب؟ أين من أعطى وأولى ثم وَالى ووهب؟ أما رحل عن قصره الذهبُ فذهب؟ أما حلّ به في الحرب المصطلم الحرب؟ أما نازله التلف وأسره العطب؟ أما نابته نائبة لا تُشْبِه النُّوَب؟ أنفعه بُكاء من بكى أو نَدبُ مَن

(1) التبصرة لابن الجوزي 1/ 173 - 174.

ص: 34

نَدَب؟ أما ندِم على كل ما جنى وارتكب؟ أما توقنون أنَّ طالبه لكم في الطلب؟ تدبّروا قولَ ناصحكم صدقَ أو كذَب؟ انتهى.

واعلم أن ذكر الموت يُوَرّثُ الاستشعارَ بالانزعاج عَن هذه الدار الفانية، والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقيةُ ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتَي ضيقٍ وَسعَة ونعمة ومحنة، فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت سَهّل عليه بعضُ ما هو فيه، إذ لا مصيبةَ إلا والموتُ أعظمُ منها وهو ذائقه ولا بدّ، أو في حال نعمة وسعة، فذِكر الموت يمنعه من الاغترار بها والركون إليها لتحقق عدم دوامها وذهابها عنه وانصرامها.

وما أحسن قول من قال:

اذكر الموت هادم اللذات

وتجهز لمصرع سوف يأتي

وقول الآخر:

اذكر الموت تجده راحة

في ادِّكار الموت تقصير الأمل

وَكَتَبَ عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته أما بعد: فإنَّك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك، بغض إليك كل فانٍ وحبّب إليك كل باق (1).

وقال مجمع التيميّ: ذكرُ الموت غنى (2).

وقال أبو نعيم: كان الثوري إذا ذكر الموت لا يُنتفَع به أياما،

(1) الخبر في "سير أعلام النبلاء" 5/ 138.

(2)

"حلية الأولياء" 5/ 90. وانظر ترجمته في "المعرفة والتاريخ" 3/ 95، و"صفة الصفوة" 1/ 70.

ص: 35

فإن سُئل عن شيء قال: لا أدري (1).

وذكير القرطبي في "تذكرته" قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فأثنى عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"كيف ذِكرهُ للموت" فلم يذكر منه (2). فقال: "ما هو كما تقولون"(3).

ثم قال: فتفكر يا مغرور بالموت وسكراته وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه! ومن حاكم ما أعدله! فكفى بالموت مفزعًا (4) للقلوب، ومبكيا للعُيون، ومفرّقا للجماعات، وهادمًا لِلَّذات، وقاطعًا للأُمنيات، فهلا تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك؟! وانتقالك من موضعك! إذا نُقلت من سعة إلى ضيق، وفارقك (5) الصاحب والرفيق، وهجرك الأخُ والصَّديقُ، وأُخذْتَ من فَراشك وغطيائك إلى غرر (6)، وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر، فيا جامعَ المالِ والمجتهد في البنيان؛ ليس لك من

(1)"حلية الأولياء" 6/ 387 و 7/ 58، و"الجرح والتعديل" 1/ 85، "سير أعلام النبلاء" 7/ 276.

(2)

في "التذكرة": (ذلك عنه) ص 23.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 7/ 78، والإمام أحمد في "الزهد" 1/ 17، وابن المبارك في "الزهد" 1/ 90، وأبو نعيم في "الحلية" 7/ 299 بأسانيد منقطعة. ورواه ابن عدي في "الكامل" 7/ 153 بإسناده وفيه متروك.

(4)

في هامش (أ): مفزعًا نسخة، مفرجًا نسخة. والمثبت في (ب)، و (ط): مفرجًا وفي التذكرة (مقرحًا).

(5)

في التذكرة وخانك.

(6)

في (ب): (فرز) في التذكرة (عرر) وفي مختصرها (الحضر).

ص: 36

مالك والله إلا الأكفان، بل هي للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال، فهلا أنقذك من الأهوال! كلا بل تتركه إلى من لا يحمدك، وقدِمْتَ بأوزار على من لا يعذُرك.

وقد فسّر بعضُهم قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القَصَص: الآية 77] بالكفن. قال القُرطبي: فهو وعظٌ متصل بما تقدم من قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: الآية 77] أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة، وهي الجنة، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة؛ لا في الطين والمال والتجبر والبغي، فكأنه قال لا تنس أن تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن.

وما أحسن قول القائل:

هي القناعة لا تبغي بها بدلا

فيها النعيم وفيها راحة البدن

انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها

هل راح منها بغير القطن والكفن (1)

واعلم أن مما يُعين على تذكر الموت زيارة القبور كما في حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة"(2).

(1)"التذكر" ص 24.

(2)

رواه مسلم (976)(108) ولفظه: "فزوروا القبور فما تذكر الموت". أما اللفظ المذكور فهو لحديث ابن مسعود عند ابن ماجه (1571) انظر ص 381 ت (2).

ص: 37

وعند الحاكم: "فإن فيها عبرة"(1). وعنده أيضًا عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها يرق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا: هجرًا"(2).

وفي "التذكرة": عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج إلى المقبرة فلما أشرف عليها قال: يا أهل القبور: أخبرونا عنكم أو نخبركم، أما خبر (ما) قِبَلنَا فالمال قد قُسم، والنساء قد تزوجْن، والمساكن قد سكنها قوم غيركم، ثم قال: أمَا واللهِ لو استطاعوا لقالوا لم نر زادًا خيرًا من التقوى (3).

وقد أحسن القائل حيث قال:

يا عجبًا للناس لو فكروا

وحاسبوا أنفسهم وأبصروا

وعبروا الدنيا إلى غيرها

فإنما الدنيا لهم معبر

لا فخر إلا فخر أهل التقى

غدًا إذا ضمّهمُ المحشرُ

ليعلمنّ النَّاس أنَّ التقى

والبر كانا خير ما يُدْخَرُ

عجبت للإنسان في فخره

وهو غدا في قبره يُقبر

ما بال مَن أوّله نطفة

وجيفة آخره يفخر

(1) هذا اللفظ من حديث أبي سعيد عند الحاكم 1/ 375، وهو عند أحمد 3/ 38. انظر ص 381 ت (2).

(2)

"المستدرك" 1/ 376. انظر ص 381 ت (3).

(3)

ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 20/ 242 دون إسناد، وروى نحوه ابن حبان في "الثقات" 9/ 235 بصيغة فيها تضعيف. والخبر في "التذكرة" ص 26. وما بين القوسين في التذكرة (من).

ص: 38

يصبح لا يملك تقديمَ ما

يرجو ولا تأخير ما يحذر

وأصبح الأمر إلى غيره

في كل ما يُقضَى وما يُقدر (1)

قال القرطبي: قال العلماء: ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور وخاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور:

أحدُها: الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ والتذكير والتخويف، والترغيب وأخبار الصالحين، فإن ذلك مما يلين القلوب.

الثاني: ذكر الموت، فيكثر من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، وموت البنين والبنات.

يُروى أن امرأة شكتْ إلى سيدتنا عائشة رضي الله عنها قساوة في قلبها فقالت لها أكثري من ذكر الموت يرق قلبك، ففعلت ذلك فَرَقّ قلبها، فجاءت تشكر عائشة (2).

قال القرطبي عن العلماء: فذكر الموت يردعُ عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويُذهبُ الفرحَ بالدُنيا ويهوّن المصائب فيها.

الثالث: مشاهدة المحتضرين، فإن في النظر إلى الميت، ومشاهدة سكراته ونزعاته، وتأمّل صورته بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرُد عن القلوب مَسرَّاتها، ويمنع الجفون من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل والاجتهاد، في عبادة الكريم الجواد.

(1) الأبيات في "التذكرة" ص 26 - 27 نسبها لأبي العتاهية.

(2)

كذا في "التذكرة" ص 27 ولم أقف عليه.

ص: 39

فروي أن الحسن البصري (1) رحمه الله، دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فوجع إلى أهله بغير اللّون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله. فقال: يَا أهلاه عليكم بطعامكم، وشرابكم، فوالله لقد رأيتُ مصرعًا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.

الرابع: زيارة القبور، فإنها تبلغُ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأوّل، والثاني، والثالث. وينبغي للإنسان؛ لاسيما عند الاحتضار أن يحسن ظنه بالله، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسِنُ الظن بالله"(2) متفق عليه.

وأخرج الترمذيُّ، وابن ماجه، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو فى الموت، فقال له:"كيف تجدك؟ " فقال: أرجوا الله وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجوه وأمنه مما يخاف"(3).

(1)"التذكرة" ص 27.

(2)

رواه مسلم (2877)، والإمام أحمد 3/ 293 (4125)، وأبو داود (3113) والطيالسي (1888)، وابن حبان (636 - 638) من حديث جابر. أما قول المصنف رحمه الله:"متفق عليه" إنما يقصد متفق على معناه إشارة إلى حديث أبي هريرة عند البخاري (7405)"يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. . " أما حديث جابر فليس عند البخاري.

(3)

رواه الترمذي (983) وابن ماجه (4261)، وأبو يعلى (3303) و (3417) وابن أيى الدنيا في "المحتضرين"(17) وفي "حسن الظن بالله" ص 38، وفي =

ص: 40

وأخرج الحكيم الترمذي عن الحسن قال: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قال ربكم لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، ومن أمنني (1) في الدنيا أخفته في الآخرة"(2).

وأخرجه أبو نعيم موصولًا من حديث شداد بن أوس (3).

وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند الموت حتى يحسن ظنه بربه (4).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله غيرُه لا يُحسنُ أحد الظنَّ بالله، إلا أعطاه الله ظنه (5).

="المرض والكفارات" ص 98، وأبو نعيم 6/ 292. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

(1)

في "ط" حاشية: أي أمن مكرى، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون. اهـ.

(2)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(157) من حديث الحسن مرسلًا، وهو في "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي 3/ 242، ومجمع الزوائد 10/ 308.

ورواه ابن حبان (640)، والبيهقي في "الشعب" 1/ 483 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

الدارقطني في "العلل" 8/ 38: لا يصح هذا، وإنما يعرف من حديث عوف عن الحسن مرسل.

(3)

"الحلية" 1/ 270 و 5/ 189 و 6/ 98. وهو عند الطبراني في "مسند الشاميين" (462). وقد صححه الشيخ الألباني بمجموع طرقه، انظر "الصحيحة"(742).

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "المحتضرين"(27) وفي "حسن الظن بالله" ص 38 والبيهقي في "الشعب" 2/ 7 - 8.

(5)

رواه ابن أبي شيبة 7/ 108، وابن المبارك ص 366، والطبراني كما في "مجمع =

ص: 41

وأخرج الإمام أحمد عن واثلة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [قال اللَّه عز وجل]:"أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء"(1).

وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي غالب صاحب أبي أُمامة قال: كنتُ بالشام فنزلت على رجل من قيس من خيار الناس، وله ابن أخ مخالف له، يأمره وينهاه ويضربه فلا يطيعه، فمرض الفتى فبعث إلى عمه فأبى أن يأتيه، فأتيته أنا به حتى أدخلته عليه، وأقبل عليه يشتمه، ويقول: أي عدوَّ الله، ألم تفعل [كذا]؟.

قال: أرأيت أي عم لو أن الله دفعني إلى والدتي ما كانت صانعة بي؟

قال: كانت والله تدخلك الجنة. قال: فوالله لله أرحم بي من والدتي.

فقُبض الفتى ودفنه عمّه، فلما سوى اللبن سقط منه لبنة، فوثب عمّه ليأخذها ثم تأخر، فقلت ما شأنك؟ قال: مُلِيءَ قبره نورًا وفُسح له مدّ البصر (2).

= الزوائد" 10/ 148.

(1)

رواه أحمد 3/ 491 و 4/ 106 وابن المبارك في "الزهد"(909)، والدارمي (2731) وابن حبان (633) و (364) و (365) و (641)، والطبراني في "الكبير" 22/ 87 وفي "مسند الشاميين" 2/ 384، والبيهقي في "الشعب" 2/ 6 وهو حديث صحيح. وانظر ص 41 ت (3) وما بين القوسين من المحقق عفا الله عنه يقتضيها السياق.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "المحتضرين"(19) و"حسن الظن بالله" ص 41، والبيهقي في "الشعب" 5/ 417.

ص: 42

وقال ناصر السّنّة الحافظ ابن الجوزي في "تبصرته": كان داود عليه السلام إذا ذكر الموت والقيامة بكى حتى تنخلع أوصاله (1)، فإذا ذكر الرّحمة رجعت إليه نفسه.

وفي التبصرة أيضًا عن المزني أنه قال: دخلت على الشافعي في مرض موته فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحتُ من الدنيا راحلًا، وللإخوان مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيا، وبكأس المنيّة شاربا، وعلى الله واردا، فلا أدري: أروحي تصيرُ إلى الجنَّة فأهنّيها، أم إلى النار فأُعزّيها؟ (2).

ثم أنشأ يقول:

ولمّا قسى قلبي وضاقت مذاهبي

جعلتُ رجائي نحو عفوك سلّما

تعاظمني ذنبي فلما قرنتُه

بعفوك ربي كان عفوك أعظما

وما زِلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل

تجود وتعفو مِنّة وتكرما

فحسن الظنّ بالله سبحانه وتعالى واجب؛ لاسيمّا عند الموت. فانظر: كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه، كيف قال في حال احتضاره: تعاظمني: أي: عظم في عيني وكبر ذنبي. لأن دأب المؤمن أن يرى ذنبه عظيمًا كبيرا، ويرى عمله قليلًا حقيرا. فلما رأى الإمام رضي الله عنه: أن ذنبه في عينه عظيم، وكبر ذلك

(1) في "ط" أي عظامه.

(2)

رواه البيهقي في "الزهد الكبير" 2/ 222، وأورده الذهبي في "السير" 10/ 75، وليس عندهما الأبيات، وهي في "صفة الصفوة" لابن الجوزي 2/ 171 و"التبصرة" له 1/ 217. والأبيات في "ديوان الشافعي" ص 78.

ص: 43

في مرآهُ قَرَنهُ بعفو الله ورحمته، فرآه صغيرًا بالنسبة إلى عفو تلك الحضرة الإلهية، ورحمة تلك العزة الصمدانية، فلذا قال: فلما قرنته -يعني ذنبي- بعفوك ربي -أي يا ربي- كان عفوك من ذنبي أعظما، بل ذنبي بالنسبة إلى عفوك لا يبلغ قطرة من بحرٍ لجيٍّ. فهذا دَأبُ السلف أن يخافوا ذنوبَهم، ويرجوا رحمةَ ربّهم ومعبودِهم.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن"(1) الحديث.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يموتَن أحدكم إلا وهو حَسِنُ الظنِّ بربه"(2) وكان ذلك قبل موته بثلاثة أيام. فإن أشدّ الشدائد عند الموت، عدم حسن الظن بالله، وربّما أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله فيهلك، ورُبّما غاب عن حواسه فخرجَتْ رُوحُه وهو يَظنُ بالله الظنون السّيّئة.

ولخوفِ هذا قال صلى الله عليه وسلم: "احضروا موتاكم، ولقنوهم لا إله إلا الله، وبشروهم بالجنة، فإن الحكيم العليم من النساءِ والرِّجال يتحير عند ذلك المصرع، وإن إبليس عدوّ الله أقرب ما يكون من العبد في ذلك الموطن عند فراق الدنيا، وترك الأحبة، ولا تقنطوهم فإن الكرب شديد، والأمر عظيم، والذي نفس محمدُ بيده لمعالجة مَلَك الموت أشدُ من ألف ضربة بالسيف، وما من ميّت يموت إلا كل عِرق منه يألم على حدته"(3).

(1) تقدم تخريجه ص 40 ت (3).

(2)

تقدم تخريجه ص 40 ت (2).

(3)

حديث: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" رواه مسلم (916) من حديث أبي سعيد =

ص: 44

فانظر كيف قال صلى الله عليه وسلم: "وبشروهم بالجنة، ولا تقنطوهم". فهذا كله من شفقته صلى الله عليه وسلم. فإن أسباب الرجاء قوية عندنا، فإنا نقول لمن خفنا عليه من غلبة الخوف: عدّل ما عندك بالرجاء، غير أنَّه ينبغي أن تتوب وترجو القبول، ونبذرُ ونرجو الحصاد؛ لكن الرَّجَاء مع العصيان حماقة، كما نُقرّرهُ في آخر الكتابِ إن شاء اللهُ تعالى.

وفي الصحيحين: "سددوا وقاربوا وأبشِرْوا"(1).

وفي صحيح مسلم: "لا يموتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسنُ بالله الظَنّ" وتقدم (2).

قال الحافظ ابن الجوزيّ في "تبصرته": إذا اشتدّ خوف المُؤمن لذنبٍ تقدم منه، فليرجُ العفوَ وليحذر القنوط، وليعلم أن مراد الحق منه التوبة والاستغفار.

وفي مُسند الإمام أحمد عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيُغفَرُ لهم"(3).

وفي "المسند" أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن إبليس قال لربه عز وجل، بعزتك وجلالك؛ لا

= رضي الله عنه. وفي (917) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أما اللفظ المطَول الذي أورده المصنف الضعيفة (2083) المجلد (5).

(1)

رواه البخاري (6464) و (6467) ومسلم (2818) من حديث عائشة.

(2)

رواه مسلم (2877) من حديث جابر انظر ص 40 ت (2).

(3)

رواه أحمد 2/ 309 (8082)، ومسلم (2749).

ص: 45

أزال أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم. فقال اللهُ عز وجل: بعزتي وجلالي لا أزالُ أغفرُ لهم ما استغفروني" (1).

فلا ريب أنّ حسن الظن بمن خلق فسّوى، وقدّر فهدى، وهو سبحانه وتعالى مستغني عنا، وعن عملنا، وعن تعذيبنا، وعقابنا من أعظم ما نتقربُ به إليه، ومن أجزل ما نتوجه به عليه، وأيّ عبادة أعظم من حسن ظنّنا بربّنا، مع خوف أن يعاملنا بعدله. فالعاقل يكون بين الرّجاء والخوف؛ لكن يغلِّب الرّجاء عند الاحتضار، ويحسن الظّنّ ثَمَّ بالكريم الغفّار، ويستحضر أنه قدم على أكرم الأكرمين، إذْ هُو الكريم الستار. ولذا لمّا قال ذلك الفتى لعمّه، وهو يعنّف فيه، فواللهِ للهُ أرحمُ بي من والدتي، فلما قُبِض الفتى ودفنه عمّه، ثم نظر في قبر الفتى لإصلاح بعض شأنه، فإذا بالقبر قد مُلئَ نُورًا مِن كَرم الله سبحانه وتعالى، وفُسح لَه مَدّ البصر.

وحكي في الأخبار أن الإمام أحمد رضي الله عنه لمَّا حضرته الوفاة قال لولده عبد الله: ألق عليّ أحاديثَ الرجاء.

واعلم أن للموت سكرات، وأن الأعضاء يُسلمّ بعَضُها على بَعض قال الله تعالى:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: الآية 19] وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعَام: الآية 93] وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقِعَة: الآية 83]

(1) رواه أحمد 3/ 29 و 3/ 41، وأبو يعلى (1273) و (1399)، والبغوي (1293) وهو حسن بمجموع طرقه.

ص: 46

وقال: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القِيَامَة: الآية 26].

وفي "البخاريّ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه، في الماء فيمسح بهما وجهه، ويقول:"لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"(1).

وفي "تذكرة" القرطبي عن أنس مرفوعًا: "أنَّ العبدَ ليعالج كربَ الموت، وأنَّ مفاصله ليسلِّمُ بعضُها على بعضٍ، يقول: عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة" رواه إبراهيم بن هدبه (2).

وحكى المحاسبيّ في "الرعاية"، أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام:"يا خليلي، كيف وجدت الموت" قال: كسفودٍ مجميّ جُعلَ في صوفٍ رطب، ثم جذب قال: أمّا إنّا قد هَوّنّا عليك". ونحوه عن موسى وأنه قال: وجدتُ نفسي كالعُصفور الحيّ يقلى على المقلى؛ لا يموت فيستريح، ولا ينجو فيطير (3).

ورُويَ عنه أنه قال: وجدتُ نفسي كشاة تُبسلخُ بيد القصّاب.

(1) رواه البخاري (4184) و (6145) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

"التذكرة" ص 36، وأورده القرطبي في "تفسيره" 17/ 13 عند قوله تعالى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: الآية 19]. وإبراهيم بن هدبة قال فيه أبو حاتم: كذاب. والحديث في "تنزيه الشريعة" 2/ 375 وهو موضوع.

(3)

انظر هذه الأخبار في "العظمة" لأبي الشيخ 3/ 931 (474) والزهد لابن أبي عاصم ص 78، و"الكامل" لابن عدي 2/ 152 (ترجمة جعفر بن نصر) وميزان الاعتدال 2/ 150. وكلها مقاطيع أو بواطيل.

ص: 47

ورُوي: أن الموت أشدُّ من الضرب بالسُّيوف، والنشر بالمناشير، والقَرْض بالمقارض.

وأخرج أبو نعيم في "الحلية"، عن واثلة مرفوعًا "والذي نفسي بيده؛ لمعاينة ملك الموت أشدُّ من ألف ضربة بالسّيف"(1).

وجاء أن ملك الموت إذا تولّى قَبضَ نَفسِه بعد موت الخلائق يقول: وعزتك لو علمت من سكرة الموت ما أعلم، ما قبضتُ نفس مؤمن. ذكره القاضي أبو بكر بن العربي. ويأتي قريبًا الكلامُ على شدة الموت.

واعلم أن لملك الموت نذيرًا قال القرطبي: ورد في الخبر: أن بعضَ الأنبياء قال لملك الموت: أمالك رسولُ تقدمه بينَ يديك يكون الناسُ على حَذَر منك؟ قال: نعم؛ لي واللهِ رسلٌ كثيرة من الأعلال، والأمراض والهرم، وتغيّر السمع والبصر، والشيب، فإذا لم يتذكر من نزل به ذلك ولم يتُب، ناديته إذا قبضته، ألمْ أقدّم إليك رسولًا بعد رسول، وأنا النذير الذي ليس بعدي نذير. فما من يوم تَطلعُ شمسُه، إلا وملك الموت يُنادي، يا أبناء الأربعين، هذا وقت أخذ الزاد، أذهانكم حاضرة، وأعضاؤكم قويّة شداد، يا أبناء الخمسين، قدْ دَنا الأخذ والحصاد. يا أبناء السّتّين نسيتم العقاب، وغفلتم عن ردّ

(1)"حلية الأولياء" 5/ 186. وروي عن غير واثلة: انظر "مصنف عبد الرزاق" (6773)، و"بغية الباحث" (256)، و"حلية الأولياء" 8/ 201، و"تاريخ بغداد" 3/ 252. وسيأتي الكلام عليها بعد نحو عشرين صفحة. انظر ص 62 ت (1).

ص: 48

الجواب، فما لكم من نصير (1). {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فَاطِر: الآية 37] ذكرهُ ناصر السّنّة أبو الفرج بنِ الجوزيّ، في كتابه "روضة المشتاق، والطريق إلى الملك الخلّاق".

وفي صحيح البخاري، "أعذر الله إلى امرئٍ أخّر أجله حتى بلغه ستّين يسنة"(2).

أي اعذر غاية الإعذار الذى لا إعذار بعده، أو أكبرُ الأعذار إلى بني آدم، بعثه الرسل إليهم لتتم الحجة عليهم، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسرَاء: الآية 15] قال تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فَاطِر: الآية 37] فقيل المراد بالنذير: القُرآن. وقيل: الرُّسل، وقيل: الشيب، فإنه يأتي في سنّ الاكتهال، فهو علامة لمفارقة سِنّ الصِّبّى الذي هو بسنّ اللهو واللعب، قال الشاعر:

رأيتُ الشيب من نُذُر المنايا

لصاحبه وحسبك من نذير

فقلت لها المشيب نذير عمري

ولستُ مُسوّدا وجهَ النذير

وقال القاضي منذر بن سعيد البلوطي:

كم تصابى وقد علاك المشيبُ

وتعامى عمدًا وأنت اللبيب

كيف تلهو وقد أتاك نذيرُ؟

وشباك الحِمام منك قريب

يا مُقيمًا قد حان منه رحيلُ

بعد ذاك الرحيل يومٌ عصيبُ

(1) هذه الأخبار رواها وهب بن منبه كما في "الزهد الكبير" للبيهقي (237) و"حلية الأولياء" 4/ 33 و 8/ 158 وهي من الإسرائيليات التي كان يرويها.

(2)

رواه البخاري (6419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 49

إن للموت سكرةٌ فارتقبْها

لا يدوايك إذْ أتتْكَ طبيب

ثم تثوي حتى تصيرَ رهينا

ثم تأتيك دعوةْ فتجيب

بأمور المعاد أنت عليمٌ

فاعمَلَنْ جاهدًا لها يا أريبُ

وتذكرّ يومًا تحاسبُ فيه

إن مَن يذّكرّ الممات ينيب

ليس في ساعةٍ من الدهر إلا

للمنايا عليك فيها رقيبُ

كل يوم ترميك منها بسهم

إن يخطئ يومًا فسوف يصيب (1)

وقال بعضهم المراد بالنذير الحُمَّى، ومنه قوله عليه السلام:"الحمى رائد الموت". (2) قال الأزهري: معناه أن الحمى رسول الموت فكأنها تُشعر بقدومه وتنذر بمجيئه، وقيل:

موت الأهل والأقارب والأصحاب والإخوان، فإن ذلك إنذار بالرحيل في كل وقت، وأوان وحين وزمان، وما أحسن قول القائل:

وأراك تحملهم وليس تردُهم

وكأني بك حُملت فلم ترد

(1) الأبيات في "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" 1/ 375 و 2/ 163 عدا الأخير مع اختلاف في بعض الأحرف. وقد ضبطتها من التذكرة (38) ومختصرها (49).

(2)

رواه البيهقي في "الشعب" 7/ 167 (9870)، وابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات"(73) و (92).

ورواه القضاعي في "مسند الشهاب" 1/ 69 (58) من حديث الحسن مرسلًا.

وهو في الفردوس بمأثور الخطاب (2790) من حديث أنس.

وكذلك (8176) من حديث عبد الرحمن بن أبي المرقع، وهو في مجمع الزوائد 5/ 95 وعزاه للطبراني.

ص: 50

وقول الآخر (1):

الموت في كل حين يَنشُرُ الكفنا

ونحن في غفلة عما يُراد بنا

لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها

وإن توشَّحَتَ من أثوابها الحسَنا

أين الأحبّةُ والجيران ما فَعلوا

أين الذين همُ كانوا لنا سكنا

سقاهُم الموتُ كأسا غيرَ صافية

فصيرتهم لأطباق الثرى رَهنا

وذكر القُرطبي: أنَّه روى أنَّ مَلك الموت دخل على داودَ عليه السلام فقال: مَن أنت؟ قال: مَن لا يهاب الملوك، ولا يمتنع من القصور، ولا يقبل الرّشا. قال: فإذًا أنت ملك الموت، ولم أستعد بعد قال: يا داود أين فلانُ جارُك؟ أين فلان قريبك؟ قال: ماتا قال: أمَا كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد (2).

وقيل: النذير: العقل؛ لأنه يميّز بين الحسنات والسّيّئات، والقبيح والحسن.

وذكر القرطبي حكاياتٍ في الشيب منها عن بعض المترفين: أنه رفض ما كان يفتنه فسُئل عن السبب فقال: كانت لي أمة، لا يزيدُني طول الاستمتاع منها إلَّا غرامًا بها، فقلَّبْتُ شَعْرَها يَومًا،

(1) الأبيات في "نفح الطيب" ونسبها لابن أبي زمنين الأندلسي (ت 399 هـ) وهو مترجم في "سير أعلام النبلاء" 17/ 188.

(2)

هذا خبر موضوع بهذا السياق بلا ريب، فإنَّ الأنبياء صلوات الله عليهم هم أكثر الناس استعدادًا للموت، والمروي في "مسند أحمد" 2/ 419 من حديث أبي هريرة مرفوعًا أن داود عليه السلام قال لملك الموت: مرحبًا بأمر الله. . الحديث. وسيورده المصنف على الصواب.

ص: 51

فإذا فيه شعرتان بيضاوان، فأخبرتها، فارتاعت، وقالت: أرني فأرْيتُها فقالت: جاء الحقُّ وزهقَ الباطل، اعلم أنّي لو لم تفترضْ عَليَّ طاعتك لما أويت إليك، فدع لي ليلي أو نهاري لأتزوَّدَ فيه، لآخرتي فقلت: لا، ولا كرامة. فَغَضِبَتْ وقالت: تحول بيني وبين ربي، قد آذنني بلقائه، اللهمَّ بدّل حبّه لي بغضًا، قال: فبتُ وما شيء أحبّ إليّ من بُعدِها عنّي، وعرضتُها للبيع، فأتاني مَن أعطاني فيها ما أريد فلما عزمتُ على البيع بكت، فقلتُ: أنتِ أردتِ هذا. فقالتْ: واللهِ ما اخترتُ عليكَ شيئًا من الدُّنيا، هل لك إلي ما هو خير من ثمني. قُلتُ: وما هو؟ قالتْ: تعتقني لله عز وجل فإنه أملك لك، وأعود عليك منك علي. فقلتُ: قد فعلتُ. فقالت: أمضى الله صفقتك، وبلغَّك أضعاف أملك. فتزهّدتُ وبغضت إليَّ الدنيا ونعيمها (1).

قال القرطبي: وفي الإسرائيليّات أن إبراهيمَ الخليل عليه الصلاة والسلام لمّا رجع من تقريب ولده إلى ربّه عز وجل، رأت سارة في لحيته شعرة بيضاء، وكان عليه السلام أوّل من شاب فأنكرتها، وأرته إياها، فجعل يتأمَّلهُا وأعجبته، وكرهتها سارة وطالبته بإزالتها، فأبى وأتاه ملك فقال: السلامُ عليك يا إبراهيم، وكان اسمه أبرم فزاده في اسمه هاء والهاء في السريانية للتفخيم، والتعظيم ففرحَ بذلك وقال: أشكر إلهي وإله كل شيء. فقال له

(1)"التذكرة" ص 64 - 65.

ص: 52

الملك: إنَّ الله قد صيرك مُعظَّما فى أهل السموات وأهل الأرض، وقد وسمك بسمة الوقار في اسمك، وفي خلقك، أمّا اسمك فإنك تدعى في أهل السموات وأهل الأرض إبراهيم، وأمّا خَلْقك فقد أُنزل وقارًا ونورًا على شعرك. فأخبر سارة بما قال له الملك، وقال: هذا الذي كرهتيه نور ووقار. قالت: فإني كارهة له. قال: لكني أحُبّه، اللهم زدني نورًا ووقارًا، فأصبح وقد أبيضت لحيتُه كلّها (1).

وفي الآثار النبويّة: "مَن شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة"(2)، ورُوي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله ليستحي أن يعذّب ذا شيبة" ذكره القرطبي (3).

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: وعزتي وجلالي وفاقة خلقي إليّ إني لأستحيي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام"، ثم بكى فقيل له: ما يُبكِيك يا رسول الله قال: "أبكي ممّن يستحي اللهُ منه، وهو لا يستحي من الله"(4).

(1)"التذكرة" ص 66، وأورده في "فتح القدير" 4/ 184 وفي إسناده متروك.

(2)

هو جزء من حديث رواه أحمد في مسنده 4/ 235 - 236 (18564)، وأبن ماجه (2522)، والترمذي (1634)، والنسائي 6/ 27 عن كعب بن مرة السلمي والحديث صحيح لغيره.

(3)

"التذكرة" ص 66. ذكره في كنز العمال (15/ 42671، 42684).

(4)

الحديث بهذا اللفظ رواه ابن حبان في "المجروحين" 2/ 267 وفي إسناده محمد بن عبد الله بن زياد: منكر الحديث.

وروي دون قصة البكاء: رواه ابن عدي في "الكامل" 1/ 357 وفي =

ص: 53

وما أحسن قول بعض العرب في الشيب:

يا بُؤس من فقد الشباب وغُيرّت

منه مفارق رأسه بخضاب

يرجو نضارة وجهه بخضابه

ومصير كلّ عمارة لخراب

إنّي وجدت أجلّ كلّ مصيبةٍ

فَقْدُ الشباب وفرقة الأحباب

فائدة: روى أبو نعيم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الموتُ كفارة لكل مسلم"(1).

قال أبو بكر ابن العربي: حديث حسن صحيح.

* * *

= إسناده أيوب بن ذكوان: منكر الحديث أيضًا ولا تصلح متابعته. وهو في "مسند أبي يعلى"(2764) و"بغية الباحث"(1084)، و"الزهد الكبير" 2/ 243.

(1)

رواه القضاعي (119)، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 121، والبيهقي في "الشعب" 7/ 171، والخطيب في "تاريخه" 1/ 347، وابن حجر في "اللسان" 1/ 211 وطرقه كلها ضعيفة. قال الحافظ: والذي يصح في ذلك حديث حفصة بنت سيرين عن أنس: "الطاعون كفارة لكل مسلم" أخرجه البخاري.

ص: 54