الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
واعلم رحمك الله أن الملاحدة والزنادقة أنكروا عذاب القبر، وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النّار، أو روضة من رياض الجنَّة، وأنكروا جلوس الميت في قبره.
قالوا: فإنا نكشفُ القبر ولا نجد فيه ملائكة يَضربون الموتى، بمطارق الحديد، ولا نجد ثَمّ حيّات وثعابين، ونيران. قالوا: وكيف يفسح له مدّ بصره أو يضيق عليه ونحن نجده بحاله، ومساحَته على حالها؟ وكيف يَسع ذلك اللحد الضيق له؟ ولمن يؤنسه أو يوحشه؟
وقال إخوانهم من أهل البدع والضلال: كُل حديث يُخالف مقتضى العقول، نقطع بتخطئة ناقله قالوا: ونحن نرى المصلوب على الخشبة مُدة طويلة، لا يُسأل ولا يجيب ولا يتحرك، ولا يتوقد جسمُه نارًا ومن افترسته السباع، ونهشته الطير، وتفرّقت أجزاؤه في حواصل الطيور، وأجواف السباع، وبطون الحيّات، ومدارج الرياح، فكيف يُسأل وكيف يَصير القبر على هذا روضة أو حُفرة؟ وكيف يتسع قبرهُ أو يُضيق؟
هكذا زعم أعداءُ الله رسله، وأجاب عن ذلك الإمام المحقق في "الرّوح"(1)، كغيره بأمور يُعلم بها.
الجواب: الأمر الأوّل: أن يعلم أن الرسل عليهم السلام، لم يخبرونا بما تحيله العقول، وتقطع باستحالته، بل إخبارُهم قسمان،
(1)"الروح" 112 وما بعدها.
أحدهما: ما شهد به العقل والفطرة.
والثاني: ما لا تُدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ، واليوم الآخر، والثواب والعقاب، ولا يكون خبرهم محالًا في العقول أصلًا، وكلُ خبر يُظن أن العقل يُحيله لا يخلو من أحد أمرين أن يكون كذبًا عليهم، أو فسادًا في ذلك العقل، وهو شُبهة خيالية، ظن صاحبها أنها معقول صريح، قال تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: الآية 6] إلى غير ذلك من الآيات، فالمؤمن المصدّق لِله ورسوله، يَنشرحُ صدره لما يتلقاه عنهما، كما قال تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: الآية 6]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: الآية 57] والمحال لا يشفي، ولا يحصل به هدى ولا رحمة، ولا يُفرح به وأمّا الذين في قلوبهم مرض، فلا يزدادون إلَّا رجسًا على رِجْسهم.
الأمر الثاني: أن يفهم عن الرّسول صلى الله عليه وسلم مُراده من غير غلوّ ولا تقصير ولا يُحمّل كلامه على ما لا يَحتمله، ولا يقصرُ به عن مراده، وعمّا قصده من الهدى والبيان، وبإهمال ذلك، حصل الضلال والعدول عن الصواب، بل سؤالهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أصلٌ لكل بدعة وضلالة، نشأت في الإسلام وما أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والروافض، وسائر طوائف أهل البدع في الضلال إلَّا سؤالهم عن الله ورسوله، فلهذا تراهم حيارى لا
يهتدون لرب [يعبدونه أو أنهم يعترفون أن لهم ربًا ولكنهم بين الراضي والساخط، كما أنك ترى الجبرية يزعمون أن الذنب منه سبحانه وتعالى فينسبون القبيح له تعالى الله عن ذلك، وطائفة من الروافض تراهم سخاطًا لكون النبوة ما هي في علي رضي الله عنه.
الأمرُ الثالث: أنَّ اللهَ سبحانه جعل الدور ثلاثًا: دارَ الدنيا. ودارَ البرزخِ، ودارَ القرارِ، وجعلَ لكلِّ دارٍ أحكامًا تختصُّ بها وركبَ هذا الإنسانَ من بدنٍ ونفسٍ وجعلَ أحكامَ الدنيا على الأبدانِ والأرواحِ تبعًا لها ولهذا جعلَ أحكام الشريعةَ مرتبةً على ما يظهرُ مِنْ حَركاتِ الإنسان والجوارحِ وإن أضمرتْ النفوسُ خلافهُ، وجعل أحكامَ البرزخِ على الأرواحِ والأبدانِ تبعًا لها فكما تبعت الأرواحُ الأبدانَ في أحكام الدنيا فتألمتْ بألمهَا والتذتْ براحتها وكانتْ هي التي باشرت أسبابَ النعيمِ والعذابِ فتبعت الأبدانُ الأرواحَ في نعيمهَا وعذابهَا. فإذا كان يوم محشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرًا باديًا أصلًا.
وأن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وكونه حفرة أو روضة مطابق للعقل وأنه حق لا مرية فيه.
الأمر الرابع: أن الله سبحانه جعل أمرَ الآخرةِ وما كان متصلا بها غيبًا وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار وذلك من كمال حكمتِه وليتميز المؤمنون بالغيبِ من غيرهم فأولُ ذَلِكَ أن الملائكةَ
تنزلُ على المحتضرِ وتجلسُ قريبًا منه ويشاهدهم عيانا ويتحدثون عنده ومعهم الأكفانُ والحنوطُ إما من الجنَّة وإما من النارِ ويؤمنون على دعاءِ الحاضرين بالخيرِ والشرِّ وقد يسلِّمون على المحتضر ويرد عليهم السلام تارةً بلفظهِ وتارةً بإشارة وتارة بقلبه إذا لم يتمكن من نطقِ وإشارةٍ.
(وقد سمع) بعض المحتضرين يقول: أهلا وسهلا ومرحبًا بهذه الوجوه. قال المحقق: (أخبرنا) شيخنا (1) - يعني شيخ الإسلام ابن تيمية قَدس الله روحه - عن بعض المحتضرين، فلا أدري أشاهده، أو أُخبرِ عنه أنه سمع وهو يقول: وعليكَ السلام هَاهُنا فاجلس، وعليكَ السلام هاهنا فاجلس.
وذكر ابن أبي الدنيا أنّ عمرَ بنَ عبد العزيز رحمه الله لمّا كان في يومه الذي مات فيه، قال: أجلسوني فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاث مرات، ولكن لا إله إلَّا الله، ثم رفع رأسه فأحدّ النظر فقالوا: إنك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، قال: إني لأرى حضرة، ما هم بإنسٍ ولا جن، ثم قُبض رضي الله عنه (2).
وقال مسلمة بن عبد الملك: لما احتضر عُمر بنُ عبد العزيز، كنّا عنده في قُبّة فأومَى إلينا أن اخرجوا، فخرجنا فقعدنا حول القبة،
(1)"الروح" ص 116.
(2)
"حلية الأولياء" 5/ 335.
وبقي عنده وصيف فسمعناهُ يقرأ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: الآية 83]. ما أنتم بإنس ولا جان. ثم خرج الوصيفُ، فأومأ إلينا أن ادخلوا، فإذا هَو قد قُبض (1).
ويكفي في ذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} [الواقعة: الآية 83] الآية وأما عصَرة القبر، حتى تختلف أضلاع بعض الموتى، فلا يَرده حس ولا عقلٌ ولا فطرة، ولو قُدِّرِ أن أحدًا نبش عن ميت، فوجد أضلاعه كما هي، لم يمتنع أن تكون قد عادت.
الأمر الخامس: أن النار التي في القبر ليست من نار الدنيا، فيشاهدها من شَاهَدَ نارَ الدُنيا، وإنما هي من نار الآخرة، وهي أشد من نار الدنيا، ولا يُحس بها أهلُ الدنيا فإن الله يُحمي عليه ذلك التراب، والحجارة التي عليه وتحته، حتى تكون أعظم حرًا من حَرِّ نار الدّنيا، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك، بل أعجب من ذلك أنّ الرجُلين يدفنان، فيكون أحدُهما إلى جنب صاحبه، وهذا في حفرة من حفر النار، لا يصل حرها إلى جاره، وذلك في روضة من رياض الجنَّة لا يصل نعيمها إلى جاره، وقدرة الرّبّ تعالى أوسع وأعجب من ذلك، ويفرش للكافر لوحان من نار يُشَعلُ عليه قبره بهمَا، كما يُشعل التنور.
(1)"حلية الأولياء" 5/ 335.
قال المحقق رحمه الله ورضي عنه (1): حدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرزين الحرّاني، أنه خرج من داره بعد العصر قاصدًا إلى بستان، قال لما كان قبل غروب الشمس، توسطت القبور، فإذا بقبر منها وهو جمرة نار مثل كور الحداد، والميت في وسطه فجعلت أمسح عيني وأقول، أنا نائم أم يقظان، ثم التفتّ إلى سور المدينة وقلت: والله ما أنا بنائم ثم ذهبتُ إلى أهلي وأنا مدهوش، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد فسَألت عن صاحب ذلك القبر، فإذا هو مكّاس قد تُوفي في ذلك اليوم.
قال: فرؤية هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجن، تقع أحيانًا لمن شاء الله أن يرَيهُ ذلك.
قال: وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن مثناه السلامي التاجر، وكان من خيار عباد الله، وكان يتحرى الصدق، ويتجر؛ قال: جاء رجُلٌ إلى سوق الحدادين ببغداد، فباع مسامير صغارًا، المسمار برأسين فأخذها الحداد، وجعل يحمي عليها فلا تلين معه، حتى عجز عن ضربها فطلب البائع فوجده، فقال: من أين لك هذه المسامير؟ قال: لقيتها فلم يزل به حتى أخبره بأنه وجَدَ قبرًا مفتوحًا وفيه عظام ميت، منظومة بهذه المسامير قال: فعالجتها على أن أخرجها فلم أقدر، فأخذت حجرًا فكسرت عظامه، وجمعتها قال:
(1)"الروح" ص 119.
أبو محمد التاجر المذكور (1)، وأنا رأيت تلك المسامير. قال المحقق: فقلت له: كيفَ صِفَتُها؟ قال: المسمار صغيرٌ برأسين.
وقال ثابت البناني: بينا أنا أمشي في المقابر وإذا صوتٌ خفي وهو يقول: يا ثابت لا يغرنك سكوتها، فكم من مغموم فيها، فالتفتُّ فلمْ أرَ أحدًا.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي إسحق قال: دُعيتُ إلى ميت، لأغسله، فلما كشفت الثوب عن وجهه، إذا بحيّة قد تطوقت على حلقه، فذكر من غلظها قال: فخرجت فَلم أغسله، ولم يَرها غيره، فذكروا أنه كان يَسُبُ الصّحابة رضي الله عنهم.
وذَكرَ ابن أبي الدنيا، عن سعيد بن خالد بن يزيد الأنصاري، عن رجل من أهل البصرة، كان يحفر القبور قال: حفرتُ قبرًا ذات يوم، ووضعت رأسي قريبًا منه، فاتتني امرأتان في منامي فقالت إحداهما: يا عبد الله: نشدتك الله إلَّا صرفت عنا هذه المرأة، فلا [تجاورنا بها فاستيقظت فَزِعًا، فإذا بجنازة امرأة قد جيء بها، فقلت: القبر وراءكم فصرفتهم عن ذلك القبر، فلما كان بالليل، إذ أتتني المرأتان في منامي، تقول إحداهما: جزاك الله عنا خيرًا، قد صرفت عنا شرًا طويلًا، فقلت: ما لصاحبتك لا تكلمني؟ قالت: إن هذه ماتت من غير وصية، وحُق لمن مات عن غير وصية،
(1) في هامش الأصل: قوله: قال أبو محمد التاجر وصوابه: أبو عبد الله محمد التاجر المذكور وهو سبقُ قلمٍ منه رحمه الله كما قدّمه هو قريبًا فتأمَّل وتمهّل.
أن لا يتكلم إلى يوم القيامة (1).
وقد ذكرنا فيما تقدم شيئًا من هذا، وسنذكر شيئًا منه فيما يأتي، إن شاء الله تعالى، وليس عند الملاحدة والزنادقة، إلَّا التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه.
الأمر السادس: أنَّ الله سبحانه وتعالى يُحدث في هذه الدار، ما هو أعجب من ذلك، فهذا جبريل عليه السلام، كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويتمثل له رجلًا، فيكلمه بكلام يسمعه، ومَن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم لا يراه، وكذلك غيره من الأنبياء، وأحيانًا يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس، ولا يسمعه غيره من الحاضرين، وهؤلاء الجن يتحدثون ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بيننا، ونحن لا نسمَعُهم.
وقد كانت الملائكة تضرب الكفار بالسياط، وتَضربُ رقابهم وتصيح بهم، والمسلمون معهم لا يَرونَهم ولا يسمعون كلامهم، والله سبحانه قد حجب ابن آدم عن كثير مما يحدث في الأرض، وهو بينهم وقد كان جبريل يقرئ النبي صلى الله عليه وسلم ويدارسه القرآن، والحاضرون لا يسمعونه، وكيف يستنكر من يعرف الله سبحانه، ويقر بقدرته أن يحدث حوادث، يصرف عنها أبصار خلقه، حكمةً منه ورحمة بهم، لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها، والعبد أضعف بَصرًا وسمعًا، من أن يَثبت لمشاهدة عذاب القبر، وكثير ممن أشهده الله ذلك ضَعُف وغُشِّي عليه، ولم ينتفع بالعيش زمنًا، وبعضهم كُشف قناع قلبه فمات، فكيف يُنكر في الحكمة الإلهية مثل هذا؟ أليس هو الفاعل المختار؟
(1)"القبور" لابن أبي الدنيا (137).
وإذا كان أحدنا يمكنه توسيع القبر عشرة أذرع، ومائة ذراع وأكثر طولًا وعرضًا وعُمقًا ويستر توسعته عن الناس، ويطلع عليه من شاء أفيعجز رب العالمين أن يوسعه ما يشاء ويستر ذلك عن أعين الناس من بني آدم، فيروه ضيّقًا وهو أوسع شيء، وأطيبه ريحًا، وأعظمه إضاءة ونورًا وهم لا يرون ذلك وسر المسألة: أنّ هذه التوسعة والضيق، والإضاءة والخضرة، والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم، واللهُ سبحانه وتعالى، إنما أشهد بني آدم في هذه الدّار ما كان فيها ومنها.
أمّا ما كان من أمر الآخرة، فقد أسبل عليه الغطاء، ليكون الإقرار به والإيمان سببًا لسعادتهم، فإذا كُشف عنهم الغطاء صار عيانًا مُشاهدًا، فلو كان الميت بين الناس موضوعًا، لم يمتنع أن يأتيه الملكان، فيسألانه من غير أن يشعر الحاضرون بذلك، ويجيبهما من غير أن يَسمعوا كلامه، ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضربه، وهذا الواحد منا ينام إلى جنب صاحبه، فيعذب النوم ويُضرب ويألم، وليس عند المستيقظ خبرٌ من ذلك البتة.
وقد قال لي يومًا بعض ضعفاء اليقين: أتمنى أن ينشر لنا ميت، فيخبرنا عن عذاب القبر ونعيمه، هل هو حق أم لا؟ فقلت له: أوَكنتَ تصدّقه، قال: نعم فقلتُ له: أليس تعلم أن محمَّدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بَلَى، قلتُ: فهل هو صادق في كُلّ ما أخبر به أمّ لا؟ قال: بلى. فقلتُ له: ويا سبحان الله! إذا كنت في شك من خبر المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، فكيف تصدّق إنسانًا يجوز عليه الكذب والصدق، والله يا رجل أنت جاهل بالله ورسوله، ففُحم،
ولم يُحسن أن يتكلم، فنسألُ الله سبحانه وتعالى أن يُزيح عن قلوبنا حجاب الغفلة، بمنه وكرمه.
الأمر السابع: أنه غير ممتنع أن تُردَّ الأرواحُ إلى المصلوب، والغريق ونحوهما، ونحن لا نشعر بها، إذ ذلك الرّدّ نوع آخر غير المعهود، فهذا المغمى عليه، والمسكوت والمبهوت، أحياء وأرواحهم معهم، ولا نشعر بحالتهم، مَنْ تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شيء قدير، أن يجعل] (1) للرّوح اتّصالًا بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه، ويكون في تلك الأجزاء شعور بنوع الألم واللذة.
الأمر الثامن: أنه ينبغي أن يُعلم، أن عذاب القبر ونعيمه، اسم لعذاب البرزخ، وهو ما بين الدنيا والآخرة.
فالحريق والغريق وأكيل السبع، والطير له من العذاب واللذّة، قسطه الذي تقتضيه أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب، وكيفياتهما، وقد ظن بعض هؤلاء، إذ احرق جسده في النار، وصار رمادا أو ذري بعضُه في البر، وبعضه في البحر، في يوم شديد الريح، أنه ينجو من ذلك فأوصى بنيه أن يفعلوا به ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال قم فإذا هو قائم بين يدي الله، فسأله ما حملك على ما فعلت؟ فقال: خشيتك يا رب، وأنت أعلم فما تلافاهُ أن رحمه، فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه.
الأمر التاسع: الموت معاد وبعث أول، فإن الله سبحانه، جعل
(1) هنا انتهى سقط (ب).
لابن آدم معادين وبعثين، يجزى فيهما الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى،
فالبعث الأوّل: مفارقة الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الحشر الأول، والبعث الثاني: يوم يَردُ الله الأرواح إلى أجسادها، ويبعثها من قبورها، إلى الجنَّة أو النار وهو الحشر الثاني، ولهذا قال: وتؤمن بالبعث الآخر، فإن البعث الأوّل لا ينكره أحد، وقد ذكر الله سبحانه هاتين القيامتين، وهما الصغرى والكبرى في سورة المؤمنين، وسورة الواقعة، وسورة المطففين.
وقد اقتضى عدله وحكمته: أن تنعيم الأبدان لأوليائه، فلابد أن يذيق بدن المطيع وروحه من النعيم، واللذة، ما يليق به ويُذيق بدنَ الفاجر العاصي ورُوحه من الألم والعقوبة، ما يستحقه هذا موجب عدله، وحكمته وكرمه وقدرته، ولما كانت هذه الدارُ دارَ تكليف وامتحان، لا دار جزاء، لم يظهر فيها هذا،
وأما البرزخ فهو أوّل دار الجزاء فظهر فيها من ذلك، ما يليق بتلك الدار، واقتضت الحكمة إظهاره فإذا كان يومُ القيامة الكبرى وفّى أهل الطاعة وأهل المعصية، ما يليق بهم من نعيم الأبدان، والأرواح وعذابهما فعذاب البرزخ ونعيمه، أوّل عذاب الآخرة ونعيمها، وهو مشتق منه، وأصل إلى أهل البرزخ من هناك، كما دل عليه القرآن والسُنة الصحيحة الصريحة في غير موضع، كقوله:"فيُفتح له بابٌ إلى الجنَّة، فيأتيه من رَوْحِها ونعيمها"، وفي الفاجر:
"فيُفْتَحُ له بابٌ إلى النار، فيأتيه من حَرِّها وسمومها"، ومعلوم قطعًا أن البدن يأخذ حظَّه من هذا الباب، عما تأخذُ الروح حظيها، فإذا كان يوم القيامة، دَخل من ذلك الباب إلى مقعده الهذي هو داخله، وهذان البابان، يصل منهما إلى العبد في هذه الدار، أثر خفي محجوب بالشواغل والعوارض، لكن يحس به كثير من الناس، وإن لم يعرف سببه.
هذا كله ملخص كلام الإمام المحقق، من الجواب عن شبه الملاحدة والزنادقة، ومن نحا نحوهم، وهو كلام سديد مفيد، لا يعيبه إلَّا كُل كفار عنيد، فجزاهُ الله عن الإسلام والسنة خيرًا (1).
ومن عجيب ما ذكر الحافظ الدّمياطي في "مُعجمه"(2): سمعتُ محمد بن إسماعيل بن عبد الله الدمياطي، يقول: سَمعتُ أبا إسحق، إبراهيم بن عبد الله الثعلبي، صاحب السلفي يقول: كان عندنا رجلٌ نباش يتكفف الناس أعمى، وكان يقول من يُعطني شيئًا فأخبره بالعجب، ثم يقول من يزيدني فأرهِ العجب قال: فأعُطِي شيئًا وأنا إلى جنبه. أنظر، فكشف عن عينيه، فإذا بهما قد نفدتا إلى قفاه، كالأنبوبتين النافذتين، يرى من قبل وجهه ما وراء قفاه، ثم قال: أخبركم كنت فى بلدى نباشًا حتى شاع أمري فأخفت
(1) ذكر ابن القيم رحمنا الله وإياه عشرة أمور عن الأدلة على إثبات عذاب القبر أجارنا الله ووالدينا وذرياتنا وإخواننا المسلمين والمسلمات منه وأسقط هنا الأمر السابع. وهو قوله: "أن الله سبحانه وتعالى يحدث في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك فهذا جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم " إلخ.
(2)
"شرح الصدور" ص 246.
الناس، حتى ما أبالهم، وأن قاضي البلد مرض مرضًا خاف منه الموت، فأرسل إليّ وقال: أنا أشتري هتكي في قبري منك، وهذه مائة دينار، فأخذتها، فعوفي من ذلك المرض، ثم موض بعد ذلك فمات، وتوهمت أن العطية للمرض الأوّل، فجئت فنبشته، فإذا في القبر حس عقوبة والقاضي جالس، ثائر الرأس مُحمَّرة عيناه، عيناه كالسّكرجتين فوجدتُ زمعًا في ركبتي وإذا بضربة في عيني من أصيعين، وقائل يقول: يا عدو الله، تطلع على أسرار الله عز وجل.
وذكر البيهقي في كتاب "عذاب القبر" عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، قال: بينما رَجل يسير في أرض إذ أتى إلى قبر، فسمع صاحبه يقول: آه آه فقام على قبره، فقال: فضَحَكَ عملك، وافتضحت (1).
وذكر السيوطي عن المقويزي (2): أنه قدم في سنة سبع وتسعين وستمائة البريد بأن رجلًا من الساحل ماتت امرأته، فدفنها وعاد فذكر أنه نسي في القبر منديلًا، فيه مبلغ دراهم، فأخذ فقيه القرية، ونبش القبر ليأخذ المال، والفقيه على شفير القبر، فإذا المرأة جالسة مكتوفة بشعرها، ورجلاها قد ربطتا بشعرها، فحاول حل كتافها فلم يقدر، فأخذ يجهد نفسه في ذلك، فخُسف به وبالمرأة، - حيث لم يعلم لهما خبر فغشي على فقيه القرية، مدة يوم وليلة، فبعث السلطان بخبر هذه الحادثة إلى الناس ليعتبروا بذلك.
(1) رواه البيهقي في "عذاب القبر"(263).
(2)
"شرح الصدور" ص 247.
وحكى عبد الكافي: أنه شهد جنازة، فإذا عبد أسود معنا، فلما صلى الناس لم يصل، فلمّا حضرنا الدفن نظر إلي، ثم قال: أنا عمله، ثم ألقى نفسه في القبر، فنظرت فلم أر شيئا.
وأخرج ناصر السنة ابن الجوزي رحمه الله، عن عبد الله بن محمد المديني، عن صديق له: أنه خرج إلى ضيعة له، قال: فأدركتني صلاة المغرب إلى جنب مقبرة، فصليت المغرب قريبًا منها، فبينا أنا جالس، إذ سمعت من ناحية القبور صوت أنين، فدنوت إلى القبر الذي سمعت منه الأنين، وهو يقول أوه قد كنت أصلي، قد كنت أصوم، فأصابتني قشعريرة، فدنا من حضرني فسمع مثل ما سمعت، ومضيت إلى ضيعتي، ورجعت في اليوم الثاني، فصليت في موضعي الأوّل، وصبرت حتى غابت الشمس، وصليت المغرب ثم استمعت على ذلك القبر فإذا هو يئن ويقول: أوه قد كنت أصلي، قد كنت أصوم فرجعت إلى منزلي، وحُمِّيتُ فمكثت مريضًا شهرين.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت"، من طريق عبد الله بن دينار، عن أبي أيوب اليماني، عن رجل من قومه، يقال له عبد الله: أنه ونفر من قومه ركبوا البحر، وإن البحر أظلم عليهم أيامًا، ثم انجلت عنهم تلك الظلمة، وهم قرب قرية، قال عبد الله: فخرجت ألتمس الماء فإذا الأبواب مغلقة، تُجأجئ فيها الريح، فهتفت فيها، فلم يجبني أحد فبينا أنا على ذلك، إذ طلع عليّ
فارسان، تحت كل واحد منهما قطيفة بيضاء، فقالا لي: يا عبد الله اسلك هذه السكة، فإنك تنتهي إلى بركة فيها ماء، فاستق منها ولا يهولك ما ترى، فسألتهما عن تلك البيوت المغلقة التي تُجأجئ فيها الريح، فقال: هذه بيوت فيها أرواح الموتى، فخرجت حتى انتهيت إلى البركة، فإذا فيها رجل معلق مصوب (1) على رأسه، يريد أن يتناول الماء بيده، وهو لا يناله، فلمّا رآني هتف بي وقال: يا عبد الله اسقني، فغرفت بالقدح لأناوله إياه فقبضت يدي، فقال لي: بلّ العمامة ثم ارم بها إليّ فبلّلتُ العمامة لأرمي بها إليه، فقبضت يدي، فقلت: يا عبد الله: قد رأيت ما صنعت فقُبضت يديّ فأخبرني من أنت؟ قال: أنا ابن آدم، أنا أول من سفك دمًا في الأرض (2).
وأخرج أبو نعيم، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: بينا رجل في مركب في البحر، إذ انكسرت بهم مركبهم، فتعلق بخشبة، فطرحته إلى جزيرة من الجزائر، فخرج يمشي فإذا هو بماء فاتبعه، فدخل في شعب فإذا برجل في رجليه سلسلة، مربوط فيها، بينه وبين الماء شبر، فقال: اسقني رحمك الله، قلت: مالك؟ قال: ابن آدم الذي قتل أخاه، والله ما قُتِلتْ نفس ظلمًا منذ قَتلتُ أخي، إلَّا عذبني الله بها؛ لأني أوّل من سنّ القتل (3).
(1) في (ب)"مصلوب" والمثبت من (أ)، و (ط).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت"(48).
(3)
رواه أبو الشيخ في العظمة 4/ 1414 (طبعة العاصمة).
وروى تمام بن محمد الرازي، في كتاب "الرهبان" له، حدثنا عصمة العباداني، قال: كُنتُ أجول في بعض الفلوات، إذ نظرتُ دِيرًا وفيه صومعة، وفيها را هب، فناديتُه: فأشرف عليَّ، فقلتُ من أين تأتيك الميرة؟ (1) قال: مسيرة شهر، قلتُ حدّثْني بأعجب ما رأيت في هذا الموضع، قال: بينا أنا ذات يوم أديرُ بصري في هذه البرية القفراء وأتفكر في عظمة الله، وقدرته إذ رأيت طائرًا أبيض، مثل النعّامة كبيرًا، قد وقع على تلك الصخرة، وأومأ بيده إلى صخرةٍ بيضاء، فتقايأ رأسًا، ثم رجلًا، ثم ساقًا، وإذا هو كلما تقايأ عُضوًا من تلك الأعضاء التأمتْ بعضُها إلى بعض، أسرع من البرق فإذا هو رجَلٌ جالس، فإذا هَمَّ بالنهوض، نقره الطائر نقرة قَطع أعظامه، ثم يرجع فيبتعله، فلم يزل على ذلك أيامًا فكثر تعجبي منه، وازددت يقينًا لعظمة الله تعالى، وعلِمتُ أن لهذه الأجساد حياةً بعد الموت، فالتفَتُّ إليه يومًا، فقلتُ: يا أيها الطائر سألتُكَ بحق الذي خلقك وبراك، إلَّا أمسكتَ عنه، حتى أسأله بقصّته، فأجابني الطائر بصوت عربي طلق: لربي الملك وله البقاء الذي يُفني كُلَّ شيء ويُبقي أنا ملك من ملائكة الله موكل بهذا الجسد لما اجترم.
فالتفتّ إليه، وقلتُ: يا هذا الرجل المسيئ إلى نفسه، ما قصتك؟ ومن أنت؟ قال: أنا عبد الرحمن بن مُلجم، قاتل علي رضي الله عنه، وإني لما قتلته، وصارت روحي بين يدي الله، ناولني
(1) الميرة: الطعام يمتاره الإنسان. والميرة: هي جلب الطعام: لسان العرب مادة: (مير).
صحيفة مكتوب فيها، ما عملته من الخير والشر منذ ولدتني أمي، إلى أن قتلتُ عليًا، [كرّم الله وجهه](1)، فأمر الله هذا الملك بعذابي، إلي يوم القيامة، فهو يفعل بي ما تراه، ثم سكت فنقره الطائرُ نقرةً نشر أعضاءه بها، ثم جعل يبتلعه عضوًا عضوًا، ثم مضى.
قال ابن رجب (2): قال الراهب: وقال لي الملك قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن أمضي بهذا الجسد، إلى جزيرة في البحر الأسود، الذي يخرجُ منه هَوام أهل النار، فأعذبه إلى يوم القيامة.
قال السيوطي: وهذا الإسنادُ يعني إسناد هذه الحكاية؛ ليس فيه من تكلم فيه سوى أبي علي شيخ تمام، قال الذهبي: كان متهمًا. وقال الحافظ ابن رجب (3): قد رُويت هذه الحكاية من أوجه أخر، أخرجَها ابن النجار في "تاريخه" من طريق السلفي، بإسناد له إلى الحسن بن محمد بن عبيد اليشكري، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن المنجم، سنة مائة وثلاثة عشر: أنه حضر مع يوسُف بن أبي التياح، فأحضر راهبًا، فحدث فذكر شبيهًا بها، وفيها أنه قال: إن مِلَكًا نفاه إلى جزيرة على البحر منفردة، قال: فرأيت يَومًا طائرًا إلخ.
ورُويت من وجه آخر من طريق أبي عبد الله، محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، صاحب "السُداسيات" المشهورة، عن علي بن بقّار بن محمد الورّاق، حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عُمر البزار،
(1) الأولى أن يقال رضي الله عنه.
(2)
"أهوال القبور" ص 198.
(3)
"أهوال القبور" ص 198.
سمعت أبا بكر بن أحمد بن أبي الأصبغ قال: قدم علينا شيخ
غريب، فذكر أنه كان نصرانيًا سنين، وأنه تعبّد في صومعته، قال:
فبينا هُو ذات يوم جالس، إذ طائر كالنسر، أو كالكركي، فذكر شبيهًا
بالحكاية، مختصرًا. انتهى كلام الحافظ ابن رجب.
قُلْتُ: ومن هذه الأخبار ما هو كثير جدًا. ولا ينكر عذاب القبر (1) من خَالطت بشاشةُ الإيمان قلبه، إذ قد صحت به الأخبار، وتواترت الآثار، فيالها من حفرة بعد أن كان مسكنه القصور العُلى، ووحده في ظلمة، بعد أن كان يضاجع غيدة كالطلا، والشمع مَضوء به قصره مُستعظمًا في عَيشه المُبتلى.
قال الإشبيلي في "العاقبة"(2): قال عمرُ بن عبد العزيز رضي الله عنه لبعض جلسائه يا فلان. لقد أرقت البارحة تفكرًا في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث ليال في قبره؛ لاستوحشت منه، بعد طول الأنس به، ولرأيت بيتًا تجول فيه الهوام، ويجري فيه الصديد، ويخترقه الديدان، مع تغير الريح وتقطع الأكفان، وكان ذلك بعد حُسن الهيئة، وطيب الريح، ونقاء الثوب، ثم شهق شهقة خر مغشيًا عليه.
وفي بعض الخطب: يا ابن آدم لا يغرنك ارتفاع ذكرك، ونفاذ أمرك، وتشييد قصرك، مع ما جمعت فيه من الظُبا الشُرد، والأوانس النهد، والمتاع المزخرف المنجد، فإنك تخرجُ منه بالرغم،
(1) في هامش الأصل: قلت وكذا نعيمه. انتهى. كاتبه سعيد
…
(2)
"العاقبة" ص 191.
والأمر الجزم إلى الحجارة والرجم، فتغتسل فيها بصديدك وتأنس فيها بحشراتك ودودك، إلى أن تبلغك الرجفة لهلاك هذا المعمور، ثم الصيحة ليوم النشور، وبَعْثرة القبور، فتخرج بالأمر الكُبّار، إلى دارك دار القرار، إما إلى الجنَّة وإما إلى النار.
وأنشد بعضهم في ذلك:
من كان مسكنه قصرًا يشيده
…
فإن مسكنه من بعد ذا جَدثُ
ومن تكن فرشه فيها مُرَقّشة
…
ففرشه في ضريح بعدها الرثث
ومن غدا وسط نادٍ شعره رجلا
…
فإن آخره التمزيق والشعَثُ (1)
قال الإشبيلي (2): مرّ داود الطّائي بامرأة تبكي على قبر وهي تقول:
عدمتُ الحياة فلا نُلتها
…
إذا أنت في القبر قد وسّدوكا
وكيف ألذُّ بطعم الكَرى
…
وها أنت في القبر قد أفردوكا
ثم قالت: يا أبتاه، بأيّ خديك بدأ الدود أوّلًا؟ [قال] فخرّ داود مغشيًّا عليه.
واعلم: وفقني الله وإياك أنه من أقام خيال حالةِ كونه في تلك الحفرة الفظيعة، والرؤية البشيعة، وتفكر في ما يؤول إليه حاله قفرت همته وآماله. وعلم أن بدنه سيطرح في حفرة تقطع أوصاله وتغير أحواله وتبين إلى [أين](3) يصير مآله وأنه يطلب بكل ما عملهُ أو قاله
(1) سقط بيت كما في العاقبة:
ومن تكون آنسوه خرّد العبا
…
فآنسوه هناك الدود والعثث
(2)
"العاقبة" ص. 195 وما بين قوسين زيادة منه.
(3)
في النسخة (أ): "أن" والمثبت من (ب)، و (ط).
ولم يشغل بميت باله، ولم يبك إلا لنفسه لا لَه وما أحسن قول القائل:
أمن جدث أبصرته فشجاني
…
وأرسل في شجو الهموم عناني
سفكت عليه أدمعًا فسقيته
…
كما هو من كأس الهموم سقاني
وقفت به حيرانَ وقفة هائم
…
أعالج قلبًا دائم الخفقان
وما بي من في القبر لكن رأيته
…
على حالةٍ فيها وسوف تراني
وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أتيْتُ القبورَ مرةً فقلت فيها:
أتَيتُ القبورَ فناديتها
…
أين المعظَّمُ والمحتَقَرْ
وأين المُدَله سلطانُه
…
وأين العزيز إذا ما افتخر
قال: فنوديتُ من بينهم، أسمعُ صوتًا، ولا أرى شخصًا وهو يقول:
تفانوا جَميعًا فلا مُخبر
…
وماتُوا جَميعًا ومات الخبر
تروحُ وتغدو بناتُ الثَرى
…
وتمحو محاسنَ تلك الصُور
وصاروا إلى ملك قاهرٍ
…
عزيز مطاع إذا ما أمر
فيا سائلي عن أناس مضَوا
…
أمالكَ فيما ترى مُعتَبر
قال مالك: فرجعتُ وأنا أبكي.
وأنشد بعضهم وأحسن:
قِف بالقبور بأكبادٍ مصدعة
…
ودمعة من سويد القلب تنبعث
وسل بها عن رجال طالما ما رشفوا
…
ثغر النّعيم وما في ظلّه مكثوا
ماذا لقَوا في خباياها وما قَدِموا
…
عليه فيها ومَا من أجله ارتبثوا
وعن محاسنهم إن كان غيرّها
…
طول المقام، ببطن الأرض واللبث
وما لهم حشرات الأرض تنهشهم
…
نهشا تزول به الأعضاء [والجثث]،
فإن يُجِبْك بما لاقى مُجيبُهم
…
ولن يُجيب وأنى ينطق الجدث
فانظر مكانك في أفناء ساحتهم
…
فإنه الجدّ لا هزلٌ ولا عَبثُ
واعمل لمصرع يوم هال (1) أوّله
…
ومن أمامك فيه الروع والجأث
فَإنْ قلت: هل عذابُ القبر دائم أو منقطع؟
فالجوابُ كما قال المحقق: إنَّ عذابَ القبر نوعان: نوع دائم وهو عذاب الكافر، سوى ما ورد في بعض الأحاديث، إنه يُخففُ عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم، {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} ويدلُ على دوامه قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، وحديث سمرة الذي رواه البخاري، في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه، فهو يُفعَلُ به ذلك إلى يوم القيامة، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الجريدتين:"لعله يخُفف عنهما ما لم ييبسا"(2)، فجعل التخفيفُ مقيدًا بمدة رطوبتهما، فقط.
وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: "ثم يُفتح له باب إلى النار فينظرُ إلى مقعده فيها، حتى تَقومَ الساعة". رواه الإمام أحمد وتقدّم. وفي [(3) بعض طرقه: "ثم يُخرق له خَوقًا إلى
(1) في (ب)، (ط):"وم هال أوله". وفي الأصل (هال يوم) وما أثبت من العاقية وما بين القوسين من العاقبة (النجث) وفي العاقبة بعده
وتلكم الفتيات إذ طرحن بها
…
هل كان فيهن ذا التغير والشعث
(2)
رواه البخاري (216)، ومسلم (292) وتقدم تخريجه.
(3)
من أول هذا الموضع يوجد سقط في (ب).
النار، فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة"، فهذا كله يدل على دوام العذاب على الكافر في قبره.
النوع الثاني: إلى مدة، ثم يزول وينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة، أو استغفار، أو ثواب حج، أو قراءة تصلُ إليه من بعض أقاربه أو غيرهم. وحَكى القرطبي في التذكرة (1)، أن امرأة جاءت إلى الحسن البصري رحمه الله فقالت: إن ابنتي ماتت، وَقَدْ أحببت أن أراها في المنام. فعلّمني صلاة أصليها؛ لعلّي أراها، فعلمها صلاة فرأت ابنتها، وعليها لباس القطران، والغُل في عُنقها، والقيدُ في رجليها، فارتاعت لذلك وأخبرت الحسن فاغتم عليها، فلم تمض مدة حتى رآها الحسن في المنام، وهي في الجنة على سرير، وعلى رأسها تاجٌ فقالت له: يا شيخ أما تعرفني؟ قال: لا، قالت: أنا بنت تلك المرأة التي علّمت أمي الصّلاة فرأتني في المنام. قال: فما سبب أمرك قالت: مر بمقبرتنا رجل، فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وكان في المقبرة خمسمائة وستون إنسانًا في العذاب، فنودي: ارفعوا العذاب عنهم، ببركة صلاة هذا الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم (2).
قال القرطبي (1): وقد ذَكر أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة رضي الله عنه، في كتاب "عيون الأخبار"(3) عن الحارث بن نبهان أنه
(1)(280، 281).
(2)
لا يعلم في الشرع صلاة تصلى فيراى الأحياء فيها الأموات كما أن العمل الصالح يقتصر أثره على العامل على الخلاف في إهداء الثواب، وهذا لم يهده.
(3)
لم أجده فيه. وراوي الحكاية متروك الحديث الحديث عند المحدثين انظر: الضعفاء والمتروكين للنسائي (29).
قال: كنت أخرج إلى الجبانات، فأترحم على أهل القبور، وأتفكر وأعتبر، وأنظر إليهم سكوتًا لا يتكلمون، وجيرانًا لا يتزاورون، وقد صار لهم من بطن الأرض وطاء، ومن ظهرها غطاء، وأنادي: يا أهل القبور، مُحِيتْ من الدنيا آثارُكم، وما مُحيت عنكم أوزاركم، وسكنتم في دار البلى فتورمت أقدامكم، ثم يبكي بكاء شديدًا، ثم يميل إلى قبة فيها قبر (1)، فينامُ في ظلها، قال: فبينما أنا نائم إلى جنب القبر إذ أنا بحس مقمعة يُضربُ بها صاحبُ القبر، وأنا أنظر إليه، والسلسلة في عنقه، وقد ازرقّت عيناه، واسودّ وَجهه، وهو يقول: يا ويلي! ماذا حَلّ بي لو رآني أهل الدنيا ما ارتكبوا معاصي الله أبدًا، طُولبتُ والله باللّذات فأوبقتني، وبالخطايا فأغرقتني، فهل من شافع لي؟ أو مخبر أهلي بأمري.
قال الحارث: فاستيقظتُ مرعوبًا، وكاد أن يخرج قلبي من هول ما رأيت، فمضيتُ إلى داري، وبتُّ ليلي، وأنا متفكر فيما رأيت، فلما أصبحت قلتُ: دعني أعد (2) إلى الموضع؛ لعلي أجد به أحدًا من زُوّار القبُور، فأعُلمه بالذي رأيت، قال: فمضيتُ إلى المكان الذي كنتُ فيه بالأمس، فلم أرَ أحدًا، فأخذني النومُ فنمت، فإذا أنا بصاحب القبر، وهو يسحب على وجهه ويقول: يا ويلتاه! ماذا حلّ بي ساء في الدّنيا عملي، وطال فيها أجلي حتى غضب عليّ ربُّ الأرباب، فالويلُ لي إن لم يرحمْني ربيّ.
(1) لا يجوز بناء القباب على القبور وتشييدها.
(2)
في الأصل: "أعود" والصواب ما أثبتناه.
قال: فلما استيقظت وقد توله عقلي مما رأيتُ وسمعت، فمشيت إلى داري وبتُ ليلتي، فلما أصبحت أتيت القبر؛ لعلّي أجد أحدًا من زوّار القبور، فأعلمه بما رأيت، فلم أرَ أحدًا ثم نمت، فإذا أنا بصاحب القبر قد قُرن شيطان وهو يقول: ما أغفل أهل الدنيا عني، ضُوعف عليّ العذاب، وتقطعت عني الحيل والأسباب، وغضب عليَّ رَبُّ الأرباب، وغُلق في وجهي كلُّ باب، فالويل لي، إن لم يرحمْني ربي العزيز الوهاب.
قال: فاستيقظت من منامي مرعوبًا، وهممت بالانصراف، فإذا بثلاث جوارٍ قد أقبلْن، فتباعدْتُ لهنّ عن القبر، وتواريتُ لكي أسمع كلامهن فتقدّمّتِ، الصُغرى، ووقفت على القبر، وقالت: السلام عليك يا أبتاه، كيف هدوءك في مضجعك؟ وكيفَ قرارك في موضعك؟ ذهبت عنا بودك، وانقطع عنا سؤالك، فما أشد حسرتنا عليك! ثم بكت بكاء شديدًا، ثم تقدّمت الابنتان فسلّمنَ على القبر، ثم قالتا: هذا قبر أبينا الشفيق علينا، الرحيم بنا، آنسك الله بملائكة رحمته، وصرف عنك ملائكة عذابه ونقمته، يا أبتاهُ جَرَت بعدك أمور؛ لو عاينتها لأوهنتك، ولو اطّلعت (1)] عليها لأحزنتك، كشف الرجال وجوهَنا، وقد كنتَ أنت تسترها.
قال: فبكيتُ لمّا سمعتُ كلامهنّ، ثم قمت مسرعًا إليهن، فسلمت عليهن وقلتُ لهن: أيتّها الجواري إن الأعمال بما قُبلت،
(1) هنا انتهى سقط (ب).
ورُبّما رُدّت على صاحبها، فما كان عمل أبيكن المخلد في هذا القبر، الذي عاينتُ من أمره ما أحزنني، واطّلعت من حاله على ما آلمني؟
فلما سمعن كلامي كشفن وجوههن، وقُلن: أيها العبد الصالح، وما الذي رأيت؟ قلتُ لهُن: لي ثلاثةُ أيام أختلفُ إلى هذا القبر، أسمعُ صوت المقمعة، والسلسلة فيه قال: فلمّا حمعن ذلك مني قُلن لي: يا لها من بشارة ما أضرّها، ومصيبة ما أحزنها، نحن نقضي الأوطار، ونُعمرّ الديار، وأبونا يُحرّق بالنّار، فوالله لا أقر بنا قرار، ولا ختمنا للذة العيش دار، أو نتضرع للجبار فلعله يعتق أبانا ويُنقذه من النار، ثُمّ مضين يَعثُرْن في أذيالهنّ. قال: فمضيت إلى داري فبت ليلتي فلما أصبحت أتيت القبر. فجلست عنده، فغلبني النوم، فإذا أنا بصاحب القبر؛ له حُسن وجمال، وفي رجليه نعلٌ من ذهب، ومعه حور وغلمان، قال الحارث: فسلمتُ عليه وقلتُ له: رحمك الله من أنت؟ فقال: أنا الرجل الذي عاينت من أمره ما أحزنك، واطلعت منه على ما أفجعك فجزاك الله خيرًا، فما أيمن طلعتك عليّ، فقلت له: وكيف حالك؟ فقال لي: لمّا اطّلعتَ عليّ، وأخبرتَ بناتي بالأمس بحالي أعرين أبدانهن، وأسبلن شعورهنّ، وتضرّعن لمولاهنّ، ومرغن خدودهنّ في التراب، وأهملن دموعهنّ بالانسكاب واستوهبنني من العزيز الوهاب، فغفر لي الذنوب والأوزار، واستنقذني من النار، واسكنني دار القرار، جوار محمد المختار فإذا رأيت بناتي فأعلمهنّ بأمري، وما كان من قصّتي ليزول عنهن روعهنّ، ويفارقْن حزنهنّ، وتُعلمهُنّ أني قد صرت إلى جنات وحور، ومسك وكافور، وعندي
غلمانٌ وسرور، وقد عفا عني العزيز الغفور، فاستيقظت فرحًا مسرورًا لما رأيت، وسمعت ثم مضيت إلى داري وبت ليلتي
فلما أصبحتُ أتيت القبر فوجدتهن حافيات الأقدام، فسلمت عليهنّ، وقلت لهن أبشرن، فقد رأيت أباكنّ في خير عظيم، وملك مقيم، وقد أعلمني أن الله أجاب دعاءكنّ، ولم يخيب مسعاكنّ، وقد وهبَ لكنّ أباكنّ، فاشكرنه على ما أولاكنّ.
قال: فقالت الصُغرى: اللهمّ يا مؤنس القلوب، ويا ساتر العُيوب، ويا كاشف الكروب، ويا غافر الذنوب، ويا عالم الغيوب ويا مبلغ الأمل المطلوب، قد علمت مكان مسألتي ورغبتي، واعتذاري في خلوتي، واستقامتي من زلتي، وتنصلي من خطيئتي، وأنت اللهم تعلم همتي، والمطلع على نيتي، والعالم بطويتي، ومالك رقبتي، والآخذ بناصيتي وغايتي في طلبتي، ورجائي عند شدتي ومؤنسي في وحدتي، وراحم عبرتي، ومقيل عثرتي، ومجيب دعوتي، فإن كنتُ قصرتُ عمّا أمرتني، وركنت إلى ما عنه نهيتني، فبحلمك حملتني، وبسترك سترتني، فبأيّ لسان أذكرك، وعلى أيّ نعمة أشكرك، ضاق بكثرتها ضرعي، فيا أكرم الأكرمين، ومنتهى غاية الطالبين، ومالك يوم الدين، الذي يعلم ما أخُفي في الضمير، وتدنو من الصغير والكبير، فإن كنت قضيت الحاجة بفضلك، وشفّعتني في عبدك، فاقبضني إليك وأنت على كل شيء قدير، ثم صَرخت صرخة فارقت الدنيا، رحمة الله عليها.
ثم قامت الثانية فنادت بأعلى صوتها، يا رب يا رب، فرج عني كربي، وخلّص من الشك قلبي، يا من أقامني من صرعتي، وأقالني من
عثرتي، ودلني من حيرتي، وأعانني في شدتي، إن كنت قبلت دعوتي وقضيت حاجتي، وأنجحت طَلبَتي، فألحقني بأختي ثمَّ صاحت صيحة فارقت الدنيا رحمة الله عليها.
قال: ثم قامت الثالثة فنادت بأعلى صوتها: يا أيها الجبار الأعظم والملِك الأكرم، والعالم بمن سكت وتكلم؛ لك الفضل العظيم، والمُلك القديم، والوجه الكريم، العزيز من أعززته والذليل من أذللته، والشريف من شرفته، والسعيد من أسعدته، والشقي من أشقيته، والقريب من أدنيته، والبعيد من أبعدته، والمحروم من حرمته، والرابح من أوهبته، والخاسر من عذبته، أسألك بأسمك العظيم، ووجهك الكريم، وعلمك المكنون، الذي بَعد عن إدراك الأفهام، وغمض عن مناولة الأوهام، باسمك الذي جعلته على الليل فدجا، وعلى النهار فأضاء، وعلى البحار فزخرت، وعلى الجبال فدكدكت، وعلى الرياح فتناشرت، وعلى السموات فارتفعت، وعلى الأصوات فخشعت، وعلى الملائكة فسجدت، اللهم إني أسألك إن كُنت قضيت حاجتي وأنجحت طلبْتي، فألحقني بصويحباتي ثم صاحت صيحة فارقت الدنيا، رحمة الله عليها. انتهى ما ذكره القرطبي (1).
قال المحقق (2): وهذا يعني كون الدعاء ونحوه، يكون سبب
(1) هذه القصة يشم من سبكها الوضع وفيها أمور منكرة من كشف الوجوه عند الأجانب، والتعري بين يدي الله تبارك وتعالى. كما في بعض الألفاظ اختلاف هنا وفي التذكرة في بعض الأحرف.
(2)
"الروح" ص 152.
انقطاع عذاب القبر، كما يشفع الشافع في المتعذب في الدنيا، فيُخلَّص من العذاب بشفاعته؛ لكن هذه شفاعة قد تكون بدون إذن المشفّع عنده، والله سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه، إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع، إذا أراد أن يرحم المشفوع له، ولا يعتبر بغير هذا فإنه شرك وباطل، تعالى الله عنه {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة الآية: 255]، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، فـ {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 44].
وقد ذكر ابن أبي الدنيا (1) عن عبد الله بن نافع، قال: مات رَجل من أهل المدينة، فرآه رجل كأنه من أهل النار، فاغتم لذلك، ثم إنّه بعد ساعة أو ليلة [ثانية](2)، رآه كأنه من أهل الجنة فقال: ألم تكن من قلت إنك من أهل النار؟ قال: قد كان ذلك إلا أنه دُفن معنا رجل من الصالحين، فشُفّعَ في أربعين من جيرانه، فكنت أنا منهم، وتقدمت.
وفي كتاب"الروح" للمحقق (3)، عن بشار بن غالب قال: رأيتُ رابعة العدوية في منامي وكنت كثير الدّعاء لها، فقالت لي: يا بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور، مخمرة
(1)"القبور" ص 128 (139).
(2)
كلمة "ثانية" ليست في (أ) وهي في (ب)، و (ط).
(3)
"الروح" ص 153.
بالمناديل الحرير، فقُلت: وكيف ذاك؟ فقالت: هذا دعاء المؤمنين الأحياء إذا دَعوا للموتى، فاستجيب لهم، جُعل ذلك على أطباق من نوروخُمّر بمناديل الحرير، ثم إن الذي دعى له من الموتى يقال له: هذه هَديّة فلان إليك.
قال ابن أبي الدنيا (1): وحدثني عبد الله بن بجير [قال: حدَّثني بعض أصحابنا](2) قال: رأيت أخًا لي في النوم بعد موته، فقلت: أيصل إليكم دعاء الأحياء قال: أي والله مثل النور نلبسه والله الموفق.
فَإِنْ قُلْتَ: ما الأسباب الموجبة لعذاب القبر؟
فالجَوَابُ من وجهين: كما ذكره المحقق، مُجمل ومفصّل:
أمّا المجمل: فإنهم يُعذبون على جهلهم بالله، ومخالفتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه، فلا يُعذب الله روحًا عرفته، وأحبته وامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ولا بدنًا كانت فيه أبدًا فإن عذاب القبر، وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار، ثم لم يتُب ومات على ذلك، كان له من عذاب البرزخ، بقدر غضب الله وسخطه عليه.
وأما الجواب المفصل: فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذيين رآهما يعذبان في قبورهما، كان يمَشي أحدهما بالنميمة بين الناس، وبعدم التّنزّه من البول، فهذا ترك الطهارة، وذاك ارتكب سببًا مُوقعًا
(1)"ذكر الموت" ص 174 (310).
(2)
ليست في (أ) والمثبت من (ب)، و (ط).
للعداوة بين الناس، بلسانه وإن كان صادقًا. وفي هذا تنبيه، على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور أعظم عذابًا، كما أن في ترك الاستبراء من البوَل، تنبيهًا على أن من ترك الصلاة، التي هي المقصودة من الطهارة، والاستبراء من البول، أشد عذابًا، فعذاب القبر من معاصي القلب، والعين والأذن، والفم واللسان، والبطن والفرج، واليد، والرجل، والبدن كله فالكذاب والمغتاب، وشاهد الزور وقاذف المحصن، والوقيعة في الفتنة، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله ورسوله ما لا علم له به، والمجازفُ في كلامه، وآكلُ الربا، وكاتبهُ، وشاهداه، وكذا معطيه وآكل أموال اليتامى، وآكلُ السحت من الرشوة والبرطيل ونحوهما، وآكلُ مالَ أخيه المسلم بغير حق، وكذا مالَ الذمي والمستأمَنِ وشاربُ المسكر، وآكل لقمة الشجرة الملعونة والزاني واللوطي، والخائن، والغادر والمخادع والمكار والمحلِّلُ، والمحلّلُ له، والمحتالُ على إسقاط فرائض الله، وارتكاب محارمِه، ومؤذي السلمين ومتبعُ عوراتِهم، والحاكم بغير ما أنزل الله، والمَفتي بخلاف ما شرعه الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتلُ النفس التي حرّم الله والمقدم رأيه وذوقه على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنائحة والمستمع إليها، ونوايح جهنم وهم المغنون الغِنَاء الذي حرم الله ورسولُه والمستمعُ إليهم والذين يبنون المساجدَ على القبور، ويوقدون عليها القناديل والسرُج، والمطففون في استيفاء مالهم [إذا أخذوه](1)، ونقصهم ما عليهم إذا بذلوه،
(1) سقطت من (أ) وفي (ب)، و (ط)(إذا أذخوه) وما أثبت من الروح.
والجبارون والمراؤون والمتكبرون والهمازون والطاعنون على السلف والذين يأتون الكهنة، والمنجمن والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم وأعوان الظلمة، الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم والذي إذا خوفته بالله وذكّرته به لم ينزجر، وإذا خوفته بمخلوق خاف وانزجر، والذي يُهدى بكلام الله ورسوله فلا يُهدى ولا يرفع به رأسًا، فإذا بلغه عمن يحسن الظن به ممن يصيب ويخطئ عضّ عليه بالنواجذ، ولم يخالفه، والذي يعظم عليه غير الله والمفتخر بالمعصية، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، وفاحش اللسان والمؤخر الصلاة وناقرها نقرًا، ومانع الزكاة، والذي لا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق، مع قدرته عليها، ولا يتورع في لحظه ولا في لفظه ولا يبالي مما حصل المال، من حلال أو حرام ولا يصل رحمه ولا يرحم المسلمين ولا الأرملة، ولا اليتيم ولا الجيران، والحيوان بل يدعّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي العالمين، ويمنع الماعون ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه، فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم، بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها، وكبرها وصغرها، إن لم يعف عنهم أرحم الراحمين.
قال المحقق (1): ولما كان أكثرُ الناس كذلك، أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظاهر القبور تراب، وباطنها حسرة وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي
(1)"الروح" ص 136.
باطنها الدواهي والبليّات، تغلى بالحسرات كما تغلى القدور بما فيها،
فكم جدث يزوّق بالنقوش
…
وباطنة أَرَثُّ من الحشوش
فَإنْ قُلْتَ: ما الأسباب المنجية من عذاب القبر؟ فالجَوَابُ: كما قال المحقق (1): من وجهين أيضَا: مُجمل ومفصّل، فالمجمل: تجنب تلك الأسباب، التي تقتضي ذلك العذاب، ومن أنفعها، أن يجلس عند ما يريد النوم لله تعالى ساعة، يُحاسب فيها نفَسه، على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، ثم ينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعود إلى ذنب فإذا استيقظ استيقظ مقبلًا للعمل مسرورًا بتأخير أجله حين يستقبل ربه قال المحقق: وليس للعبد أنفع من هذه التوبة، ولاسيما إذا عقب ذلك بذكر الله، واستعمال السنن، التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيرًا، وفقه لذلك ولا قوة إلا بالله.
وأما الجواب المفصّل: فما روى عنه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الثابتة، فمنها ما رواه مسلم في صحيحه، عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات أُجْرِي عليه عملُه الذي كان يعمله وأُجرِيَ عليه رزقُه وأمِن الفتَّانَ"(2).
(1)"الروح" ص 137.
(2)
رواه مسلم (1913)، والإمام أحمد 5/ 440، والنسائي 6/ 39، والترمذي (1665)، وابن حبان (4623)، والبيهقي 9/ 38، انظر ص 206.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءً على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فسمع إنسانًا يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر"، رواه الترمذي وقال: حديث غريب (1).
وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرَج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في صُفة بالمدينة، فقام علينا فقال:"إنَّي رأيت البارحة عجبًا، رأيت رجلًا من أمتي أتاه ملكُ الموت ليقبض روحه، فجاءه برّ والديه فردّ ملك الموت عنه، ورأيتُ رجلًا من أمتي قد تسلط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوءه فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلًا من أمَّتي قد احتوشه الشيطان، فجاء ذكرُ الله فطرد الشيطان عنه، ورأيتُ رجلًا من أمُّتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذتهُ من أيديهم"(2). الحديث رواه أبو موسى المديني، وقال: حسنٌ جدًا. وسيأتي إن شاء الله تعالى، فيما بعد.
(1) أخرجه الترمذي (2890)، والطبراني في "الكبير" 12/ (12801)، وابن عدي في "الكامل" 7/ 205 (ترجمة يحيى بن عمرو) وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 81، والمزي في "تهذيب الكمال" 31/ 479.
وقال ابن عدي: إن أحاديث يحيى بن عمرو بن مالك عن أبيه عن ابن عباس كلها غير محفوظة تفرد بها يحيى.
(2)
رواه بحشل في "تاريخ واسط" ص 169 مطولًا. وعزاه في الروح لأبي موسى المديني، انظر: ص 923 ت (1).
وقال الحافظ ابن رجب: روي باسناد ضعيف عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عذاب القبر يرفع عن الموتى في شهر رمضان.
وحكى اليافعي في "رَوْضِ الرياحين"(1) عن بعض الأولياء قال: سألت الله أن يُريَني مقامات أهل المقابر، فرأيتُ في ليلة من الليالي القبور، قد انشقت وإذا منهم النائم على السندس، ومنهم النائم على الحرير والديباج، ومنهم النائم على الريحان، ومنهم النائم على السّرر، ومنهم الباكي ومنهم الضاحك، فقلتُ: يا رب: لو شئت ساويت بينهم في الكرامة فنادى منادٍ من أهل القُبور، يا فلان: هذه منازل الأعمال: أمّا أصحابُ السندس، فهم أهل الخُلق الحسن، وأمّا أصحابُ الحرير والديباج، فهم الشهداء وأمّا أصحابُ الريّحان، فهم الصائمون، وأمّا أصحابُ المراتب يعني السرر، فهم المتحابون في الله، وأمّا أصحاب البُكاء فهم المذنبون، وأمّا أصحابُ الضحك، فهم أهل التوبة.
وذكر اليافعي فيه أيضًا قال: بلغنا أن الموتى لا يُعذبون ليلة الجمعة، تشريفًا لهذا الوقت قال: ويُحتملُ اختصاص ذلك بعصاة المسلمين دون الكفار، وعَمَّم النّسفيُّ في "بحر الكلام"، فقال: إنَّ الكافر يُرفعُ عنه يومَ الجمُعة وليلتها، وجميع شهر رمضان، وأما المسلمُ العاصي، فإنه يُعذب في قبره؛ لكن ينقطع عنه يوم الجمعة
(1)"روض الرياحين" ص 197 - 198. وقد حذر أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى من النظر في هذا الكتاب، انظر ص 204.
وليلتها، ثم لا يعود إليه إلى يوم القيامة، قال: وإن مات ليلة الجمعة أو يومها، يكونُ له العذابُ ساعة واحدة، وضغطة القبر كذلك، ثم ينقطع عنه العذاب، ولا يعود إليه انتهى.
قُلْتُ: وهذا إنما هو مُجردُ زعم لا دليلَ عليه، فيجبُ أن يُطرحَ ولا يصغى له من ذاق شيئًا من حديث الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، فإنه جزم بأن عذابَ القبر يُرفعُ في جميع شهر رمضان، وقد علمتَ أنَّ الحديث ضعيف، والضعيف لا يبني عليه مثلُ هذا الأصل العظيم، ثم إنه تجازف، فزعمَ أنّ الكافر يُرفعُ عنه العذاب أيضًا، وقد علمتَ مما ذكرنا فيه آنفًا في كلام المحقق، ثم إنه على ما زعم؛ لا تُعذبُ عصاةُ المسلمين إلا جمعةً واحدة، هذا على ما زعم أكثرهُمْ عذابًا؛ لأنةَم إذا أتت عليهم ليلة الجمعة، انقطع ذلك عنهم، ثم لا يعودُ وما أحسنَ هذا؛ لو كان له دليل، يُعولُ عليه، أو مُسَّتندٌ يُستنّدُ إليه؛ لكن مُجرد الزعم والحدس لا يُثبَتُ به مثل هذا، والله أعلم.
فائدتان:
الأولى: ذكر المحقق، في "بدائع الفوائد" (1) ما نصُّه: نقلت من خط القاضي أبي يعلى في تعاليقه: لابد من انقطاع عذاب القبر لأنه من عذاب الدنيا، والدُّنيا وما فيها منقطع، فلابُدّ أن يلحقهم الفناء والبلاء، ولا يعرف مقدار مدة ذلك.
قال السيوطي (2): ويؤيد هذا، ما أخرجه هنادٌ في "الزهد"، عن
(1)"بدائع الفوائد"(3/ 105)"شرح الصدور" ص 248.
(2)
هناد في "الزهد"(317)"شرح الصدور" ص 248.