الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع في ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنوّرها عليهم، وفي زيارة الموتى والاتّعاظ بحالهم والتفكر بهم
تقدّم أن القبر يقول: أنا بيت الظلمة وبيت الضيق، أخرج ابن المبارك عن سليم بن عامر قال: خرجنا في جنازة في باب دمشق، ومعنا أبو أمامة الباهلي، فلمّا صلىّ على الجنازة وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة: إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تغتنمون فيه الحسنات والسّيّئات، توشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر، وهو هذا يشير إلى القبر، بيت الوحدة وبيت الظلمة، وبيت الدود وبيت الضيق، إلا ما وسَّمع اللهُ ثم تنقلون منه إلى مواطن القيامة (1).
وأخرج ابن أبي الدنيا، عن امرأة هشام الدستوائي قالت: كان هشام إذا طُفئ المصباح غَشِيَهُ من ذلك أمر عظيم، فقلتُ: إنه ليغشاكَ أمرٌ عظيم عند هذا المصباح إذا طُفِئ قال: إني أذكر ظلمة القبر، ثم قال: لو كان يسبقني إلى هذا أحد من السلف؛ لأوصيت إذا مُتّ أن أجعَلَ في ناحية من داري، قالت: هما مكث إلا يسيرا حتى مات قالت: فمرّ بعضُ إخوانه بقبره فقال: يا أبا بكر صرتَ والله إلى المحذور (2)، ومَرَّةً انطفأ المصباح فخرج هاربًا من البيت، فقيل له في ذلك فقال: ذكرت ظلمة القبر.
(1)"الرقائق" ص 108 (368).
(2)
"القبور" ص 92 (90).
وروى الحافظ ابن رجب، عن خالد بن خداش، قال: كنتُ أقعد إلى وسيم البلخي، عمّ قتيبة وكان أعمى، وكان يحدث ويقول آوه من القبر وظلمته، واللحد وضيقه، كيفَ أصنع ثم يغمى عليه، ثم يعود فيحدّث ويصنع ذلك مرات حتى يقوم (1).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن وهب ابن الورد قال: نظر ابن مطيع ذات يوم إلى داره، فأعجبه حسنها فبكى ثم قال: والله لولا الموتُ لكنت بكِ مسرورا، ولولا ما نصيرُ إليه من ضيق القبور، لقرّتْ بالدُنيا أعيننا، ثم بَكَى بُكَّاءً شديدا حتى ارتفع صوته (2).
وذكر ابن أبي الدنيا أيضًا عن محمد بن حرب المكي قال: قدم علينا أبو عبد الرحمن العمري العابد، فاجتمعنا إليه وأتاه وُجوه أهل مكة، قال فرفع رأسه، فلما نظر إلى القصور المحدقة بالكعبة، نادى بأعلى صوته: يا أصحاب القصور المشيدة، اذكروا ظلمة القبور الموحشة، يا أهل التنعم والتلذذ، اذكروا الدّود والصّديد، وبلي الأجساد في التراب، قال ثم غلبته عيناه فنام (3).
وذُكِرَ أنّ سعيدَ بنَ عبد العزيز دخلَ على سُليمان الخَواّص فقال: ما لي أراك في الظلمة؟ فقال: ظلمةُ القبر أشدّ (4).
(1)"أهوال القبور" ص 209.
(2)
"ذكر الموت" ص 70 (128).
(3)
الخبر في "حلية الأولياء" 8/ 285 و"سير أعلام النبلاء" 8/ 376.
(4)
حلية الأولياء 8/ 277، و"سير أعلام النبلاء" 8/ 179، "صفة الصفوة" 4/ 273. "أهوال القبور" ص 211:213.
وذكر الحافظ في "أهوال القبور" عن أبي المصرخي قال: خرجتُ غازيًا فمررت ببعض حُصُون الشام، فوجدت بابَ الحصن مغلقًا، ومقبرة على الباب، فبتُّ بجنب المقبرة بالقرب من قبر محفور، فلما نمت إذا بهاتفٍ من القبر وهو يقول:
أنعم الله بالخيالين
…
عينا وبمسراك يا أميم إلينا
عجبًا ما عجبتُ من ثقلِ الترب
…
وظلمةِ القبور علينا
قال: فانتبهت فإذا الباب قد فُتح، وإذا بالجنازة يقدمها شيخ فقلت له: ما هذه الجنازة؟ قال: هذه جنازة ابنتي قلت: ما اسمها؟ قال: أميمة، قلت: القبر المحفور لمن؟ قال: قبر ابن أخي، وكان زوجها فتوفى فدفنته ثم توفيت ابنتي فجئت أدفنها، فأخبرتُه بما سمعت من الهاتف في القبر (1).
ويشبه هذا ما خرّجه ابن أبي الدنيا عن الشعبي قال: كان صفوان بن أمية في بعض المقابر فإذا بشعل نيران قد أقبلت ومعها جنازة فلما دنوا من المقبرة قالوا: انظروا قبر كذا وكذا، قال رجل: سمعتُ صوتًا من القبر حزينًا موجعًا يقول:
أنعم الله بالظعينة عينا
…
وبمسراك يا مُنينَ إلينا
جزعًا ما جَزعتُ من ظلمة القـ
…
ـبر ومن مسك التراب أمينا
فأخبر القوم بما سمع، فبكوا حتى أخضلوا لحاهُم، ثم قال هل تدري من مُنينة؟ قال: لا، قال: صاحبة هذا السرير، وهذه أختها ماتت عام أوّل (2).
(1) أهوال القبور ص 213.
(2)
"الهواتف" ص 48 (58).
وأخرج أيضًا عن إسماعيل بن راشد قال: حجَّتِ امرأةُ فماتت في بعض المنازل، فلما كان القابل حجّت أختٌ لها فماتت في ذلك المنزل، فجهزوها وأخرجوها ليدفنوها فبينا هم يطلبون قبر أختها، وإذا رجل قد أسري ليلته، فأتى القبور، فرمى بنفسه فنام فيها فاستيقظ فقال: ما تطلبون قالوا: قبرًا قال: هو تحتي (1) [قالوا: وما علمك؟ قال: سمعت قائلًا: يقول:
يا منينا يا منينا
…
أنعم الله بالظعينة عينا
نفسًا ما نفست من نفس القـ
…
ـبر وبمسراك يا منين إلينا
لم نلق بعدكم يا منينا رخاء
…
أقبل الدهر بالرخاء علينا
قال: فدفنت إلى جنب أختها.
وأخرج أبو نعيم، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يقول في موعظة له طويلة، يذكر فيها أهل القبور: أليسوا في مدلهمة ظلماء، أليس الليل والنهار سواء؟ (2).
وقال أبو العتاهية يبكي على نفسه في مرثية:
لأبكين على نفسي وحق ليه
…
يا عين لا تبخلي عني بعبرتيه
لأبكين فقد بأن الشباب فقد
…
جد الرحيل عن الدنيا برحلتيه
يانأي منتجعي يا هول مطلعي
…
يا ضيق مضطجعي يا بعد شقتيه
المال ما كان قدامي لآخرتي
…
ما لا أقدم من مالي فليس ليه
لأبكينَ فيبكين ذوو ثقتي
…
قبل الممات وإخواني وإخوتيه (3)
(1) سقطت من (أ) ورقتان. وأتممناها من (ب).
(2)
حلية الأولياء 5/ 261.
(3)
"أهوال القبور" ص 213: 215.