الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البابُ الثاني في عذاب القبرِ ونعيمه
نسألُ اللهَ أنْ يجَعلنا من أهل النعيم؛ بمنه وكرمه العميم
قال السيوطي: وقع ذِكْرهُ أي عذابُ القبر في القُرآن في عدّةِ أماكن، كما بينتُه في "الإكليل في استنباط التنزيل"، انتهى.
قال الحافظ ابن رجب في قولِ اللهِ عز وجل: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} إلى قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)} [الواقعة: 83 - 95] عَنْ عَبدِ الرحمن بنِ أبي لَيْلى قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} [الواقعة: 83] إلى قوله: {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)} قال: "إذا كانَ عندَ الموتِ قِيلَ له هذا، فإنْ كانَ مِنْ أصحاب اليمين أحبَّ لقاءَ اللهِ، وأحبَّ اللهُ لِقاءه وإنْ كان من أصحابِ الشمال كَره لقاءَ الله، وكرِه اللهُ لقاءه "(1).
وأخرجَ الإمامُ أحمدُ، أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أحبّ لِقاء الله أحبّ اللهُ لِقاءه، ومَن كَره لقاء الله، كَرهَ اللهُ لِقاءهُ"، فَأكبَّ القومُ يَبْكون: قال: "ما يبكيكم" قالوا: إنَّا نكره المَوت قال: "ليس ذلك ولكنه إذا حَضَر، {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)} [الواقعة: 88 - 89] فإذا بشر بذلِك أحبَّ لقاء اللهِ، واللهُ للقائه أحبّ وإمّا أنْ يَكُون من المكذبين الضالين؛ {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)}
(1) انظر "أهوال القبور" ص. 68 انظر ما بعده والدر المنثور (14/ 245) تفسير سورة الواقعة آية (88).
[الواقعة: 93]، فإذا بُشر بذلك، كره لقاء اللهِ، واللة للقائهِ أكْره" (1).
وظاهرُ كلامِ المحقق في كتابِ "الرّوح" أنَّ عذابَ القَبر ذُكِرَ في القرآن؛ لأنَّه قالَ: قولُ السّائل ما الحكمةُ في أنَّ عذابَ القبر لمْ يُذكرْ في القرآنِ، مع شدّة الحاجة إلى معرفته، والإيمان به، ليُحذر ويُتّقَى، فالجوابُ من وجهين: مجملٌ ومفصّل.
أمَّا المجْمَلُ فهو: أنَّ الله سبحانه وتعالى أنزَلَ على رَسُولِه وَحْيَيْن فَأوْجَبَ عَلى عبادِه الإيمانَ بهما، والعملَ بما فيهما، وهُما: الكتابُ والحكمة، قال تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] إلى قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129] وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الأحزاب: 34] والحكمة: هي السّنّة باتفاق السَّلف، وما أخبَر به الرسولُ عن الله، فهو في وجوب تصديقه والإيمانِ به كما أخبرَ به الرّبُّ على لسانِ رسوله، هذا أصلٌ متَّفقٌ عليه بينَ أهل الإسلام، لا يُنكره إلا من ليس منهم، وقد قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:
(1) روي ذَلِكَ من حديث عائشة، وأبي هريرة، وعبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري. وهذا اللفظ أقرب للفظ حديث عبادة عند البخاري (6057) وفيه ذِكر عائشة أيضًا. ومن حديث عائشة وأبي هريرة رواه مسلم (2685)، والنسائي 4/ 10، وأحمد (30/ 216)(18283).
"إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معه"(1).
قال: وأما الجوابُ المُفصَّلُ: فهو أنّ نعيمَ الروح وعذابَه، مذكورٌ في القرآن، في مواضعَ، فمنها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93] الآية، وهذا خطابٌ لهم عندَ الموتِ قطعًا، وقد أخبرتِ الملائكةُ وهم الصادقونَ أنهم حينئذ يجزَوْنَ {عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] (2) ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لمَا صحَّ أنْ يُقال لهم اليومَ تجُزون عذابَ الهُونِ، وقوله:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45] الآية فَذَكَر عذاب [الدار] ذكرًا صريحًا، لا يحتملُ غيره ومنها قوله تعالى:{فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)} [الطور: 45 - 46] انتهى كلامه.
وأخرجَ البخاريُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهم إني أعوذُ بكَ من عذاب القبر"(3).
قلتُ: وَذكرَ الحافظُ ابن رجب في "أهوال القَبور" أنَّ عَذابَ
(1) حديث صحيح، رواه أحمد 4/ 130، وأبو داود (3804) و (4604).
(2)
في هامش الأصل: بعد قوله أنهم حينئذ يجزوْن عذاب الهون أن يُقال: بما كانوا يقولون على الله غير الحق وكانوا عن آياته يستكبرون خاصة وأنه لم يقل: وقد قال الله تعالى، فهو من كلامه: أى المؤلف، وما بين القوسين لعله النار.
(3)
البخاري (1377).
القَبْرِ ذُكرَ في القُرآن في عدةِ مواضعَ (1).
أخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: ما زلنا في شك من عذاب القبر حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: الآية 1، 2](2).
وأخْرَجَ آدمُ بنُ أبي إياس عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: إذا مات الكافرُ أُجْلِسَ في قَبره فيُقالُ: من ربك وما دينك؟ فيقولُ: لا أدْري، فيُضَيّقُ عليه قبرُه، ثم قرأ ابن مسعود {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] المعيشةُ الضنكُ: هي عذابُ القبر (3).
وروى شُريكٌ عن أبي إسحق عن البراء رضي الله عنه في قوله عز وجل: {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] قال: عذابُ القبر (4).
وكذا رُويَ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى:
(1) ص 70.
(2)
رواه الترمذي (3355)، وابن أبي عاصم في "السنة"(877) وابن جرير في تفسيره لسورة التكاثر والبيهقي في"عذاب القبر"(247). وإسناده ضعيف لضعف حجاج بن أرطاة.
(3)
رواه هناد في "الزهد"(352)، والطبري في تفسير للآية (طه 24)، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 206، وروي مرفوعًا من حديث أبي هريرة رواه أبو يعلى (6644) وابن حبان (3119)، والحاكم 1/ 381 وسيأتي.
(4)
روي ذَلِكَ عن ابن عباس، رواه علي بن طلحة في "صحيفته"، ومن طريقه البيهقي في "عذاب القبر"(83).
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة: الآية 21](1) وكذا قال قتادةُ والربيعُ بنُ أنس في قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: الآية 101]، إحداهما: في الدنيا والأخرى هي عذاب القبر (2).
قال الحافظُ ابن رجب (3): وقد تواترت الأحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم في عذابِ القبر، ففي الصحيحينِ عن عائشة رضي الله عنها أنَّها سألتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال:"نعم عذابُ القبر حقّ" قالت عائشةُ رضي الله عنها: فما رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم بعدُ صلَّى صلاةً إلَّا تعوّذ من عذاب القبر (4).
وفيهما عنها رضي الله عنها أنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إني رأيتُكُم تُفتَنُون في القبور كفتنة الدجال" قالت عائشةُ رضي الله عنها: فكُنتُ أسمعُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يتعوّذُ من عذابِ القبر (5).
وفي صحيح مسلم عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كانَ يُعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذُ بكَ مِنْ عَذابِ القبر وأعوذُ
(1) رواه الطبري في تفسير الآية عن مجاهد (18/ 631)، وما ورد عن ابن عباس فيها ليس فيه عذاب القبر.
(2)
رواه الطبري في تفسيره للآية، والبيهقي في "عذاب القبر"(63).
(3)
أهوال القبور ص 71 - 72.
(4)
رواه البخاري (1372).
(5)
رواه البخاري (86) و (184) و (922) و (1053)، ومسلم (584)(955)، وأحمد 6/ 345، وابن حبان (3114) مطولا وفيه روايات كثيرة في صلاة الخسوف.
بك من فِتنْةِ المحيا والممات، وأعوذ بكَ مِنْ فتنة المسيح الدجال" (1).
وأخرجَ مسلم وابنُ أبي شيبةَ عن زيد بن ثابتٍ، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط - أي: بستان - لبني النجار على بغلة له، ونحنُ معهُ إذْ حَادت به فكادت أن تلقيَه وإذا أقبرٌ ستة أو خمسة أو أربعة، فقال:"مَن يعرِف أصحاب هذه الأقبر؟ " فقال رجل: أنا، فقال:"متى مات هؤلاء؟ " فقال: ماتوا في الإشراك، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إن هذة الأمّةُ تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر، الذي أسمع منه" ثم أقبل علينا بوجهه فقال: "تعوّذوا بالله من عذاب النار"، فقالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال:"تعوّذوا بالله من عذاب القبر" فقالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، فقال:"تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن"، فقالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فقال:"تعوّذوا بالله من فتنة الدجال، فقالوا: نعوذُ بالله من فتنة الدجال"(2).
وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أهل القبور يعذبون في قبورهم، عذابًا تسمعه البهائم"(3).
وأخرج الإمام أحمد وأبو يعلى، والآجري عن أبي سعيد
(1) رواه مسلم (590)، وأبو داود (984) و (1542)، والترمذي (3494)، والنسائي 4/ 104 و 8/ 276 - 277، والإمام أحمد 1/ 242 و 258 و 298، و 311، وابن حبان (999).
(2)
رواه مسلم (2867)، والإمام أحمد 5/ 190، وعبد بن حميد (254).
(3)
رواه البخاري (6366)، ومسلم (586)، والنسائي 3/ 56 و 4/ 105.
الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسَلّطُ على الكافر تسعة وتسعون تنّينا تلدغُه حتى تقوم الساعة"(1).
وأخرج أبو يعلى والآجري وابن منده، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:"المؤمن في قبره في روضة، ويُرَحَّبُ له قبره، أي: يُوسع سبعون ذراعًا، وينوّر له كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيم نزلت هذه الآية: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: الآية 124]؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"في عذاب الكافر، والذي نفسي بيده، إنه ليُسَلّطُ عليه تسعة وتسعون تتّينًا، ينفخون في جسمه ويلسعونه، ويخدشونه إلى يوم القيامة"(2).
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُرسَلُ على الكافر حَيّتان واحدة من قبل رَأسه، والأخرى من قِبل رجليه، يَقرصانه قرصًا، كلمَّا فرغتا عادتا إلى يوم القيامة"(3).
وأخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا
(1) رواه أحمد 3/ 38، والدارمي 2/ 331، وابن حبان (3121)، والآجري في الشريعة ص 259، ورواه موقوفًا: أبو يعلى (1329)، والبيهقي في "عذاب القبر"(74).
(2)
رواه أبو يعلى (6644)، وابن حبان (3119) مختصرًا، والحاكم 1/ 381، والبيهقي في "عذاب القبر"(69) و (70) مختصرًا.
وأورده الهيثمي 3/ 55 وقال: فيه دراج وحديثه حسن واختلف فيه.
قلت: دراج ضعيف.
(3)
رواه أحمد 6/ 152 وفي إسناده ضعف.
أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أنْ يُسمعكم من عذاب القبر" (1).
قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن لا تدافنوا": هو بحذف إحدى التاءين تخفيفًا، أي: لولا خوف ترك دفنكم الأموات، بل تتركونهم بلا دفن، من خوف أن يُصيبهم من العذاب ما أصاب الميت، وقيل: لولا أن تموتوا من سماعه لفظاعته وعظيم أمره، فتصعقون لوقتكم، وقيل غير ذلك.
فإنْ قُلْتَ: ما معنى قوله: "لولا أن لا تدافنوا" الخ، ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم مؤمنون بعذاب القبر، مصدّقون به، فهو عندهم كالمحسوس، وكيف لا وهم خير هذه الأمة؟
فالجوابُ: عن ذلك من وجوه فقيل: محمول على ما ذكرنا، من أنهم يموتون، ولا إشكال وقد تقدم في الأحاديث ما يدل لذلك، وقيل: إن الذي حمله صلى الله عليه وسلم على ذلك: أنهم إذا سمعوا، تركوا دَفن الميت، استهانة به أو لعجزهم عنه، أو لدهشتهم وحيرتهم، أو لفزعهم وعدم قدرتهم على دفنه، أو لئلا يحكموا على كل من أطلعوا على تعذيبه في قبره، أنه من أهل النار، فيتركون الترحم عليه، وتَرَجِّى العفو عنه.
ذكر مُلخص هذه الأوجه المناوي، في "شرحه الكبير على الجامع الصغير"(2)، وأكثرها لا يخلو من مناقشة والله أعلم.
(1) رواه مسلم (2868)، والإمام أحمد 3/ 103 و 175 و 176 و 201 و 273 و 284، وابن حبان (3126)(3131).
(2)
فتح القدير 5/ 342.
وأخرج الشيخان، عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجبت الشمس، فسمع صوتًا فقال:"يهود تعذب في قبورها"(1).
وأخرجا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على قبرين، فقال:"إنهما ليُعذبان وما يعذبان في كبير، أمّا أحدُهما: فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة"، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها باثنتين، ثم غرزَ على كل قبر منهما واحدة، قالوا: لم فعلت هذا يا رسولَ الله؟ قال: "لعله يخُفّفُ عنهما، ما لم ييبسا"(2).
وقد رُويَ هذا الحديثُ عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، وخَرَّجه ابن ماجة عن أبي بكرة.
وفي حديثه "وأما الآخر، يعذب في الغِيبة"(3). وخرَّجه الخلال وغيره، عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي بعض رواياته:"وأما الآخرُ فكان يهمز الناس بلسانه، ويمشي بينهم بالنميمة".
(1) رواه البخاري (1375)، ومسلم (2869)، وابن حبان (3124).
(2)
رواه البخاري (216) و (218) و (1361) و (1378) و (6052) و (6055)، ومسلم (292)، والترمذي (70)، والنسائي 1/ 28، وابن ماجة (347)، وأحمد 1/ 225، وابن حبان (3128).
(3)
رواه ابن ماجة (349)، والإمام أحمد 5/ 35 و 39، والبيهقي في "عذاب القبر"(137)، ووقع في الأصل:(أبي بكر) والصواب (أبي بكرة)، وهو نفيع بن الحارث رضي الله عنه.
وخرجه الطبراني عن عائشة (1) وأنس وابنِ عُمر (2).
وخرّجه أبو يعلى الموصلي وغيره، عن أبي أُمامة، وفي حديثه قالوا: يا نبيّ الله وحتى متى يُعذبان؟ قال: "غيبٌ لا يعلمه إلَّا الله ولولا تمريج في قلوبكم وتَزَيُّدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع"(3). ورُوي من وجوه أُخرَ.
وأخرج النّسائي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخلت عليّ أمرأةٌ من اليهود، فقالت: إنّ عذاب القبر من البول، قلتُ: كَذَبْتِ، قالتْ: بلى إنه ليُقرضُ منه الجلد والثوب، قالت: فخرج رسول صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وقد ارتفعت أصواتنا، فقال:"ما هذه" فأخبرته بما قالت، فقال:"صَدَقَتْ"(4).
وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنّسائي وابن ماجة، عن عبد
(1) رواه الطبراني في "الأوسط"(6565).
(2)
رواه الطبراني في "الأوسط"(4364).
(3)
رواه الطبراني في "الكبير"(7869)، والطبري في "صريح السنة" (40). وأورده الهيثمي 1/ 208 وقال: رواه أحمد وفيه علي بن يزيد بن علي الألهاني، عن القاسم وكلاهما ضعيف. وأورده أيضًا 3/ 56، وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه علي بن يزيد وفيه كلام، لفظة "تمريج" في الطبراني "تمريجًا" في الزوائد للهيثمي "تمرغ" قال المحقق والصواب تمزع.
(4)
رواه الإمام أحمد 6/ 61، وابن أبي شيبة 1/ 115، والنسائي 3/ 72، و 8/ 278، وفي "عمل اليوم والليلة"(138)، وفي "الكبرى" 3/ 72 و 6/ 40. وهو من رواية جسرة بنت دجاجة عن عائشة، قال الحافظ: مقبولة ويقال أن لها إدراكًا. فهو حديث على أقل أحواله حسن بشواهده.
الرحمن بن حَسَنة، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم البولُ: قطعوا ما أصابه البول، فنهاهم فُعُذب في قبره"(1).
وأخرجَ الإمام أحمد، وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أكثر عذاب القبر من البول"(2).
ورُويَ موقوفًا عن أبي هريرة.
وأخرج البزارُ والحاكم عن ابن عباس، عنه صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ عامة عذاب القبر من البول، فتنزهوا منه"(3).
وخَرّجه الطبراني والدارقطني، عن أنس بنحوه (4).
(1) حديث صحيح أخرجه الحميدي (882)، والإمام أحمد 4/ 196، وأبو داود (22)، وابن ماجة (246)، والنسائي 1/ 26، وفي "الكبرى"(26)، وأبو يعلى (932)، وابن حبان (3127)، والحاكم 1/ 184، والبيهقي 1/ 104.
(2)
رواه أحمد 2/ 388 و 389، وابن أبي شيبة 1/ 115، وابن ماجة (348)، والدارقطني 1/ 128، والحاكم 1/ 183، والبيهقي 2/ 412، وفي عذاب القبر (133).
وصححه الدارقطني والحاكم. وقال أبو حاتم "العلل" 1/ 366: هذا حديث باطل يعني المرفوع.
قلت: قال البيهقي في "عذاب القبر" ص 118: قال أبو عيسى الترمذي سألتُ محمدًا - يعني البخاري - عن حديث أبي عوانة - يقصد هذا الحديث - فقال: هذا حديث صحيح وهذا غير ذاك الحديث.
(3)
رواه البزار "كشف"(243)، والحاكم 1/ 293، والطبراني 11/ 79 (11104) و (11120)، والدارقطني 1/ 128، والبيهقي في "عذاب القبر"(134).
(4)
رواه أبو حاتم "العلل" 1/ 26 مرسلًا، وقال: وهذا أشبه عندي. ورواه الدارقطني 1/ 127 وقال: المحفوظ مرسل.
وأخرج الطبراني، عن أبي أُمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اتقوا البول؛ فإنه أوَّل ما يحاسب به العبد في القبر"(1).
وأخرج ابن عدي عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يُعذّبُ في قبره من البول (2).
وأخرج أيضًا بإسناد ضعيف، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فتنة القبر من ثلاث: من الغيبة والنميمة والبول"(3).
قال الحافظ ابن رجَب (4): لكن رَوى عبد الوهاب الخفاف، عن سعيد، عن قتادة قال: كان يُقال: "عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلثٌ من الغيبة، وثُلث من النميمة، وثُلثٌ من البول"(5). خرّجه الخلال موقوفًا على قتادة، قال الحافظ (6): وهو أصح. وأخرج الخلال عن
(1) رواه الطبراني في "الكبير" 8/ (7605)، وقال المنذري 1/ 86: إسناده لا بأس به.
(2)
رواه الطبراني في "الأوسط"(1054)، وابن عدي في "الكامل" 3/ 48 (ترجمة خليد بن دعلج)، وأورده الهيثمي 1/ 207، و 8/ 93. وفي إسناده خليد بن دعلج: شديد الضعف.
(3)
رواه ابن عدي 4/ 133 (ترجمة عبد الله بن محرر)، والجرجاني في "تاريخه" ص 478 وإسناده ضعيف.
(4)
"أهوال القبول" ص 77.
(5)
أخرجه البيهقي في "عذاب القبر"(261) من قول قتادة، وأورده ابن عبد البر في التمهيد 22/ 254 وقال: وهذا لا حجة فيه لأنه ليس بمسند ولا متصل ولا يحتج بمثله.
(6)
"أهوال القبور" ص 77.
ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ميمونة إن من أشد عذاب القبر: الغيبة والبول"(1).
قال الحافظ ابن رجب (2): وقد ذكرَ بعضُهم السرَّ في تخصيص البول والنميمة والغيبة بعذاب القبر: وهو أنه أوّل منازل الآخرة، وفيه أنموذج ما يقع يومَ القيامة، من العقاب والثواب، والمعاصي التي يُعاقب عليها يومَ القيامة نوعان: حقّ لله وحقٌّ لعباده، وأوّل ما يُقضى فيه يومَ القيامة من حقوق الله: الصلاة، ومن حقوق العباد، الدِّماء فأمّا البرزخ: فيقضى فيه مقدمات هذين الحقين، وما يليهما فمقدمة الصلاة: الطهارة منَ الحدث والخبث، ومقدمة الدِّماء: النميمة والوقيعة في الأعراض، وهما أيسر أنواع الأذى فيُبدأ في البرزخ بالمحاسبة والعقاب عليهما.
وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر، عن أبي إسحق، عن أبي ميسرة عَمرو بن شرحبيل، قال: مات رجلٌ فلما دخل قبره أتته الملائكة، فقالوا: إنّا جالدوك مائة جلدةٍ من عذاب الله، فذكر صلاته وصيامه وجهاده، فخففوا عنه، حتى انتهى إلى عشرة أسواط (3)، ثم سألهم فخففوا عنه حتى انتهى إلى واحدة، فجلدوه جلدة اضطرم قبره نارًا وغُشِّي عليه فلمّا أفاق قال: فيم جلدتموني
(1) أخرجه البيهقي في "إثبات عذاب القبر"(232).
(2)
"أهوال القبور" ص 77.
(3)
ليست في (ب)، ولا في (ط).
هذه الجلدة، قالوا: إنك بُلْتَ يومًا ثم صلّيت، ولم تتوضأ وسمعت رجلًا يستغيث مظلومًا، فلمْ تُغثه. ورواه أبو سنان، عن أبي إسحق، عن أبي ميسرة بنحوه (1).
قال الحافظ ابن رجب (2): ورويناه من طريق حفص بن سليمان القاري، وهو ضعيف جدًا، عن عاصم عن أبي وائل، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم به.
فعذاب القبر حصل هنا بشيئين: ترك طهارة الحدث وترك نصرة المظلوم، مع القدرة عليه كما أنه في الأحاديث المتقدمة حصل بترك طهارة الخبث، والظلم بالقول، وهي متقاربة في المعنى.
فَإِنْ قُلْتَ: عدم التنزه من البول والغيبة والنميمة من الكبائر أم من الصغائر؟ قُلْت: بل هي من الكبائر، كما جزم به صاحبُ "الإقناع" وغيره.
فَإِنْ قُلْتَ: فكيف ذا مع قوله صلى الله عليه وسلم "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير" وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث يعلى بن مُرة قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على مقابر، فسمعتُ ضغطةً في قبر، قال:"سمعتَ؟ " قلتُ: نعم، قال:"فإنه يُعذب في يسير من الأمر"، قلت: وما هو؟ قال: "كان يمشي بين الناس بالنميمة، وكان لا يتنزه من البول"،
(1) رواه عبد الرزاق (6752)، وابن أبي شيبة 7/ 125، وأبو نعيم في "الحلية".
(2)
"أهوال القبور" ص 78
وذكر قصّة الجريدة. رواه البيهقي في "دلائل النبوة"، ويعلى بن مُرّة هذا: هوَ يعلى بنُ سيابة، وسيابة أمّه (1).
قُلْتُ: قد أجاب عن هذا علماؤنا أعزّهم الله تعالى بأنّ معناه لم يعذبا في أمرٍ كان يكبر عليهما، أو يشق فعله لو أراد أن يفعَلاه، وهو التنزه من البول، وترك النميمة. وقوله:"كان يعذب في يسير من الأمر" أي: في زعَمه أو يَسير تركه، ولمْ يردْ صلى الله عليه وسلم أن المعصية في هاتين الخصلتين، ليستا من الكبائر في حق الدين، وأن الذنب فيهما هين سهل، ومن ثمَّ قال الحافظ المنذري (2): ولخوف توهّم مثل هذا، استدرك صلى الله عليه وسلم فقال:"بلى إنه كبير" كما في رواية صحيحة أخرجها البخاري وغيره.
فالمُعْتَمدُ عندنا أن هذه الخِصال من الكبائر، كما بيّنت ذلك مُوضّحًا في كتابي "الذخائر، لشرح منظومة الكبائر"، الواقعة في "الإقناع" فراجِعْه تَظفرْ بمرادك، والله تعالى الموفق.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن أبي الدنيا في القبور، واللالكائي في السنة، وابن منده، عن ابن عُمر رضي الله عنهما قال: بينا أنا أسيرُ بجنبات بدر، إذ خرج رجلٌ من حفرة في عنقه سلسلة، فناداني: يا عبد الله اسقني، فلا أدري أعَرَف اسمي، أم
(1) مصنف ابن أبي شيبة 3/ 52، والطبراني في "الأوسط"(2413)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 93.
(2)
"الترغيب والترهيب" 1/ 84.
دعاني بدعاية العرب! قال: وخرج رجل من تلك الحفرة، في يده سوط فناداني: يا عبد الله لا تسقه فإنه كافر، ثم ضربه بالسوط، حتى عاد إلى حفرته. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:"أوقد رأيتَه؟ " قلتُ: نعم. قال: "ذلك عدوّ الله أبو جهل، وذلك عذابُه إلى يوم القيامة"(1). قال الحافظ ابن رجب (2): ضعيف.
وأخرج ابن أبي الدُنيا، في كتاب "من عاش بعد الموت" والخلال في "السنة" وابن البراء في "الروضة"، عن ابن عُمر رضي الله عنهما قال: خرجت بسفر فمررتُ بقبر من قبور الجاهلية، فإذا رجل قد خرج من القبر، يتأجّجُ نارًا في عنقه سلسة من نار، ومعي إداوة من ماء فلما رآني قال: يا عبد الله اسقني، إذ خرج على أثره رجُلٌ من القبر، فقال: يا عبد الله لا تسقه، فإنه كافر، ثم أخذ بالسلسلة، واجتذبه فأدخله القبر، ثم أضافني الليل إلى بيت عجوز، إلى جانبِ بيتها قبر فسمعت من القبر صوتًا يقول: بولٌ وما بول، شن وما شن، قلت: للعجوز ما هذا؟ قالت: هذا كان رجلًا لي، وكان إذا بال لم يتق البول، وكنت أقول له: ويحك إن الجمل إذا بال تفاجَ، فكان يأبى فهو يُنادي منذُ يوم مات يقول بولٌ وما بول، قلتُ: فما الشّن؟
(1) رواه الطبراني في "الأوسط"(6560)، واللالكائي في "شرح أصول أهل السنة"(2148)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 57، وقال: فيه عبد الله بن المغيرة وهو ضعيف. وفي 6/ 80 وقال: فيه من لم أعرفه.
قلت: عبد الله بن المغيرة منكر الحديث. الميزان 2/ 487.
(2)
"أهوال القبور" ص 101.
قالتْ: جاءه رجلٌ عطشان، فقال: اسقني، فقال: دونك الشن، وإذا ليس فيه شيء فخرَ الرّجل ميتًا فهو ينُادي منذ يومِ ماتَ يقول: شن وما شن؟ فلمّا قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فنهى أن يُسافر الرجل وحده (1).
وذكره الحافظ ابن رجب (2) بلفظ أن الرجل قال: اسقني فإني عطشان، قال: عندك الشن، وشن لنا معلق أي ليس فيه ماء، فقال: يا هذا اسقني، فإني عطشان الساعة أموت، قال: عندك الشن، قال: ووقع الرجل ميتًا، قال الحافظ ابن رجب: وفيه يحيى المدني غير معروف.
وقال عروة: بينما راكب يسير بين مكة والمدينة، إذ هو بمقبرة، فإذا رجل قد خرج من قبر يلتهب نارًا، مصفد في الحديد، فقال: يا عبد الله انضح انضح وخرج آخر يتلوه فقال: يا عبد الله لا تنضح، قال: وغُشي على الراكب، وعدلت به راحلته، فأصبح وقد أبيض شعره، حتى صار كأنه ثغامة، قال: فأخبر بذلك عثمان، فنهى أن يسافر الرجل وحده. أخرجه ابن أبي الدنيا (3).
وأخرج أيضًا عن الحويرث الرباب، قال: بينما أنا بالإثابة، إذ
(1) رواه ابن أب الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت"(33) بإسناد ضعيف، ورواه ابن عبد البر في "التمهيد" 25/ 9 من طريق ابن أبي الدنيا.
(2)
"أهوال القبور" ص 105.
(3)
"من عاش بعد الموت"(55). و"القبور"(95).
خرج علينا إنسان من قبر يلتهبُ وجهه ورأسه نارًا، في جَامِعَةٍ من حديد، قال: اسقني اسقني، وخرج في إثره إنسان يقول: لا تسقه إنه لكافر، فأدركه وأخذ بطرف السلسلة، فسلبه ثم جره، حتى دخلا القبر جميعًا، قال: الحويرث، فصارت الناقة، لا أقدر منها على شيء، حتَّى التَّوَتْ بعِرْقِ الظُّبْية (1) فبركت، فصَليتُ المغرب والعشاء، ثم ركبت حتى أصبحت بالمدينة، فأتيت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فأخبرته، قال: يا حويرث: والله ما أتهمك، ولقد أخبرتني خبرًا شديدًا، فأرسل عُمر إلى مشيخة من كتفي الصفراء، وقد أدركوا الجاهلية، ثُم دعا الحويرث فقال: إن هذا أخبرني ولست أتهمه، حدّثهم يا حويرث ما حدثتني، فحدّثهم فقالوا: قد عرفنا هذا يا أمير المؤمنين، هذا رجلٌ من بني غفار، مات في الجاهلية، ولم يكن يرى للضيف حقًا، فحمد الله عمر وسُرّ بذلك حين أخبروه أنه مات في الجاهلية (2).
وروى هشام بن عمار في كتاب "البعث"(3)، عن يحيى بن حمزة، حدثني النعمان عن مكحول: أن رجلًا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ابيض نصف رأسه ونصف لحيته، فقال لهُ عُمر رضي الله عنه: ما بالك؟ فقال: مررتُ بمقبرة بني فلان ليلًا، فإذا رجل يطلب رجلًا بسوط من نار، كلما لحقه ضربه فاشتعل ما بين
(1) عرق الظبية: بين مكة والمدينة. معجم البلدان 4/ 108.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "من عاش بعد الموت"(56).
(3)
"أهوال القبور" ص 103.
قرنه إلى قدمه نارًا، فلاذ بيَ الرجل، وقال: يا عبدَ الله أغثني، فقال الطالب: يا عبدَ الله لا تُغثه فبئس عبد الله هو، فقال عمر: لذلك كرّه لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يسافر أحدُكم وحدَه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت"(1)، عن مجاهد قال: أردت حاجة فبينما أنا في الطريق، إذ فجأني حمار وقد أخرج عنقه من الأرض، فنهق في وجهي ثلاثًا، ثم دخل فأتيت القوم الذين أردتهم، فقالوا: ما لنا نرى لونك قد حال، فأخبرتهم الخبر، فقالوا: ذاك غُلام من الحي، وتلك أمه في ذلك الخباء وكانت إذا أمرته بشيء شتمها، وقال ما أنت إلَّا حمار ثم نهق في وجهها، فماتَ يوم مات، فدفناه في تلك الحفيرة، فما من يوم إلَّا وهو يُخرج رأسه في الوقت الذي دفنّاه فيه، فينهق إلى ناحية الخباء ثلاث مرات، ثم يدخل.
وأخرج ابن أبي الدُنيا عن عمرو بن دينار قال: كان رجلٌ له أخت (2) منْ أهل المدينة، ماتت فجهزها وحملها إلى قبرها، فلمّا دُفنت ورجع إلى أهله، ذكر أنه نسي كيسًا كان معه في القبر، فاستعان برجل من أصحابه فأتيا القبر، فنبشاه فوجد الكيس، فقال للرجل تنح حتى أنظر على حال أختي، فدفع بعضَ ما على اللحد، فإذا القبر يشتعل نارًا، فردّه وسوى القبر، ورجع إلى أمّه فسألها عن حال
(1)"من عاش بعد الموت"(27).
(2)
في (ب)، و (ط)"كان رجل من أهل المدينة له أخت".
أخته، فقالت: كانت تؤخِّر الصّلاة، ولا تصلي فيما أظنّ بوضوء، وتأتي أبواب الجيران إذا ناموا فتلقم أذنها أبوابهم، فتخرج حديثهم (1).
وحكى الحافظُ ابن رجب وغيره (2) أنّ جماعةً من التابعين خرجوا لزيارة أبي سنان، فلما دخلوا عليه، وجلسوا عنده، قالوا: قوموا بنا نزر (3) جارًا لنا مات أخوه، ونعزيه فيه.
قال محمد بن يوسف الفريابي: فقمنا معه، ودخلنا على ذلك الرجل، فوجدناه كثير البكاء والجزع على أخيه، فجعلنا نُعزيه ونسليهُ وهُوَ لا يقبل تسلية، ولا عزاء: فقلنا له: أما تعلم أنَّ الموت سبيلٌ لابُدَّ منه؟
قال: بلى، ولكن أبكي على ما أصبح وأمسى فيه أخي من العذاب فقلنا له: قد أطلعك الله على الغيب؟ قال: لا، ولكن لمّا دفنته وسويت عليه التراب، وانصرف الناس جلستُ عند قبره، وإذا صوتٌ من قبره يقول: أوه أفردوني وحيدًا أقاسي العذاب، قد كُنتُ أصُلّي، قد كنت أصوم، فأبكاني كلامه وقلتُ: صوت أخي والله أعرفه، فقلت: لعلّه خُيّل إليك، قال: ثم سكت، فإذا أنا بصوته يقول: أوه ولا أدري في الثانية، أو في الثالثة فنبشته حتى بلغْتُ قريبًا من اللبن، فإذا طوق من نار في كفنه، وفي "الزواجر" في عنقه. انتهى وفي وسطه فأدخلت يدي رجاء أن أقطع ذلك الطوق،
(1) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت"(27).
(2)
"أهوال القبور" ص 104 - 105.
(3)
في الأصل: "نزور" والصواب ما أثبتناه.
فاحترقتْ أصابعي، فبادرت إخراجها، فإذا يده قد احترقت أصابعها، قال: فرددت عليه التراب وانصرفت، فكيف لا أبكي على حاله، وأحزن عليه؟ "
فقُلنا: فما كان أخوك يعمل في الدنيا؟ قال: كان لا يؤدِّي الزكاة من ماله، فقلْنا هذا تصديق قول الله:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]، وأخوك عجّل له العذاب في قبره، ثم خرجنا من عنده.
قال محمد بن يُوسف الفريابي (1): فقلت للأوزاعي، وزعم في "الزواجر" (2) أنه إنما قال لأبي ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء اليهود والنصارى، يموت الميت منهم ولا نرى فيهم ذلك، أو لا نسمع هذا منهم، فقال: أولئك لا شك أنهم في النار، وإنما يريكم الله في أهل الإيمان، لتعتبروا، أو نحو هذا.
وذكرَ الحافظ ابن رجَب أيضًا، في "أهوال القبور" (3) له: أن ابن أبي الدنيا أخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان جالسًا، فأتاه قومٌ فقالوا: إنا خرجنا حُجاجًا ومعنا صاحبٌ لنا، حتى أتينا ذات الصفاح (4)، فمات فيها فهيأناه، ثم انطلقنا، فحفرنا له قبرًا ولحدنا
(1)"أهوال القبور" ص 105.
(2)
"الزواجر" 1/ 172.
(3)
"أهوال القبور" ص 105.
(4)
قال الفاكهي في "أخبار مكة" 5/ 104: الصفاح من وراء جبال عرفة بينها وبين مكة عشرة أميال وكان الناس يلتقون هنالك عند دخولهم بالحج =
اللحد، فلمّا فرغنا من لحده، إذا نحنُ بأسود قد ملأ اللحد، فحفرنا غيره، فلمّا فرغنا من لحده، فإذا نحنُ بالأسود قد ملأ اللحد، فتركناه وحفرنا له مكانًا آخر، فلمّا فرغنا من لحده إذا نحنُ بالأسود قد ملأ اللحد، فتركناه وأتيناك.
قال ابن عبّاس: ذاك عمله الذي يُعمل به انطلقوا فادفنوه في بعضها، فوالذي نفسي بيده، لو حفرتم الأرض كلها لوجدتموه فيه، فانطلقنا فدفنّاه في بعضها، فلما رجعنا قلنا لامرأته: ما كان عمله؟ ويحك" قالت: كان يبيع الطعام فيأخذ منه، قوت أهله، ثم يُقَرّض القصب مثله، فيُلقيه فيه.
قال الحافظ ابن رجب في كتابه "أهوال القبور"(1): وروى الهيثم ابن عديِّ حدثنا أبان بن عبد الله البجليّ قال: هلك جار لنا، فشهدنا غسله وكفنه وحمله إلى قبره وإذا في قبره شيء شبيه بالهرّ، فزجرناه فلم ينزجر، فضرب الحفار جبهته بِبَرمة، فلم يبرح فتحولوا إلى قبر آخر، فلمّا لحدوا فإذا هو فيه فصنعوا به مثل ما صنعوا أولًا، فلم يلتفت، فرجعوا إلى قبر ثالث، فلمّا لحدوا، فإذا ذلك الهر فيه، فصنعوا به مثل ما صنعوا أوّلا فلم يلتفت، فقال القوم: يا هؤلاء: إنّ هذا الأمر ما رأينا مثله، فادفنوا صاحبكم، فدفنوه، فلمّا سُوّيَ عليه
= والعمرة، وقال الحافظ في "الفتح" 12/ 207: موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن.
(1)
"أهوال القبور" ص 106.
اللّبن، سمعنا قَعقعة عِظامه، فذهبوا إلى امرأته، فقالوا: يا هذه ما كان عملُ زوجك؟ وحدثوها ما رأوا فقالت: كان لا يغتسل من الجنابة.
وذُكر أيضًا (1) عن بعض مشايخ أهل دِمشق قال: حججنا، فهلك صاحبٌ لنا في بعض الطريق على ماءٍ من تلك المياه، فأتينا أهل الماء نطلب شيئًا نحفر له فأخرجوا لنا فاسًا ومجرفة، فلمّا وارينا صاحبنا، نسينا الفأسَ في القبر، فنبشناه، فوجدناهُ قد جُمعَ عُنقُه ويداه ورجلاه في حلقة الفأس، فسوّينا عليه التراب، وأرضينا أصحابه أي الفأس من الثمن، فلمّا انصرفنا جئنا إلى امرأته، فسألناها عنه، فقالت: ما رأيتم من حاله يحج ويغزو!! فلما أخبرناها الخبر قالت: صحبه رجل معه مال، فقتلَ الرّجل، وأخذ المال، فَبِهِ كان يحج ويغزو.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: كنتُ فيمن دَلّى الوليدَ بنَ عبدِ الملك في قبره، فنظرتُ إلى ركبتيه قد جُمعت إلى عنقه، فقال ابنه: عاش والله أبي وربّ الكعبة، فقلت: عوجل أبوك وربّ الكعبة، فاتعظ بها عُمر بعده (2).
وقال الحافظ في "أهوال القبور"(3): وروينا من طريق أبي إسحق الفزاري أنه سأل نباشًا قد تاب، فقلتُ أخبرني عن من مات على الإسلام تُرِكَ وجهُهُ على ما كان أم ماذا؟ قال: أكثر ذلك حُوّل
(1)"أهوال القبور" ص 107.
(2)
"الروح" ص 70.
(3)
"أهوال القبور" ص 108.
وجهه عن القبلة، قال: فكتبت بذلك إلى الأوزاعي، فكتب: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثلاث مرات أمّا من حُوّل وجهه عن القبلة فإنَّه ماتَ على غير السُّنَّة (1).
وخرَّجه أبن أبي الدُنيا وقال: حَدَّثنا عبدُ المؤمن بن عبد الله القيسي، قال: قيل لنباشٍ قد كان تاب، ما أعجب ما رأيت؟ قال: نبشتُ رَجُلًا فإذا هو مسمّرٌ بالمسامير في سائر جسده، ومسمار كبير في رأسه وآخر في رجليه (2).
قال: وقيل لنبّاش آخر ما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيتُ جمجمة إنسانٍ مصبوب فيها رصاص.
قال: وقيل لنبّاش آخر ما كان سببُ توبتك؟ قال: عامة من كنت أنبش، أراه محوّل الوجه عن القبلة.
وذكر ابن الفارسي الليثي صاحب ناصر السنة ابن الجوزي رحمه الله أنه سنة تسعين وخسمائة، وجد ميتًا ببغداد بظاهر باب البصرة، وقد بلي ولم يبق غير عظامه، وفي يَديه ورِجْليه ضبُابٌ من حديد، وقد ضُربَ فيها مسامير في قصب يديه ورجليه، وقد وُضِعت ضُبّةُ حديد على بطنه، وضُرب فيها مسماران. أحدُهما في سرته، والآخر في جبهته، وكان هائل الخلقة، غليظ العظام، وكان سبب ظهوره زيادة الماء، فكشف جانب تل، كان يُعرف بالتّلّ الأحمر على ميلين من سور باب البصرة القديم.
(1) رواه ابن قدامة في كتاب التوابين" ص 285.
(2)
الروح ص 68.