الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث فيما ورد من سَماع الموتى كلامَ الأحياء وتلاقيهم، ومعرفتهم بحالهم بعد الموت، وحال أقاربهم في الدنيا، ومحل الأرواح فى البرزخ
قد تقدم شيء من الكلام على هذا الباب، فليُتَفَطن له، ونقول الآن: أمّا سماعُ الموتى كلامَ الأحياء ففي الصحيحين،. عن أنس رضي الله عنه عن أبي طلحة، رضي الله عنه، قال: لمّا كان يومُ بدر، وظهر عليهم يعني مشركي قريش، رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ ببضعة وعشرين رجلًا، وفي رواية أربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فألقوا في طُوي، أي: في بئر من أطواء بدر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم:"يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبةَ بن ربييعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم ربُكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا"، فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلمُ مِن أجسادٍ لا أرواح لها؟ فقال:"والذي نفس محمد بيده، وما أنتم بأسمع لما أقول منهم". زاد في رواية لمسلم، عن أنس، "ولكنهم لا يقدرون أن يُجيبوا"(1).
(1) رواه مسلم (2874)، والإمام أحمد 3/ 219 - 220، وأبو داود (2681)، وأبو يعلى (3326)، وابن حبان (4722) و (6498)، والبيهقى 9/ 147 - 148.
وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك، وقالت: ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إنهم ليسمعون الآن ما أقول، إنما قال:"لَيعلمون الآن ما كُنتُ أقول لهم إنه حق "، ثم قرأتْ قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: الآية 22](1).
قال الحافظُ ابن رجب (2): وقد وافَق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء، طائفة من العلماء، ورجّحهُ القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا في كتابه:"الجامع الكبير"، واحتجوا بما احتجت به وأجابوا عن حديث قليب بدر، بما أجابت به عائشة، وبأنه يجوز أن يكون ذلك، معجزةً مُختصَّةً بالنبى صلى الله عليه وسلم، دونَ غيره. وفي صحيح البخاري قال قتادة: أحياهم الله تعالى - يعني: أهل القليب - حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخًا وتصغيرًا، ونقمة وحسرة وندمًا، وذهب طوائفُ من أهل العلم إلى سماع الموتى كلام الأحياء في الجملة.
قال ابن عبد البر (3): ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم، وهم الأكثرون، وهُو اختيار الطبريّ - يعني: ابن جرير - وغيره، وكذا ذكرهُ ابن قتيبة وغَيره، وهؤلاء يحتجون بحديث القليب، كما سبق، وليس هُوَ وهمٌ ممن رواه، فإن عُمرَ وأبا طلحة وغيرهما، ممن
(1) ورد ذَلِكَ في البخاري (1370) و (3979) و (3980)، ومسلم (932)، وانظر فتح الباري 3/ 234 و 7/ 302 و 304.
(2)
"أهوال القبور" ص 128.
(3)
التمهيد (20/ 240).
شهد القصة، حكاهُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعائشة رضي الله عنها؛ لم تشهد ذلك، وروايتُها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنَّهم ليعلمون الآن، ما كنت أقول لهم"، حقّ تُؤيد روايةَ من روى:" [إنهم لَيَسْمَعُون] "، ولا تنافيها، فإنَّ الميت إذا جاز أن يعلم، جاز أن يسمع؛ لأن الموت ينافي العلم، كما ينافي السمع والبصر، فلَو كان مانعًا من البعض، لكان مانعًا من الجميع، وتقدَّمَ حديثُ أُمِّ محجن.
وأمّا قولُ مَن قال: إن ذلك خاصٌّ بكلام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فليس كذلك، فقد ثبت في الصحيحين، أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ العبدَ إذا وُضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنَّه لَيَسْمَعُ قرعَ نِعالهم" وتقدم.
وأما قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: الآية 80] وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: الآية 22]. فإن السَّماع يُطلقُ ويُرادُ به: إدراك الكَلام وفهمُه، وُيرادُ به الانتفاع به، والاستجابة له، والمرادُ بهذه الآيات: نفي الثاني دون الأوَّل، فإنها في سياق خطاب الكفار، الذين لا يستجيبون للهدى والإيمان إذا دُعوا إليه، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: الآية 179] الآية.
ففي السماع والإبصار عنهم؛ لأنَّ الشيء قد يُنفى لانتفاء فائدته وثمرته، فإذا لم ينتفع المرء بما سمعه وأبصره، فكأنه لم يسمع ولم يُبصر، وسماع الموتى بهذه المثابة، وكذلك سماع الكفار لمن دَعاهم إلى الإيمان والهدى، وقول قتادة في أهل القليب أحياهم الله
حتى أسمعهم، يدلُّ على أن الميت لا يسمعُ القول إلَّا بعد إعادة الروح إلى جسده، كما جاء ذلك مُصرَّحًا في حديث البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم الطويل وتقدم فيه:"وتُعادُ روُحه إلى جسده".
وقد رجّح جماعةٌ، أن السؤال، والعذاب والثواب، أعني: النعيم للروح خاصة، وعليه الإمام ابن عقيل وأبو الفرج ابن الجوزي (1)، في بعض تصانيفهما، واستدل الإمام ابن عقيل بأن أرواح المؤمنين تتنعم في حواصل طيور خضر، وأرواح الكفار في حواصل طيور سود، وهذه الأجساد تبلى، فدلّ ذلك على أن الأرواح، تعذب وتنعم في أجساد أُخرَ، كذا زعم. وهذا لا حُجة فيه، لأنه لا ينافي اتصال الروح ببدنها أحيانًا، مع بقائه واستحالته.
واستدل بعضُ من ذهب إلى هذا القول بما رُوي أنّ ابن عُمر دخل المسجد، وابن الزبير قد قُتل وصُلب، فقيل له: هذه أسماء بنتُ أبي بكر في المسجد، فقال لها اصبري، فإن هذه الجثة ليست بشيءٍ وإنما الأرواح عند الله فقالت: وما يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يَحيى بن زكريا إلى بَغي من بغايا بني إسرائيل (2).
وبما روى ابن أبي الدُنيا: نزل عمرُ بنُ الخطاب إلى جانب قبور قد درستْ، فنظر إلى قبر منها، فإذا جُمجَمة بادية، فأمر رَجُلًا فواراها، ثم قال: إنَّ هذه الأبدانَ ليس يضرها هذا الثرى شيئًا، وإنَّما الأرواح التي تُعاقَبُ وتُثابُ إلى يوم القيامة.
(1)"أهوال القبور" ص 133.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 6/ 202 و 345 و 7/ 472.
وروى محمد بن سعدٍ، عن خالد بن مَعدانً قال: لمَّا انهزمت الرُّوم يومَ أجنادين، انتَهوا إلى موضع لا يعبره إلَّا إنسان [إنسان]، (1)، فَجَعلَتِ الرُّوم تُقاتل عليه، فتقدَّمَ هِشامُ بنُ العاص، فقاتلهم حتى قتل، ووقَعَ على تلك التلة فسدّها، فلما انتهى المسلمون إليها، هابُوا أن يُوطئوه الخيل، فقال عَمرو بنُ العاص: إنَّ الله قد استشهده ورفع روحه، وإنَّما هُو جُثة، فأوطِئوه الخيلَ، ثم أوطأه هُوَ، وتَبعهُ الناسُ حتَّى قطَّعوه (2).
فأجاب ابن رجب كغيره (3): إنَّ هذه الآثار لا تدل على أن الأرواحَ لا تتصلُ بالأبدانِ بَعدَ الموتِ وإنَّما تدلُ على أن الأجساد لا تتضَّررُ بما ينَالُها من عذابِ النَّاس لها، أومن أكل التراب لها، وهذا حق، فإن عذابَ القَبر؛ ليسَ من جنس عذاب الدُنيا، وإنَّما هو نوعٌ آخرُ يصلُ إلى الميِّت بمشيئة الله عز وجل وقُدرته، وقولُهم: إن الأرواحَ عند الله تُعاقَبُ وتُثاب؛ لا ينافي أن تتصل بالبَدَن أحيانًا، فيصل بذلك إلى الجسد نعيمٌ وعذاب.
قال: وقد تُستقلُ الرُّوح أحيانًا بالنعيم والعذاب، إما عند استحالة الجسد، أو قبل ذلك، وأثبتت طائفةٌ النَّعيم والعذاب للجسد من غير اتّصال الروح به، ومِمَّن ذكر ذلك من أصحابنا: الإمامُ ابن
(1) ليست في (أ) والمثبت من (ب)، و (ط).
(2)
رواه ابن سعد في الطبقات 4/ 193 والحاكم في المستدرك 3/ 267.
(3)
"أهوال القبور" ص 134.
عقيل في كتابَ [الإرشاد](1) وابن الزاغوني وحُكِي عن ابن جرير الطبري، وذكر القاضي أبو يعلى أنَّه ظاهر كلامِ الإمام أحمد رضي الله عنه فإنَّه قال في رواية: خَيل أرواح المؤمنين في الجنَّة، وأرواح الكفار في النار، والأبدان في الدنيا، يعذب الله من يشاء، ويرحم من يشاء بعفوه.
قال القاضي: دلّ هذا على أن الأرواحَ تُعذَّب، وتُنَعَّم على الانفراد، وكذلك الأبدان إن كانت باقية، أو إلى الأجزاء التي استحالت. قال: ولا مانع أن يُخْلَق في الأبدان إدراك تحس به النعيم والعذاب، كما خلق في الجبل لما تجلَّى لَهُ ربُّه، ثم جعله دكّا.
وقال ابنه القاضي أبو الحسين: وَلأنَّهُ لما لَم يستحل نطق الذِّراع المسمومة؛ لم يستحلْ عذابُ الجسد البالي، واتصال العذاب إليه، بقدرة الله تعالى.
قال الحافظ ابن رَجب (2): وقد يُستَدلُّ لهذا أيضًا، بأن عُمَر قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم تُكلّم أهل القَليب، كيف تُكلّم أجسادًا لا أرواح فيها؟ فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنَّما قال: ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم، فدلّ على أنَّ سماعهم حصل على أجساد (3) لا أرواحَ فيها، وقد دلّ القُرآن على سجود الجمادات، وتسبيحها لله عز وجل وخشوعها له،
(1) سقطت من (أ) واستدركناها من (ب)، و (ط).
(2)
"أهوال القبور" ص 135.
(3)
في الأصل (أجسادهم).
فدل على أنَّ فيها حياة تحسها، وإدراكًا فلا يُمنَعُ مثل ذلك في جسد ابن آدم بعد مفارقة الرُّوح له. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال الحافظ: ويدل على ذلك، ما أخبرَ الله من شهادة الجُلود والأعضاء يومَ القيامة، وما رُويَ عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في اختصام الروح والجسد يومَ القيامة، فإنَّه يَدلُّ على أن الجسد يُخاصِم الروح ويكلمها وتكلمه، قال: ومما يدل على وقوع العذاب على الأجساد؛ الأحاديث الكثيرة في تضييق القبر على الميّت حتى تختلف أضلاعه، ولأنَّه لو كان العذاب على الروح خاصة لم يختص العذاب بالقبر، ولم يُنسب إليه. انتهى.
والمعروف أن العذاب والنعيم على الأرواح والأجساد، وأن الأرواح لها نوع اتِّصال بالجسد، وبسبب ذلك يتألم الجسد ويتنعم والله سبحانه وتعالى أعلم.