الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- حديث النفقة
وبه (عن عطاء عن أبيه عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تنفق نفقة تريد بها وجهه") أي الله رضاه لا غرض سواه (إلا أجرت عليها) بصيغة المفعول، أي أثبت على تلك النفقة جزيلة، أو قليلة (حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك) أي فمها ملاطفة بها أو استعانة لها حال ضعفها وقد سبق ما في معناه.
- إياكم والظلم
وبه (عن عطاء، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظلم") أي اجتنبوا الظلم لا سيما بالتعدي على الغير ("فإن الظلم") أي حقيقته المشتمل على أنواعه ("ظلمات") أي موجب لكثرة الظلمات ("يوم القيامة").
وقد روى الشيخان عن ابن عمر: الظلم ظلمات يوم القيامة.
-
ذكر إسناده عن علقمة بن مرثد
-ذكر إسناده عن علقمة بن مرثد بفتح ميم وسكون راء وفتح مثلثة فدال مهملة.
أبو حنيفة (عن علقمة بن بريدة) بالتصغير (عن أبيه وهو بريدة) بن الحصيب
(الأسلمي)، وقد سبق ترجمتهما (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدال على الخير كفاعله") ورواه الطبراني والبزار عن ابن أبي مسعود، عن سهل بن سعد وزاد أحمد وأبو يعلى أيضاً عن بريدة والله يحب إعانة اللهفان، أي إعانة المكروب، وصحيح مسلم عن أبي مسعود رفعه: من دل على خير فله مثل أجر فاعله.
- حديث القدر
وبه (عن علقمة عن يحيى عن يعمر) على وزن ينصر (قال: بينما أنا مع صاحب لي بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصرنا) بضم الصاد والباء في (بعبد الله بن عمر) للتعدية كقوله: فبصرت به إذ أي رأيناه والمعنى فاجأنا روية (فقلت لصاحبي: هلاّ لك) أي رغبة (أن نأتيه فنسأله عن القدر) أي عن الإيمان من جهة إثباته ونفيه لاختلاف الناس في أمره؟ (قال: نعم فقلت دعني) أي اتركني (حتى أكون أنا الذي أسأله) بدلاً عنك (فإني أعرف به منك) أي أكثر معرفة وأزيد معاشرة (قال: فانتهينا إلى عبد الله فقلت يا أبا عبد الرحمن) وهو كنية (إنَّا) أي معشر التابعين (ننقلب في هذه الأرض) أي نسافر ونتردد في جنسها، أو بخصوص بعضها وهو الذي كثير لغات القدر فيها (فربما قدمنا البلدة) أي بلدة من بلادها (بها قوم يقولون: لا قدر) أي لا قضاء مقدراً وإنما يكون الأمر مستأنفاً ميسراً (فما نرد عليهم) أي فأي شيء نجيبهم ليكون القائل به مختبراً ومحترزاً، (قال: أبلغهم
مني) أي أوصلهم من جانبي وأخبرهم على لساني (إني بريء منهم) وفيه دليل على أن قول الصحابي حجة (1) كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"(ولو أني وجدت أعواناً) أي مساعدين (لجاهدتم) لترويج أمر الدين إذا كانوا في بلدة مجتمعين (ثم أنشأ) أي شرع وابتدأ (يحدثنا) أي عن النبي صلى الله عليه وسلم تقوية لما تقدم (قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه رهط) أي جمع (من الصحابة) أي المخصوصين (إذ أقبل شاب) في السن والقوة (جميل) في الهيئة (أبيض) في الصورة (حسن اللمة) بكسر اللام وتشديد الميم، وهي الشعر الذي يلم بالمنكب (طيّب الريح، عليه ثياب بيض) بتنوينها وفي نسخة بإضافتها (فقال: السلام عليك يا رسول الله) أي خصوصاً (السلام عليكم) أي متلفتاً لأصحابه عموماً.
(قال: فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي سلامه بأحسن رد، (ورددنا معه) أي كذلك، (فقال: ادنو) أي أقرب إليك (يا رسول الله قال "أدن") أي أقرب (فدناه دنوة أو دنوتين) أي قرب خطوة أو خطوتين (ثم قال): أي الرجل (موقراً) أي معظماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (ادنو) يا رسول الله (فقال: "ادنه") بهاء السكت، (فدنا حتى التَصَقَ ركبتيه بركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض الروايات
(1) وفيه دليل على: أن قول الصحابة حجة. عن وهب بن جرير عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى انتهى. وقال في ترجمة زيد العمي نعيم بن حماد حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر مرفوعاً: سألت ربي في ما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم بعضهم أضوء من بعض فمن أخذ بشيء مما هو عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى هذا باطل.
مفاتيح الأسرار التراويح صفحة 57.
وضع يديه على فخذيه صلى الله عليه وسلم إرادة لكمال التقرب إليه، مع غاية التأدب لديه، (فقال: أخبرني عن الإيمان) أي عن المؤمن به إجمالاً (قال: "أن تؤمن بالله") أي بذاته وصفاته (وملائكته وكتبه ورسله ولقائه") أي بالقبر أو البعث، أو برؤيته في الجنة (واليوم الآخر) من حشره ونشره (والقدر خيره وشره) أي حلوه ومره ونفعه، وضره (من الله) أي من قضائه وأمره بحيث لا يتصور تغيره بغيره، (فقال: صدقت، قال: فعجبنا من تصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: صدقت) تفسير لما قبله، (كأنه يعلم) أي الحكم عياناً ويسأل عنه امتحاناً، وقال:(فأخبرني عن شرائع الإسلام) أي فرائضه وأركانه (ما هي؟) أي التي مدارها عليها وأساسها لديها ورجوع سائرها إليها (قال: "إقام الصلاة") أي إقامتها بشرائطها، وأركانها (وإيتاء الزكاة) أي إعطاء ما يجب من المال لمستحقها على وجه تمليكها، (وحج البيت) بفتح الحاء وكسرها أي قصد بيت الله الحرام وسائر المشاعر العظام (لمن استطاع إليه سبيلاً) بالزاد والراحلة ذهاباً وإياباً (وصوم رمضان) أي أيام شهره مع تعظيم أمره ورعاية قدره، (والاغتسال من الجنابة) أي لجميع أعضاء بدنه.
وفي الروايات المشهورة بدل هذا الخامس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهو كأنه أول أركانه، وهو الموافق لما ورد في الصحيح:"بني الإسلام على خمس" الحديث (قال: صدقت فعجبنا لقوله صدقت).
والحاصل أن السؤال الأول وجوابه تحقيق الإيمان، وتصديقه من جهة الباطني، والثاني انقياد الظاهر، وهذا فرق لغوي، وفي الاعتبار الشرعي مفهوم الإيمان والإسلام واحد، فكل مؤمن مسلم، كما أن كل مسلم مؤمن.
نعم يدل الحديث على أن الإيمان في التحقيق مجرد التصديق، وأما الإقرار فشرط لإجراء أحكام الإسلام، وأما بقية الأعمال فمن باب الإكمال، والله أعلم بالأحوال.
(قال: فأخبرني عن الإحسان)؟ أي تحسين الإيمان والإسلام في مقام المرام ما هو (قال: "الإحسان أن تعمل لله") وفي الرواية المشهورة أن تعبد الله (كأنك تراه) حاضراً لديك، وناظراً إليك، (فإن لم تكن تراه) أي تشاهده بهذا المنوال، (فإنه يراك) أي فاعلم أنه يراك في جميع الأحوال، فيجب عليك أن تحسن الأعمال (قال:) أي الراوي، (فإذا فعلت ذلك، فأنا محسن) في عمله، (قال: نعم، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الساعة) متى ينتهي أي أين وقت وقوعها؟ (قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل") أي كل مسؤول عنها عاجز من جوابه كالسائل عنها، فإنه سبحانه استأثر بعلمها، فلا يعلمها إلا هو، (ولكن لها أشراطاً) هي علامات تدل على قربها (فهي من الخمس التي استأثر الله بها)، وفي الصحيح مفاتيح الغيب الخمس، فقال: أي فقرأ استشهاداً أو فكر اعتقاداً {إن الله عنده} أي لا عند غيره {علم الساعة} ، أي علم وقت قيام ساعة القيامة، {وينزل الغيث} في وقت يعلمه، {ويعلم ما في
الأرحام} أي لا يعلمه غيره {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً} أي في المستقبل، {وما تدري نفس بأي أرض تموت} عند انتهاء الأجل {إن الله عليم خبير} (1)، بما أراده من الأنبياء والأولياء إلا علم الساعة، فإنه كما في قوله تعالى:{أكاد أخفيها} (2) أي عن نفسي لو أمكن، وهذا غاية المبالغة، أو أخفي إتيانها فضلاً عن بيان وقتها لحكمة اقتضت إخفاءها (قال: صدقت ثم انصرف) أي ذهب ونحن نراه، قال النبي صلى الله عليه وسلم علي بالرجل أي نادوه لي واطلبوه لأجلي، (فقمنا في أثره) بفتحتين وبكسر فسكون أي طالبين في عقبه (لا ندري أين توجه ولا رأينا شيئاً) أي مما يدل عليه، (فذكرنا) ذلك (للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم معالم دينكم") أي مجملها أو طريق سؤالها ("والله ما أتاني في صورة") أي من دحية وغيره (إلا وأنا أعرفه فيها إلا هذه الصورة) وقد بسطنا في هذا الحديث المتين في شرح الأربعين، والله الموفق والمعين.
- زيارة القبور
وبه (عن علقمة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نهيناكم عن زيارة القبور (فقد أذن) بصيغة المجهول (محمد في زيارة قبر أمه
(1) لقمان 34.
(2)
طه آية 15.
فزوروها) أي قبوركم، فهذا الحكم ناسخ للأول، وهل يشتمل النساء أو لا فيه خلاف، (ولا تقولوا هجراً) بضم، فسكون أي فحشاً من الكلام كالنياحة وغيرها.
وفي رواية ابن ماجه كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين، وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجراً، (وعن لحوم الأضاحي) أي نهيناكم عن (أن تمسكوها) أي تدخروها، وهو بدل اشتمال عما قبله، (فوق ثلاثة أيام، وإنما نهيناكم) أي أولاً (ليوسع موسركم) أي غنيكم (على فقيركم) رحمة على الفقراء وشفقة على الضعفاء، وزيادة مثوبة للأغنياء، (والآن قد وسع الله عليكم) بإيصال كثرة الخير إليكم، (فكلوا) أي بعضه، أو كله وتزودوا، أي ادخروا لزاد المعاش إن شئتم، لكن الأفضل أن يأكل ثلثه، ويطعم الفقراء ثلثه، ويهدي الجيران ونحوهم ثلثه، ليكون جامعاً بين علم المعاش وزاد المعاد.
وفي رواية الترمذي عن بريدة: كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتسع ذو الطول على من لا طول له، فكلوا ما بدا لكم وأطعموا وادخروا (وعن الشرب)، أي ونهيناكم عن الشرب (في الحنتم) أي الجرة الخضراء، (والمزفت) أي الظرف المطلي بالزفت وهو القير.
وفي رواية عن النقير والدباء والنقير هو المنقور من الخشب والسبب في منعه أن هذه الظروف كانت معدة للخمر فأراد صلى الله عليه وسلم المبالغة في منعها، ومنع ملابستها، ثم أذن بقوله:("فاشربوا") أي الآن (في كل ظرف شئتم) من هذه الظروف وغيرها، (فإن الظرف لا يحل شيئاً) أي حقيقة، (ولا يحرمه") لكن بالجر إلى صورة المعصية، فوجب الكراهية في قرب المعاهدة، (ولا تشربوا مسكراً) أي ولو لم يكن خمراً.
- ولا تشربوا مسكراً
وفي حديث مسلم عن بريدة: كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل ظرف شئتم من هذه الظروف وغيرها لأن الظرف لا يحل شيئاً في الحقيقة، ولا يحرم، لكن بالجر إلى صورة المعصية يوجب الكراهة في قرب المعادة، ولا تشربوا مسكراً أي ولو لم يكن خمراً.
وفي حديث مسلم عن بريدة: كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكراً.
وفي رواية ابن ماجه عن بريدة أيضاً كنت نهيتكم عن الأوعية فانبذوا، واجتنبوا كل مسكر.
(وفي رواية) أي لأبي حنيفة عن بريدة (أنه قال: "إنا نهيناكم عن ثلاث، عن زيارة القبور فزوروها ونهيناكم أن تمسكوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث أيام فامسكوها وتزودوا فإنما نهيناكم ليوسع غنيكم على فقيركم ونهيناكم أن تشربوا في الدباء) أي النبيذ الكائن في الدباء بالمد، والقصر.
وفي رواية نحوه، وفيه: عن النبيذ؛ أي نهيناكم عن الانتباذ في الدباء والختم والمزفت، فاشربوا في كل ظرف، ولا تشربوا مسكراً (فاشربوا فيما بدا لكم) أي ظهر عندكم من الظروف (فإن الظرف) أي جنسه (لا يحل شيئاً ولا يحرمه، ولا تشربوا مسكراً) فإن الله حرمه.
وبه (عن علقمة عن ابن بريدة، عن أبيه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة) أي معها ولأجلها (فأتى قبر أمه فجاء) أي فرجع (وهو يبكي أشد البكاء حتى كادت نفسه تخرج من بين جنبيه) أي من جميع أجزاء جسده، والمعنى أنه قرب أن يموت من شدة حزنه، (قال): أي بريدة، (قلنا): أي نحن معشر الصحابة الحاضرين (يا رسول الله ما يبكيك) أي، أيّ شيء سبب بكائك؟
(قال: "استأذنت ربي قي زيارة قبر أم محمد"). فيه وضع الظاهر موضع المضمر، أي قبر أمي (فأذن لي)، ولعل الحكمة في إذنه ليكون سبباً في تخفيف عذاب أمه (واستأذنته في الشفاعة) أي لرفع عذاب عنها من أجله (فأبى عليّ) أي لم يأذن ولم يقبل مني لقوله سبحانه:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لِمَن يشاء} (1) وهذا دليل صريح في أن أمه ماتت كافرة أنها في النار داخلة مخلدة، وهو الذي اعتقده أبو حنيفة، وذكره في فقهه الأكبر من أن والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر وعارضه السيوطي في رسائل، وأتى ببعض الدلائل مما ليس تحتها شيء من الطائل، وقد جعلت رسالة مستقلة في تحقيق هذه المسألة، وتدقيق ما يتعلق بها من الأدلة.
(وفي رواية لأبي حنيفة عن بريدة قال: استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ربه) في زيارة قبر أمه، (فأذن له، فانطلق، وانطلق) معه (المسلمون حتى انتهوا إلى قريب من
(1) النساء 48.
القبر، فمكث المسلمون) بضم الكاف وفتحه أي فلبثوا (ومضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيارة قبر أمه، فمكث طويلاً أي زماناً أو مكثاً، (ثم اشتد بكاؤه حتى ظننا أنه لا يسكن) أي من البكاء، (فأقبل وهو يبكي فقال له عمر: ما أبكاك يا نبي الله بأبي أنت وأمي) أي أفديك بهما (قال: "استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي فاستأذنته في الشفاعة فأبى فبكيت رحمة لها) أي بمقتضى الطبيعة، (وبكى المسلمون رحمة للنبي صلى الله عليه وسلم أي بموجب الشريعة وهذا الحديث يبطل قول القائل: إنها من أهل الفترة وإنهم لا يعذبون في النار.
- حديث عيادة الكافر
وبه (عن علقمة عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: كنا جلوساً) أي جالسين (عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه) أي الحاضرين (انهضوا) بفتح الهاء أي قوموا بنا (نعود جارنا اليهودي)، فإنه أحد الجيران الثلاثة على ما رواه البزار وأبو الشيخ في الثواب وأبو نعيم في الحلية، عن جابر مرفوعاً: الجيران ثلاثة: فجار له حق واحد، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق.
فأما الذي له حق واحد فجار مشرك له حق الجوار ..
وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار.
وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الرحم وحق الجوار.
(قال): أي بريدة، (فدخل) أي النبي صلى الله عليه وسلم أي على اليهودي، (فوجده في الموت)، أي في سكراته ومقدمة مماته (فسأله) أي عن حاله، ثم (قال:"أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) رجاء أن يؤمن به ويجير من النار بسببه، (فنظر إلى أبيه) أي كالمستشير في أمره، (فلم يكلمه أبوه) إيماء إلى عدم رضائه، (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فنظر إلى أبيه) أي متوقفاً إذنه فيه (فقال له أبوه) مراعاة لحاضرة: (وأشهد له) بالرسالة العامة، (فقال الفتى: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي أنقذ) أي خلص، (ونجى) بي أي بسببي (نسمة) أي مخلوقاً ذا روح (من النار) أي من عذاب الكفار.
(وفي رواية) أخرى (أنه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (قال ذات يوم) أي يوماً من الأيام (لأصحابه) أي الكرام: (انهضوا بنا نعود جارنا اليهودي قال): أي الراوي، (فوجده في الموت فقال أتشهد أن لا إله إلا الله قال: نعم) لأنه كان من أهل الكتاب وغالبهم أهل التوحيد في هذا الباب (قال: أتشهد أني رسول الله) أي إلى العرب والعجم واليهود والنصارى وغيرهم (قال): أي الراوي (فنظر الرجل إلى أبيه)، وفيه إيماء إلى ميل قلبه إلى الإسلام، (قال: فأعاد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي
الكلام مرة بعد أخرى (فوصف) أي الراوي (الحديث) أي كلامه عليه السلام ثلاث مرات إلى آخره على هذه الهيئة المذكورة المتقدمة (إلى قوله فقال) أي أبوه له: (أشهد، فقال أشهد أنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي أنقذ بي نسمة من النار").
- حديث الجهاد
وبه (عن علقمة عن ابن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشاً) أي عسكراً كثيراً كأنه يجوش ويفور من قوة حركته (أو سرية) أي عسكراً قليلاً أقصاه أربعمائة كأنه يخفي في سيره من قلة ومدينة (أوصى أميرهم في خاصة نفسه) أي في ما يتعلق بأمر دينه ودنياه بتقوى الله، أي اكتساب أوامره واجتناب زواجره (وأوصى فيمن معه) أي في حق من سار معه (وتابعه من المسلمين خيراً) أي بالخير والإحسان (ثم قال لهم) أي جميعهم (اغزوا بسم الله) أي مستعيناً به (في سبيل الله) أي طالبين لرضائه (قاتلوا من كفر) أي بالله، لا بغير حق سواه (لا تَغلُّوا) بضم الغين المعجمة، واللام المشددة، أي لا تخونوا في الغنيمة (ولا تغدروا) بكسر الدال المهملة، أي لا تنقضوا العهد بالخديعة (ولا تمثلوا) بضم المثلثة أي لا تقطعوا الأطراف من الأنف والأذن وغيرهما، من هما من الأصناف، فإنه لا منفعة فيها، بل يوجب زيادة الغيظ بسببها، والسلب بمثلها (ولا تقتلوا وليداً) أي مولوداً
صغيراً دون البلوغ، إذ أسره أولى، ونفعه للمسلمين أعلى، لا سيما إذا كان أعلى، إلا إذا كان سلطاناً، أو ولده، فإن في وجوده خوف الفتنة والفساد في عروض شهوده. والحديث رواه مسلم والأربعة، عن بريدة.
(وفي رواية) أي لأبي حنيفة، وكذا لأبي داود (شيخاً كبيراً) أي ممن لا يقدر، إلا أن يكون صاحب رأي، أو مدعي ملك.
وزاد أبو داود، ولا امرأة، وهي مقيدة بما تقدم، والله أعلم. (فإذا لقيتم عدوكم) أي أعداءكم من الكفار، ولو من أهل الكتاب (فادعوهم إلى الإسلام) أولاً، (فإن أبوا) أي امتنعوا (فادعوهم إلى إعطاء الجزية) أي إن كانوا من أهلها (فإن أبوا، فقاتلوهم) أي بأمره وكونه (فإذا حاصرتم أهل حصنٍ فأرادوكم) أي طلبوا منكم (أن تنزلوهم على حُكْمِ الله) أي فيهم من القتل والسبي والمن (فلا تفعلوا) أي فلا تقبلوا، فإنكم (لا تَدْرونَ ما حُكْمُ الله) أي بخصوصه في حقهم (ولكن انزلوا على حكمكم) أي كلكم أو بعضكم (ثم أحكموا فيهم عابداً بالأنفس) أي بما ظهر لكم من الرأي فيهم (فإن أرادوكم) أي حاولوكم (أن تعطوهم ذمة الله) أي عهده وأمانه خوفاً أن يعجزوا عن القيام بحقه (فأعطوهم ذممكم وذمم
آبائكم) الظاهر أن الواو بمعنى أو (فإنكم إن تخفروا) بضم التاء وكسر الفاء، أي أن تهتكوا (بذمتكم أهون) أي أخف (من أن تخفروا بذمة الله أن تخفروا في رقبتكم).
وفي رواية (فإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله، فلا تعطوهم ذمة الله، ولا ذمة رسوله. ولكن أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم أيسر، فإن ذمة الله وذمة رسوله في مقام التعظيم أكبر).
- حديث الأذان
وبه: (عن علقمة، عن ابن بريدة، أن رجلاً من الأنصار) وهم المؤمنون من أهل المدينة (مر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فرآه حزيناً) أي فرأى الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم محزوناً (وكان الرجل) أي الأنصاري، من صفته وعادته وكرمه، وسخاوته (إذا أطعم) أي تغدى، أو تعشى (يجتمع إليه) بصيغة المجهول أي يحضر بعض الفقراء لديه، (فانطلق) أي فذهب الرجل إلى غير محله (حزيناً بما رأى من حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بضم الحاء وسكون الزاي، وبفتحتين، وبهما
قرأت في قوله سبحانه وتعالى {عَدُوَّاً وَحَزَناً} (1)(فترك طعامه) أي المهيأ له ولأصحابه كرامة (وما كان يجتمع إليه) من أهله وقرابته وفقراء جاره (ودخل مسجده) أي الكائن في محلته (يصلي) جملة حالية أو استئنافية (فبينما هو كذلك) أي حزيناً مصلياً (إذ نعس) أي في صلاته، أو بعد ما فرغ من مناجاته (فأتاه آت في النوم، فقال): أي الآتي (هل علمت مما حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر الزاي، أي وهو فعل لازم، بخلاف فتحها، فإنه متعد، ومضارع الأول مفتوح، والثاني مضموم، ومَنْ للتعليل، وما استفهامية، (قال) أي الرجل (لا) أي لا أعلم سببه، ولا أعرف موجبه (قال) أي الآتي (فهو) أي حزنه وهمه (لهذا التأذين) أي لأجل معرفته كيفية التأذين، وهو الإعلام بدخول وقت الصلاة، للمصلي (فآتِهِ) أمر من الإتيان فأحضره (فمره أن يأمر بلالاً أن يؤذن) أي للناس في أوقاتها (فعلم الأذان) أي بجميع كلماته (الله اكبر الله أكبر، مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، أشهد ان محمداً رسول الله، مرتين) وفيه دلالة على عدم الترجيع، خلافاً للشافعي ومن تبعه، (حي على الصلاة، مرتين، حي على الفلاح، مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) أي مرة كما هو المستفاد من السكوت عن التكرار.
(1) القصص 8.
- الإقامة مثل الأذان
(ثم علم الإقامة مثل ذلك) أي مثل الأذان الموصوف بالتكرار، وفيه دلالة على عدم إفراد الإقامة، خلافاً لما ذهب إليه الشافعي، وتبعه طائفة من أهل السنة والجماعة، (وقال في آخر ذلك) أي بعد حي على الفلاح فالمراد بآخره، ما قرب منه، (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة) أي مرتين (الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله كأذان الناس وإقامتهم) فيه إشارة إلى أن هذا الموصوف من الأذان والإقامة، كان في زمن الصحابة والتابعين الذين هم أفاضل الناس في مقام الاستيناس (فأقبل الأنصاري) أي فخرج من مسجده (فقعد على باب النبي صلى الله عليه وسلم أي ينتظر خروجه عليه الصلاة والسلام ليذكر له ما رآه في المنام، أو يحصل له إذن بالدخول، وما يترتب عليه من الكلام (فمر أبو بكر رضي الله عنه وأراد الدخول إليه صلى الله عليه وسلم (فقال) الأنصاري (استأذن لي) أي بالدخول (وقد رأى) أي والحال أن أبا بكر أيضاً قد رأى (مثل ذلك) أي مثل ما رأى الأنصاري في المنام، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ليكون من أن يتيقن في كل مرتبة من مراتب اليقين (ثم استأذن الأنصاري، فدخل، فأخبر بالذي رأى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أخبرنا أبو بكر مثل ذلك)
وقد روى أن جماعة من الصحابة تواردوا على ما رأى هنالك، (فأُمر بلالاً يؤذن بذلك).
(وفي رواية: أن رجلاً من الأنصار، مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه حزيناً) أي محزوناً، قد ظهر عليه آثاره من كثرة حزنه (وكان الرجل ذا طعام يغشى) أي الناس معه (فانصرف) أي عن طريق نية انقلب نيته عن أكله، لنفور طبيعته (لما رأى من حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من آثار الحزن على طبيعته فترك طعامه، فدخل فوجده يصلي، لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولعله مقتبس من قوله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} (1) الآية (فبينما هو كذلك، إذ نعس، فأتاه آتٍ في النوم فقال له: أتدري ما حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أتعلم ما سبب حزنه (قال: لا قال: هو النداء) أي عدم معرفته لتفسير الأذان من ألفاظ الثناء والدعاء (فأمره بأن يأمر بلالاً، قال الرجل، فعلمه الأذان) أي هكذا (الله أكبر الله أكبر، مرتين) أي باعتبار الجملتين، وإلا فباعتبار كل جملة، تصير أربع مرات (أشهد ان لا إله إلا الله، مرتين وأشهد أن محمداً رسول الله، مرتين، حي على الصلاة، مرتين حي
(1) البقرة 45.
على الفلاح، مرتين، الله أكبر، أي مرة، لا إله إلا الله) أي مرة (ثم علمه الإقامة، كذلك) أي مرتين (ثم قال في آخر ذلك): أي قريباً من آخره، وهو بعد حي على الفلاح (قد قامت الصلاة، مرتين، كأذان الناس وإقامتهم) أي من غير زيادة ولا نقصان (فانتبه الأنصاري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس الباب) أي باب بيته عليه الصلاة والسلام (فجاء أبو بكر فقال له الأنصاري: استأذن لي، فدخل أبو بكر، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر بمثل ذلك) أي بمثل ما رأى الأنصاري، لأنه قد رأى كذلك (ثم دخل الانصاري) أي بعد الاستيذان (فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أخبرنا أبو بكر) هذا نظير قوله عليه الصلاة والسلام سبق عكاشة، (فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم:(مُرْ بِلَالاً بمْثلِ ذَلِكَ) أي حتى يؤذن الناس في وقت، وضع لما هنالك.
والحديث رواه الدارقطني، بسند فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: قام رجل من الأنصار عبد الله بن زيد، يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني رأيت في النوم كأن رجلاً نزل من السماء، عليه بردان أخضران، نزل على حائط من المدينة، فأذن مثنى، ثم جلس، قال: علمها بلالاً، فقال عمر: رأيت مثل الذي، ولكنه سبقني.
قال ابن الهمام، وعبد الرحمن، لم يسمع من معاذ، فإنه ولد لست بقين من
خلافة عمر، فيكون سنه سبع عشرة سنة من الهجرة، ومعاذ توفي سنة تسع عشرة من الهجرة أو ثماني عشرة، وهذا حجة عندنا بعد ثقة الرواة.
ولأبي داود، وابن خزيمة، بسند متصل، نحوه، وقال الترمذي في علله الكبير: سألت محمد بن اسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هو عندي صحيح.
هذا وروى ابن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، بسند قال في الإمام: رجاله رجال الصحيحين، قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أن عبد الله بن زيد الأنصاري، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيت في المنام كأن رجلاً قام عليه بردان أخضران، فقام على حائط، فأذن مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى.
قال الطحاوي: تواترت الآثار عن بلال أنه كان يثني الإقامة حتى مات، وعن إبراهيم النخعي، كانت الإقامة مثل الأذان، حتى كاد هؤلاء الملوك. فجعلوها واحدة، لسرعة إذا أخرجوا، يعني بني أمية، كما قال أبو الفرج بن الجوزي، كان الأذان مثنى مثنى، والإقامة كذلك، فلما قام بنو أمية، أفردوا الإقامة.
واستدل الشافعي على إفرادها في البخاري؛ أن بلالاً يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا الإقامة.
وفي رواية متفق عليها، بذكر الاستثناء. فأخذ بها مالك، ولا يخفي؛ إنما روينا أقوى، فإنه نص على العدد، على وجه الحكاية، كلمات الأذان، فانقطع الاحتمال بالكلية، بخلاف أمر أن يوتر الإقامة، فإن بعد كون الأمر أهون، أمدح، فالإقامة اسم لمجموع الذكر، والله اعلم.
- حديث السخي
وبه (عن علقمة، عن ابن بريدة، عن أبيه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أي مرفوعاً
(قال) أي بريدة (أتى رجل) أي جاءه صلى الله عليه وسلم (فاستحمله) أي طلب منه ما يحمله من دابة (فقال: "ما عندي ما أحملك عليه) ما الأولى نافية، والثانية موصولة، أو موصوفة (ولكن سأدلك على من يحملك) أي لأنه ذو جود، وهو في الكرم مشهور (انطلق إلى مقبرة بني فلان) بفتح الباء، وتضم أي محل قبورهم، وفناء دورهم (فإن فيها شاباً من الأنصار يترامى) أي يتغالب في باب الرمي (مع أصحاب له) أي من الرماة (ومعه بعير له) أي عنده، أو في تصرفه (فاستحمله) بصيغة الأمر، على سبيل الاستدعاء (فإنه سيحملك) أي لما فيه من شيم الكرم (فانطلق الرجل) أي فذهب إلى المقبرة المعروفة (فإذا) للمفاجأة (به) أي بذلك الشاب (يترامى مع أصحاب له؛ فقص عليه الرجل قول النبي صلى الله عليه وسلم، ففرح به) غاية الفرح، حيث شهد له صلى الله عليه وسلم بالجود، والكرم. (فاستحلفه بالله، قال: هذا) أي القول (رسول الله صلى الله عليه وسلم اطمئناناً لقلبه (فحلف له مرتين أو ثلاثاً) زيادة لمطلوبه من إفادة مرغوبه (ثم حمله) أي علي بعيره (فمر به) أي بالمحمول (إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي عليه (قال) أي الراوي (فأخبره) أي الرجل للنبي (الخبر) أي خير عطائه (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنطَلِقْ فإِنَّ الدَّالَ على الخَيْرِ كفاعِلِهِ) وقد روى البزار عن ابن مسعود والطبراني، عن سهل بن سعد، عن أبي مسعود مرفوعاً: الدال على الخير كفاعله.
وزاد أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، وأيضاً عن بريدة، وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، عن أنس: إن الله يحب إغاثة اللهفان، أي المكروب.
(وفي رواية) أي أخرى لأبي حنيفة (أن رجلاً جاءه) أي جاء النبي صلى الله عليه وسلم (يستحمله، فقال: والله أقسم) تأكيداً (ما عندي من شيء) زيد من للاستغراق (أحملك عليه، ولكن انطلق إلى مقبرة بني فلان فإنك ستجد ثم) بفتح المثلثة، وتشديد الميم، هنالك (شاباً من الأنصار يترامى مع أصحاب له، فاستحمله، فإنه سيحملك، فانطلق الرجل حتى أتى المقبرة التي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أخبره بها (فقص) أي الرجل (عليه) أي على الأنصاري (القصة) أي المذكورة بتمامها (فاستحلفه، فقال:) أي الرجل (والله الذي لا إله إلا هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك) أي لأن أستحملك (فأعطاه بعيراً له، فانطلق به الرجل، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له) رسول الله صلى الله عليه وسلم (انطَلِقْ، فإِنَّ الدَّالَ على الخَيْر كَفَاعِلِهِ) والمقصود من تكرار الإسناد في المتن، فإن كان مؤداهما واحداً، تقوية الحديث، وتأكيد ثبوته.
وبه (عن علقمة مرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحاجُّ مغْفُورٌ لَهُ") أي من
الصغائر، وفي تحت مشيئته الكبائر، إلا ما يمكن تداركه هنالك من قضاء صلاة وصوم ورد مظالم ونحو ذلك (ولمن استغفر) أي الحاج له (إلى انسلاخ المحرم) أي إلى فراغ شهر محرم الحرام، فإنه كان أبعد مسافة من مكة، في تلك الأيام.
وقد روى أحمد في مسنده مرفوعاً: إذا لقيت الحاج فسلم عليه وصافحه وأمره أن يستغفر له قبل أن يبيته، فإنه مغفور له.
وروى الديلمي في مسند الفردوس، عن أبي أمامة مرفوعاً الحاج في ضمان الله تعالى، مقبلاً ومدبراً. وروى البيهقي عن أنس مرفوعاً: الحاج والعمار وفد الله تعالى، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم ويخلف عليهم ما أنفقوا الدرهم ألف ألف.
وزاد في رواية: والذي بعثني بالحق، الدرهم الواحد منها، أثقل من جبلكم هذا، وأشار إلى أبي قبيس.
- حديث الرجم
وبه (عن علقمة، عن أبي بريدة، عن أبيه، أن ماعز بن مالك) وهو الأسلمي، معدود في الكوفيين، وهو الذي رجمه النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى عنه عبد الله حديثاً واحداً، كذا ذكره صاحب المشكاة في أسماء رجاله (أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الآخر) أي المتأخر عن الخير، وفي معناه الأبعد، كما في رواية: وهو كناية عن نفسه بوصف ذمه لارتكاب (جرمه قد زنى، فأقم عليه الحد، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه الثانية) أي في يوم أو في غده (فقال
له مثل ذلك) أي من الإقرار، والرد، كما فعل هنالك (ثم أتاه الثالثة والرابعة فقال: إن الآخر قد زنى، فأقم عليه الحد، فسأل عنه) أي عن حاله (أصحابه) أي أصحابه المخصوصين به العارفين بكسبه (هل تنكرون من عقله) أي شيئاً من حاله، فيكون مجنوناً، مخبوطاً أو معتوهاً (قالوا: لا، قال: انطلقوا به فارجموا) وذلك لأنه كان محصناً.
(قال): أي الراوي (فانطلق به) بصيغة المجهول (فرجم بالحجارة) لكن ذلك المقام قليل الحجارة، فأتم له الرجم وحصل له زيادة الغم (فلما أبطأ عليه القتل) أي الموت بالرجم (انصرف) أي عن ذلك المكان (إلى مكان كثير الحجارة) تهويناً عليه وتسهيلاً لمن حضر لديه في رجمهم إليه، فقام فيه إتمام رجمه (فأتاه المسلمون) أي فتبعوه (فرجموه بالحجارة حتى قتلوه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلا خليتم سبيله) أي هلا تركتم رجمه حين انصرف من محله، فيه إشعار بأنه لو رجع عن إقراره قبل الجلد، أو بعد ما أقيم عليه بعض حده، سقط، كما هو مذهبنا، وهو المسطور في كتب الشافعية.
وعن أحمد كقوله: وعن مالك في قبول رجوعه روايتان، وعدم قبوله هو قول ابن أبي ليلى.
ولنا أن الرجوع خبر يحتمله الصدق، وليس أحد يكذبه فيه، فيستحق به الشبهة في الإقرار السابق عليه، فيندرىء بالشبهة، لأنه أرجح من الإقرار السابق.
هذا ويستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع لقوله عليه الصلاة والسلام لماعز: لعلك مسستها، لعلك قبلتها.
وعند البخاري: لعلك قبلت أو غمزت، أو نظرت، (فاختلف الناس فيه)، أي في حقه من جهة قدحه ومدحه، (فقال قائل: هذا ماعز أهلك نفسه) أي تسبب لهلاك نفسه بعدم ستره في ما وقع له من أمره (وقال قائل:) أي منهم النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية (أنا أرجو أن يكون) أي ما فعل في حقه (توبة) أي عظيمة مقبولة (لو تابها) أي لو تاب مثل هذه التوبة (فئام) بكسر الفاء فهمزة، وقد يبدل ياء أي جماعات (من الناس يقبل منهم) بصيغة المجهول. (فلما بلغ ذلك) الكلام الصادر عنه عليه الصلاة والسلام (قومه وطعموا فيه) أي في حقه من الثواب (فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ما يصنع بجسده) بصيغة المجهول، أو بالمتكلم، مع الغير معروفاً، قال اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم من الكفن) أي من التكفين (والصلاة عليه) أي بعد غسله (والدفن) في قبور المسلمين (قال: فانطلق به أصحابه) أي قومه كما في رواية (فصلوا) وفي صحيح البخاري من حديث جابر، في أمر ماعز، قال: ثم أمر به فرجم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً، وصلى عليه، ورواه الترمذي، وقال هذا حسن صحيح، ورواه غير واحد منهم أبو داود، وصححوه.
وأما ما رواه أبو داود من حديث أبي برزة الأسلمي، أنه عليه الصلاة والسلام لم يصل على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه، ففيه مجاهيل، نعم، حديث جابر في الصحيحين في ماعز، وقال له خيراً، ولم يصل عليه معارض صريح في صلاته عليه، ولكن المثبت أولى من النافي.
وأما صلاته عليه الصلاة والسلام على الغامدية، فأخرجه الستة، إلا البخاري من عمران بن الحصين، أن امرأة من جهينة، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله، أصبت حداً، فأقمه علي، الحديث بطوله، إلى أن قال: ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: أتصلي عليها يا نبي الله، وقد زنت، فقال: لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جاءت إليه بنفسها.
(وفي رواية) أي لأبي حنيفة (قال) أي بريدة (أتى ماعز بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقر بالزنا فرده، ثم عاد فأقر بالزنا، فرده، ثم عاد فأقر بالزنا، فرده، ثم عاد الرابعة) أي في المرة الرابعة (فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أي أصحابه عن حاله (هل تنكرون من عقله شيئاً) أي من خلله، (قالوا: لا، قال: فأمر به) أي أن يرجم (فرجم موضع قليل من الحجارة، قال) أي الراوي (فأبطأ عليه الموت، فانطلق يسعى) أي يسرع (إلى موضع كثير الحجارة، واتبعه) بتشديد التاء، أي تبعه ولحقه (الناس، فرجموه حتى قتلوه، ثم ذكروا شأنه) أي حاله وما صنع من ذهابه (لرسول الله صلى الله عليه وسلم متعلق بذكروا (فقال: لولا خليتم سبيله، قال: فاستأذن قومٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم في دفنه والصلاة عليه) أي بعد غسله، والواو لمجرد الجمعية (فأذن لهم في
ذلك، قال) أي الراوي (وقال عليه الصلاة والسلام: لقد تَابَ) أي ماعز (توبة لو تابها فِئام مِنَ النَّاسِ قُبِلَ مِنْهُمْ).
(وفي رواية: قال): أي الراوي، وهو بريدة (لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بماعز بن مالك أن يرجم، قام في موضع قليل الحجارة، فأبطأ عليه القتل فذهب به) أي بنفسه (مكاناً كثير الحجارة، واتبعه الناس) أي ورجموه (حتى رجموه) أي أتموا رجمه، يعني قتلوه (فبلغ ذلك) أي خبر ذهابه (النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألَاّ) بفتح الهمزة وتشديد اللام لغة في هلا (خليتم سبيله)، واستدل به على إخراجه إلى أرض من فضاء.
وفي الحديث الصحيح: فرجمناه، يعني ماعزاً، بالمصلى.
وفي مسلم وأبي داود، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد، وكأن المصلى كان به، لأن المراد به مصلى الجنازة، فيتفق الحديثان، وأما ما في الترمذي من قوله: فأمر به في الرابعة، فأخرج إلى الحرة، فرجم بالحجارة، فإن لم يتناول كمل على أنه اتبع حين هرب حتى أخرج إلى الحرة، وإلا فهو غلط، لأن الصحاح والحسان متظافرة على أنه صار إليها هارباً، لا أنه ذهب إليها ابتداء ليرجم بها، ولأن الرجم بين الجدران يوجب عدواً من بعض الناس للبعض للضيق.
(وفي رواية: قال: لما هلك) أي مات (ماعز بن مالك بالرجم، اختلف
الناس فيه) أي في ذمه ومدحه، (فقال قائل: هلك ماعز) أي بارتكاب ذنبه (وأهلك نفسه) بعدم ستره، (وقال قائل تاب) أي وله حسن مآب (فبلغ ذلك) أي ما ذكراه من نوعي الجواب (رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس) أي عشار ظالم متعد بالجور على الناس (لقبل منه، أو تابها فئام الناس لقبل منهم) وأو إما للشك الراوي، أو للتنويع المروي.
(وفي رواية قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس) جملة حالية، وفائدة ذكرها التنبيه على تنبيه الراوي بالقضية (فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأقم الحد علي، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك أربع مرات كل ذلك) أي في كل المراتب، هنالك (يرده النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرض عنه) أي عن الحكم في حقه (فقال في الرابعة: أنكرتم) بهمزة الاستفهام، أو بتقديرها في الكلام (من عقل هذا شيئاً؟ قالوا: ما نعلم) أي ما نعرفه موصوفاً بحال (إلا عاقلاً، وما نعلم) أي في أفعاله (إلا خيراً: قال: فاذهبوا به فارجموه. قال: فذهبوا به فأتوا به في مكان قليل الحجارة، فلما أصابته الحجارة، جزع)، أي حين أبطأ عليه الموت (قال) أي
الراوي (فخرج) أي فذهب (يشتد) أي أسرع في المشي (حتى أتى الحرة) بفتح الحاء المهملة والراء المشددة، وهي موضع كثير الحجارة خارج المدينة (فثبت لهم) أي وقف لرجمهم قال: أي الراوي (فرموه بجلاميد بيدها) بفتح الجيم وجمع الجلمود، وهو الصخر كالجمة (حتى سكت) أي مات (قال): أي الراوي (فقالوا) أي بعض أصحابه (يا رسول الله، ماعز حين أصابته الحجارة جزع فخرج يشتد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا خليتم سبيله" قال): أي الراوي (فاختلف الناس في أمره، فقالت طائفة: هلك ماعز) أي بالإصرار (وأهلك نفسه) أي بالإقرار، فذموه بعدم ستره على نفسه، أي بالإقرار، وأنه ممن قال تعالى فيه {وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلى التّهْلُكَة} (1) فأخطأوا في اجتهادهم في شأنه (وقالت طائفة: بل تاب الى الله توبة) أي مقبولة (لو تابها فئام من الناس لقبل منهم) أي فأصابوه، ووافقهم عليه الصلاة والسلام في مقالهم (قالوا: يا رسول الله فما نصنع به) أي هل نصنع به ما نصنع بالكفار، بلفه في خرقة وستره في حفرة أو نصنع به ما نصنع بالأبرار، من تكفينه وغسله والصلاة عليه ودفنه في قبور المسلمين وإنما سألوه، لأنه كان أول قضية، (قال: اصنعوا به كما تصنعون بموتاكم من الغسل والكفن والحنوط) أي أنواع الطيب، والصلاة عليه والدفن، فإنه من التائبين.
(1) البقرة 195.
ولكون الزنا وغيره من الكبائر ما يخرج صاحبه من الإيمان، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة من المبتدعة.
وقد روي هذا الحديث بروايات مختلفة، أي وعبارات مؤتلفة نحو ما تقدم أي في معناه وإن اختلف مبناه منها ما أخرجه أبو داود وعبد الرزاق في مصنفه بعد قوله، فيعرض عنه، فأقبل في الخامسة، فقال: أنكتها، قال نعم، قال: حتى غاب ذلك منك إلى ذلك منها، قال نعم، كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البير، قال: نعم، قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً مثل ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به، فرجم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه، حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، ثم ساره ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجليه، فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: نحن ذان يا رسول الله، فقال: أقبلا وكلا من جيفة الحمار، فقال: أو من يأكل من هذا يا رسول الله؟ قال: فما نلتما من عرض أخيكما أنفاً أشد من أكل منه والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة يتغمس فيها، واستدل بهذا الحديث على استفسار المقر وكذا الشاهد عن الكيفية، ومنها ما أخرجه أبو داود، عن يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه، قال: كان ماعز بن مالك في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: إيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت، لعله أن يستغفر لك، فأتاه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد حتى قالها أربع مرات، فقال عليه الصلاة والسلام، إنك قد قلتها أربع مرات فيمن قال بفلانة؟، قال: هل ضاجعتها، قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم، قال: هل باشرتها؟ قال: نعم، فأمر به أن يرجم فأخرج إلى الحرة، فلما وجد من الحجارة، خرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس، وقد عجز أصحابه، فنزع بوظيف بعير، فرماه به،
فقتله، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له، فقال له: هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه، وقال فيه: فأمر به أن يرجم، فلم يقتل، حتى رماه عمر بن الخطاب بلحي بعير، فأصاب رأسه فقتله، واستدل به على استفسار المزنية، ثم اعلم أن الحكم قد اختلف في اشتراط تعدد الإقرار، فنفاه الحسن وحماد بن سليمان، ومالك والشافعي وأبو ثور.
واستدل بحديث العسيف حيث قال عليه الصلاة والسلام: اغده يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، ولم يقل أربع مرات، ولأن الغامدية لم تقر أربعاً، وإنما ورد ماعز لأنه شك في أمره، فقال: أبك جنون؟. أين فلان وفلان
- يرجم بعد إقرار أربع مرات
وذهب كثير من العلماء إلى اشتراط الأربع، واختلفوا في اشتراط كونها في أربعة مجالس، أو مجلس، فقال به علماؤنا، ونفاه ابن أبي ليلى وأحمد فيما ذكر عنه، واكتفوا بالأربع في المجلس الواحد، وما في الصحيحين ظاهر فيه، وهو ما عن أبي هريرة، قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى بين ذلك أربع مرات، فلما أشهد على نفسه أربع شهادات، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال لا، قال: هل أحصنت؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه فرجمنا بالمصلَّى فما أزلقته الحجارة، وهرب فأدركناه بالحرة، فرجمناه.
قال ابن الهمام، فهذا ظاهر في أنه كان في مجلس واحد، قلت: نعم، هو أظهر منه في إفادة أنها في مجالس ما في صحيح مسلم عن بريدة أن ماعزاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فرده، ثم أتاه الثانية من الغد، فرده، ثم أرسل إلى قوم، هل تعلمون بعقله شيئاً، فقالوا: ما نعلمه إلَاّ وفي العقل من صالحنا، فأتاه الثالثة، فأرسل
عليهم أيضاً، فسألهم، فأخبروه أنه لا بأس به، ولا بعقله فلما كان الرابعة، حفر له حفيرة فرجمه.
وأخرج أحمد وإسحاق بن راهويه في مسنديهما، وابن أبي شيبة، في مصنفه: حدثنا وكيع، عن اسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن عبد الرحمن بن ابزى، عن أبي بكر قال: أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم، فاعترف، وأنا عنده مرة، فرده، ثم جاء فاعترف عنده فرده، ثم جاء، فاعترف عنده، فرده، ثم جاء الثالثة، فرده، فقلت له، لو اعترفت الرابعة رجمك، قال: فاعترف الرابعة، فحبسه ثم سأل عنه فقالوا: لا نعلم إلا خيراً، فأمر به.
قال ابن الهمام: فصرح بتعدد المجيء، وهو يستلزم غيبة، ونحن إنما قلنا أنه إذا تغيب، ثم عاد فهو مجلس آخر.
وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: أنها جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الأبعد قد زنى، فقال له: ويلك، وما يدريك، وما الزنا، فأمر به، فطرد، فأخرج فقال: ثم أتاه الثانية، فقال مثل ذلك، فقال: أدخلت وخرجت؟ قال: نعم، فأمر به أن يرجم فهذا وغيره مما يطول ذكره، ظاهره في تعدد المجالس، فوجب أن يحمل الحديث الأول عليها، وأن قوله، فتنحى تلقاء وجهه، معدود مع قوله الأول إقرار واحد، لأنه في مجلس واحد، وقوله حتى بين ذلك أربع مرات، أي في أربعة مجالس، فإنه لا ينافي ذلك.
وقد دلت الأحاديث على تعدد المجالس، فيحمل عليه، وأما كون الكلام مع المكتفين بمرة واحدة فنقول: الغامدية لم تقر إلا مرة واحدة ممنوع، بل أقرت أربعة. يدل عليه ما عند أبي داود، والنسائي، فإنه كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون أن الغامدية، وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما رجمهما بعد الرابعة، فهذا تصريح في إقرارها أربعاً، غاية ما في الباب أنه لم ينقل
تفاصيلهما، والرواة كثيراً ما يحذفون بعض الصور الواقعة، على أنه روى البزار في مسنده، أنها أقرت أربع مرات، وهو يردها، ثم قال: اذهبي حتى تلدي، الحديث.
غير أن فيه مجهولاً، تنجبر جهالته بما يشهد له من حديث أبي داود والنسائي، وأما كون رد ماعز أربعاً لاستربته في العقل، فإن سلم، لا يتوقف علم ذلك على الأربع، ومما يدل على ذلك، ترتيبه عليه السلام الحكم عليها، وهو مشعر بعليتها، وكذا الصحابة، فمن ذلك قوله في الحديث: هذا، لأنك قد قلتها أربعاً، فمبين، وهو حديث أخرجه أبو داود والنسائي، والإمام أحمد، عن يزيد بن نعيم ابن هزال عن أبيه قال، كان ماعز بن مالك في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال: أيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزاد فيه أحمد، قال هشام: فحدثني يزيد بن نعيم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين رآه: والله يا هزال، لو كنت سترته بثوبك لكان خيراً لك مما صنعت به، ومن ذلك، في لفظ لأبي داود، عن ابن عباس: إنك شهدت على نفسك أربع مرات، وفي لفظ لابن أبي شيبة: أليس إنك قلتها أربع مرات؟
- اختصار الراوي
وتقدم من مسند أحمد، عن أبي بكر أنه قال بحضرته عليه الصلاة والسلام، إن اعترفت الرابعة رجمك، وأما كونه روى في الصحيح، رده مرتين أو ثلاثاً، فمن اختصار الراوي، ولا شك أنه أقر أربعاً، وأما قوله في الحديث العسيف، فإن اعترفت فارجمها، فمعناه الاعتراف في الزنا بناء على أنه كان معلوماً بين الصحابة، خصوصاً لمن كان قريباً من الخاصة.
وأما حديث أبي بريدة في استفسار ماعز أنه رجمه بعد الخامسة، فتأويله أنه عدا حد الإقرار، فإن منها إقرارين في مجلس واحد، كما قدمناه في الجمع، فكانت خمساً.
وأما ما روي أن الغامدية قالت له عليه الصلاة والسلام: أتردني كما رددت ماعزاً، والله إني لحبلى من الزنا، فليس فيه دليل لأحد، بل لما قالته، قال: أما لا فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدته أتته بصبي في خرقة، قالت: هذا ولدته، قال فاذهبي فارضعيه حتى تفطميه، فأتت بالصبي في يده كسرة خبز، قالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر بها إلى صدرها، وأمر الناس أن يرجموها، فقتلها خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس، لغفر له.
- على الرجم إجماع الصحابة
ثم اعلم أن الرجم عليه إجماع الصحابة، ومن تقدم من علماء الأمة، وإنكار الخوارج الرجم، باطل، لأنهم أنكروا حجية إجماع الصحابة فجهل مركب بالدليلين، من هو إجماع قطعي، وإن أنكروا وقوعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتراً، بمعنى كشجاعة على وجود حاتم، والآحاد في تفاصيل صورة خصوصياته.
أما أصل الرجم فلا شك فيه، ولقد كوشف بهم عمر، وكاشف بهم حيث قال: حيث يطول بالناس زمان، حتى قال قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، أولاً، وأن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، رواه البخاري.
وروى أبو داود أنه خطب، وقال: إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا من بعده، وإني خشيت أن يطول بالناس فيقول قائل: لا نجد الرجم، الحديث، وقال لولا أن عمر زاد في كتاب الله، لثبتناها على حاشية المصحف.
وحاصله، أن آية الرجم، وهي قوله تعالى: وَالْشَّيْخُ وَالْشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا ألبتَّة، {نَكَالاً مِنَ الله إنَّ الله عَزْيزٌ حَكِيم} (1) منسوخ المبنى محكم
(1) المائدة 38.
المعنى، وفي الحديث الصحيح عن ابن مسعود مرفوعاً: لا يحل دم امرءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث، الزنى، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.
وروى الترمذي عن عثمان: أنه أشرف عليهم يوم الدار، وقال: آنشدكم بالله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، وارتداد بعد إسلام، وقتل نفس بغير حق، وقالوا: اللهم نعم، قال: فعلام تقتلوني، الحديث.
قال الترمذي، حديث حسن.
ورواه الشافعي في مسنده عن عثمان: لا يحل دم امرء مسلم إلا من احدى ثلاث، كفر بعد إسلام، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس.
ورواه البزار، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي، وأبي داود، وأخرجه البخاري عن فعله عليه السلام من قول أبي قلابة، حيث قال: والله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً قط إلا في ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه، فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام، ولا شك في رجم عمر، وعلي رضي الله تعالى عنهما.
ولا يخفى، أن أقول المخرج حسن أو صحيح في هذا الحديث يراد به المتن، من حيث هو واقع في ذلك السند، وذلك لا ينافي الشهرة وقطعية الثبوت بالتضافر، والقبول.
والحاصل، أن إنكاره دليل قطعي بالاتفاق، فإن الخوارج يوجبون العمل بالتواتر معنى ولفظاً كسائر المسلمين، إلا أن انحرافهم عن الاختلاط بالصحابة والتابعين، وترك التردد عند العلماء المجتهدين، والرواة والمحدثين المتكلمين في علوم الدين، أوقعهم في جهالات كثيرة لخفاء السمع عليهم والشهرة.
ولهذا لما عابوا على عمر بن عبد العزيز القول بالرجم، لأنه ليس في كتاب الله، ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكاة، فقالوا: ذلك لأنه فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمون، فقال لهم: وهذا أيضاً فعله هو والمسلمون.
- حديث في حق المسجد
وبه: (عن علقمة، عن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً ينشد) بضم عينه، أي يطلب (جملاً في المسجد، فقال) دعا عليه (لا وجدت) أي الجمل أو البعير.
(وفي رواية سمع رجلاً ينشد بعيراً فقال: لا وجدت، إن هذه البيوت) أي بيوت الله، وهي المساجد (بُنيت لما بنيت له) أي من الصلاة، وذكر الله، والتلاوة، ونحوها.
(وفي رواية: أن رجلاً اطلع رأسه) بفتح همزة وسكون طاء، أي أدخله في المسجد، (فقال: من دعاء) أي من دعاني مشيراً (إلى الجمل الأحمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وجدت: إنما بنيت هذه المساجد لما بنيت له).
ورواه مسلم: أن رجلاً نشد في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، الخ.
وفي الحصن الحصين للجزري، بلفظ: "وإن سمع من ينشد ضالة في المسجد، فليقل، لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم يبن لهذا.
- رفع الصوت حرام في المسجد ولو بالذكر
ورواه مسلم وأبو داود، وابن ماجه، كلهم عن أبي هريرة، ولفظ الحديث عندهم: "مَنْ سمع رجلاً ينشد، وهذا يدخل فيه كل أمر، لم يُبْنَ المسجد له، عن البيع والشراء، ونحو ذلك، من كلام الدنيا وأشغالها، من الخياطة والكتابة بالأجر، وتعليم الصبيان وأمثالها، وكذا كل ما يشغل المصلي ويشوش عليه، حتى قال بعض علمائنا: رفع الصوت حرام في المسجد، ولو بالذكر، بل قال بعضهم: إنه يحرم إعطاء السائل المعترض برفع الصوت، أو إلحاح، ومبالغة أو بمجاوزة صف أو خطوة على رقبة، أو في حال الخطبة، وأمثال ذلك تعظيماً هنالك.
- الشؤم في ثلاث
وبه: (عن علقمة، عن أبي بريدة، قال: تذاكروا) أي بعض الصحابة (الشؤم) بضم فسكون همزة، ويبدل، أي الشآمة، يعني هل لها أصل أم لا، وفيما تكون، وفيما لا تكون، وبأي معنى تكون (ذات يوم) أي يوماً من الأيام (عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الشؤم) أي ثابت (في ثلاث: في الدار والفرس والمرأة) أي إجمالاً، وإما تفصيلاً (فشؤم الدار: أن يكون ضيقة) أي غير كافية لصاحبها (لها جيران سوء) أي من الظلمة والفسقة، أو غيره، وممن يتأذى به أهلها (وشؤم الفرس أن تكون جموحاً) أي اعترت فارسها عليه تمنع ظهرها عن ركوبه ابتداء، وعن ثبوته انتهاء، والفرس تذكر وتؤنث (وشؤم المرأة أن تكون عاقراً) أي لم تلد، ولو كانت شابة (زاد الحسن بن سفيان) أي في رواية (سوء الخلق) فالمعنى أن
يكون فيها عيبان كما في الدار، والظاهر أن كل عيب شؤم.
(وفي رواية) أي لأبي حنيفة (أن يكون الشؤم في شيء) أي من الأشياء (ففي الدار والفرس والمرأة) أي يتصور وقوعها فيها (فأما الدار فشؤمها ضيقها، وأما المرأة فشؤمها سوء خلقها وعقر رحمها، وأما شؤم الفرس فأن يكون جموحاً).
والحديث رواه مالك وأحمد والبخاري، وابن ماجه، عن سهل بن سعد، والشيخان عن ابن عمر، ومسلم والترمذي عن جابر بلفظ: إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس.
وفي رواية لأحمد وغيره عن عائشة مرفوعاً: الشؤم سوء الخلق، وحديث يمن المرأة تسهيل أمرها، وقلة صداقها، رواه ابن حبان.
- حديث ثواب المريض
وبه (عن علقمة، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مرض العبد وهو على طائفة) أي بعض خصال (من الخير) كصلاة إقامة، وأذكار وتلاوة وصيام وقيام وطواف واعتكاف ونحوها، وضعف عن القيام بها في أيام مرضه
وأوقات عرضه (قال الله تبارك وتعالى للملائكة) أي الكرام الكاتبين، والمراد بهم أصحاب اليمين (اكتبوا لعبدي مثل أجر ما كان يعمل) وهو صحيح، أي في حال صحته، بناء على تحسين نيته، وتزيين طويته.
وقد أخرج ابن مردويه، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان العبد على طريقة من الخير، فمرض أو سافر، كتب الله له مثل ما كان يعمل، ثم قرأ:{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} (1) وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} أي غير مقطوع، ما يكتب لهم صاحب اليمين من عمل خير كتب له صاحب اليمين، وإن ضعف عن ذلك، كتب له صاحب اليمين، وأمسك صاحب الشمال، فلم يكتب سيئة.
(زاد) أي الراوي (في رواية) أي غير هذه (مع أجر البلاء) أي مع زيادة صبره على المرض والبلاء، وما يترتب من الداء.
(وفي رواية: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل) أي مثل ثوابه (وهو صحيح) جملة حالية.
(وفي رواية: إذا مرض العبد وهو على عمل من الطاعة)، أي من أنواعها وأصنافها، (فلم يقدر في مرضه على العمل)، أي على القيام به لضعفه عنه (قال الله
(1) التين 6.
تبارك وتعالى، يقول لحفظته) أي لحفظة أعمال ذلك العبد (اكتبوا لعبدي أجر ما كان يعمل وهو صحيح) وروى أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى، بلفظ: إذا مرض العبد أو سافر، كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً.
وروى ابن عساكر عن مكحول مرسلاً، ولفظه: إذا مرض العبد يقال لصاحب الشمال: ارفع عنه القلم، ويقال لصاحب اليمين: اكتب له أحسن ما كان يعمل، فإني أعلم به، وأنا قيدته.
أخرج الطبراني عن شداد بن أوس، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى يقول: إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب عز وجل: إني أنا قيدت عبدي هذا، وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح.
وبه (عن علقمة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الخفين، وصلى خمس صلوات) أي بذلك الوضوء، وفيه دفع توهم أنه ما مسح عليهما، وأنه أجمع عليه أهل السنة والجماعة، خلافاً لبعض المبتدعة.
- نهى صلى الله عليه وسلم عن المثلة
وبه (عن علقمة، عن ابن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن المثلة) وهي بضم الميم: قطع الأطراف كالأنف والأذن واللسان وأمثالها. فالحديث بعينه رواه
الحاكم، في مستدركه عن عمران، والطبراني عن ابن عمر وعن المغيرة، وقد سبق حديث إيصائه عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه الكرام المتوجهين إلى دار الحرب لإعزاز الإسلام حيث قال: لا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً ولا شيخاً كبيراً، الحديث.
وروى أحمد والشيخان والنسائي عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: لعن الله من مثل بالحيوان.
- حديث القدرية
وبه (عن علقمة، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله القدرية) أي الجماعة المنكرة أن الأمور كلها بقضاء وقدر من خير وشر، وحلو ومر ونفع وضر، (وما نبي ولا رسول إلا لعنهم) أي دعا عليهم بالطرد، أو البعد عن رحمة الله الخاصة، لأمته الخاصة (ونهى أمته عن الكلام معهم) أي فضلاً عن السلام لهم.
وقد روى الدارقطني في العلل عن علي كرم الله وجهه: لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً.
وروى أبو داود والحاكم، عن ابن عمر مرفوعاً: القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم.
وقد روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعاً: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله، وآمن بالقدر، فقد استمسك بالعروة الوثقى.
وروى الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً: قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
وروى أبو يعلى في مسنده، بسند حسن عن أبي هريرة مرفوعاً: من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فأنا منه بريء.
- سؤال القبر
أبو حنيفة (عن رجل، عن سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وضع المؤمن) أي دفن في قبره، حقيقة أو حكماً، والمراد به مؤمن هذه الأمة (أتاه الملك) أي جليسه، فلا ينافي ما ورد من أنه أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما نكير، وللآخر منكر (فأجلسه) أي أحدهما، أو كل منهما (فقال: من ربك) الذي خلقك، ورزقك (فقال) أي المؤمن (الله) أي ربي، ويحتمل حذف المبتدأ والخبر، (قال: ومن نبيك؟ قال: محمد قال: وما دينك، قال الإسلام) والسؤال الثاني مؤكد للأول لتلازمها، قال: أي النبي صلى الله عليه وسلم (فيفسح) بصيغة المجهول، أي فيوسع له (في قبره) أي بعدما يحصل له ضغطه في بدو أمره، (ويرى) بصيغة المجهول، من الإراءة (مقعده) نصب على المفعولية ومن في (من الجنة) بيانية.
وفي رواية، زيادة: مقعده من النار لو كان من الكفار، فيزيد سروراً على سرور في مشاهدة تلك الدار (فإذا كان) أي الميت، أو المدفون (كافراً، أجلسه الملك، فقال: من ربك؟ قال: هاه) بالسكون، كلمة توجع، والهاء الأولى مبدلة
من همزة، آه كما نقله السيوطي عن القرطبي، وفي رواية هاه هاه (لا أدري) أي لا أعلم، وقوله (كالمضل) جملة اعتراضية تشبيهية، هي الفاعل، ومفعوله، وهو (شيئاً) والأقرب أن يكون شيئاً مفعولاً للمضل، ولا أدري يكون منزلاً منزلة اللازم، أي ليس لي دراية (فيقول) أي الملك (من نبيك؟) لأن الإيمان بالنبي السعيد مستلزم للتوحيد (فيقول: هاه لا أدري، كالمضل شيئاً، فيقال: ما دينك؟ فيقول لا أدري، كالمضل شيئاً فيضيق عليه قبره) أي فيزداد في ضيق أمره (ويرى مقعده من النار).
وفي رواية، زيادة، ومقعده من الجنة، لو كان من الأبرار، ليزيد حزناً على حزن، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران"(فيضربه) أي الملك (ضربة) أي بمقمعة من نار، أو بمطرقة من حديد، كما في بعض الروايات، (يسمعه) أي صوت ضربه، أو صوت مضروبه، (كل شيء من المخلوقات إلا الثقلين الجن والإنس) وذلك لأنهم مكلفون بالإيمان الغيبي (ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي استشهاداً، أو اعتضاد {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتْ} وهو الإقرار اللساني المطابق للتصديق الجناني بالتوحيد الإلهي، والإرسال النبوي {في الحيوة الدنيا} يعني قبل الموت {وَفِي الآخِرَة} (1) في القبر، هذا قول أكثر أهل التفسير، وقيل {في الحياة الدُّنْيِا} في القبر عند السؤال {وفي الآخرة} عند البعث، والأول أصح كما صرح به البغوي، وفي البخاري عن البراء بن عازب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المسلم اذا سئل في
(1) إبراهيم 27.
القبر، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة} (1).
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} قال نزلت في عذاب القبر حين يقال ومن ربك؟ يقول: ربي الله، ونبيي محمد، فذلك {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} الآية.
والأحاديث في ذلك كثيرة في المبنى، وقد تواترت بحسب المعنى، وأجمعوا عليه أهل السنة، خلافاً لبعض أهل البدعة، {ويضل الله الظالمين} أي لا يهدي المشركين في القبر إلى الجواب الصواب {ويفعل الله ما يشاء} من التوفيق والخذلان والإعطاء والحرمان، بمن يشاء من عباده في دار الامتحان.
وبه (عن علقمة، عن ابن بريدة عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: "أترضون) أي تحبون (أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالو: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة) أي في الكثرة بالنسبة إلى سائر أمم الإجابة (قالوا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا نصف أهل الجنة؟ قالوا: نعم قال:
(1) سورة إبراهيم 27.
أبشروا، فإن أهل الجنة عشرون ومائة) وهو لغة في مائة وعشرين (صفاً صف أمتي أمتي من ذلك ثمانون صفاً) فيكونون ثلثي أهل الجنة.
وأرجو أن ثلثي هذه الأمة في الجنة، جماعة الحنفية، لكثرتهم بالنسبة إلى المالكية والشافعية، والحنبلية، وإن كان الكل على ملة الحنيفية.
والحديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، عن ابن مسعود مرفوعاً، بلفظ: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة، أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟
ورواه الطبراني عن أبي مالك الأشعري، ولفظه: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ والذي نفسي بيده لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة.
وفي رواية لأحمد وعبد بن حميد في تفسيره، عن جابر، إني لأرجو أن يكون من تبعني من أمتي يوم القيامة ربع أهل الجنة.
وفي رواية الطبراني عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أهل الجنة مائة وعشرون صفاً أنتم كانوا، والناس سائر ذلك، وأنتم وفاء سبعين أمة خيرها وأكرمها على الله.
وفي رواية للطبراني والحاكم عن ابن مسعود: أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، وأنتم منها ثمانون صفاً.
وفي رواية لأحمد والطبراني، عن ابن مسعود، كيف أنتم، وربع الجنة لكم، ولسائر الناس ثلاثة أرباعها، كيف أنتم وثلثها، كيف أنتم والشطر، كيف أنتم وأهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف، أنتم منها ثمانون صفاً.
وروى ابن أبي حاتم، عن عوف بن مالك: أمتي ثلاثة أثلاث، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم يقولون لا
إله إلا الله، فيقول الله: صدقوا، لا إله إلا أنا، فأدخلوهم الجنة بقول لا إله إلا الله.
- من لم يقبل عذر مسلم يعتذر إليه فوزره كوزر صاحب مكسٍ:
وبه (عن علقمة، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يقبل عذر مسلم يعتذر إليه) بناء على أنه واجب عليه أن يحسن الظن به في تحقيق عذره، وتصديق أمره (فَوْزرُهُ كَوِزْرِ صَاحِبَ مكسٍ) بفتح فسكون، أي ظلم ونقص، وهو بهذا المعنى، يشتمل كل معتد وجائر في حق الخلق، لكن الصحابة رضي الله عنهم فهموا أنه عليه الصلاة والسلام أراد فرداً خاصاً في هذا المقام.
(فقيل: يا رسول الله، وَمَا صَاحِبُ مَكْس، قال: عشار) أي الظالم في أخذ عشره، والمعتدي في حق غيره، وإنما سمي عشاراً لأنه يأخذ من الحربي الذي مر عليه في طريق التجارة عشر ماله بشروط، ومن الذمي نصف عشره، ومن المسلم ربع عشره، وأما اليوم فترقى في ظلمه حتى يأخذ ربع المال، بل ثلثه، بل نصفه، بل كله. والحديث رواه ابن ماجه، والضيا عن جودان بلفظ: من اعتذر إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها، كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس.
- أفضل الجهاد
وبه (عن علقمة: عن ابن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفضل
الجهاد، كلمة حق عند سلطان جائر) أي ذي جور وظلم.
والحديث بعينه رواه ابن ماجه، عن أبي سعيد، وأحمد والطبراني، والبيهقي، عن أبي أمامة والنسائي وغيره، عن طارق بن شهاب في رواية ابن البخاري، عن أبي ذر: أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل في نفسه وهواه، أقول، وهو الجهاد الأكبر، الذي يترتب عليه الجهاد الأصغر، ومنه كلمة الحق عند ظالم للخلق.
- سلام أهل القبر
وبه (عن علقمة عن ابن بريدة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا خرج إلى المقابر كالبقيع:) وقبور الشهداء (السلام على أهل الديار) أي سكان هذه الديار، وفي رواية: السلام أهل الديار (من المسلمين) الشامل للأبرار والفجار.
وفي رواية، والمؤمنين (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).
وفي رواية للاحقون، أي متصلون، فإنكم سابقون، والاستثناء للتبرك أو الخصوص لتلك المقبرة أو للموت على الإسلام تعليماً للأمة من خوف الخاتمة (نسأل الله لنا ولكم العافية) أي الخلاص من كل محنة وبلية، ومن العقوبة في الدنيا والآخرة.
والحديث رواه بعينه مسلم، والنسائي، وابن ماجه، عن بريدة بن الحصيب. وزاد ابن ماجه في رواية، أنتم لنا فرط، وإنا بكم لاحقون اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنَا بعدهم.
وفي رواية لمسلم والنسائي، وابن ماجه عن عائشة، على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين. ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون.
وفي رواية للنسائي: زيادة أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع.
وفي رواية أخرى لمسلم والنسائي، عن عائشة أيضاً: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً موجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون.
وفي رواية للترمذي عن ابن عباس: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر، وقد أوضحنا معاني هذا الحديث في شرح الحصن الحصين.
- حرمة نساء المجاهدين
وبه (عن علقمة، عن ابن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعل الله حرمة نساء المجاهدين) أي في سبيل الله من الغزاة الغائبين (على القاعدين) أي على الرجال المتخلفين عن عذر (كحرمة أمهاتهم) فيجب عليهم أداء خدمتهن، والقيام بأمر معيشتهن، وحفظ حرمتهن، ورعاية حشمتهن (وما من رجل من القاعدين يخون أحداً من المجاهدين في أهله) أي من نسائه وجواريه وأقاربه وذريته، خيانة مالية أو غيرها (إلا قيل له يوم القيامة: اقتص) أي خذ حقك منه بأن تؤخذ حسناته وتوضع عليه سيئاته، وفي الحصر إشارة إلى أن هذه الخيانة لا تكفر في الدنيا، ولا تغفر في العقبى، ولا يتخلص منها إلا بالتوبة المتضمنة للفضيحة يوم القيامة (فما ظنكم) أي فأي شيء ظنكم (في المجاهدين)؟ أتظنونهم كغيرهم من القاعدين.
والحديث رواه أحمد ومسلم وأبو داود، عن بريدة، بلفظ حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم، إلا وقف يوم القيامة، وقيل له: من خلفك في أهلك بسوء، فخذ من حسناته ما شئت، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم.
وفي رواية أخرى عنهم، عن سليمان، عن بريدة، عن أبيه بلفظ: حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة فقيل له، خلفك في أهلك بسوء، فخذ من حسناته ما شئت، فأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم، ما أرى يدع من حسناته.
وقد روى الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً، أقرب من درجة النبوة أهل الجهاد، وأهل العلم، لأن أهل الجهاد يُجَاهِدُونَ على ما جاءت به الرسل، وأما أهل العلم، فدلوا الناس على ما جاءت به الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.
- صلى عليه السلام خمس صلوات بوضوء واحد
وبه (عن علقمة، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة) أي وقته أو عامه (صلى خمس صلوات بوضوء واحد) أي على خلاف عادته، من أنه كان يتوضأ لكل صلاة، أما عملاً بظاهر القرآن من قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا
إذا قُمْتُم إِلى الصَّلَاةِ} (1) الآية. والجمهور على تقدير: وأنتم محدثون، حملاً للأمر على الوجوب.
وأما عملاً بالاستحباب، من تجد المعد من الأدب، وقيل: كان فرضاً عليه خاصة، ثم نسخ (ومسح على خفيه) أي على خلاف عادته أيضاً من غسل رجليه (فقال له عمر: ما رأينا صنعت هذا) أي مثل هذا الجمع بين الصلوات أو المسح على الخفين، وما ذكر من فعلين (قبل اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عمداً صنعته يا عمر) يعني ليتعرف أن تجديد الوضوء غير واجب، وليتبين أن المسح على الخفين جائز، وأن آية المائدة غير منسوخة، وأن الجمع بين القراءتين هو اختلاف العمل من غسل الرجلين، ومسحهما المحمولان على الحالتين، وهذا معنى قول الشافعي، نزل القرآن بالمسح، وجرت السنة بالغسل.
والحاصل، أنه عليه السلام كان مبيناً لما أجمل من الأحكام. والحديث رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن بريدة.
وفي رواية لعبد الرزاق، وابن ابي شيبة، عن بريدة بن الحصيب الأسلمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات كلها بوضوء واحد.
- حديث الوضوء
(عن علقمة، عن ابن بريدة عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة) أي غسل أعضاء وضوئه، ومسح رأسه مرة مرة، إيماء إلى أن الواجب هو المرة الواحدة،
(1) المائدة 6.
وتثليث الغسل سنة، والجمهور على أن الرأس يمسح مرة واحدة، خلافاً للشافعي.
وقد روى أحمد، عن ابن عمر مرفوعاً، من توضأ واحدة، فتلك وظيفة الوضوء التي لا بد منها، ومن توضأ اثنتين فله كفلان، ومن توضأ ثلاثاً فذلك وضوء الأنبياء قبلي.
- ثلاث خصال
وبه (عن علقمة، عن ابن الأقمر عن حمران) بضم مهملة وسكون ميم فراء، فألف فنون (قال: ما لقي) بصيغة المجهول، أي ما رؤي (ابن عمر قط) في خاصة الأحوال الماضية (إلا وأقرب الناس مجلساً منه حمران) فيه وضع الظاهر موضع المضمر، مع ما فيه من نوع التفات، (فقال) أي ابن عمر (ذات يوم) أي يوماً من الأيام (يا حمران، لا أُراك) بضم الهمزة، أي لا أظنك (تواظبنا) أي تداومنا وتلازمنا (إلا وأنت تريد لنفسك خيراً) أي من جهة خدمتنا وبركتنا (فقال) أي حمران (أجل) أي نعم (يا أبا عبد الرحمن) وهو كنية عبد الله بن عمر (قال) أي ابن عمر (وأما اثنتان) أي خصلتان (فإني أنهاك عنهما) بحسب اجتهادي فيهما (وأما واحدة) أي من تلك الخصال الثلاثة (يا أبا عبد الرحمن، قال: لا تموتن) أي لا يحضرنك موت (وعليك دين) جملة حالية (إلا ديناً تدع) أي تترك (به) أي بدله (وفاءه) أي ما تكون وافياً لقضائه احترازاً من حقوق العباد إلى المعاد، (ولا تسمعن) نهي مؤكد من التسميع، بمعنى الرياء،
ومن في قوله (من تلاوة آية) تبعيضية أو تقليلية (فإنه يسمع بك يوم القيامة، كما سمعت به) أي الناس، قصاصاً جزاء وفاقاً.
وفي الحديث: من سَمَّع، سَمَّع الله به، ومن رَايَا، رَايَ الله به، كما رواه أحمد ومسلم، عن ابن عباس، والمعنى: من سمع حديثه الناس بما يفعله ليلاً ويقصد به الرياء والسمعة، فضحه الله يوم القيامة (ولا يظلم ربك أحداً) بزيادة عقاب، أو نقصان ثواب (وأما الذي آمرك به كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بركعتي الفجر)، لا تتركهما، بل واظب عليهما (فإن فيهما) أي في الإتيان بهما (الرغائب) أي أسباب الرغبة إلى المراتب، وسمو المطالب، وقد سبق أنهما السنن الرواتب، بل قيل إنهما واجبتان.
- ذكر اللحد
وبه: (عن علقمة، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: ألحد النبي صلى الله عليه وسلم أي أدخل اللحد وأمر بالإدخال فيه (واحداً) أي من الصحابة، كأنه ما عرف باسمه (من قبل القبلة) بكسر القاف، وفتح الموحدة، أي من طرفها وجانبها، وقبالتها، كما هو مذهبنا، وذلك بأن توضع الجنازة في جانب القبلة من القبر، ويحمل الميت، فيوضع في اللحد، فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الأخذ، لا من جانب رأس الميت، كما هو مذهب الشافعي، فإن عنده يسل سلاً، وهو: بأن يوضع السرير في مؤخر القبر حتى يكون رأس الميت بإزاء موضع قدميه من القبر، ثم يدخل رأس الميت القبر ويسل كذلك، أو يكون رجلاه موضع رأسه، ثم يدخل رجلاه ويسل كذلك، وقد قيل كل منهما.
والمروي للشافعي هو الأولى: قال: أخبرنا الثقة عن عمرو بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل رأسه، قلنا، إدخاله عليه الصلاة والسلام مضطرب فيه كما روى ذلك روى خلافه، فقد أخرج أبو داود، في المراسيل، وكذا ابن أبي شيبة، في مصنفه، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل القبر من قبل القبلة، ولم يسل.
وزاد ابن أبي شيبة: ورفع قبره حتى يعرف.
وأخرج ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد أنه عليه الصلاة والسلام أخذ من قبل القبلة، واستقبل استقبالاً.
ويؤيده ما رواه الترمذي عن وحشة عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام دخل ليلاً قبراً، فأسرج له سراجاً، فأخذه من القبلة، قال: رحمك الله إن كنت لأواهاً تلاءً للقرآن، وكبر عليه أربعاً، وما أخرجه ابن أبي شيبة: إن علياً كبر على يزيد بن المكفف أربعاً، وأدخله من قبل القبلة، وأخرج عن ابن الحنفية، أنه ولى ابن عباس، فكبر عليه أربعاً وأدخله من قبل القبلة.
هذا، وفي الحديث، تنبيه يتنبه إلى ما ذهب إليه علماؤنا من أن السنة اللحد، إلا أن يكون رخوة من الأرض فيخاف أن يهال اللحد، فيصار إلى الشق.
وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام لما توفي وكان بالمدينة رجل يلحد والآخر يضرح أي يشق فقالوا: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق، تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم، رواه الترمذي عن ابن عباس، وابن ماجه، عن أنس (ونصب عليه اللبن) بفتح اللام، وكسر الموحدة (نصباً) فقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال في مرضه الذي مات فيه، ألحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رواية من سعد أنه عليه الصلاة والسلام ألحد، وروى ابن حبان في صحيحه، عن جابر، أنه عليه الصلاة والسلام، ألحد ونصب عليه اللبن نصباً، ورفع قبره من الأرض بشبر.
- ما من ميت يموت
وبه (عن علقمة، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ميت) من المسلمين (يموت) أي قبل موته (له ثلاثة من الولد) بفتحهما، وضم فسكون، اسم جنس، يشتمل المذكر والمؤنث، والمعنى أنه يصبر على مصيبتهم (إلا أدخله الجنة) أي بشفاعتهم (فقال عمر: أو اثنان) وهذا عطف تلقين، ومعناه التماس أن يقول، أو اثنان (فقال صلى الله عليه وسلم: أو اثنان) أي أو اثنان.
والحديث رواه مسلم، وابن ماجه، عن عتبة بن عبد الله، بلفظ: ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية، من أيهما شاء دخل.
وروى الترمذي في الشمائل عن ابن عباس، بحديث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان له فرطان من أمتي أدخله الله تعالى بهما الجنة، فقالت له عائشة: فمن كان له فرط من أمتك؟ قال: ومن كان له فرط يا موفقة، قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك، قال: فأنا فرط لأمتي، لن يصابوا بمثلي.
أبو حنيفة (قال: كنا مع علقمة وعطاء بن أبي رباح) بفتح الراء (فسأله علقمة، فقال): أي لهم، وهو من أكابر التابعين من أهل مكة، ولذا عظمه، وكناه بقول (يا محمد، إن ببلادنا) يعني الكوفة، وسائر العراق (لا يثبتون لأنفسهم الإيمان) أي بطريق الجزم والأمان (ويكرهون أن يقولوا، إنا مؤمنون) أي بطريق
إطلاق بل يقولون إنا مؤمنون إن شاء الله تعالى (فقال: ما لهم لا يقولون) أي وأي شيء مانع من إطلاق قولهم إنا مؤمنون، يشكون، ولا يترددون، بل يوقنون، قال علقمة: يقولون (إنا إذا أثبتنا لأنفسنا الإيمان جعلنا أنفسنا من أهل الجنة) والمعنى إن الله أخبر المؤمنين الجنة، فإذا ادعينا أنا مؤمنون، يلزم منه القول بأنا من أهل الجنة وأهل الجنة مهملون كما قال تعالى:{فَرِيْقٌ فِيْ الْجَنَّةِ وَفَرِيْقٌ فِيْ الْسَّعِير} (1) وكما ورد هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي، وفيه بحث، إذ السؤال عن قضية، والإشكال من جهة الإجمال في الاستقبال، ولذا قال المحققون حتى من الشافعية أن المخالفة لفظية لا حقيقة، فإن من قال أنا مؤمن يريد إيمان الحال، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، يريد الموافقات في الاستقبال، والله أعلم بحقيقة الأحوال (قال) أي عطاء (سبحان الله) تنزيه أريد به التعجب (هذا) أي التزام الذي (تصوره من خدع الشيطان) أي من تلبساته، وحبائله، أي إنكاره بأن يقربهم إلى التردد والشك في الإيمان، ولو صورة ليتوصل به إلى عدم الجزم والإيقان (ألجأهم) أي اضطرهم (إلى أن وفقوا لأعظم منة الله عَلَيْهِمْ، وهو الإسلام) أي الانقياد الظاهري والباطني الموجب للشكر المستوجب للمزيد من الثبات والدوام عليه المقتضي لدخول الجنة والقرب لديه. (وخالفوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حيث لم يرو عنه صلى الله عليه وسلم، استثناء في إيمانه، ولا أعلم أحداً يستثنى في إيقانه، بل قال تعال
(1) الشورى 7.
ى (أولئك) هم المؤمنون حقاً (أولئك) هم الكافرون حقاً، ولا واسطة بينهما أصلاً وقطعاً في الحال المرتهنة مع احتمال تغير الحال باعتبار الخاتمة (رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم (يثبتون الإيمان لأنفسهم) أي من غير ترددهم في قولهم، ولا استثناء في مقولهم (يذكرون ذلك) أي يروون مثل ذلك (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قولاً وفعلاً وتقريراً (أفعل بهم الله) للقوم المذكورين (يقولون): خبر معناه أي يقولوا، والمعنى ليقولوا (إنا مؤمنون، ولا يقولوا إنا من أهل الجنة) إذ لا يلزم ذلك من وجود ما هنالك (فإن الله لو عذب أهل سماواته) أي من الملائكة المقربين (وأهل أرضه) أي من الأنبياء والمرسلين (يعذبهم وهو غير ظالم لهم) إذ الظلم لا يتصور عنه سواء يكون بمعنى وضع الشيء في غير محله، أو بمعنى التعدي في ملك غيره.
وقد قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَاّمٍ لِلعَبِيدِ} (1) وقال عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ} (2).
وقال أهل السنة والجماعة: إن الله سبحانه لا يجب عليه إثابة مطيع ولا عقوبة عاص (فقال له علقمة: يا أبا محمد إن الله لو عذب الملائكة الذين لم يعصوه) صفة كاشفة، أو احترز به من نحوها، روت وما روت (طرفة عين) أي غمضتها (عذبهم
(1) فُصِّلت 46.
(2)
الأنبياء 23.
وهو غير ظالم بهم) وعلى هذا القياس، ولو عذب الأنبياء المعصومين، وإنما تركهم لظهور أمرهم في باب المقالية من علو قدرهم، فكان همزة الاستفهام مقدرة على قوله: عذبهم ليصح (قال) أي علقمة (نعم، قال) أي ثم قال علقمة (هذا) أي الذي ذكر إجمالاً (عندنا عظيم) أي أمره (فكيف نعرف هذا) أي تفصيلاً (فقال له با ابن أخي) أي في الدين، فإن المؤمنين أخوة في مقام اليقين (من هنا) أي هذا الباب الذي هو طريق التحقيق (ضل أهل القدر) المعتزلة، وسائر أهل البدعة (فإياك أن تقول بقولهم) أي في هذه المسألة (فإنهم أعداء الله) أي أعداء دينه (الرادون على الله) أي ما ورد في كلام وصح في حديث رسوله، بتمامه على وجه وضوحه ونظامه (أليس يقول الله للنبي) صلى الله عليه وسلم (قل فلله الحجة البالغة) أي البينة الواضحة، بلغت غاية المثابة والقوة على الثبات المدعى من الكتاب والسنة وإجماع الأمة. (فلو شاء لهداكم أجمعين) أي بالتوفيق بها والحمل عليها، ولكن شاء هداية قوم وضلالة آخرين، وقد اتفق كلمة السلف على ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فسبحان الله أن يجري في ملكه إلا ما يشاء من الخير والفحشاء (فقال له علقمة: اشرح) أي أوضح (يا أبا محمد شرحاً) أي إيضاحاً (يذهب عن قلوبنا هذه الشبهة) أي بالكلية في قطع القضية (فقال: أليس الله تبارك وتعالى دال الملائكة على تلك الطاعة) أي هداهم إليها (وألهمهم إياها) أي وفقهم عليها
(وعزمهم عليها) في كثرة الطاعة والعصمة عن المخالفة (وجبرهم على ذلك) أي وقهرهم على هنالك بحيث لا يتصور أنهم يعصون الله ما آمرهم، ويفعلون ما يؤمرون (قال) أي علقمة (نعم، فقال) أي عطاء (وهذه) أي وهذه المذكورات (نعم) أي كثيرة تدخل في محظورات (أنعم الله بها عليهم قال: فلو طالبهم) أي الله (بشكر هذه النعم) أي القيام بأداء حقها، كما هو لائق لمنعمها (ما قدروا على ذلك) واعترفوا بقولهم ما عبدناك حق عبادتك، ولعجزوا عن الشكر وقصروا عن الذكر (وكان له) أي الله (سبحانه أن يعذبهم بتقصير الشكر، وهو غير ظالم لهم) ومضمون هذا الحديث الشريف روي موقوفاً عن بعض الصحابة، ومرفوعاً عن معتصم.
فرواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه عن ابن الديلمي، قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت له، وقد وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني لعل الله أن يذهبه من قلبي، فقال: لو أن الله عذب أهل سمواته، وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبل الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا، لدخلت النار قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فقال مثل ذلك.
ثم أتيت زيد بن ثابت، فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.