الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
ذكر إسناده عن الهيثم بن حبيب الصرفي
- إفطار صوم في السفر
ذكر إسناده عن الهيثم بن حبيب الصرفي.
أبو حنيفة، رحمه الله تعالى، (عن الهيثم بن حبيب الصرفي) أحد التابعين الأجلاء (عن أنس بن مالك، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لليلتين اختلتا) أي بقيتا من شهر رمضان (من المدينة) متعلق بخرج (إلى مكة) أي يقصد فتحها (فصام حتى أتى قديداً) وهو بالتصغير، موضع بين الحرمين (مشى الناس إليه الجهد) بضم الجيم، وفتحها، أي المشقة من جهة الصوم في تلك الحالة، حيث لا يمكنهم مخالفته عليه السلام في العمل بالرخصة، وترك العزيمة (فأفطر) لما رأى بهم من الضرورة (فلم يزله بمفطر حتى أتى مكة) وفيه تنبيه على أن الصوم في السفر أفضل، لمن يكون له قوة، كما يشير إليه إطلاق قوله سبحانه وتعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (1).
وأما حديث "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي الْسَّفَر" فمحمول على حالة الضعف والضرورة، والحديث رواه عبد الرزاق في جامعه، ولفظه:"خرج رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان حتى مر بقديد في الطريق، وذلك في نحو الظهيرة، فعطش الناس، فجعلوا يمدون أعناقهم، وتتوق أنفسهم إليه، فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح ماء، فأمسكه على يده حتى رآه الناس ثم شرب، فشرب الناس".
وَرَوَى أيقد، عن أبي جعفر، قال: لما أن كان النبي صلى الله عليه وسلم مخرجه للفتح بعسفان، أو بالكديد، نُووِلَ قدحاً، وهو على راحلته في شهر رمضان، فجعلت
(1) البقرة 184.
الرفاق تمر به والقدح على يده، ثم شرب، فبلغه بعد ذلك أن أناساً صاموا، فقال: أولئك العاصون.
وروى أحمد، عن ابن سعد والترمذي، بسند حسن، عن عمر، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين في رمضان، يوم بدر، ويوم الفتح، فأفطر فيهما.
- وظيفة صبح وشام
وبه (عن الهيثم، عن أبي صالح) وهو ذكوان السمان الزيات المدني، كان يجلب السمن والزيت إلى الكوفة وهو مولى جويرية بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو تابعي جليل، مشهور، كثير الحديث، واسع الرواية.
روى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وعنه ابنه سهيل، والأعمش (عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح) أي يدخل في الصباح وهو أول النهار (أعوذ بكلمات الله التامات) أي الجامعات الكاملات وهي الآيات القرآنية المشتملة على المعجزات، وهي التامة، الكافيات للبليات والآفات (ثلاث مرات) أي متواليات على ما هو الظاهر (لم يضره عقرب حتى يمسي) أي يدخل في المساء، وهو أول الليل، وقيل آخر النهار، على اختلاف في أوله (ومن قال) أي كذلك (حين يمسي، لم يضره عقرب حتى يصبح).
(وفي رواية، قال): أي النبي صلى الله عليه وسلم (من قال: أعوذ بكلمات الله التامات حين يصبح قبل طلوع الشمس ثلاث مرات، لم يضره عقرب يومئذ) أي في يوم ذلك
(وإذا قال حين يمسي) أي ثلاث مرات (لم يضره عقرب ليلته) أي في ليلة ذلك.
والحديث رواه الطبراني في الأوسط، بلفظ: من قال حين يصبح وحين يمسي.
وفي رواية، حين يمسي فقط، وكذا في رواية مسلم، والأربعة، والدارمي، وابن السني عن معقل بن يسار، وفي الأذكار للنووي، روينا في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب حتى لدغني البارحة، قال: أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضرك.
وروينا في كتاب ابن السني، وقال فيه: من قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ثلاثاً لم يضره. انتهى.
وفي رواية للترمذي بسند حسن: من قال حين يمسي ثلاث مرات لم يضره حية في تلك الليلة، قال سهيل: فكان أهلنا يقولونها كل ليلة، فلدغت جارية منهم، فلم تجد وجعها.
هذا، وروى الحافظ أبو نعيم في تاريخ أصبهان، والمستغفري في الدعوات، والبيهقي في الشعب، عن علي أنه قال: لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب، وهو في الصلاة فلما فرغ قال: لعن الله العقرب، لا تدع مصلياً ولا غيره، ولا نبياً ولا غيره إلا لدغته، وتناول نعله فقتله بها، ثم دعا بماء وملح، وجعل يمسح عليها ويقرأ:{قُلْ هُوَ الله أَحدَ} والمعوذتين.
وروى ابن أبي شيبة، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب.
وبه (عن الهيثم عن عامر الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيب من وجهها) أي باللمس أو القبلة (وهو صائم) أي فرضاً أو نفلاً، والجملة حالية، تعني كلام أحد الروايات، أي تريد عائشة بهذه الإصابة القبلة، لما صرحت بها في رواية أخرى، فقد روى أحمد والشيخان، والأربعة، عن عائشة، أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم، وقد سبق بعض ما يتعلق به.
وبه (عن الهيثم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن كلب الصيد) وقد روى أحمد والنسائي، عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام، نهى في ثمن الكلب، إلا الكلب المعلم.
وفي رواية الترمذي، نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد.
واعلم أن بيع العين الطاهرة صحيح بالاتفاق، وأما بيع العين النجسة في نفسها، كالكلب، والخنزير، والخمر، والسرجين هل تصح أم لا؟ قال أبو حنيفة: يصح بيع الكلب والسرجين، وأن يُوَكّلَ المسلمُ ذمياً في بيع الخمر وأتباعها
واختلف أصحاب مالك في بيع الكلب، فمنهم من أجازه مطلقاً، ومنهم من كرهه، ومنهم من خص الجواز بالمأذون في إمساكه.
وقال الشافعي وأحمد: لا يجوز بيع شيء من ذلك أصلاً، ولا قيمة للكلب إن قتل أو أتلف، كذا في اختلاف الأئمة.
قال الدميري في حياة الحيوان: لا يصح بيع جميع الكلاب عندنا، خلافاً لمالك، فإنه أباح بيعها.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيع غير العقور، انتهى، وفي فتاوي قاضي خان أن بيع الكلب المعلم عندنا جائز، ومفهومه، عدم جواز بيع الكلب، إذا لم يكن معلماً، وهو المطابق لرواية هذا الحديث، والله أعلم.
- أكل الأرنب
وبه: (عن الهيثم، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، قال: خرج غلام من الأنصار قبل أحد) بكسر القاف، وفتح الموحدة، أي إلى جانب أحد، وهو بضمتين، جبل عظيم بقرب المدينة، وقد ورد في حقه، "أحد جبل يحبنا ونحبه"، (فمر) أي فذهب في طريقه (فاصطاد أرنباً) وهو حيوان يشبه العناق، قصير اليدين، طويل الرجلين، اسم جنس يطلق على الذكر والأنثى (فلم يجد) أي معه (ما يذبحها) أي من آلات الحديد، كالسكين ونحوه (فذبحها بحجر) أي حاد (فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علقها بيده، فأمره بأكلها).
وفيه تنبيه على جواز الذبح بكل ما فيه حدة، إذ المقصود هو إخراج الدم، واستثنى السن والظفر القائمين، أي غير المنزوعين، إذ يموت الحيوان بذلك خنقاً، بخلاف ما إذا كانا منزوعين، فإنه يجوز الذبح بهما، لكنه يكره لما فيه من استعمال جزء الآدمي.
(وفي رواية: أن رجلاً أصاب أرنبين، فذبحهما بمروة) بفتح الميم (يعني الحجر) أي الأبيض البراق، وهو أصلب الحجارة (فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها).
(وفي رواية: أصاب رجل من بني سلمة أرنباً، فأخذ، فلم يجد سكيناً، فذبحها بحجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها). واعلم، أنه يحل أكل الأرنب عند العلماء كافة، إلا ما حكى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن أبي ليلى، أنهما كرها أكلها.
أما حجتنا، ما رواه الإمام الأعظم والهمام الأقدم، وقد روى الجماعة عن أنس، قال: أنفخنا أرنباً بمر الظهران فسعى القوم عليها، فغلبوا، فأدركتها، فأتيت بها أبا طلحة، فذبحها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها، فقبله.
وفي البخاري، في كتاب الهبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وأكل منه.
وروى أحمد والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان، عن محمد بن صفوان، أنه صاد أرنبين، فذبحهما بمروتين وأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بأكلها.
واحتج ابن أبي ليلى، ومن وافقه بما روى الترمذي عن حبان بن جزء، عن أخيه خزيمة بن جزء، قال: قلت: يا رسول الله، ما تقول في الأرنب؟ قال: لا آكله، ولا أُحَرِّمُه، قال: قلت: ولم يا رسول الله؟ قال: فإني اجتنبت لأنها تدمى، أي تحيض، وغاية هذا الحديث استقذارها، مع جواز أكلها، وليس ما يدل على تحريمها، ولا تكريمها، ولا كراهتها.
- إذا تعارضتا تساقطتا
وبه (عن الهيثم، عن رجل، عن جابر بن عبد الله) أي الأنصاري، قال:
(اختصم رجلان في ناقة، كل واحد منهما يقيم البينة) أي الشهود (أنها ناقة نتجتها) أي أولدها (في ملكه، قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم للذي في يده) ترجيحاً لجانبه.
(وفي رواية: أن الرجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناقة) أي لأجل ناقة (تخاصما البينة أنه له فأقام هذا) أي أحدهما (أنه نتجتها، وأقام هذا) أي الآخر (بينة أنه نتجتها، فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي في يده) فإن البيِّنتين لما تعارضتا، تساقطتا، فرجح صاحب اليد، لأن الأصل فيه أنها ملكه.
- حج الحائض
وبه: (عن الهيثم، عن رجل، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قدمت) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (عام الفتح وهي متمتعة) أي ناوية للعمرة، في أشهر الحج (وهي حائض) أي فلم تقدر أن تطوف لعمرتها (فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أي برفض العمرة بالشروع في إحرام الحج (فرفضت عمرتها) أي فتركت أعمالها، فاستقبلت بأعمال الحج، وذبحت لرفضها كما سيأتي في الحديث الذي يليه.
وفي المواهب اللدنية، لما نزل صلى الله عليه وسلم بسرف خرج إلى أصحابه، فقال: من لم يكن معه هدي، وأحب أن يجعلها عمرة، فليفعل - ومن كان معه هدي فلا. وحاضت عائشة فخرج عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا هنتاه؟ قالت: سمعت قولك لأصحابك، فطمثت العمرة، قال: وما شأنك؟ قالت: لا أصلي، قال: فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجك، فعسى الله أن يرزقكيها، أي العمرة، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
وفي رواية قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذكر إلَاّ الحج حين جئنا بسرف، فطمثت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: والله إني لوددت أني لم أكن خرجت العام، فقال: مالك، لعلك نفثت، أي حضت، قلت: نعم، قال: هذا شيء كتبه الله على ابن آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري، "الحديث".
وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة، كما اختلف، هل كانت متمتعة، أم مفردة؟ أم قارنة؟ وإذا كانت متمتعة، فقيل إنها أولاً أحرمت بالحج، هو ظاهر الحديث، لكن في حجة الوداع من المغازي عند البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة، وزاد أحمد من وجه آخر، ولم أسق هدياً، وهذا يقوي قول الكوفيين أن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام لها:"دعي عمرتك".
وفي رواية: ارفضي عمرتك لمسلم، أمسكي، أي عن عمرتك.
وفي رواية: اقضي عمرتك، وقد استدل الكوفيون بذلك على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة، فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردة، كما صنعت عائشة.
وبه: (عن الهيثم، عن رجل، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح لرفضها العمرة بقرة) وهذا زيادة خير منها، وإلا كان ذبح الشاة تكفيها ..
- البول في الماء يوجب الرسومة
وبه: (عن الهيثم الصواف) أي بياع الصوف، وهو لا ينافي كونه ابن حبيب الصيرفي (عن محمد بن سيرين) هو من أجلاء التابعين (عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال) أي فضلاً أن يغاط، أو المراد بالبول، المعنى الأعم، والمراد، أن لا يلقى النجس (في الماء الدائم) أي الراكد الواقف (ثم يغتسل) بالنصب (منه أو يتوضأ) وهو عندنا محمول على ما إذا لم يكن عشراً في عشر، وعند غيرنا على ما عدا القلتين، وهذا إذا كان النهي تحريماً، ولا يبعد أن يكون تنزيهاً، فإنه ولو كان الماء كثيراً فإنه يوجب الوسوسة في الطهارة.
وقد روى أبو داود عن مكحول مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل في مستحمه.
والحديث الذي رواه الإمام أخرجه مسلم عن جابر بلفظه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد.
ورواه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه.
وفي رواية لمسلم قال: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب، قالوا: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناول تناولاً.
- جواز القراءة في الجهر
وبه: (عن الهيثم، عن رجل، عن عبد الله بن مسعود، أن أبا بكر وعمر
رضي الله تعالى عنهما سمرا) بفتح الميم، أي سمرا في أول الليل، وتحدثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذات ليلة) أي ليلة من ليالي (قال) أي ابن مسعود، أو الرجل عنه (فخرجا) أي الشيخان (وخرج) أي النبي صلى الله عليه وسلم (معهما، فمروا) أي ثلاثتهم (بابن مسعود) فيه وضع الظاهر موضع الضمر، على أنه نوع التفات منه على الأول، فتأمل، (وهو يقرأ)، أي والحال، أن ابن مسعود يقرأ القرآن في صلاة أو غيرها بصوت حسن، وأداء مستحسن.
وفي رواية ابن عبد الله: وافتتح بالنساء (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره) أي أعجبه (أن يقرأ القرآن كما أنزل) أي مرفَّلاً طرياً معدلاً، لا تغييراً ولا تبديلاً (فليقرأ) أي القرآن (على قراءة ابن أم عبد) يعني ابن مسعود، وفيه منقبة عظيمة في حضرة جماعة جسيمة، (وجعل) أي وشرع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (لهُ) أي لابن مسعود وهو غائب عنه (سل) أي اطلب (ما شئت تعطيه) بصيغة المجهول (فأتاه أبو بكر وعمر) أي بعد مفارقتهما صلى الله عليه وسلم، إما في آخر الليل، وإما في أول النهار (يبشرانه) أي يريدان بإتيانهما إليه أن يبشراه بما صدر عن صدر الأنبياء من مدح قراءته، وأمره بالدعاء وإجابته (فسبق أبو بكر أو عمر إليه) أي في النزول عليه، وفي الكلام لديه (فبشره) أي إجمالاً (وأخبره) أي تفصيلاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالدعاء، فقال) أي ابن مسعود (في دعائه: اللهم إني أسألك إيماناً دائماً) أي مستمراً مستقراً (لا يزول) تفسير لما قبله، أو تأكيد له، وفي رواية: إيماناً لا يرتد، وهذا يدل على كمال خوفه من سوء الخاتمة. (ونعيماً لا تنفذ) بفتح الفاء، فدال المهملة، أي لا يفنى ولا يحول، وهذا يشير إلى كمال زهده في الدنيا، ورغبته في نعيم العقبى (ومرافقة نبيك في جنة الخلد)
وهذا يشير إلى علو همته، ورفعة مرتبته، حيث أراد قرب المولى بوسيلة المصطفى.
وفي رواية أبي عبد الله، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن حزيم، وابن أبي داود، وابن الأنباري معاً، في المصحف وعبد الرزاق، وابن حبان، والدارقطني في الأفراد، وابن عساكر، وابن نعيم في الحلية، وأبي يعلى عن قيس ابن مروان أنه أتى عمر، فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة وتركت بها رجلاً يملي المصاحف من ظهر قلبه، فغضب، وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شفتي الرجل، فقال: ومن هو ويحك؟ قلت: عبد الله بن مسعود، فقال: فما زال يطفأ ويسر عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: ويحك، والله ما أعلم بقي من الناس أحد هو أعلم بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في الأمر من أمر المسلمين، وأنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلي في المسجد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع قراءته، فلما كدنا أن نعرفه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأ على قراءة ابن أم عبد" ثم جلس الرجل يدعو فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"سل تعط، قلت: والله لأغدون إليه فلأبشرنه، فغدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه، فبشره والله ما سابقته إلى خير إلا سبقني إليه".
ورواه ابن عساكر، عن كميل، قال: قال عمر بن الخطاب: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، ومن شاء الله، فمررنا بعبد الله بن مسعود وهو يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا الذي يقرأ؟ فقيل له: هذا عبد الله بن أم عبد، فقال: إن عبد الله يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فأثنى عبد الله على ربه وحمده كأحسن ما أثنى عبد على ربه، ثم سأله، فاحتجى المسألة، وسأله كأحسن مسألة سألها عبد ربه، ثم قال: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ويقيناً لا ينفد، ومرافقة محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين في جنات الخلد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سل تعطه، فانطلقت لأبشره، فوجدت أبا بكر قد سبقني، وكان سباقاً بالخير.
قال ابن عساكر: وهذا غريب، والمحفوظ عن عمر ما تقدم أول، واشتهر
كذا في الجامع الكبير، ولا مانع من الجمع بالحمل على تعدد القضاء، والله سبحانه أعلم.
(وفي رواية عن الهيثم، عن عبد الله) أي ابن مسعود، ولم يذكر رجلاً، فيحتمل أن الحديث موصُولاً من وجه، مقطوعاً من وجه آخر، فتدبر، وعلى كل تقدير، فهو معمول عندنا، (أن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما سمرا عند النبي صلى الله عليه وسلم أي في ليلة المشاورة في قضية (فخرجا، وخرج معهما، فمروا بابن مسعود) أي في المسجد (وهو يقرأ القرآن في الصلاة) أي صلاة التهجد (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَ أَنْ يَقْرأَ الْقُرآنَ غَضّاً" أي طرياً (كما أنزل) أي من غير تغير من لحن وغيره (فليقرأ على قراءة ابن أم عبد الله) يعني ابن مسعود (وجعل) أي النبي صلى الله عليه وسلم عند دعاء ابن مسعود بعد فراغ قراءته (يقول) أي في حقه (سل تُعْطه) شهادة له أن قراءته مقبولة، ودعوته مستجابة (وذكر) أي الهيثم (تمام الأول) أي بقية الحديث السابق كما تقدم والله أعلم.
- أكل الأرنب
وبه (عن الهيثم، عن موسى بن طَلْحَة) يكنى بأبي عيسى التيمي، القرشي، سمع جماعة من الصحابة، مات سنة أربع مائة (عن أبي الحوكية) بفتح مهملة، وسكون واو وكسر قاف، وتحتية مشددة، أحد أجلاء التابعين (عن عمر
رضي الله عنه، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي جيء (بأرنب) بفتح الهمزة والنون، وهو حيوان يشبه العناق، قصير اليدين، طويل الرجلين، وهو اسم جنس، يقع على الذكر والأنثى، فأمر أصحابه، فأكلوا، فيه تنبيه على أنه أتي مطبوخاً، وليس فيه ما يدل صريحاً على أنه عليه الصلاة والسلام ما أكله، لكن رواه أبو دواد في سننه من حديث خالد بن الحويرث، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأرنب: إنها تحيض، وخالد بن الحويرث قال ابن مسعود: لا أعرفه.
وذكره ابن حبان في الثقات، ولا يعرف له إلا هذا الحديث.
ويؤيده أنه روى البيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء له بأرنب، فلم يأكلها، ولم ينه عنها، وزعم أنها تحيض، انتهى، والظاهر أن ضمير زعم، لابن عمر، فتدبر، ولو صح امتناعه عليه الصلاة والسلام عن أكله بمقتضى طبعه فحيث أمر أصحابه بأكله دل على أنه حلال في أصله (وقال للذي جاء بها: ما لك) أَيْ أَيُّ مانع لك حال كونك (لاتأكل منها) بمقتضى الطبع، أو لمانع من الشرع (قال: إني صائم، قال: وما صومك) أي فرض بقضاء، أو نذر، أو غيرهما (قال: تطوع) أي هو نافلة، وكان في غير الأيام الفاضلة، (قال: فهذا) أي اخترت (البيض) أي أيامها، باعتبار لياليها المقمرة، من الثلاث عشر والأربع عشر والخمسة عشر، وفيه ترغيب الأفضل والأكمل فتامل.
واعلم أن أكل الأرنب يحل عند العلماء كافة، إلا ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن أبي ليلى، أنهما كرها أكلها، وحجة الجمهور ما رواه الجماعة، عن أنس، قال: أنفخنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم عليها فغلبوا،
فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة، فذبحها، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها، فقبله، زاد البخاري في كتاب الهبة، وأكل منه، ولفظ أبي داود: وكنت غلاماً خزوراً، بتشديد الزاء وتخفيفها، أي مرهقاً، فصدت أرنباً فشويتها، فبعث معي أبو طلحة بعجزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سئل صلى الله عليه وسلم فقال: هي حلال.
وروى أحمد والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان عن محمد بن صفوان، أنه صاد أرنبين، فذبحهما بمروتين وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بأكلها.
واحتج ابن أبي ليلى، ومن وافقه، بما رواه الترمذي عن حبان بن جزء، عن أخيه خزيمة بن جزء، قال: قلت يا رسول الله، ما تقول في الأرنب؟ قال: لا آكله ولا أحرمه. قال: قلت: ولم يا رسول الله؟ قال: إني أحسب أنها تدمى، قال: قلت: يا رسول الله، ما تقول في الضبع، قال: ومن يأكل الضبع؟ قال الترمذي: وإسناده ليس بالقوي، ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة.
وفي بعض الروايات، وسألته عن الذئب؟ فقال: لا يأكل الذئب أحد فيه خير، وليس في شيء من الأحاديث، وإن ضعفت، ما يدل على تحريم الأرنب، وغاية هذين الخبرين، استقذارها مع جواز أكلها.
وبه (عن الهيثم، عن عامر) أي شراحيل (الشعبي) بفتح فسكون، وهو الكوفي، أحد الأعلام ولد في خلافة عمر، روى عن خلق كثير، وعنه أمم، قال: أدركت خمسمائة من الصحابة، وقال: ما كتبت سواداً في البيضاء قط، ولا حدثت بحديث إلا حفظته، قال ابن عيينة: كان ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه.
وقال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة،
والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام، مات سنة أربع ومائة، وله اثنتان وثمان سنة.
(قال) أي الهيثم (كان) أي الشعبي (يحدث عن المغازي) أي غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بها من سراياه، وما يجري مجراه (وابن عمر يسمعه قال) أي عمر (حين سمع حديثه) أي حديث الشعبي في المغازي (إنه) أي الشعبي، أو الشأن (يحدث) أي الشعبي (كأنه شهد القوم) أي حضر مع الذين كانوا في تلك الغزوات وشاهدوا تلك الحركات والسكنات.
وبه (عن الهيثم، عن أم ثور، إحدى التابعيات، عن ابن عباس، أنه قال: لا بأس أن تصل المرأة شعرها بالصوف) أي ونحوه من الحرير، والكتان وأمثالهما (إنما نهى) أي وصلها إياه (بالشعر فإنه من باب الغش)، وروى من غشنا فليس منا.
(وفي رواية) أي لها عنه (لا بأس بالوصل) أي بوصل الشعر (إذا كان) أي الموصول به (شعر بالرأس) أي بشعره، فعموم حديث: لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، على ما رواه أحمد، وأصحاب الكتب الستة عن ابن عمر، تكون مخصوصاً بهذا.
- أكبر بناته صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقيل رقية رضي الله عنها.
وبه (عن الهيثم عن) موسى (ابن كثير) أحد أكابر التابعين (أن عمر مر بعثمان رضي الله عنهما وهو) أي والحال أن عثمان (حزين) أي آثار الحزن ظاهر عليه (قال: ما يحزنك)؟ بضم الياء، فكسر الزاي، وبفتح الياء، وضم الزاي، أي شيء يوقعك في الحزن (قال: ألا أحزن) بفتح الهمزة والزاء، وهو لازم، أي لا أهتم (وقد انقطع الصهر) أي نعت التصاهر (بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بحسب الظاهر (وذلك) أي القول (حدثان) بفتح الحاء والدال، ونصب النون، أي أوائل (ماتت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي رقية ولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكر الزبير بن بكار، وغيره، أنها أكبر بناته عليه الصلاة والسلام، وصححه الجرجاني، والأصح الذي عليه الأكثرون، أن زينب أكبرهن (وكانت) أي رقية (تحته) أي في عصمة نكاح عثمان، فتوفيت، والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر.
وعن ابن عباس، لما أخبرني النبي عليه الصلاة والسلام برقية، قال: الحمد لله، دفن البنات من المكرمات، أخرجه الدولاني. (فقال له عمر: أزوجك حفصة ابنتي، فقال): أي عثمان (له حتى أستأمر) أي أستأذن (رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه) أي جاء عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (فقال له) أي لعمر (رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك أن أدلك على صهر هو خير لك من عثمان، وأدل عثمان على صهر هو خير له منك، فقال):
أي عمر (نعم، فقال: "زوجني حفصة، وأزوج عثمان ابنتي) أي أم كلثوم فقال: (نعم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كلا الأمرين.
وفي رواية أخرجها الخجندي، أنه لما توفيت رقية، خطب عثمان ابنة عمر، فرده، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمر، أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك، قال: نعم يا نبي الله، فقال: تزوجني ابنتك، وأزوج عثمان ابنتي، انتهى.
ولا يبعد أن يجمع بين الروايتين، أن عمر رده أولاً، ثم عرض عليه ثانياً، وكان تزويج عثمان بأم كلثوم سنة ثلاث من الهجرة، وماتت سنة تسع منها، وبهما لقب عثمان بذي النورين.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام، قال له: والذي نفسي بيده، لو أن عندي مائة بنت، يمتن واحدة بعد واحدة، لزوجتك أخرى، هذا جبرائيل أخبرني أن الله يأمرني أن أزوجكها. رواه الفضائلي.
- أداء النافلة بالجماعة
وبه (عن الهيثم، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى برجل) أي إماماً له (فصلى) أي الرجل (خلفه) أي وراءه، ويحتمل أنه وقف عن يمينه
متأخراً، فتصرف عليه، وصلى وراءه (وامرأة) أي وصلت امرأة (خلف ذلك) أي الرجل، مراعاة لحق الصف، ولئلا تبطل صلاة الرجل، لو حاذته في صلاة مشتركة أداء، وتحريمه بشروط المذكورة في كتب الفقه (صلاتهم جماعة) جملة حالية، أو استئنافية.
والظاهر، أن هذه الصلاة، كانت نافلة، فدل على جوازها إذا لم تكن علانية، وهذا وقد أجمعوا على أن أقل الجمع الذي ينعقد به صلاة الجماعة في الفرض والنفل، غير الجمعة اثنان، إمام ومأموم قائم عن يمينه، إلا أن عند أحمد، إذا كان المأموم واحداً، ووقف عن يسار الإمام، فإنه صلاته تبطل.
ولعله استدل بما وقع لابن عباس في اقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة التهجد عند بيتوته في بيت ميمونة خالته أم المؤمنين، وقد وقف عن يساره عليه الصلاة والسلام، فأداره إلى يمينه الكريمة. والحديث رواه الشيخان وغيرهما.
- حديث القدر
وبه (عن الهيثم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجيء قوم يقولون: لا قدر) أي تقدير الله في الأشياء قبل خلقها، وقد قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الأَرْضِ وِلَا في أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتاَب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} (1).
(1) الحديد 22.
- الزندقة هو الخروج عن الشريعة باطناً مع أنه يؤيدها ظاهراً
وهذا دليل صريح على أن القدرية المذمومة هم النافون للقدر، لا المثبتون له (ثم يخرجون منه) أي من هذا الابتداع الناشىء عن ترك الاتباع (إلى الزندقة) وهي الخروج عن الشريعة، باطناً، مع انقيادها ظاهراً. (فإذا لقيتموهم فلا تسلموا عليهم) والظاهر أنهم إن سلموا علينا، لا يستحقوا الرد زجراً عليهم. فإن المبتدعة شر من الفسقة، وكان فرض الكفاية يسقط لأعذار شرعية كما يدل عليه قوله:"وإن مرضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشيعوهم" ومن جملة التشييع، الصلاة عليهم، وحضور دفنهم (فإنهم شيعة الدجال) أي أشياعه، وأتباعه، أو مقدمته (ومجوس هذه الأمة) أي أمة الدعوة، أو الإجابة، بناء على خلاف في كفرهم.
وإنما شبهوا بالمجوس، لأن المجوس يقول بإلهين، وهم يقولون: بأن أفعال العباد مستقلة لهم، فكأنهم يقولون بتعدد الآلهة، لأن الله سبحانه وتعالى، وهو المنفرد، بأنه فعال لما يريد، ولا خالق سواه، هل من خالق غير الله (حق على الله) أي ثابت في حكمه أو واجب عليه بمقتضى أخباره، إذ لا خلف في وعده ووعيده (أن يلحقهم) أي القدرية (بهم) أي بالمجوس (في النار) ولو لم يكونوا مخلدين فيها كما يشير إليه الإلحاق، فإن النار أعدت للكافرين بالأصالة، وللفاجرين بالتبعية.
والأحاديث في ذم القدرية من المعتزلة وغيرهم من أهل البدعة، مشهورة، وفي كتب الحديث مسطورة.
- عائشة رضي الله تعالى عنها مبشرة بالجنة
وبه (عن الهيثم، عن عكرمة) وهو مولى ابن عباس، وسبق ذكره (عن ابن عباس أنه استأذن على عائشة) أي ليعودها في مرضها (فأرسلت إليه) أي اعتذرت (إني أجد غماً) أي هماً كثيراً (وكرباً) أي قبضاً كبيراً (فانصرف) أي ارجع، فإني لم أرد أن أقابلك في هذا الحال، وأكالمك على هذا المنوال (فقال للرسول: ما أنا بالذي ينصرف حتى أدخل) قصد أن يفرج كربها ويزيل غمها بما يلائم مقامها (فرجع الرسول، فأخبرها بذلك) أي بما صدر عن ابن عباس هنالك (فأذنت له) أي بالدخول (فدخل عليها) من وراء حجابها (فقالت: إني أجد غماً وكرباً) أي شديداً (وأنا مشفقة) أي خائفة (مما) أي عن حال (أخاف) أي أعلم وأظن (أن أهجم عليه) أي من الموت على ما صدر لي من بعض النقصان أو الفوت (فقال لها ابن عباس: أبشري، فوالله لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عائشة في الجنة) ولا شك أن تكوني معه عليه الصلاة والسلام في الدرجة العالية (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على الله أن يزوجه جمرة من جمر جهنم) فيه إشارة إلى بشارة عدم سبق العذاب لها على دخول الجنة لها (فقالت: فرجت عني) أي أزلت عني غمي وكربي (فرج الله عنك) أي كل كرب وغم، أو عند الموت، جزاءً وفاقاً، وقد ورد أحاديث كثيرة في
فضلها، منها: قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة، رواه الحاكم في مسنده.
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "إني ليهوِّن عَليَّ الموتَ أني رأيتك زوجتي في الجنة"، رواه الطبراني في الكبير.
- أداء الصلاة مع الجماعة بعد أدائها مفردة
وبه (عن الهيثم، عن جابر بن الأسود، أو الأسود بن جابر، عن أبيه) أي جابر، وهو إذا أطلق، فالمراد به جابر بن عبد الله الأنصاري، والله سبحانه وتعالى أعلم، (أن رجلين) أي من أهل المدينة (صليا الظهر في بيوتهما) أي منفردين (على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أي في زمانه عليه الصلاة والسلام (وهما يريان) بضم أوله، أي يظنان (أن الناس قد صلوا) أي في المسجد جماعة (ثم أتيا في المسجد) أي بعد فراغ صلاتهما (فإذا) للمفاجأة (رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة) أي في أولها أو آخرها (فقعدا ناحية من المسجد، وهما يريان) أن يتوهمان الصلاة أي إعادتها والاقتداء بها نافلة، لا تحل لهما، حيث أنهما قد صليا (فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورآهما) أي على حالهما المشابه بحال المنافقين، أو الكافرين، (أرسل إليهما) أي بطلبهما (فجيء بهما وفرائصهما ترتعد) جمع فريصة، وهي أوداج العنق واللحمة بين الجنب والكتف، لا تزال ترتعد (مخافة أن يكون قد حدث) أي نزل (في أمرهما شيء) أي من الوحي الجلي أو الخفي، ويكون موجباً لغضبه عليه الصلاة
والسلام عليهما (فسألهما) أي عن وجه امتناع اقتدائهما (فأخبراه الخبر، فقال: إِذَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ فَصَلِّيا مع الناس، واجعلا الأولى هي الفريضة) أي والثانية نافلة.
وفيه إشارة إلى أنه إنما يصلي نافلة، إذا لم يكن الوقت مكروهاً لأدائها، فلا يصلي بعد الصبح، ولا بعد العصر، ولا بعد المغرب، لامتناع ثلاث ركعات نفلاً، ولعدم اقتصاره على ركعتين، وازدياد على ثلاث، للزوم مخالفة الإمام.
وعن ابن عمر قال: إن كنت قد صليت في أهلك، ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام، فصل معه غير صلاة الصبح، وصلاة المغرب، فإنهما لا يصليان مرتين، رواه عبد الرزاق، والعصر في حكم الصبح.
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: إذا أعاد المغرب، يشفع بركعة، رواه ابن أبي شيبة، وهو محمول على فرض وقوعه، فإنه أولى من الاقتصار على الثلاثة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي الحديث، دليل على أن الجماعة ليست شرطاً لصحة الصلاة، كما قاله أحمد، وإلا كانت الثانية فرضاً.
وفيه تنبيه، على أن الإعادة ممنوعة، وأن القول بأن الثانية هي الفريضة، ضعيف. وكذا القول، بأنه مبهم مفوض إلى الله سبحانه وتعالى، إذ لا بد أن يكون الصلاة متعينة لتكون الأحكام عليها متفرعة.
(قيل: قد روى هذا الحديث جماعة) أي من الرواة (عن أبي حنيفة، عن
الهيثم، فلم يجاوزوا الهيثم) أي في إسنادهم (فقالوا: عن الهيثم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الحديث مرسلاً أو مقطوعاً، وهو حجة عندنا.
وأصل الحديث، ورد عن يزيد بن الأسود، على ما رواه أبو داود والحاكم، والبيهقي، بلفظ:"إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام، ولم يصل، فليصل معه، فإنها نافلة".
وفي رواية لأحمد، والترمذي، والنسائي، والبيهقي، عنه أيضاً بلفظ:"إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد الجماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة".
وفي رواية للبيهقي عن ابن عمر، ولفظه: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما الإمام فصليا معه، فيكون لكما نافلة، والتي في رحالكما فريضة.
وعن ابن عمر أنه سئل عن الرجل يصلي الظهر في بيته، ثم يأتي المسجد والناس يصلون، فيصلي معهم، فأيتهما صلاته؟ قال: الأولى منهما صلاته، وعن علي في الذي يصلي وحده، ثم يصلي في الجماعة، قال: أيتهما صلاته: قال: الأولى منهما صلاته.
وعن علي في الذي يصلي وحده، ثم يصلي في الجماعة، قال: صلاته الأولى، رواه ابن أبي شيبة. وأَمَّا مَا في أبي داود والنسائي، عن سليمان بن يسار، قال: أتيت ابن عمر على البلاط، وهم يصلون، قلت: ألا تصلي معهم؟ قال: قد صليت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لَا تُصَلُّوا صَلَاةً في يوم مرتين" فمحمول على أنه قد صلى تلك الصلاة جماعة، لما روى مالك في الموطأ، ثنا نافع، أن رجلاً سأل ابن عمر، يسأل، فقال: إني أصلي في بيتي، ثم أدركت
الصلاة مع الإمام، أفأصلي معه، فقال ابن عمر: نعم، فقال أيتهما أجعل صلاتي، فقال ابن عمر: ليس ذلك إليك؛ إنما ذلك إلى الله يجعل أيتهما شاء، وقال مالك: هذا من ابن عمر دليل على أن الذي روى عن سليمان بن يسار عنه، إنما أراد كلتيهما على وجه الفرض، إذا صلى في جماعة، فلا يعيد.
قال ابن الهمام: وفيه نفي لقول الشافعية بإباحة الإعادة مطلقاً، وإن صلاها في جماعة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
- إذا دخل العشر الأواخر شد صلى الله عليه وسلم الميزر
وبه: (عن الهيثم، عن رجل، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل شهر رمضان نام) أي أحياناً، في أول الليل (وقام) أي للصلاة أحياناً، أو نام أول الليل وقام آخره، وهذه عادته المستمرة (وإذا دخل العشر الأواخر) وهو وقت الاعتكاف (شد الميزر) بكسر الميم، أي ربط الإزار ربطاً شديداً، أو كناية عن ترك الجماع، أو عن كثرة العبادة كما يعبر عنها بالتشمير أيضاً، ويشير إليه قوله (وأحيا الليل) أي غالبه، أو كله، والظاهر هو الأول، إذ لم يرو صريحاً أنه عليه الصلاة والسلام ترك المنام في الليل جميعه.
والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، عنها، بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان، أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد، وشد الميزر.
وروى في حديث مسلم عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره.
- حديث الإمارة
وبه (عن الهيثم، عن الحسن) أي البصري، فإنه المراد إذا أطلق عند المحدثين (عن أبي ذر) سبق ذكره (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر الإِمرَة) بكسر الهمزة: الإمارة والحكومة (أمانة) أي عظيم، حيث يتعلق بها حقوق الله وحقوق عباده (فإتيانه فيها خير) ولعل هذا هو المعنى لقوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} (1) الآية. ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: "كُلُّكُمْ رَاعِ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" نعم، يتفاوت مراتب الرعاء (وهي) أي قبول هذه الأمانة الكبرى (يوم القيامة) وهي موقف الحساب والعذاب (خزي) أي فضيحة (وندامة) أي ليس فيها منفعة (إلا من أخذها من حقها) أي على وجه استحقاقها، علماً وحلماً، لا تسلطاً وظلماً (وأدَّى الذي عليه) أي من الواجب في حكومته عن العدالة (وأنَّى ذلك) استفهام استبعاد، أي يستبعد وجود ذلك غالباً فيها هنالك، فعلى العاقل أن لا يرمي نفسه في المهالك.
(وفي رواية عن أبي حنيفة، عن أبي عَسَّال) بفتح العين، وتشديد السين
(1) الأحزاب 72.
(عن الحسن، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لي: الإِمرةُ أمانةٌ، وهي يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها من حقها، وأدى الذي عليه، وأنَّى ذلك يا أبا ذر).
والحديث بعينه، إلا باختلاف تقديم يا أبا ذر، وتأخره، وهذا يدل على كمال ضبط الإمام وحفظه في اختلاف المتن، وتعدد الإسناد، فعلم أنه خير أمة، عالم واحد في إيراد المراد.
- المستحب في اللحية، قدر القبضة
وبه (عن الهيثم، عن رجل، أن أبا قحافة) بضم قاف، وخفة مهملة، ثم فاء، فهاء، وهو عثمان بن عامر، والد الصديق الأكبر القرشي التيمي الملكي، أسلم يوم الفتح، وعاش إلى خلافة عمر، ومات سنة أربع عشرة، وله تسع وتسعون سنة، روى عنه الصديق وأسماء بنت أبي بكر (أتى النبي صلى الله عليه وسلم ولحيته قد انتشرت) أي باعتبار كثرة شعرها (قال) أي الراوي (فقال) يعني النبي صلى الله عليه وسلم (لو أخذتم) أي لو أخذ بعضكم أيها الصحابة، لكان حسناً، ولو للتمني، ولا يحتاج إلى جواب (وأشار) أي النبي صلى الله عليه وسلم (بيده إلى نواحي لحيته) فالإشارة قامت مقام العبارة.
فالتقدير: لو أخذتم نواحي لحيته طولاً وعرضاً، وتركتم قدر المستحب، وهو مقدار القبضة، وهي الحد المتوسط بين الطرفين المذمومين من إرسالهما مطلقاً، ومن حلقها
وقصها على وجه استئصالها، وفي حديث الترمذي، عن ابن عمر، أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ من لحيته، من عرضها وطولها.
- من مات يوم الجمعة وُقِيَ عذاب القبر
وبه (عن الهيثم، عن الحسن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ يوم الجمعة) أي مؤمناً، (وُقِيَ) بصيغة المجهول، أي حفظ (عذاب القبر) أي مطلقاً، أو شدته، أو بخصوصه، أو كل يوم جمعة.
والحديث رواه ابن ماجه، عن عكرمة بن خالد المخزومي، قال: مَنْ مَاتَ
يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، أو ليلة القدر، وختم بخاتم الإيمان، وقي عذاب القبر.
وأخرجه الترمذي، والطبراني، وأبو نعيم، عن عبد الله مرفوعاً: مَنْ مَاتَ يوم الجُمُعَةِ وُقِيَ من فتنة القبر.
ورواه أبو نعيم. في الحلم، وعن جابر بلفظ: مَنْ مَاتَ يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة أخر من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء.
ووقع في بعض الروايات، من مات يوم الجمعة كتب له أجر شهيد، ووقي من فتنة القبر.
وفي رواية لأحمد والترمذي عن عائشة مرفوعاً، ما من مسلم مات يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة، إلا وقاه الله تعالى فتنة القبر.
- حديث الدخان
وبه (عن الهيثم، عن السبعي، عن مسروق، عن عبد لله) أي ابن مسعود، (قال: قد مضى الدخان والبطشة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنهما يأتيان في آخر الزمان.
اختلفوا في الدخان والبطشة المذكورين في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِين} (1) وقوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} (2) ففي البخاري، سأل محمد بن كثير عن سفيان بن منصور، والأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، وقال بينما رجل يحدث في كندة، فقال يجيء دخان يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام، ففزعنا، فأتيت ابن مسعود، وكان متكئاً، فنهض، فجلس، فقال من علم شيئاً فليقل، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم، لا أعلم، الله ورسوله أعلم فإن الله تعال قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفين} (3) وإن قريشاً أبطأوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف. فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة، والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فقرأ:{فَارتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخّانٍ مُبِينٍ} إلى قوله {عائدون} فتكشف عنهم عذاب الآخرة إذا
(1) الدخان 10.
(2)
الدخان 16.
(3)
سورة ص 86.
جاء، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الَبطْشَةَ الكُبْرى} يعني يوم بدر.
وقال البغوي: وهذا قول ابن مسعود، وأكثر العلماء، وقال الحسن {يوم نبطش البطشة الكبرى} ، يوم القيامة، وروى عكرمة ذلك عن ابن عباس، قال: يوم الدخان يجيء قبل قيام الساعة، ولم يأت بعد، فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين، ويقترن المؤمن كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار، وهو قول ابن عباس وابن عمر، والحسن.
وفي البخاري، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول آيات الدخان، ونزول عيسى بن مريم، ونار تخرج من قعر عدن اليمن تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم حيث قالوا، قال حذيفة: يا رسول الله، وما الدخان، فتلا هذه الآية {فَارْتَقِب يَوْمَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ} تملأ ما بين المشرق والمغرب، تمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن، فيصيبه منه الزكام، وأما الكافر كهيئة السكران، يخرج من منخريه وأذنيه، ودبره، ولا يخفى أن قول ابن مسعود أصبح في تفسير الآية؛ إذ قوله تعالى:{إِنَّا كَاشِفُوا العَذَابَ قَليلاً إِنَّكُمْ عَائِدُون} (1) كالتصريح بمقصوده، فإنه لا يتصور كشف عذاب الآخرة لا قليلاً ولا كثيراً، وكذا عودهم إلى شدة الكفر غير متصور حينئذ. فتعيَّن أن يحمل على عذاب الدنيا، وأنهم عائدون في كفرهم نقضاً لعهدهم.
ويؤيده أيضاً قوله: {يَومَ نَبْطُشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنَّا منتقمون} إنه يوم بدر، ولا يبعد حمل الآية على المعنى الأعم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
- وهذه الكذبة: ربما إنها يقال ليست بمذمة من وجه
وبه (عن الهيثم، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله قال: ما كذبت
(1) الدخان 15.
منذ أسلمت، إلا واحدة) أي مرة أو كذبة واحدة، ثم بينها بقوله (كنت أرحِّل) بتشديد الحاء المهملة، أي أصنع رحل الدابة، وهي للبعير بمنزلة السرج للفرس.
وفي القاموس: رحل البعير كمنع حُطَّ عليه الرحل (لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى) أي جاء (المدينة رحال) بتشديد الحاء المهملة، أي صانع الرحل المشهور في صنعته العلم بطريقته (من الطائف) وهو موضع معروف من الحجاز (فقال) أي مشيراً إليَّ أو مستشيراً عليَّ (أي الراحلة) أي، أيُّ صاحبة الرحل، وإلا فقد يطلق الراحلة على الناقة الجيدة، مع قطع النظر عن رحلها، كما ورد الناس، كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (أحبُّ إلى رسول الله) أي أعجب وأحسن لديه (قلت: الطائفية المكية) ومآلهما متحد في الكيفية (قال) أي ابن مسعود (كان) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يكرهها) وإنما كان يحب المدينة، نظراً إلى حب أهلها في مقام رحلها (فلما رحل) أي الناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أتى بها) أي الراحلة (فلما رآها على غير حالها المعتاد في رحالها، قال: "من رحلنا هذه الراحلة") استفهام إنكار وتعجب (قال:) أي أحد من الحاضرين، او ابن مسعود على التفات (رحالك الذي أتيت به من الطائف) أي على زعم أن رحله مستحسن (فقال:"ردوا الراحلة لابن مسعود") أي ليرحل على معرفته بها، وهذه الكذبة ربما يقال إنها ليست مذمومة من وجه، إذ هي في سبيل الله ورضى رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث خاف أن يفوته هذه الخدمة المعظمة.
ونظير هذه القضية، أنه عليه الصلاة والسلام تزوج بامرأة، وهي من أجمل
النساء فخفن الأزواج المطهرات أن تغلبهن عليه، فقلن لها: إنه يحب إذا دنا منك أن تقولي: أعوذ بالله منك، فقالت ذلك، فقال:"قد عذت بمعاذ، وطلقها وسرحها إلى أهلها"، وكانت تسمي نفسها الشقية.
- احتياط مال اليتيم
وبه (عن الهيثم، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: لما نزلت: {إنَّ الذينَ يأكُلُون أَمْوَالَ اليَتامَى ظُلماً}) أي متعدياً ({إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهم}) أي ملئها ({نَاراً}) والتقدير يأكلون ناراً واقعة في بطونهم، كما هي كائنة في ظهورهم، وسُمي مال اليتيم ناراً باعتبار مآله إذا أكل ظلماً ({وسيصلون}) بصيغة المعروف، أو المجهول، أي وسيدخلون ({سَعيراً})(1) أي ناراً تُسَعَّرُ لَهُم وتتوقد عليهم (عدل) أي تأخر (من كان يتولى أموال اليتامى فلم يقربوها) أي خوفاً من وقوع الظلم الموجب لدخول النار (وشق عليهم حفظها) أي بلسان شق عليهم ضبطها بانفرادها (وخافوا الإثم على أنفسهم) أي في خلطها، أو مطلقاً (فنزلت الآية) أي الآتية، (فخفف عليهم) أي القضية، وهي قوله تعالى:({يسألونك}) أي يتساءلون الحال أو بيان المقال ({عن اليتامى}) أي أخذ أموالهم والاختلاط معهم في أحوالهم ({قُلْ إصلاحٌ لهم}) أي لأموالهم ({خير}) أي من تركها الموجب لضياع
(1) النساء 10.
أموالهم ({وإن تخالطوهم}) أي في حال الأكل، الآية ({فإخوانكم}) أي فهم إخوانكم حقيقة، أو حكماً، فإن المؤمنين أخوة، ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ({والله يعلم المفسد}) في أعماله ({من المصلح}) في أحواله، وفي هذا وعد ووعيد لمربي اليتيم وأمثاله ({ولو شاء الله لأَعْنَتَكُمْ})(1) أي لأوقعكم في العنت، وهو المشقة والمحنة، بعدم جواز المخالطة. ولكن ما شاءها، فلم يقع العنت، لأنه سبحانه قال:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَج} (2) وقال تعالى: {يُريدُ الله بكُم اليُسْرَ وَلَا يُريدُ بِكُمُ العُسْرَ} (3) وقال عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسَاً إِلَاّ وُسْعَهَا} (4) أي طاقتها ({إنَّ الله عَزِيْزٌ}) أي غالب على أمره ({حَكيم}) في تدبيره.
وفي تفسير البغوي، قال ابن عباس، وقتادة: "لما نزلت الآية: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلَاّ بالتي هِيَ أَحْسَنَ} (5) وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُون أَمْوَالَ اليتامى ظلْماً} (6) الآية تَحَرَّج المسلمون من أموال اليتامى تحرجاً شديداً، أي تحولوا اليتامى عن أموالهم، حتى كان يصنع لليتيم طعام، فيفضل منه شيء، فيتركونه، ولا يأكلونه حتى يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية:{قُلْ إِصْلَاحٌ لهم خَيْر} أي الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض خير وأعظم أجراً.
قال مجاهد: يوسع عليه من طعام نفسه، ولا يتوسع من طعام اليتيم {وإن تخالطوهم} ، هذا إباحة المخالطة، أي أن تشاركوهم في أموالهم وتخالطوهم بأموالكم في نفقاتكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم فتصيبوا من أموالهم عوضاً من قيامكم بأمورهم وتكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم {فإخوانكم} ، والإخوان يعين بعضهم بعضاً، ويصيب بعضهم من مال بعض على وجه الإصلاح، {والله يعلم
(1) البقرة 220.
(2)
الحج 48.
(3)
البقرة 185.
(4)
النساء 4.
(5)
الأنعام 152.
(6)
البقرة 286.
المفسد} لأموالهم {من المصلح} لها، يعني الذي يقصد بالمخالطة الخيانة، وإفساد مال اليتيم وآكله بغير حق من الذي يقصد الإصلاح.
وبه (عن الهيثم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحَّى) بتشديد الحاء (بكبشين) أي الحمل، او الأنثى، إذا طلعت رباعيته (أشعرين) أي شعرهما كثير (أملحين) الملحة بالضم، بياض يخالط سواداً (أحدهما عن نفسه) الشريفة، على خلاف في أن الأضحية كانت واجبة عليه، أو مستحبة مندوبة إليه، (والآخر) عمن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (من أمته) أي ممن لم يقدر على التضحية.
(وفي رواية نحوه) أي بمعناه أو بسنده (ولم يذكر جابر بن عبد الله) فيكون الحديث مرسلاً.
- إسناده عن قيس بن مسلم
- لبن البقر دواء
ذكر إسناده عن قيس بن مسلم أحد أجلاء التابعين.
أبو حنيفة: (عن قيس، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بألبان البَقَر") جمع اللبن، باعتبار أنواعها، أو مقابلة الجمع بالجمع. والبقر اسم جنس، فيذكر ويؤنث، ولذا قال (فإنها) أو الضمير راجع إلى المفردة المفهومة من الجنس أي، فإن البقر (ترم) بضم الراء وكسرها، وتشديد الميم، أي تأكل وترعى (من كل شجرة) أي فيكون كالمعجون المركب المعتدل الموافق بمزاج كل أحد، وفيه تنبيه على الاحتراز من لبن البقرة الجلالة (وفيها) أي في ألبانها (شفاء) أي من كل داء، أو في الجملة، وظاهر الإطلاق الأول، فهو المنقول.
ويؤيده رواية الحاكم، عن ابن مسعود، بلفظ: عليكم بألبان البقر، فإنها ترم من كل الشجر، وهو شفاء من كل داء.
- لم ينزل الله داء إلا أنزل معه الدواء
وبه (عن قيس، عن طارق، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم ينزل الله دَاءً إلَاّ أَنْزَلَ مَعَهُ الدَّوَاء") أي لذلك الداء "إلا الهرم" بفتحتين، وهو كبر السن وما يترتب عليه من ضعف القوى (فعليكم بألبان البقر، فإنها ترم من الشجر).
والحديث رواه الحاكم عن ابن مسعود، بلفظ: إن الله لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاء، الحديث.
(وفي رواية: إن الله لم يجعل في الأراضي داءً إِلَاّ جعل له دواء، إلا الهرم والسأم) أي الموت. (فعليكم بألبان البقر فإنها) أي ألبانها (تخلط من كل شجر).
(وفي رواية: ما أنزل الله من داء إلا أنزل معه دواء إلا السأم والهرم، فعليكم بألبان البقر، فإنها) أي ألبانها (تخلط من كل الشجر) أي من كل نوع من جنسها.
وروى ابن ماجه، عن أبي هريرة قال: ما أنزل الله داء إلا أنزل شفاء، وروى ابن السني، وأبو نعيم، والحاكم بسند صحيح، عن ابن مسعود: عليكم بألبان البقر فإنها دواء، وألبانها شفاء، وإياكم ولحومها، فإنها داء.
وفي رواية لابن السني، وأبي نعيم، عن صهيب بلفظ: عليكم بألبان البقر، فإنها شفاء، وسمنها دواء، ولحمها داء.
وفي رواية (إنَّ الله لم يَضَع في الأرض داءً، إلا وَضَعَ لَهُ شِفاءً، ودواءً، غَير السأم، فعليكم بألبان البقر، فإنها تخلط من كل الشجر).
وفي رواية للحاكم عن ابن سعيد: أن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا السأم، وهو الموت.
ورواه أحمد عن طارق بن شهاب، ولفظه: إن الله تعالى، لم يضع داء إلا وضع له شفاء، فعليكم
…
الحديث.
وفي رواية ابن عساكر، عن طارق بن شهاب، عليكم بألبان الإبل والبقر، فإنها تَرُمُّ الشجر كله، وهو دواء من كل داء.
- أفضل الحج العج والثج
وبه: (عن قيس، عن طارق، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الحج العج والثج)، بتشديد الجيم في الكل (فأما العج فالعجيج) أي رفع الصوت بالتلبية (وأما الثج، فثج البُدن) بفتحتين، وهي الإبل، وكذا البقر عندنا، والمعنى سيلان دمائها.
(قال بعضهم: فثج الدم) أي صبه وإراقته تقرباً إلى الله.
وفي رواية: وأما الثح، فنهر الهدي، وهو شامل الإبل والبقر والغنم، ثم الظاهر أن التفسير من ابن مسعود، ولا يبعد أن يكون مرفوعاً.
والحديث رواه الترمذي عن ابن عمر والبيهقي، عن أبي بكر، وأبي يعلى، عن ابن مسعود "أفضل الحج العج والثج".
- تعرض الأعمال يوم الخميس ويوم الجمعة
وبه (عن قيس، عن طارق، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ليلة جمعة إلا وينظر الله عز وجل") أي بنظر الرحمة (إلى خلقه ثلاث مرات) الظاهر أن مرة في الثلث الأول، ومرة في الثلث الأوسط، والأخرى في
الثلث الأخير (يغفر الله لمن لا يشرك به شيئاً) أي من الأشياء، ومن الإشراك، فيشمل الشرك الجلي والخفي، فإن الرياء والسمعة شرك خفي.
وروى ابن عساكر، عن أبي هريرة مرفوعاً، إن الأعمال تعرض يوم الخميس ويوم الجمعة فيغفر الله لكل عبد لا يشرك به شيئاً، إلا رجلين كانت بينهما شحناء. فإنه يقول أخروا هذين حتى يصطلحا.