المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ذكر إسناده عن القاسم بن عبد الرحمن - شرح مسند أبي حنيفة - جـ ١

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة [للإمام القاري]

- ‌[شرح المسند]

- ‌ عائشة أفضل من سائر النساء

- ‌ حديث الاستخارة

- ‌ استلام الحجر

- ‌ حديث بروع بنت واشق

- ‌ شرب النبيذ

- ‌ التعجب انفعال النفس

- ‌ اجتماع أبي حنيفة والأوزاعي:

- ‌ يجمع الله العلماء يوم القيامة

- ‌ صلاة السفر

- ‌ صلاة في الخمرة

- ‌ فضائل الإمام زفر

- ‌ لا نأخذ بالرأي ما دام أثر

- ‌ قول زفر

- ‌ نوم الجنب

- ‌ رفع القلم

- ‌ إن أولادكم من كسبكم

- ‌ قراءة في الوتر في ثلاث ركعاته

- ‌ مواقيت الإحرام

- ‌ تأكيد أمر الإمامة

- ‌ خيار العتق

- ‌ حديث أهل النار

- ‌ والليالي في الرمي تابعة للأيام السابقة دون اللاحقة

- ‌ كسب الحلال فرض عين

- ‌ طلب الحلال جهاد

- ‌ أجمع العلماء على نجاسة الخمر إلا ما حكي عن داود فإنه قال بطهارتها

- ‌ المؤمن ليس يتنجس

- ‌ صيد الكلب

- ‌ حديث خزيمة

- ‌ جبة ضيقة الكمين

- ‌ التشهد

- ‌ طلب العلم فريضة

- ‌ طالب العلم يستغفر له كل شيء

- ‌ المدعى عليه أولى باليمين

- ‌ الصلاة في الكعبة

- ‌ حديث طواف

- ‌ حديث المسح

- ‌ نفل صلى الله عليه وسلم على راحلته

- ‌ لا يجهرون ببسم الله

- ‌ حديث الحج

- ‌ في بيان أكل الضب

- ‌ وتر صلى الله عليه وسلم في آخر الليل

- ‌ حديث المسح

- ‌ ترك الكلام في الصلاة

- ‌ أوصاف زوجة

- ‌ حديث الحج

- ‌ نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الذهب والفضة

- ‌ وأما حديث: كل مسكر حرام فكاد أن يكون متواتراً

- ‌ حديث الأضاحي

- ‌ زيارة القبور

- ‌ قنوت الفجر

- ‌ يمين اللغو

- ‌ صلاة السفر

- ‌ حديث الحج

- ‌ عدة المتوفى عنها زوجها

- ‌ رفع اليدين

- ‌ سوم على سوم غيره

- ‌ كثرة السجود

- ‌ صلاة خفيفة

- ‌ إذا اختلف المتبايعان

- ‌ خطبة الجمعة قائماً

- ‌ تكبيرات الجنازة

- ‌ حُسنُ الخُلُق

- ‌ خلقة النفس

- ‌ خروج النساء إلى المصلى

- ‌ ترى المرأة ما يرى الرجل

- ‌ ذبح شاة قبل الصلاة

- ‌ خروج النساء

- ‌ طلاق النساء

- ‌ ذكر إسناده عن عطاء بن أبي رباح

- ‌ حديث القراءة في الصلاة

- ‌ حديث إذا طلع النجم

- ‌ قَلَنْسُوة

- ‌ تعلموا من النجوم ما تهتدوا به

- ‌ حديث الطلاق

- ‌ حديث كل معروف

- ‌ صلاة في قميص واحد

- ‌ حديث الجمعة

- ‌ وفيه أن الجميل يحب الجمال

- ‌ عمرة في رمضان تعدل حجة

- ‌ رَمَل

- ‌ حديث من عفى عن دم

- ‌ فضيلة التكبيرة الأولى

- ‌ لا يجوز إجبار البكر البالغة على النكاح

- ‌ حديث الوضوء

- ‌ حديث الماء المستعمل

- ‌ حديث سنة الفجر

- ‌ حديث: أين الله

- ‌ حديث الركاز

- ‌ يقول الإمام أيضاً ربنا لك الحمد في رواية

- ‌ فضيلة صلاة الفجر والعشاء

- ‌ ذكر إسناده عن أبي الزبير محمد بن سالم المكي

- ‌ لا يكفر مرتكب الكبيرة

- ‌ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد

- ‌ نعم الإدام الخل

- ‌ طلاق رجعي

- ‌ لا ربا في الحيوانات

- ‌ النهي عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها

- ‌ يعرف النبي صلى الله عليه وسلم بريح الطيب

- ‌ من قتل ضفدعاً فعليه شاة

- ‌ الداء والدواء

- ‌ دخول الحمام بمئزر

- ‌ بيع المزابنة والمحاقلة

- ‌ حديث الطيب

- ‌ بيع المخابرة

- ‌ حديث قدر

- ‌ ذكر إسناده عن عمرو بن دينار وعن طاوس

- ‌ حديث شراء الطعام

- ‌ حديث لباس المحرم

- ‌ حديث السجود

- ‌حديث الفرائض

- ‌ كبراء التابعين

- ‌ ذكر إسناده عن عكرمة ومقسم موليا ابن عباس رضي الله عنهم

- ‌ السجدة على سبعة أعضاء والنهي عن كف شعر وثوب

- ‌ حديث الغنيمة

- ‌ حديث درء الحدود

- ‌ ذكر إسناده عن نافع مولى ابن عمر

- ‌ حديث عذر المسلم

- ‌ حديث فتح الإمام

- ‌ حديث قتل المحرم

- ‌ حديث الغنيمة

- ‌ حديث وطء الحامل

- ‌ حديث قراءة السنة

- ‌ حديث التربع

- ‌ حديث الأسماء

- ‌ حديث غسل الجمعة

- ‌ صلوا في البيوت

- ‌ حديث النذر

- ‌ الذنب لا ينسى

- ‌ حديث بيع الغرر

- ‌ اخضبوا بالحناء

- ‌ القدرية مجوس هذه الأمة

- ‌ حديث حرمة المتعة

- ‌ صلاة في الكعبة

- ‌ الكافر يأكل في سبعة أمعاء

- ‌ نهى صلى الله عليه وسلم عن الدِّبَاء

- ‌ حشرات الأرض

- ‌ حديث الذبح

- ‌ حرمة الحمر الأهلية

- ‌ النسخ مرتان

- ‌ حديث زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ ذكر إسناده عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن سليمان وعطاء ابنا يسار

- ‌ذكر إسناده عن سليمان بن يسار

- ‌ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة في شوال

- ‌ذكر إسناده عن عطاء بن يسار

- ‌ بيع الولاء

- ‌ فضيلة وصل صفوف الصلاة

- ‌ ذكر إسناده عن الزهري وعن أبي جعفر محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌ حديث تعمد الكذب

- ‌ إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء

- ‌ حديث الدِّيَّة

- ‌ الصلاة في ثوب واحد

- ‌ حديث متعة النساء

- ‌ صلاة الليل

- ‌ ذكر إسناده عن محمد بن المنكدر

- ‌ صيد محرم

- ‌ صلاة المريض

- ‌ أنت ومالك لأبيك

- ‌ فقال: إني لست أصافح النساء

- ‌الجار أحق بالشفعة

- ‌ صلاة السفر

- ‌ ذكر إسناده عن يحيى بن سعيد القطان

- ‌ غسل الجمعة

- ‌ حديث بشارة خديجة رضي الله عنها

- ‌ الأعمال بالنيات

- ‌ حديث بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ ذكر إسناده عن ربيعة بن أبي عبيدة الرحمن

- ‌ سنة وفاته عليه السلام وأبي بكر وعمر

- ‌ ذكر إسناده عن عبد الرحمن

- ‌ كل مولود يولد على الفطرة

- ‌ أولاد الكفار

- ‌ إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أهل القبور

- ‌ ذكر إسناده عن عبد الله بن دينار وأبي اسحاق

- ‌ جواب الأذان

- ‌ الوتر أول الليل

- ‌ بلال يؤذن بليل

- ‌ عليكم بالأبكار

- ‌ طلب العافية

- ‌ عمامة سوداء

- ‌ الأصل في الأشياء الإباحة

- ‌ الحبة السوداء

- ‌ المسح على الخفين

- ‌ إسفار الصبُح

- ‌ ليس منا من غش في البيع والشراء

- ‌ ذكر إسناده عن أبي إسحاق

- ‌ جمع صلاتين في مزدلفة

- ‌ لعن آكل الربا

- ‌ إخراج التصاوير والكلب من البيت

- ‌ ما بال قوم يلعبون بحدود الله

- ‌ ذكر إسناده عن عبد الملك بن عمير

- ‌ لا يقتل الصغار

- ‌ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر

- ‌ لا يقضي الحاكم في الغضب

- ‌ نهى عن صوم أيام التشريق وعن يوم الشك

- ‌ ماء الكمأة شفاء العين

- ‌ استعمال الحلال المحض يجلو البصر والبصيرة

- ‌ عدم جواز نفل بعد طلوع صبح

- ‌ لا تشد الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد

- ‌ لاتسافر المرأة إلا مع ذي محرم

- ‌ حديث شفاعة السقط

- ‌ ذكر إسناده عن الشعبي والحكم بن عيينة

- ‌ سبع خصال في عائشة

- ‌ حديث النكاح

- ‌ حديث القصاص

- ‌ حديث المسح

- ‌ حديث سؤر الهرة

- ‌ ذكر إسناده عن الحكم بن عيينة

- ‌ حديث توقيت المسح

- ‌ حديث الحجاب

- ‌ حرمة لبس الحرير

- ‌ حرمة آنية الذهب والفضة

- ‌ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب قليله وكثيره سواء

- ‌ الولاء لمن أعتق

- ‌ لا يجوز أخذ المال بدل الجيفة

- ‌ ركعتين بعد الظهر

- ‌ ذكر إسناده عن محارب بن دِثار

- ‌ عدم التكلف

- ‌ ذكر إسناده عن سماك بن حرب

- ‌ ذكر إسناده عن زياد بن علاقه

- ‌ ذكر إسناده عن أبي بردة

- ‌ ذكر إسناده عن علي بن الأقمر

- ‌ ذكر إسناده عن إبراهيم بن المبشر

- ‌ ذكر إسناده عن عطية بن سعد العوفي

- ‌ ذكر إسناده عن يزيد بن عبد الرحمن، أحد أجلاء التابعين

- ‌ ذكر إسناده عن موسى بن أبي عائشة

- ‌ ذكر إسناده عن عبد الله بن حبيب

- ‌ ذكر إسناده عن ظريف بن شهاب السعدي

- ‌ ذكر إسناده عن سفيان بن طلحة بن زياد

- ‌ ذكر إسناده عن عطاء بن السائب بن الماية

- ‌ ذكر إسناده عن علقمة بن مرثد

- ‌ ذكر إسناده عن عبد العزيز بن رُفيع

- ‌ ذكر إسناده عن عبد الكريم بن أمية

- ‌ ذكر إسناده عن الهيثم بن حبيب الصرفي

- ‌ ذكر إسناده عن القاسم بن عبد الرحمن

الفصل: ‌ ذكر إسناده عن القاسم بن عبد الرحمن

-‌

‌ ذكر إسناده عن القاسم بن عبد الرحمن

-ذكر إسناده عن القاسم بن عبد الرحمن، أي الشامي مولى عبد الرحمن بن الخالد، سمع أبا أمامة، روى عنه العلاء وابن الحارث، وغيره، قال عبد الرحمن ابن يزيد: ما رأيت أحداً أفضل من القاسم مولى عبد الرحمن، كذا في أسماء الرجال لصاحب المشكاة. والمفهوم مما سيأتي، أن القاسم هذا سبط ابن مسعود.

- حديث اختلاف الثمن

أبو حنيفة: (عن القاسم، عن أبيه، عن جده، أن عبد الله بن الأشعث بن قيس) أي ابن معد يكرب، كنيته أبو محمد الكندي، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، وكان رئيسهم، وذلك في سنة عشر، وكان رئيساً في الجاهلية، مطاعاً في قومه، وكان وجيهاً في الإسلام، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم، ارتد عن الإسلام، ثم راجع في خلافة أبي بكر. ونزل الكوفة، ومات بها سنة أربعين، وصلى عليه الحسين بن علي، روى عنه نفر (اشترى من ابن مسعود رقيقاً) أي مملوكاً، وهو اسم جنس، يقع على المفرد وغيره، ولهذا قال:(من رقيق الإمارة) بكسر الهمزة، أي الخلافة (فتقاضاه) عبد الله، أي ثمنه (فاختلفا) أي في قدره (فقال الأشعث: اشتريت منك بعشرة آلاف درهم، وقال عبد الله: بعتك بعشرين ألفاً) أي ألف درهم (فقال عبد الله: اجعل بيني وبينك رجلاً) أي يكون حكماً يفصل بيننا بوجه شرعي من الكتاب أو السنة (فقال الأشعث: فإني أجعلك بيني وبين نفسك) أي حكماً عدلاً،

ص: 435

والمعنى أني أرضى بما تقول فيَّ، وتحكم عليَّ، فإنك عالم عامل، وحكم عادل (قال عبد الله: فإني سأقضي بيني وبينك بقضاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اختلف البيِّعان) بتشديد التحتية المكسورة، أي المتبايعان، وهما البائع والمشتري (في شيء) عن مقدار الثمن ونحوه، ولم يكن بينهما بينة يشهد لأحدهما له، أو عليه، فإنه لو اختلفا في قدر الثمن، حكم لمن برهن، وذلك لأن في الجانب الآخر، ليس إلا مجرد الدعوى، والبينة أقوى، وأما إذا لم يبرهن (فالقول ما قال البائع) فإما أن يرضى المشتري به (أو يترادان البيع) أي يفسخانه، وأما إذا برهنا، فلمثبت الزيادة وهو البائع، لأن البينة شرعت للإثبات، ولا تعارض في الزيادة.

وفي المبسوط: وإن عجزا عن إقامة البينة، رضي كل بالزيادة، (وإلا تحالفا) أي حلف كل واحد منهما على الدعوى الآخر، إذا استحلف القاضي، والقياس: أن يكون الحلف على منكر الزيادة، لأنهما اتفقا على أصل البيع، وادعى البائع زيادة في الثمن، والمشتري منكر، فالقول قول المنكر مع يمينه، لكنا تركنا القياس بالحديث المشهور، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"إذَا اخْتَلَفَ المتَبايِعَان وَالسِّلْعَةَ قائمَةٌ بِعَيْنِها، تحالفا وترادا" انتهى، وصفة اليمين: أن يحلف البائع بالله ما باعه بألف، ويحلف المشتري، ما اشتراه بألفين، لكن لا يحلف المنكر بعد هلاك المبيع.

(وفي رواية عن القاسم، عن أبيه) أي عبد الرحمن (عن جده) أي عبد الله (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإذا اخْتَلَف البيعان والسلعة") بكسر أوله، وهي

ص: 436

المبيع (قائمة) أي موجودة حاضرة (فالقول قول البائع، أو يترادان، زاد في رواية: البيع) وهو مفعول به ليترادان.

(وفي رواية: إذا اختلف المتبايعان) أي المتعاقدان، في قدر الثمن (فالقول قول البائع، أو يترادان، وفي رواية عن عبد الله، أن الأشعث اشترى منه رقيقاً، فتقاضاه) أي عبد الله (واختلف في قدر الثمن، فقال عبد الله: بعشرين ألفاً) أي من الدرهم (بعته وقال الأشعث: بعشرة آلاف) أي من الدرهم (اشتريته، فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذَا اخْتَلَفَ البَيِّعَان فاَلْقَولُ للبائِع، أو يَتَرادَّان").

والحديث رواه أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي، عن ابن مسعود، مرفوعاً بلفظ: إذا اخْتَلَفَ البَيْعَانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُما بَيِّنَة، فَهُوَ مَا يَقُولُ رَبُّ السلعة، أو يتتاركان.

وفي رواية للترمذي والبيهقي عنه: إذا اختلف البيعان، فالقول قول البائع، والمتبايع بالخيار.

وفي رواية لابن ماجه عنه: إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه فالقول ما قال البائع، ويتركان المبيع.

ص: 437

- حديث السلام

وبه (عن القاسم، عن أبيه) أي عبد الرحمن (عن عبد الله) وهو جده على ما تقدم، وأريد به ابن مسعود والله أعلم (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه ويساره تسليمتين) يسلم عن يمينه تسليمة، وعن يساره أخرى.

والحديث رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن مسعود، ولفظ النسائي: كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيسر، وصححه الترمذي، وهو أرجح ما أخذ به مالك، من رواية عائشة، أنه عليه الصلاة والسلام كان يسلم في الصلاة بتسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن، لتقدم الرجال خلف الإمام دون النساء، فالحال أكشف الرجال مع أن الثانية اختص من الأولى، فلعلها خصت عمن كان بعيداً، كذا قرره ابن الهمام، وفيه: أن عائشة ليست مما لا يخفى عليها إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، ولعل الجمع بينهما، أنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل في بعض النوافل، مثل رواية عائشة وفي الفرائض، مثل رواية ابن مسعود، ثم بلغني عن مالك أنه حمل حديث عائشة على حال الانفراد، والله أعلم بالمراد.

- قطع يد السارق

وبه: (عن القاسم، عن أبيه، عن جده عبد الله قال: كان) أي كان الشأن (تقطع اليمين) أي يمين السارق (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة دراهم، وفي

ص: 438

رواية إنما كان القطع) أي قطع اليد (في عشرة دراهم) وروى ابن ماجه عن أنس مرفوعاً: لا يقطع السارق في أقل من عشرة دراهم، ورواه أحمد عن ابن عمر ومرفوعاً: لا قطع فيما دون عشرة دراهم.

- خطبة النكاح

وبه (عن القاسم، عن أبيه، عن عبد الله قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة) ولما كانت الحاجة عامة قال: (يعني النكاح) وهو تفسير من أحد الرواة (أن) بفتح الهمزة وكسرها (الحمد لله) أي ثابت مستمرة (نحمده) في جميع أحوالنا (ونشكره) على حمده وسائر أفعالنا (ونستعينه) على جميع أمورنا (ونستغفره) من تقصيرنا (ونستهديه) في طاعتنا ومهماتنا (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) أي من أخلاقنا الذميمة (من يهدي الله فلا مضل له) من شيطان ونفس (ومن يضلله فلا هادي له) من نبي وولي (ونشهد أن لا إله إلا الله وحده) لا شريك له (ونشهد أن محمداً عبده ورسوله) أي وحبيبه وخليله ({يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا اتَقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ})(1) وهو أن يطاع، فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وقيل: إنه منسوخ بقوله تعالى: {فَاتَقوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2)({وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وأنْتُم مُسلِمُون}) أي

(1) آل عمران 102.

(2)

التغابن 16.

ص: 439

منقادون لله، مطيعون، وقيل متزوجون ({واتَقُوا الله الذي تساءلون به}) أي يتساءلون به والمعنى، بعضكم بعضاً في حال التعاطف، والتراحم بالله سبحانه، بتشديد السين وتخفيفها ({والأرحام}) بالنصب واعطف على الجلال، أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، إذ أوجب عليكم أن تصلوها. وقرأ حمزة بالخفض، على أنه عطف على الضمير المجرور في به، وهو فصيح على الصحيح ({إن الله كان عليكم رقيباً})(1) أي مراقباً على أفعالكم، ومحافظاً لأحوالكم، ومجازياً بأعمالكم ({يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله}) في جميع أحوالكم ({وقُولُوا قَولاً سديداً}) أي صواباً مستقيماً ({يصلح لكم أعمالكم}) فيه إيماء إلى أن سداد الأقوال سبب لصلاح الأعمال ({ويغفر لكم ذنوبكم}) ما صدر عنكم في بعض الأحوال ({ومَنْ يُطِع الله ورسوله}) في قوله وفعله ({فقد فاز فوزاً عظيماً})(2) أي أفلح وظفر على مقصوده ظفراً جسيماً.

والحديث رواه الأربعة والحاكم، وأبو عوانة، كلهم عن ابن مسعود، قال الترمذي: حسن، ورواه أحمد والدارمي أيضاً بألفاظ مختلفة، بينتها في شرح الحصن الحصين.

وبه (عن القاسم، عن أبيه، عن عبد الله، قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة

(1) النساء 10.

(2)

الأحزاب 70 - 71.

ص: 440

الصلاة) وهي الثناء على الله سبحانه (في القعدة) يعني يريد بها ابن مسعود (التشهد) أي المروي المشهور عنه، وقد سبق الكلام عليه رواية ودراية.

- الاستثناء في الحلف

وبه (عن القاسم، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ على يمينٍ) أي محلوف عليه (واستثنى) أي قال: إن شاء الله، بلسانه متصلاً بيمينه (فله ثنياه) أي استثناه معتبر له.

والحديث رواه أبو داود والنسائي والحاكم، بسند صحيح، عن ابن عمر، بلفظ "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فقد استثنى" أي فصح استثناؤه، ولا يحنث إذا خالف.

وبه (عن القاسم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً، أَوْ قال ما لم أقل) أو للشك من الراوي؛ أو للتنويع في الرواية (فليتبوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النار) هذا حديث مشهور، كاد أن يكون متواتراً، فقد رواه أحمد والشيخان والأربعة والحاكم والطبراني والدارقطني والخطيب وغيرهم بروايات متعددة عن الصحابة، فيهم العشرة المبشرة، بلفظ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، وفي بعض الروايات: مَنْ قال ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار.

ص: 441

- إسناده عن خالد بن علقمة

إسناده، عن خالد بن علقمة؛ أحد أكابر المحدثين، شرحته.

- مسح الرأس ثلاثاً

وهو أبو حنيفة (عن خالد، عن عبد خير) من التابعين ابن يزيد يكنى أبا عمارة الداني، يقال إنه أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم إلا أنه لم يلقه، وصحب علياً، وهو من أصحابه، ثقة مأمون، سكن الكوفة، أتى عليه مائة وعشرون سنة (عن علي رضي الله عنه أنه دعا بماء) أي طلب ماء الوضوء (فغسل كفيه) أي إلى رسغيه (ثلاثاً، ومضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً) أي على حدة، كما هو الوجه المختار (وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه) أي إلى مرفقيه (ثلاثاً ومسح رأسه) أي كله على ظاهره (ثلاثاً) كما ذهب إليه الشافعي، ولا يبعد أن يحمل ثلاثاً على ثلاث أوقات، ليطابق ما صح من مسح الرأس مرة في عدة روايات (وغسل قدميه) أي إلى كعبيه (ثلاثاً) وفي هذا رد على مدعين من أشياعه، وحمله على التقية، ساقط في مقام تحقيق القضية (ثم قال: هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مثل وضوئه.

- مسح الرأس مرة

(وفي رواية) أي لأبي حنيفة (عن خالد، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه، أنه دعا بماء، فغسل كفيه ثلاثاً، ومضمض فاه ثلاثاً، واستنشق) أي أنفه

ص: 442

(ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه، ومسح برأسه) مرة أي واحدة (وغسل قدميه ثلاثاً، ثم قال: هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أي صفة وضوءه صلى الله عليه وسلم (كاملاً) أي آتياً على وجه الكمال من مراعاة الفرض والسنة، وهذا لأنه عليه الصلاة والسلام، أحياناً غسل أعضاءه مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين، ولم يزد على ثلاث أبداً، بل ورد وعيد في الزيادة عليها ووعد من الإسراف، ولو على نهر جار.

(وفي رواية أنه) يعني علياً (دعا بماء فأتي بإناء فيه ماء وهو طست) بسين مهملة، وروى بمعجمة، وهو إما عطف، تفسير لإناء، أو صحف، أو بالواو، ولما يأتي من أن الإناء كان مفتوحاً (قال عبد خير، ونحن) أي معشر أصحاب علي كرم الله وجهه (ننظر إليه) أي نظاراً عليه (لنطلع على ما يقع لديه، فأخذ بيده اليمنى الإناء، فأكفى) أي فأراق (على يده اليسرى ثم غسل يديه إلى رسغيه ثلاث مرات) أي خارجاً عن الإناء (ثم أدخل يده اليمنى الإناء، فملأ يده، ومضمض واستنشق فعل هذا) أي ما ذكر من المضمضة والاستنشاق، (ثلاث مرات) أي بمياه جديدة، مفصلات على ما هو الصحيح من روايات متعددات، (ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده) أي جنسها الشامل لليمنى واليسرى، وأراد ذراعيه (إلى المرافق) أي منتهياً إليها. وفيه رد على الشيعة، حيث عكسوا فيها (ثلاث مرات ثم أخذ الماء بيده، ثم مسح) أي

ص: 443

فمسح (بها رأسه مرة) واحدة (ثم غسل قدميه) أي كل واحدة منهما ولذا (قال: ثلاثاً، ثلاثاً) بالتكرار (ثم غرف) أي أخذ الماء بكفه (فشرب منه) أي من سؤر الوضوء، فإنه مستحب (ثم قال: من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم بضم التاء، أو فتحها، أي استعمال الطهارة (فهذا طهوره) أي مثله.

(وفي رواية، أنه دعا بماء فغسل كفيه ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً، ثم أخذ ماء في كفه) أي ولم يكتف بما في يده من البلل (فصبه) أي فوضعه (على صلعته) بفتحتين، وبضم فسكون، أي مقدم شعره، على رأسه، فإنه كرم الله وجهه كان صلعاً.

وفي القاموس، الصلع محركة انحسار شعر مقدم الرأس، لنقصان مادة الشعر في تلك البقعة، وقصورها عنها، واستيلاء الجفاف عليها ولتطامن الدماغ عما يُماسُّه من القحف، فلا يسقيه سقيه إياه؛ وهو ملاق صلع كفرح، وهو أصلع، وهي صلعاء صلع وصلعان بضمهما، وموضع الصلع الصلعة، محركة أيضاً ويضم. (ثم قال) أي علي (من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذا) أي طهوري، فإنه نظيره وعلى صفته.

وفي رواية عن علي أنه توضأ، أي غسل أعضاء وضوئه ثلاثاً، وقال: هذا

ص: 444

وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي شرح ابن الهمام. قال أبو داود ورواه وكيع عن إسرائيل، قال: توضأ ثلاثاً ثلاثاً فقط، قال: وأحاديث عثمان الصحاح كلها يدل على أن المسح مرة واحدة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً ثلاثاً. وقالوا: ومسح برأسه، ولم يذكروا عدداً. انتهى.

- مسح الرأس بيد واحدة

وروي عن أبي داود والطبراني، عن علي، في حكاية المسح ثلاثاً (قال عبد الله بن محمد) أحد رواة هذا الحديث (عن يعقوب) يعني يريد عبد الله، به عمن روى عن أبي حنيفة في هذا الحديث (عن خالد) أي بسنده المتقدم، أو بإسناد منقطع أو مرسل (إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثاً) أي بناء (على أنه وضع يده على يافوخه) أي مقدم رأسه (ثم مد يده إلى مؤخر رأسه، ثم إلى مقدم رأسه) أي ثم إلى مؤخر رأسه (فجعل ذلك) ما ذكر (ثلاث مرات) أي دفعات في الصورة، وهو في الحقيقة مرة واحدة، وإنما وقع مرات للاستيعاب، ولا يبعد أن يحمل على أنه وضع يديه على مقدم رأسه، ومده إلى مؤخره ثم مد يده اليمنى على طرفه الأيمن واليسرى على طرفه الأيمن، ويمكن أنه وضع يداً واحدة على مقدم رأسه، ومسحه إلى آخره، ثم وضعها على طرفه الأيمن ثم الأيسر ومسحها، ولا يضر الانفصال في المسح فإنه في حكم الإيصال

على طرفه الأيمن، ثم الأيسر والله أعلم بالأحوال فقوله:(لأنه لم يباين يده) أي لم يفارق من رأسه لبيان الأفضل، ولهذا يمسح الأذنين بماء الرأس مع أنه يفصل نعم إلا أن يحمل أن يضع ثلاث أصابع وهي ما عدا المسبحة والإبهام، ثم يمسح بهما الأذنين على ما هو المعروف في وصفها، (ولا أخذ الماء ثلاث مرات)، كما يقول الشافعي: فإنه إذا تعدد المسح على موضع واحد صار غسلاً (فهو) أي ففعله

ص: 445

كرم الله وجهه "كمن جعل الماء في كفه ثم مد يده إلى كوعه" بضم الكاف، طرف الزند الذي يلي الإبهام، كالكاع أو هما طرف الزندين في الذراع مما يلي الرسغ على ما في القاموس، وهو المراد هنا.

وأما الباع فقدر مد اليدين كالبوع بضم ويقال: فلان ما يعرف بوعه من كوعه، والمعنى إلى كوعه أولاً وإلى ذراعيه ثانياً ولا يسمى مرتين حقيقة بل صورة، وهذا التأويل لازم جمعاً بين الأحاديث.

هذا وروى الحسن عن أبي حنيفة في مجرد إذا مسح ثلاثاً بماء واحد كان مسنوناً (ألا ترى أنه) أي علياً (بين الأحاديث التي روى عنه) أي بقية أصحابه (وهم الجارود ابن يزيد) أي العبدي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع وأسلم مع وفد عبد القيس، ثم إنه سكن البصرة وقيل: بأرض فارس في خلافة عمر سنة إحدى وعشرين روى عنه جماعة (وخارجة بن مصعب) أي ابن الزبير وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة (وأسد ابن عمر أن المسح كان مرة واحدة وبين) أي علي (أن معناه ما ذكرنا) أي على ما قدمناه.

- الإمام قد يصيب، وقد يخطىء

قال أبو حنيفة: وقد روى عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة) بالجر صفة أصحاب (على هذا اللفظ) متعلق بروى (وبيانه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثاً منهم عثمان، وعلي وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم قال البيهقي: وقد روى من أوجه غريبة عن عثمان مكرراً للمسح إلا أنه مع

ص: 446

خلاف الحفاظ ليس بحجة عند أهل العلم (فهل كان معناه) أي معنى تثليث مسح الرأس (محمولاً إلا على ما ذكرنا) لا على ما فهم الشافعي وأصحابه (فمن جعل أبا حنيفة غالطاً في رواية المسح ثلاثاً) أي مع أنه يقل بظاهره (فقد وهم) أي أخطأ فيما وهم وسهى فيما فهم، (وكان هو) أي الملفظ (بالغلط أولى) أي أحق (وأخلق) أي أجدر وأليق (وقد غلط شعبة)، وهو إمام جليل يسمى أمير المؤمنين في علم الحديث، (وفي هذا الحديث) أي في إسناده (غلطاً فاحشاً) أي ظاهراً (عند الجمع)، أي جميع المحدثين، (وهو) أي غلط (رواية هذا الحديث عن مالك عن عرفة) بضم مهملة فسكون راء وضم فاء رواهما طاوس (عن عبد خير. عن علي فصحف) أي حرف شعبة (الإسمين في إسناده، فقال: بدل خالد مالك، وبدل علقمة عرفطة) وهما غلطان في الحقيقة، (ولو كان هذا الغلط أو نحوه من أبي حنيفة لنسبوه) أي أعداؤه من المحدثين، أو الفقهاء المحدثين (إلى الجهالة)، ما أي في الحديث، (ولقلة المعرفة) أي بالأسانيد، (ولأخرجوه من الدين) أي نقصاً من غير اليقين، مع أنه أفضل المجتهدين.

(وهذا) أي ما ذكر من النسبة المذمومة (من قلة الورع) أي من عدم التقوى (واتباع الهوى) من جهة التعصب الذي عمه البلوى، وذلك لأن الإمام قد يصيب، وقد يخطىء والإنسان قد يسهو وينسى وكل أحد يقبل كلامه ويرد إلا المعصوم من جانب الله الأحد على أن الإنسان مأخوذ من النسيان، فسبحان من لا ينسى وقد رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وقال تعالى: {فَلَا تَنْسَى

إِلَاّ مَا شَاءَ الله} (1)

(1) الأعلى 6 - 7.

ص: 447

- في كل من الطعن والطاعون شهادة

وبه (عن خالد بن علقمة عن عبد الله بن الحارث) أحد أجلاء التابعين (عن أبي موسى) الأشعري، (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فَنَاءُ أُمتي) أي أكثر موتهم (بالطعن، والطاعون فقيل: يا رسول الله هذا الطعن قد علمناه) أي عرفناه في لغتنا أن المراد به طعن السلاح من نحو السيف والرماح (فما الطاعون؟) أي الدال على المبالغة في مقام الطعن حيث يقع الطعن ولا يرى ولا يمكن دفعه بالماعون (قال: وَخَزَ أَعْدَائِكم من الجِنّ) والوخز كالوعد الطعن بالرمح وغيره إلا أنه لا يكون نافذاً لكن الغالب يكون مهلكاً (وفي كل) أي من الطعن والطاعون (شهادة) أي إما حقيقة، أو حكماً. والحديث بعينه رواه أحمد والطبراني في الكبير، عن أبي موسى، وفي الأوسط عن ابن عمر.

- إسناده عن الحارث بن عبد الرحمن

- بين يدي الساعة ثلاثون كذاباً

إسناده عن الحارث بن عبد الرحمن.

أبو حنيفة، (عن الحارث) أي المذكور (عن أبي الجلاس) بضم الجيم وتخفيف اللام (قال: كنت ممن) أي من جمع (سمع من عبد الله الشيباني كلاماً عظيماً) بما يتعلق بذات الله تعالى أو صفاته أو نحو ذلك مما يعظم شأنه هنالك (فأتينا به علياً)

ص: 448

أي أحضرناه عند علي، (ونحن ننهى) أي نضرب وندق عنقه في طريقه، (فوجدنا علياً في الرحبة) بفتح الحاء وسكون أي رحبة مسجد الكوفة وهو ساحته وصنعة الموضع للطهارة والحكومة وأمثالها (مستلقياً على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى) ثبت أنه عليه الصلاة والسلام استلقى على هذه الهيئة وجاء عنه أيضاً أنه نهى عنها وجمع بينهما أن النهي هو الذي يتوهم معه كشف بعض العورة (فسأله) أي علي (عن الكلام) أي الذي (نكلم به فتكلم به، فقال: أترويه عن الله) أي وحياً بادعاء النبوة أو إلهاماً بادعاء الولاية (أو عن كتابه) تصريحاً أو تلويحاً، (أو عن رسوله) بواسطة، أو بغيرها فإن طرق العلم منحصرة فيها (فقال: لا) أي لا رواية عن شيء من ذلك (قال: فعن ما) أي فعن من تروي؟ (قال: عن نفسي) أي من تلقاء نفسي، ومن جهة عقلي، (قال: أما) للتنبيه أنك (لو رويت عن الله تبارك وتعالى أي بدعوى الوحي، أو الإلهام، (أو عن كتابه) أي بالزيادة عليه أو بتأويل لديه، (أو عن رسوله) بالافتراء عليه، (ضربت عنقك) أما سياسته أو لارتدادك، (ولو رويته عني أوجعتك عقوبة) أي تعزيراً (فكنت كاذباً) أي مردود الشهادة (ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بين يدي الساعة ثلاثون كذاباً) أي دجالون، (وأنت منهم) هذا من كلام علي خطاباً له، فهذا من علامات النبوة في أشراط الساعة.

والحديث المرفوع رواه أحمد ومسلم عن جابر بن سمرة ولفظه: إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم.

(وفي رواية عن أبي جلاس قال: كنت فيمن) أي في جملة من (سمع

ص: 449

من عبد الله الشيباني كلاماً عظيماً فأتينا به علياً، فوجدناه في الرحبة مستلقياً على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى فسأله عن الكلام) أي عن كلام ذلك؛ (فتكلم) أي وفق ما هنالك (فقال: أترويه عن الله، أو عن كتابه، أو عن رسوله) ضربت عنقك إلى أن (قال: لا. قال: فعن من ترويه؟ قال: عن نفسي، قال: أما إنك لو رويت عن الله؛ أو عن كتابه، أو عن رسوله ضربت عنقك، ولو رويت عني أوجعتك عقوبة، فكنت كاذباً، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"بين يدي الساعة ثلاثون كذاباً فأنت منهم").

وبه (عن الحارث عن أبي صالح) سبق أنه ذكوان السمان الزيات المدني تابعي جليل مشهور كثير الرواية واسع الدراية (عن أم هانىء) بكسر النون بعدها همزة أخت علي بن أبي طالب (أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة) أي عنوة أو صلحاً، ويؤيد الأول قوله:(وضع لأمته) بسكون الهمزة وتخفيف أي أدرعه، (ودعا بماء) أي فأتى به (فصبه)؛ أي فأفاضه عليه أي على بدنه جميعاً. والمعنى أنه اغتسل، (ثم

ص: 450

دعا بثوب واحد) أي فلبسه واكتفى به (فصلى فيه) أي ركعتين (زاد) أي أبو صالح (في رواية) أي عنها (متوشحاً) أي حال.

- حديث صلاة الضحى

(وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع لامته يوم فتح مكة، ثم دعا بماء فأتي به في جفنة) أي صحفة كبيرة (فيها خبز العجين) الظاهر أنه من مقلوب الكلام أي عجين الخبز، والمعنى فيها أثر عجين، وفيه دليل على أن الماء إذا اختلط بطاهر وتوضأ أي للتنظيف، أو لقصد الطواف ونحوه لم يضره إلا إذا أخرجه عن طبع الماء، (فاستتر بثوب فاغتسل ثم دعا بثوب فتوشح به، ثم صلى ركعتين). قال أبو حنيفة: (وهي الضحى) وهذه الصلاة صلاة الضحى، أو صلاته هي وقت الضحى، وإنما لم تحمل صلاته على شكر الوضوء فإنه ليس له صلاة على حدة كما حققه حجة الإسلام في الإحياء.

وروى الترمذي في شمائله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ما أخبرني أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أم هانىء، فإنها حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل فسبح ثماني ركعات، ما رأيت صلاته قط أخف منها غير أنه كان يتم الركوع والسجود، وقد بسطت هذه المسألة في شرح الشمائل والعدد لا مفهوم له عند جميع أرباب الفهم فلا يتوهم التنافي بين ركعتين، وبين غيرهما.

(وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يوم فتح مكة لامته، ودعا بماء فأتي به في جفنة

ص: 451

وفيها أثر عجين، فاغتسل) أي بالماء الذي فيه، (وصلى أربعاً أو ركعتين في ثوب واحد متوشحاً) يحتمل أن يكون كل منها قيداً واقعياً ويحتمل احترازياً فيه أن باقي صلاته كان بهيئة أخرى، أو في ثوبين.

(وبه عن أبي هند عن عامر) أي الشعبي أنه كان (يحدث عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي صفات غزواته صلى الله عليه وسلم في حلقة بفتح الحاء واللام وتسكن (فيها ابن عمر) أي في داخلها أو قريباً منها (فقال ابن عمر: أنه) أي عامر (يحدث حديثاً) أي ثابتاً حديثاً صحيحاً (كأنه شهد القوم) أي حضرهم حال رحالهم وقتالهم وسائر أفعالهم وعرف رجالهم وبقية أحوالهم.

- الشك في الإيمان كفر

وبه (عن الحارث عن أبي مسلم الخولاني) وهو عبد الله بن الشوب الزاهد لقي أبا بكر وعمر ومعاذاً، روى عنه جماعة وله مناقب كثيرة، مات سنة اثنين وستين. وخولان بفتح المعجمة قبيلة باليمن (قال: لما نزل معاذ) أي ابن جبل (حمص) بكسر أوله اسم بلدة قريبة من دمشق الشام (أتاه رجل شاب فقال: ما ترى في رجل وصل الرحم وبرّ) أي وأحسن إلى الناس (وصدق الحديث) بتخفيف الدال أي

ص: 452

وصدق في كلامه، ولم يكذب (وأدى الأمانة) أي من غير الخيانة (وعفف بطنه وفرجه) أي صار عفيفاً من جهة بطنه، حيث لم يأكل الحرام ومن جهة فرجه فاحترز من الزنا ونحوه (وعمل ما استطاع من خير من) طاعة فرضاً أو نفلاً (غير أنه شك في الله) أي في توحيد ذاته وما يتعلق بتحقيق بعض صفاته (ورسوله) أي في نبوته أو معجزاته أو عموم رسالاته (قال): أي معاذ (إنها) أي الريبة التي مرادف (الشك يحبط ما كان سعيها من الأعمال) أي التي شرط في صحتها الإيمان المتحقق في الحال والمآل (قال) أي الرجل السائل (فما ترى في رجل ركب المعاصي) أي ارتكبها (وسفك الدماء) أي فعل ما هو أقبحها (واستحل الفروج) أي فروج المحرمات (والأموال) أي أموال الناس، المعنى عامل فيها معاملة المستحل في مباشرتهما وإلا فالاستحلال الحقيقي كفر بلا شبهة فيها (غير أنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله مخلصاً) أي أتيا بالخلاص من الشك والريبة، وعن الرياء والسمعة، (قال معاذ: أرجو) أي له النجاة لإيمانه، (وأخاف عليه) أي من جهة عصيانه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، (وهذا) أي الذي صدر عن معاذ من الجوابين هو المطابق لمذهب أهل السنة والجماعة في المسألتين (قال الفتى: والله إن كانت) أي الريبة هي التي (أحبطت ما معها من عمل) أي من طاعات (ما يضر هذه) أي الشهادة مع الإخلاص (ما عمل معها) أي من المنكرات، (ثم انصرف فقال معاذ: ما أزعم أن رجلاً أفقه بالسنة) أي بالشريعة

ص: 453

(من هذا) أي الفتى.

- مذهب المرجئة

وفيه إشكال لأن ظاهر كلام الفتى مذهب المرجئة القائلين بأن المعصية لا تضر مع الإيمان، كما أن الطاعة لا تنفع مع الكفر، وزعمهم أن الواحد من المكلفين إذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفعل بعد ذلك سائر المعاصي لم يدخل النار أصلاً.

وتحقيق هذه المسألة بسطته في شرح الفقه الأكبر، وبينت فيه أن إمامنا هو الإمام الأعظم والهمام الأقدم من أهل السنة والجماعة فلا ينبغي أن يتوهم أن هذا الكلام من معاذ مرضي له، ومستحسن عنده.

ولعل تأويل كلام الفتى أن المعصية لا تضر ضرراً كلياً بحيث يبقى صاحبها في النار مخلداً ولا يدخل الجنة أبداً ولا بد من هذا التأويل في كلامه إذا لم يقل أحد من الصحابة بالإرجاء، بل أول من قال به الحسن بن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب على ما ذكره الدلجي في شرح الشفاء هذا.

ووقع في الغنية (1) للقطب الرباني السيد عبد القادر الجيلاني أنه لما ذكر الفرق الضالة قال: وأما الحنفية ففرقة من المرجئة وهم أصحاب أبي حنيفة نعمان بن ثابت زعم أن الإيمان هو الإقرار والمعرفة بالله ورسوله وبما جاء من عنده جملة على ما ذكره البرقي هو في كتاب الشجرة انتهى، فقال بعض المحدثين: أدخل هذه الجملة في أثناء كلام الشيخ مع أن الإيمان هو المعرفة الناشىء عند التصديق سواء تكون تلك المعرفة صادرة عن الدليل والتصديق أو خارجة عن التحقيق، لكنها وقعت تقليداً لبعض أرباب التحقيق والتوفيق والاستدراك مقابلة لنعمة المعرفة بالله هو الجهل به، وينشأ عنه جميع أنواع الكفر ثم الإقرار بشرط أو شطر على خلاف بين علماء أهل السنة والجماعة، ولعل الشيخ لما كان معتقده أن الإيمان قول باللسان، ومعرفة بالجنان، وعمل بالأركان كما بينه في الغنية.

(1) ما وقع في الغنية من نسبة الإرجاء إلى الحنفية، ليس من كلام وحضرة الغوث الأعظم، بل إدراج.

ص: 454

وقد رأى الإمام اقتصر على الأولين توهم أنه من المرجئة، وليس كذلك فإن العمل بالأركان هو من كمال الإيمان عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة والخوارج، وجماعة من أهل البدعة، وإنما ذكرت هذا الكلام لأن غافلاً لا يطلع هذا المقام، فيحصل له الشبهة والريبة فيمن هو رئيس الفرقة الناجية، وأكثر أهل الإسلام تبع له في الأصول العلمية والفروع العملية المستفادة من القاعدة الشرعية والقواعد المرعية.

ص: 455

- إسناده عن يحيى بن عبد الله بن أبي ماجد.

إسناده عن يحيى بن عبد الله بن أبي ماجد أحد أكابر التابعين المعروفين.

- حد السكر

أبو حنيفة (عن يحيى عن ابن مسعود قال: أتاه رجل بابن أخ له) أي لذلك الرجل (نشوان) أي سكران وزنا ومعنى، (قد ذهب عقله) أي بسبب سكره وفي فتاوى قاضي خان قال أبو حنيفة: السكران من لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، وقال صاحباه: إذا اختلط كلامه فصار غالب كلامه الهذيان فهو سكران، والفتوى على قولهم (وأمر به) أي بحبسه (فحبس) أي لأن يفيق ويدرك ألم الحد فيفيد في زجره عن عوده (حتى إذا أصح) أي دخل في الصحو وأفاق من السكر. إجماع الأئمة الأربعة على أنه لا يحد السكران حتى يزول عنه السكر تحصيلاً لمقصود الزجر (دعا) أي ابن مسعود (بالسوط)، ولعله كان أميراً أو مأموراً أو قاضياً حينئذٍ ولي القضاء بالكوفة، وثبت بأنها لعمر وصدراً من خلافة عثمان، ثم صار في المدينة فمات بها ودفن بالبقيع (فقطع ثمرته) أي قطع ثمرة السوط، وهي عقدة فدقت بين حجرين حتى يلين، فعن أبي عثمان النهدي قال: أتي عمر برجل في حد فأمر بسوط فجيء بسوط فيه شدة، فقال: أريد اللين من هذا فأتي بسوط فيه لين

ص: 456

فقال: أريد أشد من هذا فأريد بسوط بين السوطين، (فقال: اضرب به، ثم رقه ودعا جلاداً) بيان لما قبله (فقال) ابن مسعود:(اجلده) أي اضربه (على جلده) بالكسر أي بشرته مكشوفة، (وارفع يدك في جلدك) بالفتح أي في ضربك على جلده (ولا تبد) بضم أوله من الإبداء أي ولا تظهر (ضبعيك) بفتح أوله أي إبطيك والمعنى ارفع يدك رفعاً متوسطاً قال: أي الراوي، (وأنشأ) أي شرع (عبد الله) هو ابن مسعود يعد أي يحسب ضرب سوطه (حتى أكمل ثمانين جلدة فخلى سبيله) أي ترك حتى رام في طريقه، (فقال الشيخ) أي الرجل الذي أتى بابن أخيه: يا (أبا عبد الرحمن) خطاباً لابن مسعود، والله (إنه لابن أخي) أي حقيقة وأخي قد مات، (ومالي ولد غيره قال): أي ابن مسعود (بئس العم والي اليتيم أنت) مخصوص بالذم، (كنت) أي قبل ذلك، (والله ما أحسنت أدبه صغيراً، ولا سترته كبيراً) والمعنى أن الواجب كان عليك أن تؤدب بالعلم والعمل ليطلع صالحاً، والغالب أنك لو أدبته صغيراً ما كان يفسق كبيراً، ثم لما قدر أنه ارتكب حداً من حدود الله التي يتعلق بها حقوق العباد كان اللائق بك أن تستره، ولم يأت به الأمير أن يزجره.

- حد السارق

(قال): أي الراوي وهو يجيء (ثم أنشأ) أي شرع ابن مسعود (يحدثنا) أي أحاديث تناسب المقام، (فقال: إن أول حد أقيم في الإسلام) أي كان (لسارق أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قامت عليه البينة) أي بشروطها البينة وقيودها المعينة،

ص: 457

(قال): أي النبي صلى الله عليه وسلم (انطلقوا به اقطعوه) أي يمينه (فلما انطلق به) بصيغة المجهول والمعنى إذ ذهبوا به (نظر) بصيغة المجهول، والمعنى نظر بعض الصحابة (إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم أي فرآه (كأنما سعى عليه) بصيغة المجهول من باب التفعيل (والله) قسم معترض (الرماد) نائب الفاعل يقال سعت الريح التراب تسعيه درته وحملته (فقال بعض جلسائه): أي من أصحابه الذين كانوا من خلصائه (يا رسول الله فكأن) بتشديد النون أي عسى (هذا) أي قطع هذا السارق (قد اشتد عليك) أي صعب وصار سبب الحزن لديك؟ (قال وما يمنعني أن لا يشتد علي أن تكونوا) أي كونكم (أعوان الشيطان) أي معاونه في غرضه الكاسد وهو اشتهار الفسق بالعمل الفاسد (على أخيكم) فيه دليل على أن المؤمن وإن سرق لا يخرج عن الإيمان، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة، (قالوا فلولا خليت سبيله) أي فهلا تركته بلا قطع (قال: أفلا كان هذا) أي تركه مغفوراً (قبل أن تأتوني به) أي فأما بعد أن تأتوني به، فلا (فإن الإمام إذا انتهى إليه حد) أي ثبت عنده، (فليس ينبغي له) أي لا يجوز له (أن يعطله) أي لم يقم بأمره لقوله تعالى:{تلك حدود الله فلا تعتدوها} (1) وقوله سبحانه وتعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} (2) الآية (قال): أي ابن مسعود (ثم تلا) أي النبي صلى الله عليه وسلم استشهاداً أو اعتضاداً إلى

(1) البقرة 229.

(2)

النور 2.

ص: 458

ما سبق له في أن اللائق بهم فيما بينهم أن يتأثروا في حقوق الله تعالى، ({وليعفوا}) أي عن خصمائهم ({وليصفحوا}) أي أعرضوا عن تشنيع أفعالهم، وعن المعالجة في تشنيع أقوالهم، وأحوالهم ({ألا تحبون أن يغفر الله لكم})(1) وهذا إعراض، والمعنى أن كل من يحب أن يغفر الله له فليعف وليصفح عن أخيه المسلم ولذا لما نزلت الآية قال أبو بكر: بلى ورجع على مسطح بالإحسان والإكرام وعن ابن عمر قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق، فلما نظر إليه تغير وجهه كأنما رُشَّ على وجهه حب الرمان فلما رأى القوم شدته قالوا: يا رسول الله لو علمنا مشقته عليك ما جئناك به، فقال:"كيف لا يشق علي وأنتم أعوان الشيطان على أخيكم" رواه الديلمي.

(وفي رواية عن ابن مسعود أن رجلاً أتي بابن أخ له سكران) أي على زعم الرجل، (فقال) ابن مسعود لأصحابه:(ترتروه) بكسر الفوقانية الثانية أمر من ترتروا السكران أي حركوه، وزعزعوه (ومزمزوه) أي حركوه تحريكاً عنيفاً (واستنكهوه) أي استنشموه هل يجد منه ريح الخمر أم لا (فترتروه) أي بمبالغة وغيرها، (واستنكهوه فوجدوا منه ريح شراب) أي خمر، (فأمر بحبسه فلما صحا) أي أفاق عن سكره، ورجع عقله إليه فضحوه، (دعا به) دعا بسوط فأمر به فقطعت ثمرته) بصيغة المجهول، (وذكر الحديث) أي السابق إلى آخره.

(وفي رواية عن ابن مسعود قال: إن أول حد أقيم في الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) النور 22.

ص: 459

أتي بسارق فأمر به فقطعت يده، فلما انطلق به نظر) أي نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (كأنما يسقى) أي يذر في (وجهه الرماد) أي من كثرة الحزن المؤثر في الفؤاد (فقال): أي قائل (يا رسول الله كأنه شق عليك فقال: "ألا يشق علي أن تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم" أي على إيصال ضرره وإرادة شره (قالوا أفلا ندعه؟) بالنون أو بتاء الخطاب أي نتركه (قال: "أفلا كان هذا قبل أن يؤتى به فإن الإمام إذا رفع إليه الحد، فليس ينبغي له أن يدعه") أي يتركه (حتى يمضيه) بضم أوله أي يقضيه، (ثم تلا:{وليعفوا وليصفحوا} إلى آخر الآية) أي المتقدمة.

وفي الجامع الكبير لشيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي عن أبي ماجد الحنفي أتاه رجل بابن أخ له، وهو سكران فقال: ترتروه ومزمزوه، واستنكهوه فوجدوا منه ريح شراب فأمر به عبد الله إلى السجن ثم أخرجه من الغد، ثم أمر بسوط فدقت ثمرته حتى افتت له، فخففه يعني صار خفيفاً، ثم قال للجلاد اضرب وارجع يديك، وأعط كل عضو حقه، فضربه ضرباً غير مبرح، وارجعه قيل: يا أبا ماجد ما المبرح؟ قال: ضرب الأمراء، قيل: فما قوله: ارجع يديك قال: لا يتمطى، ولا يرى إبطه قال: فأقامه في قباء وسراويل، ثم قال: بئس العم والله ولي اليتيم هذا ما أدبت، فأحسنت الأدب، ولا سترته الخزية.

ثم قال عبد الله: إن الله عفو يحب العفو، وأن لا ينبغي لوالٍ أن يؤتي حداً إلَاّ أقامه، ثم أنشأ عبد الله يحدث قال: أول حد أقيم في الإسلام رجل قطع من المسلمين، رجل من الأنصار أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنما سعّي في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رماد يعني ذُر عليه رماد

ص: 460

فقالوا: يا رسول الله كأن هذا أشق عليك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يمنعني وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم، إن الله عفو يحب العفو، وإنه لا ينبغي لوالٍ أن يؤتى بحد إلا أقامه، ثم قرأ {وليعفوا وليصفحوا} .

رواه عبد الرزاق، وابن أبي الدينار في ذم الغصب، وابن أبي حاتم والخرائطي في مكارم الأخلاق، والطبراني وابن مردويه والحاكم وغيره.

قال ابن الهمام: فعن عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن يحيى بن عبد الله التيمي الجابري عن أبي ماجد الحنفي، قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله: ترتروه، ومزمزوه، واستنكهوه ففعلوا ذلك، فرفعه إلى السجن، ثم عاد به من الغد، فدعا بسوط، ثم أمر به، فدقت ثمرته بين حجرين حتى صارت درة، ثم قال للجلاد: اجلد وارجع يدك؛ وأعط كل عضو حقه.

ومن طريق عبد الرزاق، رواه الطبراني، ورواه إسحاق بن راهويه، أخبرنا جزء بن عبد الحميد، عن يحيى بن عبد الجابرية انتهى. وفي القاموس الدرة الذي يضرب بها انتهى لا يخفى أنه تعريف قاصر.

- إسناده عن مسلم بن أبي عمران وآخرين

- حرمة الشطرنج

إسناده عن مسلم بن أبي عمران أحد مشايخ الحديث.

أبو حنيفة، (عن مسلم، عن سعيد بن جبير) تقدم أنه من أجل التابعين، (عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يكره لكم) أي حرم عليكم (الخمر) أي شربها واستعمالها، (والميسرة) أي المقامرة بأنواعها وأحوالها (والمزمار) أي جميع أعمالها، (والكوبة) بضم الكاف، وهى النرد والشطرنج (والبربط) وهو العود يعني آلة الغناء (والفهر") وهو بالتحريك والفتح أن يجامع امرأته وجاريته وفي البيت الأخرى تسمع حسه، قيل أن يجامعها ولا ينزل معها ثم ينتقل الى أخرى فينزل فيها.

ص: 461

- دعاء وقت العيادة

(وبه عن مسلم عن إبراهيم النخعي، عن مسروق، عن عائشة قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بمريض يدعو له بقوله: أذهب البأس) بالهمزة الساكنة وتبدل ألفاً والمراد به الشدة (رب الناس) بحذف حرف النداء (أشف) أي صاحب هذا الداء (أنت الشافي) أي حقيقة (لا شفاء إلا شفاءك شفاء) مفعول مطلق لقوله أشف أي شفاء كاملاً مطلقاً شاملاً (لايغادر) أي لا يترك (سقماً) بضم، فسكون وبفتحتين أي مرضاً دائماً والحديث رواه البخاري ومسلم والنسائي.

عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض أهله فيمسح بيده اليمنى، ويقول: اللهم رب الناس أذهب البأس اشفه أنت الشافي لا شفاء إلا شفاءك شفاء لا يغادر سقماً.

- إسناده عن معن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود

إسناده عن معن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رضي الله عنه هو من أكابر التابعين.

أبو حنيفة (عن معن عن ابن مسعود قال ما كذبتُ مذ أسلمت إلا كذبة واحدة كنت أرحل للنبي صلى الله عليه وسلم فأتى رحال من الطائف فسألني) أي الرحال (أي الراحلة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت طائفية المكية وكان يكرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أُتِيَ بها) أي

ص: 462

جيء بالراحلة (قال: من رحل لنا هذا؟ قالوا: رحالك) أي الجديد (قال: مروا ابن أم عبد) أي ابن مسعود (فليرحل لنا فأعيدت إلى الراحلة) أي فأعدت رحلها وقد تقدم هذا الحديث بعينه إلا أنه بإسناد آخر.

(وفي رواية قال عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء برحال من أهل الطائف قال): أي عبد الله، (فجاءني الطائفي فقال: أي الراحلة أحب إلى رسول الله، قلت: الطائفية المكية، فخرج) أي النبي صلى الله عليه وسلم، (ورأى الراحلة) على صفة يكرهها (فقال: من صاحب هذه الراحلة؟ قيل الطائفي قال: لا حاجة لنا بها).

- اشتروا متوكلاً على الله

اشتروا متوكلاً على الله: - (وبه عن ابن مسعود) أي مرفوعاً (قال: اشتروا) أي بالنسيئة (متكلاً على الله) لا على ما سواه، فإن من توكل عليه كفاه، (قالوا: كيف ذلك) أي الأمر هنالك يا رسول الله (قال: تقولون بعنا) أي اشترينا مع أن البيع لفظ مشترك كالشراء يستعمل كل في معنى الآخر والمعنى لا تبايعوا حال كونكم تقولون (إلى مقاسمنا) أي مقاسم أرزاقنا (ومغانمنا) أي أوقات قسمة غنائمنا، فإن هذا أمر مبهم لا يعرف أحد أنه يصل إليها أم لا وإذا وصلت إليه لا تدري أيضاً أن تقدر على قضاء دينه منها أم لا فينبغي أن يكون الاعتماد على الله تعالى لا على ما سواه وهو

ص: 463

لا ينافي الأجل المقدر فتدبر كما أن أخذ الزاد في السفر لا ينافي التوكل على صاحب القضاء والقدر.

- اتقوا مخاش النساء

(وبه عن معن قال: وجدت بخط أبي عوف، عن عبد الله بن مسعود قال: نهينا) أي بالكتاب أو السنة (أن نأتي النساء) ولو حال حيضهن (في مخاشهن) بفتح الميم وتشديد الشين المعجمة أي أدبارهن أما الكتاب فقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} (1) والفرج هو موضع الحرث يعني زراعة الولد لا الدبر إنه موضع الفرث وقد ورد اتقوا مخاش النساء رواه سمويه وابن عدي، عن جابر وروى أحمد وأبو داود، عن أبي هريرة: ملعون من أتى امرأة في دبرها.

- إسناده عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود

إسناده عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عبد الله هذا ابن أخي عبد الله ابن مسعود الهذلي، مدني الأصل، سكن الكوفة أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من كبار التابعين بالكوفة، سمع عمر بن الخطاب وغيره.

روى عنه ابنه عبد الله ومحمد بن سيرين وغيرهما مات في ولاية بشر بن مروان بالكوفة.

- فخر عائشة الصديقة

(أبو حنيفة (عن عون، عن عامر الشعبي، عن عائشة قالت: فيّ) أي توجد

(1) البقرة 223.

ص: 464

في ذاتي وصفاتي (سبع خصال) أي حميدة (ليست) كل واحدة منها (في واحدة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجني وأنا بكر، ولم يتزوج أحداً من نسائه بكراً غيري) ومن المعلومات أن البكر أحب من الثيب عقلاً ونقلاً، فقد وردها بكراً.

- تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بمكة في شوال

وقد تزوجها عليه الصلاة والسلام بمكة في شوال سنة عشرة من النبوة، وقبل الهجرة بثلاث ولها ست سنين، وأعرس بها في المدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمان عشر شهراً ولها تسع سنين، وصداقها فيما قال ابن إسحاق: أربعمائة درهم.

وفي الصحيحين عنها أنها قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين وأسلموني إليه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين، انتهى، وكان مدة مقامها معه عليه الصلاة والسلام أيضاً تسع سنين، (ونزل جبريل عليه السلام بصورتي) أي إليه قبل أن تزوجني، (ولم ينزل بصورة أحد من نسائه غيري) ففي الترمذي أن جبريل جاءه عليه السلام بصورتها في خرقة حرير خضراء، وقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.

وفي رواية عنه قال جبريل: إن الله قد زوجك بابنة أبي بكر، ومعه صورتها وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: رأيتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في خرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك فاكشف عن وجهها فأقول: إن يك من عند الله يمضيه، والخرقة بفتحتين شقة الحرير أو، والبيضاء (وأراني) أي النبي صلى الله عليه وسلم (جبريل ولم يره) بضم أوله (أحداً من أزواجه غيري) وهذا يشكل بما

ص: 465

ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب، عن ابن إسحاق قال: حدثني إسماعيل بن أبي حكيم أنه بلغه عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بن عم أتستطيع أن تخبرني لصاحبك إذا جاء يعني جبريل عليه السلام فلما جاءه قال يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني فقالت له: قم يا ابن عم، فاقعد على فخذي اليمنى ففعل فقالت له: هل تراه؟ قال: نعم، قالت فتحول إلى اليسرى، ففعل، فقالت هل تراه؟.

فقال: نعم، قالت: فاجلس في حجري، ففعل، قالت: هل تراه؟ قال نعم.

قال: فألقت خماراً وحسرت عن صدرها، فقالت له: هل تراه؟ قال: لا.

قالت: أبشر فإنه والله ملك وليس بشيطان انتهى.

وفيه أنه لا يلزم من قوله يا خديجة هذا جبريل أنها رأته، وعلى تقدير التسليم بما يقول يلزم أرادت عائشة رؤيته بعد البيعة بالرسالة، وأما قضية خديجة، فكانت أيام النبوة هذا. وقد روى الشيخان والترمذي، والنسائي وابن ماجه، عن عائشة: يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام.

لكن في صحيح مسلم أتاني جبريل، فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي قد أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها.

ومن الحديث (وكنت من أحبهن إليه نفساً وأباً). ففي الصحيحين: أحب النساء إليَّ عائشة، ومن الرجال أبوها، ولا يبعد أن يقيد الأزواج بما عدا خديجة إذا أرادت من حيث المجموع في النيتين (ونزل فيّ) أي في براءتي (آيات من القرآن) وهي في أوائل سورة

ص: 466

النور من قوله سبحانه: {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} (1) إلى قوله عز وجل {أولئك مُبَرَّأون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} (2)(كاد يهلك) أي يكفر (فئام) أي جماعات (من الناس) أي رجالاً ونساء، (ومات) أي النبي صلى الله عليه وسلم (في ليلتي ويومي) أي في نوبتي وبيتي! (وتوفي بين سحري ونحري) بفتح فسكون فيهما، والسحر الروية والنحر الصدر. والمعنى مات وهو مستند إلى صدرها، وما يحاذي سحرها منه.

(وفي رواية أنها قالت: إن فيَّ سبع خصال ما هن) أي مجموعهن، ولا واحدة منهن (في أحد من أزواجه تزوجن بكراً) حال من المفعول، (ولم يتزوج بكراً غيري، وأتاه جبريل بصورتي قبل أن تزوجني) أي بعد موت خديجة، (ولم يأته) أي جبريل (بصورة أحد من أزواجه غيري، وكنت أحبهن إليه نفساً وأباً، ونزل فيَّ) أي في براءتي (عذر كاد يهلك فئام من الناس) أي من جهة الإفك، (ومات في يومي وليلتي بين سحري ونحري، وأراني جبريل) بالنصب على أنه مفعول ثان، (ولم يره أحد من أزواجه غيري).

وبه (عن عون، عن أبيه) أي عبد الله بن عتبة بن مسعود، (عن عبد الله) أي ابن مسعود وهو أساس الإسلام، ومن قدماء الصحابة الأعلام (أنه كان إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته) أي عند إحدى أزواجه، ولم يمكن له اطلاع على أفعاله ليقتدي

(1) النور 11.

(2)

النور 26.

ص: 467

به عليه الصلاة والسلام في جميع أحواله (أرسل الربة أم عبد) أي عبد الله بن مسعود (تدخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيته (تنظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم أي سيرته وطريقته في شريعته، (ودله) أي دلالته (وسمته) أي هيئته وحالته.

وفي النهاية أن الدل والسمت شريعته، (ودله) أي دلالته (وسمته) أي هيئته وحالته.

وفي النهاية أن الدل والسمت والهدي عبارة عن الحالة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة، والطريقة واستقامة المنظر والهيئة ودل المرأة حسن هيئتها، وقيل حسن حديثها.

(فتخبره بذلك) أي بجميع ما رأته هنالك (فيتشبه به) أي في جميع أقواله وأفعاله، ويتبعه في حميع أحواله.

وقد روي أن بعض الصحابة أسلم فظن أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبوة من كثرة دخولهما وخروجهما عن الحضرة وآثار ظهورهما في مقام الخدمة.

- الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بسلام

وفي الاستيعاب لابن عبد البر برواية حفص بن سليمان، عن أبان بن أبي عياش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله قال: أرسلت أمي لتبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فتنظر كيف يوتر فباتت عند النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ما شاء أن يصلي حتى إذا كان آخر الليل، وأراد الوتر قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} في الركعة الأولى وقرأ في الثانية {قل يا أيها الكافرون} ، ثم قعد ثم قام ولم يفصل بينهما بسلام، ثم قرأ {قل هو الله أحد} ، حتى إذا فرغ كبر، ثم قنت فدعا بما شاء الله أن يدعو، ثم كبر وركع.

وقد روي عن ابن المدني قال حدثنا سفيان، حدثنا جامع بن أبي الأسند سمع حذيفة يحلف بالله ما أعلم أحداً أشبه دلاً، ولا هدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه من عبد الله بن مسعود قال ابن المدني.

وقد روى هذا الحديث الأعمش، عن أبي وائل عن حذيفة، وقال محمد بن عبد، حدثنا الأعمش عن شقيق قال: سمعت حذيفة يقول: إن أشبه الناس هدياً ودلَا وسمتاً بمحمد صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود من حين يخرج إلى أن يرجع لا أدري، ما يصنع في بيته.

ص: 468

قال ابن المدني بسند آخر: سمعت عبد الرحمن بن يزيد، قال: قلنا لحذيفة أخبرنا برجل قريب السمت والهدي والدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلزم قال: ما أعلم أحداً أقرب سمتاً ولا هدياً ولا دلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارته جدار بيته من ابن أم عبد انتهى، ولهذا قدمه إمامنا على سائر الصحابة في الفقه ما عدا الخلفاء الأربعة.

وبه (عن عون عن أبيه) أي المذكور، (عن عبد الله) أي ابن مسعود (أنه كان صاحب حصير رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي سجادته صلى الله عليه وسلم، وفي رواية كان صاحب عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية كان صاحب رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(وفي رواية، كان صاحب الراحلة، لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم.

(وفي رواية، كان صاحب سواك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في السفر، (وصاحب الميضاة) أي المطهرة، مبنى ومعنى، (وصاحب النعلين) وجاء في رواية، وصاحب الوسادة، قال ابن عبد البر، كان ابن مسعود يلج عليه ويلبسه نعليه ويمشي أمامه ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام.

ص: 469

- إسناده عن إسماعيل بن عبد الله

إسناده عن إسماعيل بن عبد الله، رضي الله عنه، أحد أكابر المحدثين.

أبو حنيفة (عن إسماعيل عن أبي صالح عن أم هانىء) سبق ذكرهما (قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى خلق في الجنة مدينة) أي بلدة، عظيمة (من مسك اذفر) افعل وصف من الذفر محركة، وهو شدة ذكاء الريح، (ماؤها السلسبيل) اللام للعهد أي المذكور في قوله تعالى: {ويُسْقَوْنَ فيها كأساً كان مِزَاجُهَا زَنْجَبيلاً

عَيْناً فيها تُسَمَّى سَلْسَبيلاً} (1).

وفي القاموس: السَّلسبيل، اللين الذي لا خشونة فيه، والخمر وعين في الجنة، انتهى، ويقال، هو مركب من سلسبيل إليها لتطفى عليها، ويتنعم لديها (وشجرها خلقت من نور) أي فثمرتها في غاية من لذة، وسرر (فيها) أي في تلك المدينة (حور) أي بيض البدن، واسع الأعين، حسان في جميع أعضائهن (على كل واحدة سبعون ذؤابة) بضم أوله، وهي الناصية أو منبتها من الرأس، كذا في القاموس. والأظهر أن المراد بها هنا قطعة من الشعر حال كونها مُدَلاة، أعم من أن يكون مضفورة أم لا (لو أن واحدة منها) أي من جماعة الحوراء المذكورة (أشرقت في الأرض) أي طلعت فيها مع كشف وجهها أو شيء من بدنها (لأضاءت) أي لنورت، واستنارت (ما بين المشرق والمغرب ولملأت من طيب ريحها ما بين

(1) الإنسان 17 - 18

ص: 470

السماء والأرض فقالوا يا رسول الله لمن هذا) أي المقام العالي، (قال لمن كان سمحاً) أي سهلاً ذا يسر ومسامحة (في التقاضي) أي في طلب قضاء حقه ديناً أو عيناً.

(وفي رواية قال: لو أن واحدة من الحور العين أشرقت لأضاءت ما بين المشرق والمغرب ولملأت) أي ريحاً (ما بين السماء والأرض من طيبها).

(وفي رواية قالت أم هانىء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله مدينة) أي خالصة (خلقت من مسك اذفر معلقة تحت العرش) فإن عرش الرحمن سقف الجنة على ما رووها (وشجرها من النور وماؤها السلسبيل وحور عينها خلقت من بنات الجنان) بكسر الجيم جمع الجنة (على كل واحدة منها سبعون ذؤابة، لو أن واحدة منهن) أي من تلك الذوائب (علقت في المشرق لأضاءت) أي لنورت أهل المغرب.

وقد روى الطبراني والضياء عن سعيد بن عامر مرفوعاً: لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أشرقت إلى الأرض لملأت الأرض من ريح المسك، ولأذهبت ضوء الشمس والقمر.

وروى أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: لو أن ما يقبل مما في الجنة به، لتزخرفت له ما بين مواقف السموات والأرض والجبال ولو أن رجلاً من أهل الجنة أطلع قيد أساوره لطمس ضوء الشمس كما يطمس ضوء الشمس ضوء النجوم.

وفي منهاج العابدين للغزالي: لقد حكي أن بعض أصحاب سفيان الثوري كلموه فيما كانوا يرون من خوفه واجتهاده ورثة حاله، فقالوا: يا أستاذ، لو نقصت

ص: 471

من هذه الجهد نلت مرادك أيضاً إن شاء الله تعالى، فقال سفيان: كيف لا أجتهد، وقد بلغني أن أهل الجنة يكونون في منازلهم فيتجلى لهم نور تضيء به الجنان الثمان، فيظنون أن ذلك نور من جهة الرب سبحانه، فيخرون ساجدين، فنودوا أن ارفعوا رؤوسكم فليس الذي تظنون إنما هو نور جارية تبسمت في وجه زوجها فأنشأ يقول:

ما ضرَّ من كانت الفردوس مسكنه

ماذا تحَّمل من بؤسٍ وإقتارِ

تراه يمشي كئيباً، خائفاً، وَجِلاً

إلى المساجد، يسعى بين أطمارِ

يا نفس، مَالكِ من صبر على النارِ

قد حان أن تُقبِلي من بعدِ إدبارِ

- تقاضي الدين

وبه (عن إسماعيل عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شدد على أمتي في التقاضي إذا كان معسراً) أي فقيراً مفلساً (شدد الله عليه في قبره) وروى الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد مرفوعاً: أفضل المؤمنين رجل سمح بيع سمح، السمح الاقتضاء الشرى، سمح القضا.

وروى البخاري وابن ماجه عن جابر مرفوعاً: رحم الله عبداً سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا باع سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى سمحاً.

وروى القفاعي عن ابن عمر والديلمي عن أبي هريرة مرفوعاً: السماح رباح والعنبر شوم.

ص: 472

وروى ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعاً: من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة.

- العلم

وبه (عن إسماعيل عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ياعائشة ليكن شوارك) وهو بفتح الشين المعجم، أي متاع بيتك، ولا يبعد أن يكون تصحيف شعارك (العلم والقرآن) تخصيص، والمراد به بالعلم الحديث، فإنه به يعلم القرآن وغيره، فلكونه أعم تقدم والله أعلم.

- حديث الجوع

وبه (عن إسماعيل عن أبي صالح عن أم هانىء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى علي كرم الله وجهه ذات يوم) أي نهاراً فرآه (جائعاً) أي مكاشفة أو ملاحظة ناشئة من آثار الجوع، كالضعف والصفرة، (فقال يا علي ما أجاعك) أي أيُّ شيء جعلك جائعاً أصوم أو تركُ أكلٍ اختياراً أو اضطراراً، (قال: يا رسول الله، إني لم أشبع منذ كذا وكذا) أي ولعل هذا ومتى على ترك الشبع أظهرت آثار الجوع على وجهي، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبشر بالجنة) أي ونعيمها، وقد ورد: جوعوا أنفسكم لوليمة الفردوس، وأجوعكم في الدنيا أشبعكم في الآخرة.

ص: 473

- في القبر ثلاث خصال

وبه (عن إسماعيل عن أبي صالح عن أم هانىء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في القبر ثلاث) أي خصال (سؤال) أي للملكين (عن الله تبارك وتعالى أي عن دينه ونبيه (ودرجات في الجنان) أي مكشوفة معروضة على أهل الإيمان (وقراءة القرآن عند رأسك) أيها المخاطب المؤمن، وهي إما على لسان ملك أما يتصور على القرآن عند رأس القارىء محافظة له ومؤانسة معه، كما أشار إليه الشيخ الولي الشاطبي بقوله:

وحيث الفتى يرتاع في ظلماته من القبر يلقا سناه تهللاً

هنالك يهنيه مقيلاً وروضة من أجله في ذروة العز تجتلى

- حديث الغفران

وبه (عن إسماعيل عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علم أن الله يغفر له. فهو مغفور") أصل الحديث رواه البخاري ومسلم والنسائي، عن أبي هريرة مرفوعاً، أن عبداً إذا أصاب ذنباً فقال: رب أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال ربه أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً فقال: رب أذنبت ذنباً آخر فاغفر لي، فقال: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم

ص: 474

أصاب ذنباً فقال: رب أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أنه له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي ثلاثاً، فليعمل ما شاء، وهذا مرتب على عادته المعروفة من الوقوع في المعصية والرجوع إلى التوبة، وليس المراد به العمل على وجه الإباحة بالمخالفة كما بينته في شرح الحصن الحصين، والله الموفق والمعين.

وبه (عن إسماعيل عن أبي صالح، عن أم هانىء قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِن عبد جاع يوماً) أي ولم ينو صوماً (فاجتنب المحارم) أي ارتكاب المحرمات (ولم يأكل مال المسلمين) من الأيتام وغيرهم (باطلاً) أي ظلماً، وهذا تخصيص بعد التعميم، اعتناء بحقوق العباد زيادة على ما يختص بحقوق الله (إلا أطعمه الله تبارك وتعالى من ثمار الجنة) أي فواكه أشجارها التي لا ينقطع آثارها.

وبه: أي الإسناد المذكور (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يوم القيامة ذو حسرة وندامة) وهو مستفاد من قوله تعالى: {وأَنْذِرْهُم يَوْمَ الحَسْرَةِ} (1). وقد ورد، ليس يتحسر أهل الجنة يوم القيامة إلا على ساعة فوت بهم ولم يذكروا الله فيها، رواه الطبراني، والبيهقي، عن معاذ بن جبل.

(1) مريم 39.

ص: 475

- إسناده عن منصور بن معتمر

إسناده عن منصور بن معتمر أحد أجلاء المحدثين، وهو المشهور المنصور الأعمش.

أبو حنيفة (عن منصور عن أبي وائل) وهو شقيق بن سلمة الأسندي الكوفي، أدرك الجاهلية والإسلام. وأدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرو ما لم يسمع منه، قال: كنت قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشر سنين أرعى غنماً لأهلي بالبادية، روى عنه خلق من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وابن مسعود، كان خصوصاً به، وهو كثير الحديث ثقة ثبت حجّه، مات زمن الحجاج، (عن حذيفة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول على سباطة قوم) بضم السين، وهي كناسة يطرح ما في البيوت (قائماً) حال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه مسلم عن المغيرة، أنه عليه الصلاة والسلام توضأ ومسح بناصيته والخفين.

ورواه ابن ماجه عنه أيضاً، أنه صلى الله عليه وسلم، أتى سباطة قوم، فبال قائماً، وفي نسخة، فتوضأ.

- ليس للمعتوه طلاق

وبه (عن منصور، عن الشعبي، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز للمعتوه) وهو كالمجنون، وقيل: هو قليل الفهم، المختلط الكلام، الفاسد التدبير، لكن لا يضرب ولا يشتم بلا سبب، بخلاف المجنون، وكذا حكم النائم والمدهوش والمغمى عليه (طلاق ولا بيع ولا شراء) أي نحوها من العقود الشرعية، تقصد بعض القيود المرعية.

ص: 476

قال ابن الهمام، وهذا لقوله عليه الصلاة والسلام:"كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون، والذي فيه شيء" رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله وضعفه، وروى ابن أبي شيبة بسند عن ابن عباس. لا يجوز طلاق الصبي.

وروي أيضاً عن علي كرم الله وجهه "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه" وعلقه البخاري أيضاً، عن علي كرم الله وجهه، والمراد بالجواز، النفاذ، وروى البخاري عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: ليس للمجنون ولا سكران طلاق.

وبه (عن منصور، عن مجاهد، عن رجل من ثقيف) وهو قبيلة من قبائل أهل الحجاز (يقال له الحكم) بفتحتين، أو ابن الحكم (عن أبيه) قال ابن عبد البر: الحكم بن سفيان الثقفي، يقال سفيان بن الحكم، روى حديثه منصور عن مجاهد، فاختلف أصحاب منصور في اسمه، وهو معدود في أهل الحجاز له حديث واحد في الوضوء مضطرب الإسناد، يقال: إنه لا يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وسماعه عندي صحيح، لأنه نقله الثقات، منهم الثوري، ولم يخالفه من هو في الحفظ مثله وقال، قال ابن إسحاق: هو الحكم بن سفيان بن عثمان بن عامر بن معيب الثقفي.

(قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ حفته) بفتح الحاء، أي غرفة (من ماء فنفحه) أي رشه (في مواضع طهوره) أي فرجه، وهو يحتمل أن يكون فوقه، أو فوق إزاره فيما يحاذيه، وهذا لدفع الوسوسة فيما ينافيه.

والحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، عن الحكم ابن سفيان، ولفظه: أنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا توضأ، أخذ كفاً من ماء

ص: 477

فنضح به فرجه.

ورواه الترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة بلفظ: جاءني جبرائيل، فقال يا محمد إذا توضأت، فانتضح.

- حمل الجنازة بجوانبها الأربعة

وبه (عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد) وهو رافع الكوفي، من مشاهير التابعين وثقاتهم، سمع ابن عمر وجابراً وأنساً، روى عنه المنصور والأعمش مات سنة سبع وتسعين (عن عبد الله بن بسطاس) بالموحدة في أوله، أو بالنون نسختان، أحد التابعين .. (عن ابن مسعود أنه قال: من السنة) وهذا اللفظ من الصحابي في حكم المرفوع، كما حققه أرباب أصول علم الحديث، (أن تحمل) أي أنت أيها المخاطب بالخطاب العام (بجوانب السرير) أي بأطرافه الأربعة، والمراد بالسرير نعش الميت (فما زدته على ذلك) أي ما ذكر من حمل الجوانب الأربعة، كل جانب أربعين خطوة، كما في رواية، (فهو نافلة) أي زيادة على الخير حاصلة، وتكون السنة بها كاملة.

وقد روى ابن عساكر عن واثلة مرفوعاً: من حمل لجوانب السرير الأربع غفر له أربعين كبيرة، وفيه إشارة إلى ما قدمناه من اختيار أربعين خطوة، ليكون كل خطوة كفارة الخطيئة، وفيه إيماء إلى أن السنة حمل الجنازة بجوانبها الأربع، لا بين العمودين، كما اختاره الشافعي وأتباعه، واستدل ببعض الأحاديث الموقوفة القابلة للتأويل، مع أنها معارضة بأحاديث أصح منها، وأخرج في المقصود عنها، فقد روى ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق في مصنفهما، ثنا هشيم بن أبي عطاء، عن علي الأزدي قال: رأيت ابن عمر في جنازة، فحمل بجوانب السرير الأربع.

ص: 478

وروى عبد الرزاق، أخبرني الثوري، عن عباد بن منصور، أخبرني أبو المهزم، عن أبي هريرة قال: من حمل الجنازة بجوانبها الأربع، فقد قضى الذي عليه، ثم قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما ذهبوا إليه، فقد روى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة ثنا شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن عبيد الله بن بسطاس، عن عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، قال: من اتبع الجنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربعة.

وروى محمد بن الحسن، أنا أبو حنيفة، ثنا منصور بن المعتمر. قال من السنة حمل الجنازة بجوانبها الأربعة.

ورواه ابن ماجه، ولفظه: من اتبع الجنازة، فليأخذ بجوانب السرير كلها، فإنه من السنة، وإن شاء فليدع.

قال ابن الهمام: موجب الحكم، بأن هذا هو السنة، وأن خلافه إن تحقق من بعض السلف، ويعارض، لا يجب على المناظر بعينه، وقد يشاء، فيبدع محملات مناسبة تجويز لضيق المكان، أو كثرة الناس، أو قلة حاملين، وغير ذلك، انتهى.

وقولنا: أو كثرة الناس، فيه نظر لا يخفى.

ص: 479

- إسناده عن مسلم بن سالم الجهني

إسناده، عن مسلم بن سالم الجهني، بضم الجيم وفتح الهاء، نسبة إلى بني جهنية، قبيلة من العرب.

- لا يجوز ضرب الجاهل قبل العلم

أبو حنيفة (عن مسلم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى) هو الأزدي، ولد لست سنين بقيت من خلافة عمر، قيل غرق بنهر البصرة سنة ثلاث وثمانين، حديثه في الكوفيين، سمع أباه وخلقاً كثيراً من الصحابة، وعنه الشعبي ومجاهد وابن سيرين، وخلق سواهم كثير، وهو في الطبقة الأولى من تابعي الكوفيين، وقد يقال ابن أبي ليلى أيضاً لولده محمد وهو قاضي الكوفة، إمام مشهور في الفقه، صاحب مذهب وقوله: إذا أطلق المحدثون ابن أبي ليلى، فإنما يعنون أباه، وإذا أطلق الفقهاء ابن أبي ليلى، فإنما يعنون محمداً، ولد محمد هذا سنة أربع وسبعين، ومات سنة ثمان وأربعين ومائة، قال:(نزلنا) أي ضيفاً (مع حذيفة بن اليمان) رضي الله عنه (على دهقان) بكسر الدال، ويضم زعيم فلاحي العجم، ورئيس الإقليم، معرب (بالمدائن) أي مدائن كسرى قرب بغداد سميت بها لكبرها، وإلا فهي جمع المدينة، وهي كل بلدة كبيرة، أو عظيمة، وضدها القرية، وهي أعم منها (فأتى) أي الدهقان (بطعام فطعمنا) بكسر العين، أي فأكلنا منه، (ثم دعا حذيفة بشراب) أي طلب منه، (فأتى بشراب في إناء فضة فضرب) أي حذيفة (به) أي بالإناء (وجهه) أي وجه الدهقان غضباً عليه (فساءنا) أي أوقعنا في

ص: 480

المساءة ما صنع من ضربه، من غير أن يعلم بأن هذا لا يجوز في الشريعة، فربما يكون جاهلاً بالمسألة، (فقال: أتدرون لما صنعت به هذا؟ قلنا: لا! فقال: إني نزلت) أي عليه (في العام الماضي، فدعوت بشراب فيه، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نأكل في آنية الذهب والفضة، وأن نشرب فيها، وأن نلبس الحرير) أي جنسه (والديباج) بالكسر، ويفتح وهو نوع منه غليظ، (فإنها) أي المذكورات (للمشركين) أي لانتفاعهم (في الدنيا خاصة، وهي لنا في الآخرة) أي خالصة، وهذا لا ينافي كونها حراماً عليهم، فتأمل، فإنه في موضع زلل، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة، رواه النسائي عن أنس، ونهى عن الديباج والحرير والإستبرق، رواه ابن ماجه عن البراء.

- إسناده عن مسلم بن كيسان

إسناده عن مسلم بن كيسان تابعي جليل.

أبو حنيفة (عن مسلم، عن أنس قال: سافر النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (يريد مكة) أي فتحها (فصام وصام الناس معه، ثم أفطر وأفطر الناس معه) كما تقدم بسنده السابق.

(وفي رواية، خرج من المدينة إلى مكة في رمضان فصام حتى انتهى) أي

ص: 481

وصل (إلى بعض الطريق) فعند أحمد بإسناد صحيح، عن أبي سعيد قال:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان، فصام حتى انتهى" أي وصل "إلى بعض الطريق"(فشكا الناس إليه الجهد) بضم الجيم وفتحها، أي المشقة والضيق (فأفطر وأفطروا، فلم يزل مفطراً حتى أتى مكة) وفي البخاري: "أفطر، فلم يزل مفطراً حتى انسلخ الشهر، وفي أخرى له أفطر وأفطروا، الحديث.

(وفي رواية قال: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان يريد مكة، فصام وصام معه المسلمون، حتى إذا كان ببعض الطريق شكا بعض المسلمين الجهد، فدعا بماء، فأفطر وأفطر المسلمون).

- حديث الضيافة والعبادة

وبه (عن مسلم عن أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة المملوك) أي العبد المعتق، وسمي مملوكاً باعتبار ما كان، أو يجيب سيده بدعوته من غير أن يحضر صاحبه، وهذا يدل على كمال تواضعه مع أصحابه، (ويعود المريض) أي لو كان فقيراً (ويركب الحمار) أي مع اقتداره على الخيل والناقة والبغل.

وفي رواية ابن عساكر، عن أبي أيوب، كان يركب الحمار، ويخصف النعل ويرقع القميص، ويلبس الصوف، ويقول:"من رغب عن سنتي فليس مني".

ص: 482

وفي رواية لابن سعد عن همزة بن عبد الله بن عتبة مرسلاً كان يركب الحمار عرياناً ليس عليه شيء.

وروى الحاكم عن أنس، كان يردف خلفه ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار. ورواه الطبراني بسند حسن، عن ابن عباس كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل المشاة. ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير.

ص: 483

- إسناده عن أبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي

إسناده عن أبي حصين، عثمان بن عاصم الأسدي، من أكابر التابعين.

أبو حنيفة: (عن أبي حصين، عن رافع بن خديج) يكنى أبا عبد الله الحارثي الأنصاري أصابه سهم يوم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أشهد لك يوم القيامة، وانفضت جراحته زمن عبد الملك بن مروان، فمات سنة ثلاث وسبعين في المدينة، وله ثمانون سنة، روى عنه خلق كثير (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بحائط) أي بستان، (فأعجبه) أي استحسنه (فقال: لمن هذا؟ فقلت لي، فقال: أين هو لك) أي بأي سبب حصل لك (قلت: استأجرت قال: فلا تستأجره بشيء منه) أي: من محصوله، فإن فيه خطيراً.

ص: 484

(وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم، مر بحائط فقال: لمن هذا؟ فقلت: لي! وقد استأجرته، قال: فلا تستأجره بشيء)، والمقصود من تكرار المتن مع تغير يسير تعدد الإسناد، ليتقوى المراد عند الإيراد.

- إسناده عن سعيد بن مسروق الثوري

إسناده عن سعيد بن مسروق الثوري، وهو أبو سفيان، أحد أجلاء التابعين المحدثين.

- جراحة النعم والوحش زكاة

أبو حنيفة: (عن سعيد، عن قتادة، عن رافع بن خديج، أن بعيراً من إبل الصدقة أفَدَّ)، بتشديد الدال أي تفرد وشرد، (فطلبوه) أي فلم يقدروا عليه (فلما أعياهم أن يأخذوه) أي عجزهم أخذه (رماه رجل بسهم فأصاب مقتله) أي موضعاً منه كان سبباً لقتله (فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أي هل يجوز أكله؟ من غير وقوع ذبحه، (فأمر بأكله، وقال: إن لها) أي للإبل (أوابد) أي شوارد (كأوابد الوحوش، فإذا خفتم منها) أي من شواردها أن يفوتكم (فاصنعوا مثل ما صنعتم بهذا البعير، ثم كلوه) وفي معناه البقر والدجاج، ونحوهما.

ص: 485

(وفي رواية أن بعيراً من إبل الصدقة. أفد، فرماه، رجل بسهم فقتله) أي: السهم حيث أصاب مقتله، (فسئل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كلوه، فإن لها أوابد كأوابد الوحش).

- حديث المسح

(وبه، عن سعيد، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون الأروي، عن أبي عبد الله) الجدلي بفتحتين (عن خزيمة بن ثابت)، بضم الخاء وفتح الزاء؛ أنصاري يعرف بذي الشهادتين (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسح) أي مدته (على الخفين، قال: للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن وللمقيم يوم وليلة) وقد تقدم.

وبه، (عن سعيد، عن إبراهيم، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَذَبَ على محمد متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار) سبق الكلام عليه.

ص: 486

- إسناده عن عدي بن ثابت (أبو اليقظان)

إسناده عن عدي بن ثابت، هو أبو اليقظان، قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل، يعني البخاري عن جده عدي بن ثابت فقال: لا أدري ما اسمه، قال: وذكر يحيى بن معين، أن اسمه دينار.

- لا يفطر الصوم بأكل طعام يكون على خرق العادة

أبو حنيفة (عن عدي، عن أبي حازم، عن أبي الشعثاء) وهو سليم بن أسود المحاربي الكوني، من مشاهير التابعين وثقاتهم، مات زمن الحجاج، (عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن صوم الوصال) وهو المواصلة، بلا تخلل أكل وشرب، بأن لا يفطر يومين أو يوماً أو أياماً، ففي الصحيحين، عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الوصال، أي عن صومه.

وفي الصحيحين، عن عائشة قالت: نهاهم صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل، فقال: إني لست كأحدكم. إني يطعمني ربي ويسقيني، أي من الجنة.

وفيه إشارة إلى أنه لا يفطر طعام يكون على خرق العادة، ولا يكون من الوصال في العبادة مانعاً، أو معناه يقويني على الطاعة قوة تقوم مقامها من اللذة، إما من جهة العلم والمعرفة، وإما من جهة لذة الخدم (وصوم الصمت) ومن صوم يلتزم فيه أن يصمت عن الكلام مع الأنام كان مشروعاً في دين النصارى، ومنه قوله تعالى:{إني نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَومَ إنْسِياً} (1) وإلا فقد روي من صمت نجا، وروى الترمذي وأحمد، عن ابن عمر، روى الديلمي عن ابن عمر مرفوعاً "صمْتُ الصائِم تسبيحٌ، ونومُهُ عِبادة، ودُعاؤُهُ مُستجاب، وعملُهُ مضاعف".

(1) مريم 26.

ص: 487

قال ابن الهمام: يكره صوم الصمت، وهو أن يصوم، ولا يتكلم، يعني يلتزم عدم الكلام، بل يتكلم بخير، وبحاجة، ويكره صوم الوصال، ولو يومين، ويكره صوم الدهر، لأنه يضعفه، أو يصير طبعاً له، ومبنى العبادة على خلاف العادة.

وبه (عن عدي، عن سعيد بن جابر، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم العيد إلى المصلى) أي مسجد العيد، وهو خارج المدينة، (فلم يصل) من النوافل مطلقاً (قبل الصلاة) أي صلاة العيد، (ولا بعدها) أي في المصلى شيئاً، في الهداية، ولا يتنفل في المصلى قبل صلاة العيد، وعامة المشايخ على كراهة النفل قبلها في المصلى، وفي البيت، وبعدها في المصلى خاصة، كما في الكتب الستة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى بهم العيد، لم يصل قبلها ولا بعدها.

وأخرج الترمذي، عن ابن عمر، أنه خرج في يوم عيد، فلم يصل قبلها ولا بعدها، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، صححه الترمذي.

قال ابن الهمام: وهذا النفي بعد الصلاة محمول عليه في المصلى، لما روى ابن ماجه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله، صلى ركعتين.

وبه (عن عدي، عن إبراهيم، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء وقرأ) أي في إحدى الركعتين (بالتين والزيتون) بهذه السورة.

وبه (عن عدي، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي أيوب، قال: صليت مع

ص: 488

رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء) في حجة الوداع (بالمزدلفة) أي جمعاً، وأصل الحديث في الصحيحين عن جابر.

وبه (عن عدي، عن ابن جبير، عن ابن عباس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبناً فتمضمض) أي غسل فمه، (وصلى ولم يتوضأ) والحديث، رواه ابن ماجه، عن أم سلمة، بلفظ "إذا شربتم اللبن، فتمضمضوا منه، فإن له دسماً".

- إسناده عن عاصم بن كليب الجدمي

إسناده عن عاصم بن كليب الجدمي (1) رضي الله عنه، بفتح الجيم، تابعي جليل، كوفي، سمع أباه وغيره، ومنه الثوري وشعبة، وناهيك بهما حديثه في الصلاة، والحج، والجهاد.

وقال ابن الهمام: القدح في العاصم بن كليب غير مقبول، فقد وثقه ابن معين، وأخرج له مسلم حديثه في الهدي، وغيره عن علي.

- ضيافة النبي صلى الله عليه وسلم

أبو حنيفة، (عن عاصم، عن أبي بردة) أو بريدة، وهو عامر بن عبد الله بن قيس بن أبي موسى الأشعري، أحد التابعين المشهورين، المكثرين سمع أباه وعلياً وغيرهما، كان على قضاء الكوفة بعد شريح، فعزله الحجاج (أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قوماً

(1) عاصم بن كليب الجرمي

ص: 489

من الأنصار) في ديارهم، أو في بيتهم بالمدينة، ومحلاتهم، (فذبحوا له شاة) أي لضيافته، (وصنعوا له طعاماً، فأخذ من اللحم، شيئاً، فلاكه) هو المضغ، أو مضغ صعب، على ما في القاموس، والمراد هنا، الأول، فتأمل، (فمضغه) أي فاستمر على مضغه (ساعة) أي زماناً قليلاً (لا يسيغه) أي لا يقدر على ابتلاعه، وإنزاله في حلقه (فقال: ما شأن اللحم) أي خبره وحاله، (قالوا: شاة لفلان، ذبحناها) أي بغير إذنه وعلمه، (وقصدنا حتى يجيء) أي يحضر (فنرضه من ثمنها، قال) أي الراوي (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطعموها الأسراء") جمع أسير، وهم الفقراء من الكفار، والمحبوسون من المسلمين، وذلك بشبهة في أكله، وإلا فيحتمل أنهم عرفوا إرضاء صاحبهم البتة بهذا مجاناً، أومبادلاً، وفيه دلالة على أن الغاصب إذا ذبح شاة الغير، ضمنها، أو ملكها خبيثاً يجب عليه أن يتصدق بها.

وفي رواية (عن عاصم بن كليب، عن أبيه، أن رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم صنع طعاماً، وقمنا معه، فلما وضع الطعام، تناول النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فدعاه)، أي فطلب النبي صلى الله عليه وسلم لأكله. (فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقمنا معه فلما وضع الطعام، تناول النبي صلى الله عليه وسلم لضغة) بفتح الموحدة، وبكسرها أي قطعة من ذلك اللحم، (فلاكها في فيه) أي فمه (طويلاً) أي مديداً زيادة على العادة (فجعل لا يستطيع أن

ص: 490

يأكلها) أي يبتلعها (فألقاها من فيه) أي فمه (وأمسك عن الطعام) أي عوده، (فلما رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك) أي ما ذكر من الإلقاء والإمساك (أمسكنا عنه) أي امتنعنا عن أكله نحن أيضاً (فدعا النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الطعام، فقال: "أخبرني عن لحمك هذا، من أين هو؟) أي إذ فيه علة (قال: يا رسول الله شاة كانت لصاحب لنا، فلم يكن عندنا) أي كان غائباً عنا ولم يكن حاضراً (نشتريها منه، وعجلنا بها) أي بأخذها (وذبحناها وصنعناها لكي) أي طعاماً منها حتى (يجيء فنعطي ثمنها) أي إياه (فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برفع الطعام) أي من المجلس (وأمر أن يطعمه الأسراء).

(قال عبد الواحد: قلت لأبي حنيفة: من أين أخذت هذا؟) أي الحكم الذي بيانه (الرجل يعمل) أي التجارة (في مال الرجل بغير إذنه) أي من دون رضاه به (يتصدق بالربح) لأنه حصل ملكاً خبيثاً لا يصلح لأحدهما (قال: أخذته من حديث عاصم).

ص: 491

- رفع اليدين محاذاة شحمة الأذنين

وبه: (عن عاصم بن وائل بن حجر) بضم الحاء، وسكون الجيم والراء، وهو الحضرمي، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل قدومه، وقال: يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً راغباً في الله عز وجل وفي رسوله. وهو بقية أبناء الملوك، فلما دخل عليه، رحب به وأدناه من نفسه وبسط له رداءه، فأجلسه، وقال اللهم بارك في وائل وولده، واستعمله على الاستقبال من حضرموت.

روى عنه ابناه علقمة وعبد الجبار وغيرهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يده) أي حال تكبير الإحرام للصلاة، والمراد باليد، جنسها الشامل لليدين (يحاذي) أي يقابل (ويوازي بهما شحمة أذنيه) ظاهره، أنه غير تماس بهما.

(وفي رواية "كان يرفع يديه) أي بالتثنية (حتى يحاذي بهما شحمة أذنيه) أي شحمتي أذنيه، (وفي رواية عن وائل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، يرفع يديه في الصلاة) أي أولها (حتى يحاذيا) أي اليدان (شحمة أذنيه) اعلم أن رواية وائل في صحيح مسلم، أنه رآه صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى دخل في الصلاة وكبر، ووضعهما حيال أذنيه.

والرواية عن أنس في السنن الكبيرة للبيهقي: كان صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة، كبر ثم رفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه أذنيه.

ص: 492

قال أبو الفرج: إسناده كلهم ثقات، وفي البخاري عن أبي حميد الساعدي: رأيته صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، قال ابن الهمام: ولا معارضة، فإن محاذاة الشحمتين بالإبهامين تسوغ حكاية محاذاة اليدين المنكبين والأذنين، لأن طرف الكف مع الرسغ، يحاذي المنكب، أو يقاربه، والكف نفسه يحاذي الأذن واليد، يقال علا بالإبهامين الكف، أي أعلاها، فالذي نص على محاذاة الإبهامين بالشحمتين، وفق في التحقيق بين الروايتين، فوجب اعتبارها. ثم رأيتها رواية أبي داود عن وائل، صريحة فيه، حيث قال:"إنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم حين قام إلى الصلاة، فرفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه"، انتهى.

والأظهر، أنه كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه من غير تقييد إلى هيئة خاصة، فأحياناً كان يرفع إلى منكبيه، وأحياناً إلى شحمة أذنيه، وأحياناً إلى محاذى رأسه، وبهذا جعلها مالك أقوالاً، واختار، ما اختاره مالك، علماؤنا، وكأنهم نظروا إلى أكثر ما ورد، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وأما فيما سواها، فقال الشافعي وأحمد: يستحب أيضاً رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه.

وبه (عن عاصم، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه) أي وائل بن حجر (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند التكبير) أي كما تقدم (ويسلم عن يمينه ويساره) أي في آخر صلاته، إشارة إلى ما ورد أن التكبير للصلاة تحريمها، والسلام تحليلها.

وبه: (عن عاصم، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا

ص: 493

سجد") أي أراد أن يسجد (وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا قام) أي أراد أن يقوم من ركعته (رفع يديه قبل ركبتيه) ورواه أبو داود من حديث وائل، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه".

قال ابن الهمام في حديث وائل: إنه عليه الصلاة والسلام إذا نهض في الصلاة، والتوفيق بينه وبين ما روى أنه عليه السلام اعتمد على فخذيه، وعن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام اعتمد على الأرض، إما بحمله على حال الكبر، أو لبيان الجواز، وقال الطحاوي: لا بأس بالاعتماد على الأرض.

وقال الحواني، الخلاف في الأفضل، فتأمل.

- نصب رجله اليمنى

وبه: (عن عاصم، عن أبيه عن وائل بن حجر، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة، اجتمع") أي فرش (رجله اليسرى وقعد عليها، ونصب رجله اليمنى") وفي الترمذي من حديث وائل، قلت: لأنظرنَّ إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جلس، يعني للتشهد، أفرش رجله اليسرى، الحديث.

وروى أحمد، عن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه التشهد، فكان إذا جلس في وسط الصلاة، وفي آخرها، جلس على وركه اليسرى، الحديث.

وفي مسلم، عن عائشة، كان عليه الصلاة والسلام يفرش، وينصب رجله

ص: 494

اليمنى، وروى النسائي، عن ابن عمر أنه قال: من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، ويستقبل بأصابعها القبلة، ويجلس على اليسرى.

ورواه البخاري من غير ذكر استقبال القبلة بالأصابع، والله أعلم.

- إسناده عن سلمة بن كهيل

- شفاعة أهل الإيمان

إسناده عن سلمة بن كهيل، بالتصغير.

أبو حنيفة: (عن سلمة، عن أبي الزاعر، من أصحاب ابن مسعود) أي المخصوصين به، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليخرجن بشفاعتي من أهل الإيمان) أي من فساقهم (من النار) أي بعد دخولهم فيها مدة من الزمان، حتى ورد أن آخر من يخرج من النار، لبث فيها سنة، لا من سنة يعد من عمر الدنيا (حتى لا يبقى فيها أحد إلا أهل هذه الآية) أي من الكفار الموصوف بما ذكر الله سبحانه في شأنهم، أن أهل الجنة يتساءلون عن المجرمين ({ما سَلَكَكُم}) أي أدخلكم على وجه الخلود ({في

ص: 495

سَقَرْ

قالوا لم نَكُ مِنَ المُصَلِّين}) أي من المسلمين الذين كانوا يصلون ({ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكين}) أي كإطعام المؤمنين لرضاء رب العالمين ({وكُنَّا نَخُوضُ}) أي نسرح في الأقوال الباطلة ({مَعَ الخائضين}) أي مع المنافقين والكافرين ({وكُنَّا نُكَذْبُ بيَومِ الدِين}) أي بوقوعه ({حتَّى أتانا اليَقِين}) أي عين اليقين (إلى قوله {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعةُ الشَّافِعِين})(1) أي من الأنبياء والصالحين، لو فرض أنهم يشفعون، فكيف وهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون.

- الشفاعة برضاء الله تعالى

(وفي رواية، عن ابن مسعود، قال: "يُعَذِّبُ الله أقواماً من أهل الإيمان) أي في نار جهنم (ثم يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لا يبقى إلا من ذكر الله سبحانه وتعالى أي صفتهم، والاستثناء منقطع ({ما سَلَكَكُمْ في سَقَرْ، قالوا لَم نَكُ مِنَ المَصَلِّين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِين

وَكُنَّا نَخُوضُ مع الخَائِضين}) أي المنافقين.

- فساد قول المرجئة

والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكادت أن تكون متواترة، كما أوردها شيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي في البدور السافرة في أحوال الآخرة، وهو مقتدى أهل السنة والجماعة.

وفساق أهل الإيمان يذلهم من عذاب النيران مدة من الزمان، ثم يدخلون الجنان فلا يخلدون في النار، غير طوائف الكفار، وهذا كله مستفاد من قوله {إنَّ الله لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ به ويَغْفِرُ ما دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} (2) فدل على بطلان قول الخوارج والمعتزلة، حيث يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار، وعلى

(1) المدثر 42 - 48.

(2)

النساء 48.

ص: 496

فساد قول المرجئة، إن من قال: لا إله إلا الله، لم يدخل النار، ولو كان من الفساق، وبهذا تبين صحة اعتقاد إمامنا الأعظم، وبطلان قول من نسبه إلى المرجئة على ما تقدم.

- رمي الجمار

وبه، (عن سلمة، عن الحسن العرفي، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه عَجَّل) بتشديد الجيم، أي أرسل عجلة (ضعفة أهله) بفتحتين، جمع ضعيف، والمراد، النساء وذريته من الصغار، (من المزدلفة إلى منى في الليل) خوف الزحام، (وقال لهم: "لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس) إرشاداً لهم بالأفضل، وهو أول وقت السنة للرمي، وإلا فبعد طلوع الصبح جاز، ولا يصح قبله، خلافاً للشافعي.

وفي البخاري، عن ابن عمر، أنه كان يقدم ضَعَفَة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله بأيديهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام، وقبل أن يدفع، فمنهم من تقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من تقدم بعد ذلك، فإذا أقدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: رخص في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج أصحاب السنن الأربعة، عن ابن عباس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفة أهله بغلس، ويأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس، وبهذا استدل على بطلان ركنية المبيت بمزدلفة، كما نسب إلى الشافعي والليث بن سعد وعلقمة، فإن الركن لا يسقط بعذر، بل إذا كان عذر يمنع أصل العبادة سقطت كلها أو أخرت أما إن شرع فيها، فلا يتم إلا بأركانها، وكيف وليست هي سوى أركانها، فعند عدم الأركان لم يتحقق مسمى تلك العبادة أصلاً.

ص: 497

- أبو بكر وعمر

وبه (عن سلمة، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقْتَدُوا بِالَّذينَ من بَعْدِي") أي بلا واسطة، فيكون إخباراً بالغيب (أبو بكر وعمر) ظاهره على البدلية أن يكون أبي بكر ويمكن حمله على نعت كما نقل عن أبي حنيفة، أنه قال: ولو مثل أبو قبيس.

وروى عن علي كرم الله وجهه أنه كتب علي بن أبي طالب، وقرأ في الشواذ تبت يدا أبي لهب (1)، وعلى أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هما أبو بكر وعمر.

والحديث بعينه رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه وغيرهم عن حذيفة.

ووجه تخصيص الشيخين من بين الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة، مع ورود حديث: اقتدوا بالخلفاء الراشدين المهديين، وحديث (2)(أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) بينته في المرقاة شرح المشكاة.

- أول من أسلم من النساء خديجة، وأبو بكر من الرجال، وبلال من الموالي

وبه: (عن سلمة، عن أبي حية العربي، وهو الهمداني، من أصحاب علي كرم الله وجهه قال: سمعت علياً يقول أنا أول من أسلم) أي مطلقاً، أو من

(1) لعله أبو لهب، بالواو، في القراءة الشاذة

(2)

هذا ليس بصحيح، وتفصيله في رسالة قلحفة (بنود الأنوار)

ص: 498

الغلمان، أو يكون الأولية مقيداً بكونه أسلم (وصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ورد أول من آمن خديجة، وأول من آمن أبو بكر، وأول من آمن بلال، وجمع بأن خديجة من النساء، وأبا بكر من الرجال، وبلالاً من الموالي، مع أن العبرة الكاملة بإيمان أبي بكر. قال العرب: ما كانوا يعتبرون النساء والصبيان والموالي.

- سبب نزول {قل ياعبادي}

وأبو حنيفة (عن مكي بن إبراهيم، عن ابن لهيعة) بفتح اللام وكسر الهاء وهو الحفر في الفقيه، اسمه عبد الله وكنيته أبو عبد الرحمن، قاضي مصر، روى عن عطاء وابن أبي ليلى وابن أبي مليكة، والأعرج، وعمرو بن شعيب، وعن يحيى بن كثير، وقتيبة المقري، قيل: إنه ضعيف الحديث، وقال أبو دواد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه، وضبطه، وإتقانه، مات سنة أربع وسبعين ومائة. (عن أبي قبيل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني، يقول: سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتقه، ولم يزل معه سفراً وحضراً إلى أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج الى الشام، فنزل الى الرملة، ثم انتقل إلى حمص، وتوفي بها سنة أربع وخمسين. روى عنه خلق كثير، (يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحب أن أغالي في الدنيا) أي لذاتها (بهذه الآية) أي بدلها، وفي مقابلها ({قُلْ يَا عِبَادِي}) بفتح الياء،

ص: 499

وإسكانها، وأراد به المؤمنين والمشركين ({الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنْفُسِهِمْ}) أي المعاصي ({لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله}) بفتح النون وكسرها، أي تيأسوا ({مِنْ رحمة الله}) فإن القنوط من رحمته كفر. كما أن الأمن من مكره كفر، وبقية الآية ({إنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً})(1) أي بالتوبة مطلقاً على العموم، وبدونها إن شاء لبعض العصاة من المؤمنين، كما يستفاد من قوله تعالى:{إنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} (2)(فقال رجل: ومن أشرك) أي وما حكمه يا رسول الله، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثم قال:) أي الرجل، بالإعادة، بتأكيد الإفادة، (ومن أشرك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:) أي الرجل (ومن أشرك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إما انتظاراً للوحي، أو اجتهاداً في اشتقاق الحكم من الكتاب، (ثم قال: إلا من أشرك) يحتمل أن يكون إلا للتنبيه، فتكون الواو العاطفة ساقطة، أو تقديره: من أشرك كذلك، والمعنى: إذا تاب وآمن فلا يستعظم ما صدر منه حال إشراكه من قتل النفس والزنى ونحوهما من القبائح.

ويحتمل أن يكون إلَاّ استثنائية، وهو ظاهر، والأول أولى، كما لا يخفى لما ذكر المقربون أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعونا إليه لحسن، لو تخبرنا لما عملناه كفارة؟. فنزلت هذه الآية.

(1) الزمر 53.

(2)

النساء 48 و 116.

ص: 500

أبو حنيفة: (عن محمد بن منصور، بن أبي ليلى سليمان البلخي، ومحمد بن عيسى، ويزيد الطوسي) أي بروايتهم (عن القاسم بن أبي الحذاء) بتشديد الذال المعجمة، (العدوي) بفتحتين. منسوب إلى بني عدي، (عن نوح بن قيس، عن يزيد بن الرقاشي عن أنس بن مالك، قال: قلنا: يا رسول الله لمن تشفع يوم القيامة؟ قال: لأهل الكبائر) أي من أمته، وهو محتمل أن يكون بعد دخول النار، أو قبله، ولا منع من الجمع (وأهل العظائم) أي الفواحش، عطف تفسير، ويمكن حمل الأول على حقوق الله تعالى، والثاني على حقوق العباد (وأهل الدماء) تخصيص بعد تعميم، تنبيهاً على أن قتل النفس أعظم الكبائر والعظائم، ومع هذا، لا يخرج صاحبه عن الإيمان، ويستحق الشفاعة في ذلك المكان والزمان.

- حديث الشفاعة كاد أن يكون متواتراً

وقد ورد في حديث، كاد أن يكون متواتراً، أنه عليه الصلاة والسلام قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وابن حبان، والحاكم في مستدركه والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم عن جابر والطبراني، عن ابن عباس والخطيب، عن ابن عمر، وعن كعب بن عجوة.

وفي رواية للخطيب عن أبي الدرداء، بلفظ:"شفاعتي لأهْل الذُّنُوبِ مِنْ أُمَتي وَإنْ زَنى وَإنْ سَرَقْ عَلى رَغْمِ أَنْفِ أبي الدَّردَاء".

ص: 501

وفيه تنبيه على بطلان مذهب الخوارج والمعتزلة، وكذا على فساد معتقد المرجئة، كما تقدم.

- فقد قيل أن سور التستر أول سور وضع بعد الطوفان

أبو حنيفة: (عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي) بكسر الدال، وفتح الميم، ويكسر أي الشامي، (عن محمد بن عبد الرحمن التستري) منسوب إلى تستر، بضم التائين الفوقيتين بينهما سين مهملة، وروي بفتح التاء الثانية، وهو الأشهر، وأما ششتر، بالشينين المعجمتين، فلحن، كذا قال صاحب القاموس، والأظهر أنه لغة عجمية، وأن تستر معرب، فقد قيل إن سورها أول سور وضع بعد الطوفان (عن يحيى بن سعيد) وهو الأنصاري المدني، سمع أنس بن مالك والسائب بن يزيد وخلقاً سواهما، وروى عنه هشام بن عروة، ومالك بن أنس، وشعبة والثوري وابن عتبة، وابن المبارك وغيرهما، كان يتولى القضاء بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من بني أمية، وأقدمه منصور العراق، وولاه القضاء بالهاشمية، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة بها، كان إماماً من أئمة الحديث والفقه، عالماً ورعاً صالحاً زاهداً مشهوراً بالثقة والدين، (عن عبد الله بن عامر) الظاهر أن المراد به القرشي، خال عثمان بن عفان، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى به، فتفل عليه وعوذه وبرك له النبي صلى الله عليه وسلم، ومات عليه السلام وله ثلاث عشر سنة، وقيل: إنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا حفظ عنه، ومات سنة تسع وخمسين. ولَاّه عثمان البصرة وخراسان، وأقام عليها إلى أن قتل عثمان، فلما أفضى الأمر إلى معاوية، رد فارس إليه ذلك، وكان شيخاً كريماً كثير المناقب، وهو افتتح خراسان، وقتل كسرى في ولائه. ولم يختلفوا أنه افتتح أطارف غاية خراسان وأصفهان وكرمان وحلوان، وهو

ص: 502

الذي شق نهر البصرة. وأحرم مرة من نيسابور وهو الذي عمل السقايات بعرفة شكر الله سعيه (عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات العبد والله يعلم منه شراً) أي فيما يكون شراً (ويقول الناس) أي ويشهد الصالحون في حقه (خيراً، قال الله للملائكة: قد قبلت شهادات عبادي) أي تزكيتهم (على عبدي) لأن الحكم في الشريعة على الظاهر والله أعلم بالسرائر (وغفرت علمي) أي ما علمت (من الشَّرِّ فيه) أي في حقه، وهذا يشير إلى معنى قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً لِتَكُونوا شُهَداء عَلى النَّاسِ} (1).

- أنتم شهداء الله في الأرض

وروى الطبراني عن سلمة بن الأكوع، مرفوعاً: أنتم شهداء الله في الأرض والملائكة شهداء الله في السماء.

- إسناده عن يزيد بن صهيب

إسناده عن يزيد بن صهيب. بالتصغير، وهو من أجلاء التابعين.

أبو حنيفة: (عن يزيد بن صهيب، عن جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يخرج الله مِنَ النَّارِ مِنْ أهل الإيمان) أي بعضهم المرتكبين للعصيان (بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: يزيد فقلت: إن الله تعالى

(1) البقرة 143.

ص: 503

يقول {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} (1)) يعني وهو بظاهره يفيد أن كل من دخلها لا يخرج منها، كما توهم بعض المبتدعة (قال جابر: اقرأ ما قبلها) أي لتعلم تأويلها ({إن الذين كفروا} (2) إنما هي) أي الآية، نازلة (في الكفار) وأما حكم الفجار، فدخولهم تحت المشيئة كقوله تعالى {وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} (3) وخروجهم منها لا بد منه، كما دل عليه الأدلة القاطعة من الأحاديث الشافية الساطعة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: من قال "لا إله إلا الله دخل الجنة" أي ولو أخر، جمعاً بين الأدلة.

(وفي رواية "يخرج قومٌ من أهل الإيمان) أي من النار، وكان دخولهم لأجل العصيان (بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، قال يزيد: قلت: إن الله تعالى يقول: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِين مِنْها} قال جابر: اقرأ ما قبلها {إن الذين كفروا} ذلك) أي الحكم المذكور (للكفار) أي في شأنهم، كما يدل عليه قوله سبحانه فيما بعده:{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيم} أي دائم، بخلاف عذاب الفجار، فإن عاقبتهم النجاة من النار.

(1) المائدة 37.

(2)

المائدة 36.

(3)

النساء 48 و 116.

ص: 504

- شفاعة أهل الإيمان من العصاة

(وفي رواية عن يزيد قال: سألت جابراً عن الشفاعة) أي وقوعها في حق المؤمنين، (قال: يعذب الله قوماً من أهل الإيمان بذنوبهم) أي بأنواع من العصيان سوى الكفر، والكفران، (ثم يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فقلت: فأين قول الله عز وجل أي أين محله في هذا المحل (فذكر الحديث إلى آخره).

- مرتكب الكبيرة لا يكفر

أبو حنيفة: (والسعودي) أي رويا كلاهما (عن يزيد، قال: كنت أرى رأي الخوارج) أي مذهبهم في أن أهل الكبائر كفار وأن الشفاعة ليست في حقهم، بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِين} (1). وقوله سبحانه: {ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيم ولا شَفِيعٍ يُطَاع} (2)(فسألت بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أي منهم جابر، كما سبق (فأخبرني) إفراد الضمير وهو محتمل أن يراد بالبعض فرد أو جمع لأنه مفرد للنبي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:) أي شرح (بخلاف ما كنت أقول) أي من الرأي الفاسد، والمذهب الكاسد (فأنقذني الله بذلك) أي أخلصني الله بتحديثه هنالك.

أبو حنيفة: (عن جبلة) بفتح الجيم والموحدة (ابن سجيم) بالتصغير

(1) المدثر 48.

(2)

غافر (المؤمن)18.

ص: 505

(عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى") أي فرضاً أو نفلاً (فلا يَفْتَرِشُ ذراعيهِ افْتِراشَ الكلب") وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري، عن آدم بن علي الكبري، قال: رآني عمي وأنا أصلي، لا أتجافى عن الأرض بذراعي، فقال: يا ابن أخي لا تبسط بسط السبع، وادَّعِم على راحتك، وأبد ضبعيك، ورواه ابن حبان والحاكم، وضحى مرفوعاً:"لا تبسط بسط السبع وادعم على راحتك" قوله وادعم بتشديد الدال وكسر العين المهملة، أي اتكىء، والضبع بسكون الموحدة العضد، وقيل وسطه، وفي الصحيحين من حديث عبد الله ابن مالك ابن بحينة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجنح في سجوده حتى يرى فضح إبطيه، أي بياضهما، وقوله يجنح بالجيم وتشديد النون أي يجافي.

وروى أحمد وأبو داود والنسائي، وابن ماجه، والحاكم عن عبد الرحمن بن شبل، أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد، كما يوطن البعير.

- الأضحية

وبه، (عن جبلة، عن ابن عمر، قال: جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحية) أي ثبتت مشروعية الأضحية، إما وجوباً كما هو مذهبنا، أو ندباً، كما هو مذهب بعض الأئمة في الأحاديث النبوية.

وبه: (عن جبلة عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النخل) أي في

ص: 506

بيع ثمرها (حتى يبدو) أي يظهر (صلاحه) ونوب فساده، وقد روى أحمد والشيخان عن جابر، أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الثمر حتى يطيب.

وفي رواية للبخاري عن أنس: نهى عن بيع الثمرة حتى تبدو صلاحها، وعن النخل حتى تزهو.

- الخضاب بالسواد منهي عنه

أبو حنيفة: (عن يحيى بن عبد الله الكندي) بكسر الكاف نسبة إلى قبيلة بني كندة (عن أبي الأسود، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ أَحسَن ما غَيرْتُمْ به الشَيْب، وفي رواية: هذا الشيب الحناء) بكسر الحاء وتشديد النون، ممدوداً ويقصر (والكتم) بفتح الكاف والتاء المخففة، وقد يشدد وهو الوسمة.

والأظهر أن الواو بمعنى أو لأن الجمع بينهما يورث السواد، وهو منهي عنه، وقد بسطت ما يتعلق به من المسائل في شرح الشمائل، الحديث بعينه رواه أحمد والأربعة.

وفي رواية: قال "أحسن ما غيرتم به الشعر) بفتحتين، ويسكن العين واللام للعهد، أي الشعر الأبيض من اللحية (الحناء والكتم. وفي رواية: من أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم).

ص: 507

- حديث المزدلفة

أبو حنيفة: (عن يحيى بن جثة بن أبي حبان، عن ثاني، عن ابن عمر قال:) أي يريد (أفَضْنَا) أي رجعنا (معه) أي مع ابن عمر (من عرفات، فلما نزلنا جمعاً) أي المزدلفة، قيل، ومنه قوله تعالى:{فَوَسَطْنَ به جَمْعَاً} (1)(أقام) أي نفسه، وأمر بإقامة الصلاة (فصلينا المغرب معه، ثم تقدم، فصلى ركعتين) أي من غير إقامة ثانية.

وبه: قال بعض المشايخ، وأراد بهما صلاة العشاء لكونه مسافراً (ثم دعا بماء فصب عليه) إما دفعاً للحرارة، أو غسلاً، لكونه للمزدلفة، (ثم أوى) بقصر الهمزة، ويمد أي ذهب (إلى فراشه، فقعدنا ننظر الصلاة طويلاً) أي زماناً كثيراً، ظناً أن ركعتيه كانت سنة المغرب، أو نافلة، وذهابه إلى فراشه استراحة كاملة، ثم قلنا: يا أبا عبد الرحمن الصلاة، أي أدركها، (فقال:) أي الصلاة، (فقلنا: العشاء الآخرة فقال أما) بالتخفيف، ويحتمل أن يكون بالتشديد، (كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صليت).

وتعلق الشافعي بظاهره حيث يقول: هذا الجمع بالمزدلفة، كما قبله بعرفة، محمول على جميع المسافر من نوع الجمع تقديم وتأخير.

(1) العاديات 5.

ص: 508

وعندنا هذا الجمع للنسك يستوي فيه المسافر والمقيم.

(وفي رواية عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء)، يعني بالمزدلفة، والحديث في الصحيحين وغيرهما عن جابر وجماعة.

- من سل علينا السيف

وبه، (عن يحيى، عن حميد) تابعي جليل، (عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَلَّ السيف) أي شهر بالمقاتلة الباطلة (على أمتي) أي الإجابة (فإن لجهنم سبعة أبواب) كما نص عليه في الكتاب، (باب منها لمن سل السيف) أي على هذه الأمة من غير إذن في الشريعة.

وقد روى أحمد ومسلم عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً: "مَنْ سل علينا السيف فليس منا".

أبو حنيفة (عن زبيد) بالتصغير (بن الحارث اليمامي) وفي نسخة الثاني (عن ابن عمر، عن عبد الرحمن بن أبزى بفتح الهمزة وسكون الموحدة، فزاء، وهو الخزاعي، مولى نافع بن عبد الحارث، سكن الكوفة، وأكثر روايته عن عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وروى عنه ابناه سعيد، وعبد الله، وغيرهما، ومات

ص: 509

بالكوفة، (قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ) أي غالباً (في وتره {سبح اسم ربك الأعلى}) أي في الركعة الأولى بعد الفاتحة، (و {قل يا أيها الكافرون} في الثانية، و {قل هو الله أحد} في الثالثة) وقد تقدم نحوه عن ابن مسعود، عن أمه مرفوعاً.

(وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر في الركعة الأولى {سبح اسم ربك الأعلى} أي إلى آخره (وفي الثانية قل للذين) يعني أي يريد الراوي بقوله: قل للذين، {قل يا أيها الكافرون} ، أي هذه السورة (فهكذا) أي قل للذين كفروا (في قراءة ابن مسعود) أي طبق ما في مصحفه، وهذه من جملة ما ارتفع تواتره وبقي شاذاً، وفي الثالثة {قل هو الله أحد} إلى آخره.

(وفي رواية: أنه كان يقرأ في الوتر في الركعة الأولى، {سبح اسم ربك الأعلى}، وفي الثانية، {قل يا أيها الكافرون} وفي الثالثة {قل هو الله أحد} (1)).

(1) عن الحسن، قد أجمع المسلمون على أن الوتر في ثلاث، لا يسلم إلا في آخرهن.

ص: 510

(وفي رواية، كان يوثر بثلاث ركعات) أي بتسليمة واحدة، كما روت عائشة، على ما رواه الحاكم عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن. وكذا روى النسائي عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر في مصنف ابن أبي شيبة بسنده، عن الحسن، قد أجمع المسلمون على أن الوتر في ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن. (يقرأ فيها بـ {سبح اسم ربك الإعلى} ، و {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} وروى الطحاوي بسنده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، يقرأ في الأولى بـ {سبح اسم ربك الأعلى} ، إلى آخره.

وأما في حديث عائشة المروي في السنن الأربعة، وصحيح ابن حبان، والمستدرك، كان يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بفاتحة الكتاب، و {سبح اسم ربك الأعلى} ، وفي الثانية، بـ {قل يا أيها الكافرون} ، وفي الثالثة، بـ {قل هو الله أحد} والمعوذتين، وظاهره الجمع بين السور الثلاث في الركعة الآخرة من الوتر، وهو خلاف سائر الروايات، على أنه يلزم منه تطويل الثالثة على الثانية.

ولا يبعد أن يقال: الواو (1) بمعنى أو، وفي الثالثة {قل هو الله أحد} أحياناً، وبكل واحدة من المعوذتين أحياناً.

قال ابن الهمام: واعلم أن فيما روينا قراءته عليه الصلاة

(1) الواو بمعنى أو، قلت، وقد سبق هذا الحديث، رورى النسائي عن زيد الحسين بن أبزى، عن أبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث. يقرأ في الأولى {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثالثة {قل هو الله أحد} .

ص: 511

والسلام في الثالثة بسورة الإخلاص، والمعوذتين، ولم يذكر أصحابنا سوى قراءة الإخلاص، وذلك لأن أبا حنيفة روى في مسنده، عن حماد عن ابراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية، قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد، ويقنت قبل الركوع، ولا يعرف من فعله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين السور في ركعة واحدة.

قيل رواه ابن أبي شيبة عن بعض الصحابة مرفوعاً: "أعطى كل سورة حظها في الركوع والسجود".

- لا تنكح البكر حتى تستأمر

أبو حنيفة: (عن شيبان، عن ابن عبد الرحمن، عن يحيى ابن أبي كثير) يكنى أبا نصر اليماني، مولى الطي، أصله بصري، صار إلى اليمامة، رأى أنس بن مالك، وسمع عبد الله بن قتادة، وروى عنه عكرمة، والأوزاعي، وغيرهما، (عن المهاجر بن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنْكَحُ البكْر) أي البالغة (حتى تُسْتَأمَر) بصيغة المجهول، أي حتى يستأمر (ورضاها) القائم مقام أمرها (سُكُوتُها، ولا تُنْكَحْ الثيب) أي البالغة (حتى تستأذنَ، ولا بد من إذنها (صريحاً).

(وفي رواية: حتى تشاور).

(وفي رواية: لا تنكحْ البكر حتى تُسْتَأمر، وإذا سكتت فهو) أي سكوتها (إذنها) أي في حكم صريح إذنها، وسبب ذلك، أن الحياء غالب عليها، (ولا تنكح الثيب حتى تستأذن) والمعنى، أن سكوتها ليس يقوم مقام رضاها، كما يدل عليه حسن المقابلة، وفي صحيح مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ومالك في

ص: 512

الموطأ مرفوعاً: "الأيّم أحَقُّ بِنَفْسِها مِنْ وليها والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها، وقوله الأيِّم بتشديد الياء المكسورة من لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً لكنه في المعنى الثاني أظهر وأشهد فتدبر هذا.

وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه ومسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها، وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن القطان: حديث ابن عباس هذا صحيح.

وأخرج الدارقطني، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، رد نكاح ثيب وبكر أنكحهما أبوهما وهما كارهتان، واعلم أنه لا يجوز إجبار البكر البالغة على النكاح عندنا خلافاً للشافعي.

ومعنى الإجبار: أن يباشر العقد، فينعقد عليها، شاءت أو أبت، ومبنى الخلاف، أن علة ثبوت ولاية الإجبار، أهو الصغر؟ أم البكارة؟ فعندنا الصغر، وعند الشافعي البكارة.

وبه (عن شيبان، عن يحيى، عن المهاجر، عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يزوج إحدى بناته) أي على إحدى (يقول: إن فلاناً يذكر فلانة) أي يخطبها، وهو كناية (ثم يزوجها) أي يجرد عرضها عليها، وتحقق سكوتها.

(وفي رواية: عن أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زوج) أي أراد أن يزوج (إحدى بناته، أتى خدرها) بكسر الخاء المعجمة أي جاء وراء سترها (فيقول، إن فلاناً يذكر فلانة، ثم يزوجها).

ص: 513

(وفي رواية قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب إليه) بصيغة المجهول (ابنة من بناته أتى خدرها فقال إن فلاناً يذكر فلانة، ثم ذهب) أي عنها (فأنكح) أي في غيبتها.

- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت وصوم الوصال

وبه: (عن شيبان، عن يحيى، عن المهاجر، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصَمْتِ وصَوْمِ الوِصَالِ) وقد سبق.

- فوت صلاة العصر

وبه: (عن شيبان، عن يحيى، عن أبي بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ العَصْرِ) أي باختياره من دون نِسيَانِه واضطرارِه (فَكَأَنَّمَا وَتِرَ) بصيغة المجهول، أي نقص، من وتَر يتر، ومنه قوله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُم} (1). وقوله (أهله وماله) ضبط برفعهما ونصبهما، بناء على أنه متعد إلى مفعول، أو مفعولين، وهو الظاهر من الآية.

(1) محمد 35.

ص: 514

ورواه أحمد والبخاري والنسائي، عن بريدة بلفظ:"مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ حَبطَ عَمَلُهُ" أي كمال عمله.

ولعل وجه التخصيص مع أنه ورد على ما رواه الطبراني عن ابن عباس، "مَنْ تَرَكَ صَلَاةً لَقِيَ الله وهُوَ عَلَيهِ غَضْبَان" بناء على القول المعتمد في الصلاة الوسطى، إنها العصر على ما حرر في محله.

- تعجيل صلاة العصر

وبه (عن شيبان عن يحيى عن ابن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بكروا) أمر من التبكير، وهو المبادرة إلى الشيء، أي في بكور الوقت، أي أوله، والمعنى: أسرعوا (لصلاة العصر) أي لأدائها قبل فواتها، وسيأتي في الحديث الآتي أنه مقيد بيوم فيه غيم، وإلا فتأخيرها مستحب ما لم يصفر الشمس، فإنه يكره.

(وفي رواية عن بريدة الأسلمي) أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وبايع بيعة الرضوان، وكان ساكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، ثم خرج منها إلى خراسان غازياً، فمات بمرور سنة اثنين وستين.

روى عنه جماعة، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بكروا لصلاة العصر في يوم غيم، فإن مَنْ فاتَه صَلَاةَ العصْرِ) أي متعمداً (حتى تغرب الشمس) بيان لغاية الفوت (فقد حَبِطَ عَمَلُهُ) رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان، عن يزيد بلفظ: "بكروا بالصلاة في يَومِ الغَيْم. فإنه من ترك صلاة العصر حبط عمله".

ص: 515

- دعاء جنازة

وبه (عن شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة) أحد الفقهاء السبعة، وأجلاء التابعين في المدينة، وقد سبق ذكره (عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يقول: إذا صلى على الميت) أي بعد التكبيرة الثالثة (اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا) أي حاضرنا (وغائبنا) والمقصود المبالغة في الاستيعاب، (وصغيرنا) أي من سيفعل ذنباً (وكبيرنا) والمراد بها شابنا وشيخنا (وذكرنا وأنثانا) والمراد استيفاء أنواع المؤمنين والمؤمنات، والحديث في الحصن الحصين، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة.

قال ابن الهمام: وفي حديث إبراهيم الأشهل، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة، قال: اللهم، اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، رواه الترمذي والنسائي.

ورواه أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه: اللهم من أحييته منا، فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان.

وفي رواية لأبي داود، نحوه، وفي أخرى: ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده. انتهى.

وفي رواية النسائي: ولا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ، وروى زيادة، واغفر لنا وله.

- حديث المشورة

وبه (عن شيبان عن عبد الملك) الظاهر أنه ابن عمر الفرسي الكوفي المنسوب

ص: 516

إلى الفرس، ومن لا يدري، يقول: القرشي، نسبة إلى قريش، وليس كذلك، وإنما هو منسوب إلى فرسة كان على قضاء الكوفة بعد الشعبي، ومن مشاهير التابعين وثقاتهم، ومن كبار أهل الكوفة، روى عن جندب بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وعنه الثوري وشعبة، مات سنة ست وثلاثين، أو نحوها، وهو ابن ثلاث وستين.

(عن جده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ استشارك") أي طلب منك الدلالة على الرشد بطريق المشورة في الأمر الذي أراد، أمراً بقوله تعالى:{وأمْرُهُم شُوْرَى بَيْنَهُمْ} (1) وبما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: "ما خَابَ مَنْ استَشَار، وما نَدِمَ مَنْ استَخَار"(فَأَبْشِرْهُ برشد) بضم فسكون وبفتحتين أيضاً، أي فدله على الرشاد، وطريق الصلاح والسداد (فإن لم يفعل) أي لو سكت عنه ما علمك بما هو خير له (فقد خنته) في مقام المراد، وهو نوع من الفساد، والله رؤوف بالعباد.

وروى ابن ماجه عن جابر مرفوعاً: " إذا اسْتَشَارَ أحَدُكُم أخاً فَلْيُشِرْ عَلَيْهِ".

- لا نذر في معصية

أبو حنيفة: (عن محمد بن الزبير الحنظلي، عن الحسن) أي البصري (عن عمران بن حصين) يكنى أبا نجيد بضم النون، وفتح الجيم وسكون تحتية، فدال

(1) الشورى 38.

ص: 517

مهملة، الخزاعي، عن الكعب أسلم عام حنين، سكن البصرة إلى أن مات بها سنة اثنتين وخمسين. وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، أسلم هو وأبوه، روى عنه أبو رجاء، ومصرف، وزارة بن أبي أوفى، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر) أي لا يحل نَذْرٌ (في معصية الله) لكن لو نذر فيها، لا وفاء عليه (وكفارته كفارة يمين").

والحديث بعينه رواه الأربعة وأحمد عن عائشة والنسائي، عن عمران بن حصين.

وبه (عن محمد بن الزبير، عن الحسن، عن عمران قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ أن يطيع الله) سواء في واجب أو غيره (فليطعه، ومن نذر أن يعصيه) أي يعصي الله كما في رواية (فلا يعصه) أي بل كفر عن حنثه فيه كفارة يمين، (ولا نذر) أي في منعقد أي في حال شدته حيث لم يكن في شعوره من كمال حدثه. أو المعنى، لا نذر في فعل غضب ولا تركه، لأنه فعل جبلي لا اختياري، والأول أظهر. ولعل هذا مذهب علي حين قال في يمين اللغو: هو اليمين في الغضب، وتبعه طاووس.

والحديث بعينه رواه أحمد والبخاري والأربعة عن عائشة، إلا أنه ليس في روايتها: ولا نذر في غضب.

ص: 518

- حرمت الخمر والسكر من كل شراب

(أبو حنيفة: عن أبي عون محمد الثقفي الحجازي) الظاهر أنه محمد بن أبي بكر بن عوف الثقفي الحجازي، روى عن أنس بن مالك، وعنه جماعة (عن عبد الله بن شداد) بتشديد الدال الأولى (عن ابن عباس) أي موقوفاً:(أنه قال: حرمت الخمر) أي مطلقاً (قليلها) أي ولو قطرة مخلوطة أو غيرها (وكثيرها) وهو ما يبلغ حد السكر (وما بلغ السكر) أي وحرم قدر ما تبلغ السكر (من كل شراب) أي يكون غيرها.

(وفي رواية عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها) أي بذاتها، قال ابن الهمام: والرواية المعروفة فيه بالباء لا باللام انتهى. ويفيد قوله بعينها، أنه يحرم شربها وبيعها وأكل ثمنها (قليلها وكثيرها) وهذا مستفاد من الكتاب والأحاديث المشهورة من السنة (والسكر من كل شراب) كذا في الأصل.

وقال ابن الهمام: الرواية والمسكر من كل شراب، ولفط السكر تصحيف، والمعنى أن كل شراب غيرها، فما حرم بعينه، بل إذا بلغ حد سكر.

وقد ورد كل مسكر حرام، ورواه أحمد والشيخان وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي موسى، وأحمد، والنسائي، وابن عمر والنسائي وابن ماجه، عن ابن مسعود.

ص: 519

وفي رواية أحمد ومسلم والأربعة عن ابن عمر بلفظ: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها، ولم يتب، لم يشربها في الآخرة.

وما رواه أبو داود والترمذي، عن عائشة رضي الله عنها، بلفظ: كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام.

وفي لفظ الترمذي: الحُسُرَةُ منه حرام، قال الترمذي: حديث حسن، ورواه ابن حبان في صحيحه.

وفي رواية النسائي وابن حبان: نهى عن قليل ما أسكر كثيره، فتعلق بظاهره الشافعي رحمة الله عليه، حتى قال أصحابه بحرمة أكل الجوز الهندي والزعفران، ونحوهما، ولو شيئاً قليلاً.

قال ابن الهمام: والخلاف إنما يتعلق في غير الخمر من الأنبذة بالسكر، وفي الخمر بشرب قطرة واحدة، وعند الأئمة الثلاثة رحمهم الله: كل ما أسكر كثيره، حرم قليله وحد به، لقوله عليه الصلاة والسلام: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، رواه مسلم.

- التشبيه بحذف أداته

وفي رواية أحمد، وابن حبان في صحيحه، وعبد الرزاق: وكل خَمرٍ حرام، لكن كلها محمولة على التشبيه بحذف أداته، فكل مسكر حرام، كزبد السكر، أي في حكمه، ثم لا يلزم من التشبيه عموم وجهه في كل صفة، فلا يلزم من ثبوت هذه الأحاديث، ثبوت الحد بالأشربة، التي هي غير الخمر، بل تصحيح الحمل المذكور فيها ثبوت حرمتها في الجملة، أما قليلها وكثيرها، أو كثيرها المسكر منها، وحمل بعضهم على ما به حصل السكر، وهو القدح الأخير.

وقد أسند إلى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كل مسكر حرام هي الشربة

ص: 520

التي أسكرتك. أخرجه الدارقطني وكذا نقل عن إبراهيم النخعي، قيل، وإنما منع قليلها، لأنه يجر غالباً إلى كثيرها. فهو من قبل منع الأعمى حول الجب مخافة أن يقع فيه.

هذا وروى الدارقطني في سننه: أن أعرابياً شرب من إداوة عمر نبيذاً فسكر منه، فضربه الحد، فقال الأعرابي: إنما شربته من إداوتك، فقال عمر: إنَّما جلَدْناكَ بالسكر.

وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن حبان بن مخارق، قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سافر رجلاً في سفر، وكان صائماً، فلما أفطرا هوى إلى قربة لعمر معلقة فيه نبيذ، فشربه، فسكر. فضربه عمر الحد، فقال: إنما شربته من قربتك، فقال له عمر رضي الله عنه: إنما جلدناك لسكرك.

وروى الدارقطني عن الشعبي، أن رجلاً شرب من إداوة علي بصفين، فسكر، فضربه الحد.

ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه بنحوه، وقال: فضربها به ثمانين.

- تعدد الطرق يرقي الحديث إلى حد الحسن

وروى ابن أبي شيبة بسنده عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، قال في سكر النبيذ، ثمانين، فهذه الأحاديث، وإن ضعف بعضها، فبتعدد الطرق، يرتقي إلى حد الحسن، ثم هذا الذي ذكر من أن حد الخمر والسكر من غيرها ثمانون سوطاً، وهو مذهبنا، وهو قول مالك رحمه الله، وأحمد رحمه الله.

وفي رواية عن أحمد، وهو قول الشافعي رحمه الله، أربعون، إلا أن الإمام لو رأى أن يجلده ثمانين، جاز على الأصح، وتحقيق هذا المرام، في شرح الهداية لابن الهمام.

ص: 521

- إسلام الوحشي

أبو حنيفة: عن محمد بن السائب الكلبي، أحد أكابر المحدثين (عن أبي صالح) وهو ذكوان السمان، وتقدم ذكره، (عن ابن عباس رضي الله عنه أن وحشياً) أي ابن حرب النحشي من سودان مكة، مولى جبير بن مطعم (لما قتل حمزة رضي الله عنه وهو ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في غزوة أحد، وكان وحشي يومئذ كافراً (مكث) بفتح الكاف وضمها، أي لبث (زماناً) أي على كفره (ثم وقع في قلبه الإسلام) أي بعد الطائف، (فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مخبراً (أنه) أي الشأن (قد وقع في قلبه الإسلام) أي محبته (وقد سمعتك) أي بلغني عنك (تقول عن الله تعالى) أي ناقلاً عن كتابه ({وَالّذِينَ لَا يَدعُونَ مَعَ الله إلهاً آخَرَ}) أي يوحدون الله تعالى ({ولا يقتُلُونَ النَّفْسَ الّتي حَرَّمَ الله إِلاّ بالحَقِّ}) أي بأمره ({ولا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ}) أي ما ذكر من الشرك، وقتل النفس بغير الحق والزنا ({يَلْقَ أثاماً}) أي بالقصر والإشباع أي جزاء إثمه ({يُضاعَف}) بالجزم والرفع، ويضعف بالتشديد ({له العذاب يَوْمَ القيامة ويخلد}) أي يدوم ({فيه}) أي العذاب المخلد ({مهاناً}) (1) أي مذللاً (قال وحشي: فإني قد فعلتهن) أي الأفعال الثلاثة السابقة

(1) الفرقان 68 - 69.

ص: 522

جميعاً (فهل لي من رخصة) أي للدخول في الإسلام (قال: فنزل جبرائيل، فقال:) يا محمد (قل له {إلا من تاب}) أي عن الشرك وسائر أنواع الكفر ({وآمن}) أي بجميع ما يجب به الإيمان ({وعمل عملاً صالحاً}) أي بعد إسلامه من صلاة وصوم وزكاة وحج ونحوها ({فأولئك}) أي التائبون الثابتون ({يبدل الله سيئاتهم}) أي السابقة ({حسنات}) أي لاحقة ({وكان الله غفوراً}) لمن تاب ({رحيماً})(1) لمن آب.

لا يقال ظاهر بأنه سكوت عن معرض البيان فإن استثناء التوبة لما معروف عند الأعيان في كثير منه، أي القرآن، ولا يبعد أن الاستثناء لما بلغ الوحشي، فاستثناء بما قبله من غير اطلاع على ما بعده، ومن اللطائف أن قلندرا قيل له: لم لا تصلِّ، فقال: لقوله تعالى: {ولا تَقْرَبُوا الصّلَاةَ} فأجيب، بأن اقرأ ما بعدها، {وأنتم سكارى} (2).

ومن هذا القبيل الاشكال السابق في قوله سبحانه {وما هم بخارجين منها} (3) ودفعه باقرأ ما قبله. {إن الذين كفروا} (قال): أي ابن عباس (فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية) أي التي فيها الاستثناء إليه، (فلما قرأت عليه، قال وحشي: إن في هذه الآية شروطاً) وكان يظن أن العمل الصالح شرط صحة الإيمان، كما ذهب إليه بعض أهل البدعة، ولم يدر أنه شرط كمال الإيمان، وسبب الخلاص من الدخول في النيران والوصول ابتدأ إلى الدرجات العالية في الجنان، (وأخشى أن لا آتي بها) أي بالأعمال الصالحة من ارتكاب المأمورات واجتناب المحظورات ولما أحقق أن أعمل عملاً صالحاً، أم لا، أي بأن أعيش حتى أعمل عملاً صالحاً بعد الإسلام، أو أراد

(1) الفرقان 70.

(2)

النساء 43.

(3)

المائدة 37.

ص: 523

عملاً مقبولاً، وهو غيب لا يدرى، (فهل عندك شيء ألين من هذا) أي أوفق، وأرجى، وأرفق، من هذا الكلام المذكور (يا محمد قال): أي الراوي، فنزل جبرائيل بهذه الآية، أي بنزولها وبإقرائها عليه ({إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ})(1) أي بغير توبة في القضيتين، وإنما يكون هذا ألين لدلالته الصريحة على أن الأعمال الصالحة ليست بشرط الإيمان بل لكماله في مقام العرفان، وأنه إذا صدر عنه شيء من العصيان يكون تحت المشيئة بين الغفران وبين نوع من العذاب من غير خلود في النيران، قال:(فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، فبعث إلى وحشي قال: فلما قرأت له، قال إنه) أي الله سبحانه وتعالى (يقول: {إنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وأنا لا أدري) أي لا أعلم الغيب (لعلي أن لا أكون) أي داخلاً (في مشيئته إن شاء لي المغفرة ولو كانت الآية: ويغفر ما دون ذلك، ولم يقل: لمن يشاء، كان ذلك) أي أوفق لما هنالك (فلعل عندك أوسع) أي في باب المغفرة (من ذلك، يا محمد، فنزل جبرائيل بهذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أسْرَفُوا على أَنْفُسِهمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إنَّ

(1) النساء 48 و 116.

ص: 524

الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم}) (1) سبق بعض الكلام عليه (قال: فكتب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي هذه الآية (وبعث بها إلى وحشي فلما قرأت عليه قال: أما هذه الآية) أي بظاهرها، فنعم أوسع من غيرها، (ثم أسلم) ولا يتوهم أن الآية على عمومها، وأنها ناسخة لما قبلها، فإن آية {إنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إلى آخره، محكمة بإجماع الأئمة، مع أن الأخبار لا تنسخ عند العلماء الأحبار، فلابد في هذه الآية من قيد المشيئة إن كان الخطاب للمؤمنين لما سبق من الآية، أو من تقييد الذنوب لما سبق في حال الكفر، إن كان الخطاب للكافرين، لقوله تعالى:{قُلْ لِلِّذِْينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف} (2)(فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت فاذن لي في لقائك) أي ملاقاتك، أو في مشاهدة رؤيتك، (فأرسل إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وَارِ) من الموارات، أى استر (عني وجهك فإني لا أستطيع) أى بمقتضى الجبلة البشرية (أن أملأ عيني من قاتل حمزة عمي) والظاهر أنه ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وما رآه عليه السلام بعد الإسلام، فلا يعد من الصحابة الكرام. فذكره معهم مسامحة لبعض العلماء الأعلام.

روي أنه عليه الصلاة والسلام خرج يوم أحد يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادي قد يفرز بطنه عن كبده، ومثل به فجُدع أنفه وأذناه، ونظر عليه الصلاة والسلام إلى شيء لم يُنظر إلى شيء أوجع لقلبه منه، فقال: رحمة الله عليك،

(1) الزمر 53.

(2)

الأنفال 38.

ص: 525

لقد كنت فعولاً للخير، وموئلاً للرحمة، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك، فنزلت عليه خواتيم سورة النحل، فصبر وكَفَّرَ عن يمينه وأمسك عما أراد.

وروى ابن السيرين مرفوعاً: "سَيِّدُ الشُّهَدَاء يَوْمَ القِيَامَةِ حَمْزة بن عَبْدِ المُطَّلِبْ".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: وقف عليه الصلاة والسلام على حمزة وقد قتل ومثل به، فلم ير منظراً كان أوجع لقلبه منه. رواه صاحب الصفوة.

وعند ابن هشام، أنه عليه الصلاة والسلام قال: لن أصاب بمثلك أبداً ما أوقفت موقفاً قط أغيظ لي من هذا.

وعن ابن شاذان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة رضي الله عنه، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وأنحب حتى نشغ، أي شهق، حتى بلغ به لغشي من البكاء يقول: يا حمزة ياعم رسول الله وأسد رسوله: ياحمزة يا فاعل الخيرات، ياحمزة يا كاشف الكرب، ياحمزة يا ذابّ عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى على جنازة، كبر عليها أربعاً. وكبر على حمزة سبعين تكبيرة، رواه البغوي في معجمه.

(قال): أي الراوي (فسكت وحشي حتى كتب مسيلمة) بضم الميم، وفتح السين المهملة وسكون التحتية، وفتح اللام، وهو المشهور بالكذاب (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه سورة الكتاب (من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله) إشارة إلى المشاركة في ميدان الرسالة، كما صرح به في قوله (أما بعد) أي بعد

ص: 526

السلام (فقد أُشْرِكْتُ) بصيغة المجهول (في الأرض) أي معك في الرسالة (فلي) أي ولأتباعي (نصف الأرض ولقريش) أي ولك ولقومك (نصفها، غير أن قريشاً يعتدون) أي يتجاوزون عن الحد، (فيريدون أن يأخذوا الأرض كلها) وهذه كلمة حق أجرى الله على لسانه أنه أريد به الباطل، قال:(فقدم بكتابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فلما قرىء على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، قال للرسولين) أي رسولي مسيلمة (لولا أنتما رسولان) أي الرسول العرفي لا يقتل عادة (لقتلتكما، ثم دعا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله) أي الصادق في دعواه (إلى مسيلمة الكذاب) في دعوة النبوة والرسالة (السلام على من اتبع الهدى) أي طريق الحق، لا من اتبع الباطل والهوى (أما بعد) أي بعد ما ذكر (فإن الأرض لله) أي حقيقة (يورثها) أي يعطيها خلقاً بعد خلق (من يشاء من عباده) أي من المؤمنين والكافرين، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَالعَاقِبَةُ} (1) أي وآخرة الأمر، والعاقبة المحمودة،

(1) آل عمران 140.

ص: 527

أو والدار الآخرة الباقية التي هي العاقبة بهذه الدار الفانية {للمتقين} أي من الشرك والمعاصي (وصلى الله على سيدنا محمد، قال: فلما بلغ وحشياً ما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من دعوى المشاركة معه في باب الرسالة (أخرج المذراع) الأظهر أنه الذراع، أو المراد به آلة الذرع، يعني الحربة الذي قتل به حمزة (فصقله) أي فحدده (وَهَمَّ بقتل مسيلمة، فلم يزل على عزمه من ذلك حتى قتل يوم اليمامة) فقال: قتلت خير الناس، وشر الناس بحربتي هذه، ونزل الشام ومات بحمص.

روى عنه ابناه إسحاق وحيرب وغيرهما، وعن سعيد بن المسيب، كان يقول: أعجب لقاتل حمزة كيف ينجو، حتى أنه مات غريقاً في الخمر، رواه الدارقطني على شرط الشيخين.

وقال ابن الهمام: بلغني أن وحشياً لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان (1)، فكان ابن عمر يقول: لقد علمت أن الله تعالى لم يكن ليدع قاتل حمزة رضي الله عنه هذا، وتفصيل قصة مسيلمة في كتب السير مسطور، وعند أرباب الحديث المشهور.

- حرمة الخمر

أبو حنيفة (عن محمد بن قيس الهمداني، عن أبي عامر الثقفي، أنه كان

(1) من الإيمان

ص: 528

ليهدي للنبي صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر) أي قبل تحريمها (وفي رواية، أن رجلاً من ثقيف يكنى أبا عامر كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر، فأهدى في العام الذي حرمت فيه الخمر راوية) أي منها على عادته (كما كان يهدي له قبل ذلك بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عامر إن الله تعالى قد حرم الخمر، فلا حاجة لنا في خمرك، قال: خذها فبعها فاستعن بثمنها على حاجتك، فقال: يا أبا عامر، إنَّ الله حَرَّمَ الخمر، وشُربَها وبَيْعَها وأكل ثمنها).

ص: 529

- إسناده عن محمول بن راشد النهد

إسناده عن محمول بن راشد النهد، بفتح فسكون، أحمد بن محمد بن إسماعيل الكوفي.

(عن يعقوب بن يوسف بن زياد، عن ابن جناد) بضم الجيم (عن إبراهيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في الجمعة) أي في ركعتي صلاة الجمعة: (سورة الجمعة والمنافقون) أي إيثاراً للمؤمنين، وإنذاراً للمنافقين.

- فضيلة عشر ذي الحجة

أبو حنيفة: (عن محمول بن راشد، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير رضي الله عنه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("ما من أيام أفضل

ص: 530

عند الله من أيام عشر الأضحى") الظاهر أنها بعد العشر الأخير من رمضان ("فأكثروا فيهن من ذكر الله") أي أنواع طاعته، وأصناف عبادته.

ورواه الترمذي، وابن ماجه، عن أبي هريرة بلفظ: ما من أيام أحب إلى الله تعالى أن يتقبل به فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة، بقيام ليلة القدر.

- حديث القاضي

أبو حنيفة: (عن الحسن بن عبد الله، عن حبيب بن الثابت، عن أبيه) أي ثابت، وهو من جماعة من الصحابة والتابعين، ولم أدر من المراد به (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القضاة) جمع قاض، وفي معناه المفتي (ثلاثة) أي أنواع (قاضيان) أي حاكمان شرعاً أو سياسة (في النار) أي في المال، أو باعتبار مباشرة أسبابها في الحال، كقوله تعالى:{إِنَّ الّذِيْنَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً} (1) وقوله سبحانه {إِنَّ الأَبْرَارَ لفِي نَعِيم

وإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيم} (2)(قاض) أي أحدهما أو منهما قاض (يقضي في الناس بغير علم) أي من الكتاب والسنة، أو المأخوذ منهما (ويؤكل) أي يطعم (بعضهم مال بعض)، أي بالباطل بناء على غرضه الفاسد العاطل.

(1) النساء 10.

(2)

الانفطار 13 - 14.

ص: 531

- السنة مبينة لأحكام الكتاب

والمعنى أنه الجاهل (وقاض) أي ومنهما قاضي (عالم، إلا أنه يترك) علمه وراء ظهره، (ويقضي بغير الحق لأجل الرشوة) ونحوها (فهذان) أي القاضيان الموصوفان (في النار) هذا نتيجة، فذلك ذكرت تأكيداً للقضية، (وقاض يقضي بكتاب الله) أي بعلم الشريعة المستفاد من الكتاب والسنة التي هي مبينة لأحكامه والمعنى: يقضي بالحق عالماً به (فهو في الجنة) وهذا نادر في زماننا، نسأل الله العافية. ولعل هذا وجه تأخير ذكره.

والحديث رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، بلفظ: القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وقاض في الجنة، قاض قضى بالهوى، فهو في النار، وقاض قضى بغير علم، فهو في النار، وقاض قضى بالحق، فهو في الجنة.

رواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم في مستدركه عن بريدة: القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار.

- حديث القلب

(عن الحسن) أي البصري (عن الشعبي) بفتح أوله تابعي جليل (عن النعمان بن بشير) بضم النون، يكنى أبا عبد الله الأنصاري، ولأبويه صحبة سكن

ص: 532

الكوفة، وقد سبق ذكره (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن في الإنسان) أي في جسده، كما في رواية (مُضْغَةً) أي قطعة لحم صنوبري (إذا صلحت) بفتح اللام وضمها (صلح بها سائر الجسد) أي بسببها ولأجلها، لأن مدار الأعمال على صحة العقيدة وحسن الأصول (فإذا سقمت) بكسر القاف، وضمها، أي فسدت، كما في رواية (سقم بها سائر الجسد) فهو بمنزلة الملك في الأعقار في مرتبة الرعايا (ألا) للتنبيه (وهي) أي تلك المضغة (القلب) وسمي به لتقلبه بين أصابع الرب.

والحديث رواه أصحاب الكتب الستة، والمذكور بعض مرويهم، وقد بسطت الكلام عليه في شرح الأربعين، والله الموفق والمعين.

- حديث الحب

(عن الحسن، عن الشعبي، قال: سمعت النعمان يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم) بتشديد الدال، أي تحابهم وحبهم (كمثل جسد واحد إذا اشتكى الرأس) أي العضو، كما في رواية، وخص لأنه رئيس الأعضاء (تداعى له) أي وافقه (سائره) أي باقي الجسد (بالسهر) بفتحتين، أي عدم النوم (والحمى) بضم الحاء وتشديد الميم مقصوراً، أي بألمه وشدة حرارته.

ص: 533

والحديث بعينه رواه أحمد ومسلم عن النعمان، بلفظ:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

- اتقاء الشبهات

وبه: (عن الحسن، عن الشعبي، قال: سمعت النعمان يقول على المنبر) أي حال كونه خطيباً، أو واعظاً (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلال بَيِّن) أي ظاهر مبين معين، (والحرام بَيِّن) أي يعرفه كل أحد من المسلمين، (وبين ذلك) أي ما ذكر من الأمرين (أمور مشتبهات) أي لها شبه إلى الحرمة، ولها شبه إلى الحلية لا يعلمهنَّ كثير من الناس، وإنما يعرف حكمهن العلماء (فمن اتقى الشبهات) أي وصار العمل من الأتقياء (استبرأ لدينه وعرضه) أي طلب البراءة لهما فلا أحد يقدر أن يطعن في ديانته، ولا في مروءته.

والحديث بطوله، رواه الجماعة، على ما ذكر في الأربعين للنووي، وقد أوضحت الكلام عليه، كما قدمت الإشارة إليه، وفي حديث الطبراني عن عمر مرفوعاً: الحلال بيِّن والحرام بيِّن، فَدَعْ ما يُريبكَ إلى ما لا يُريبكَ ..

وفي الترمذي وابن ماجه، والحاكم، عن سليمان:(الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه) وما سكت عنه فهو مما عفى عنه.

ص: 534

- صلة الرحم

أبو حنيفة: (عن ناصح بن عبد الله، ويقال ابن عجلان) بفتح أوله لقلة العملي التابعين، ذكر له في باب الشفقة والرحمة، روى عن سماك، ويحيى بن كثير، وعنه يحيى بن يعلى، وإسحاق السلولي.

وناصح، ضعفه بعضهم، وأبوه عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل الحافظ. روى عن مالك، وعنه أبو ادود، وقال: ما رأيت أحفظ منه، وكان أحمد يعظمه، ومن أركان الدين، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين، (عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة) سبق ذكرهما (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس مما عُصِيَ الله به) بصيغة المجهول (شيء هو أعجل عقاباً) أي أسرع عقوبة (في الدنيا من البغي) وهو الخروج على السلطان بغير حق، أو مطلق الظلم والتعدي على الخلق (ومَا مِنْ شَيءٍ أطْيَع به أَسْرَع ثواباً) أي مثوبة في الدنيا (من الصلة) أي صلة الرحم (واليمين الفاجرة) أي الكاذبة لا سيما إذا أخذ بها مال مسلم (تدع الديار) أي تركه دار صاحبها (بلاقع) جمع بلقع، وبهاء القُفر، أي صحراء، وهو كناية عن خراب حاله، وسوء مآله.

والحديث رواه البيهقي بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: ليس شيء أطيع الله تعالى فيه أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع.

ص: 535

(وفي رواية: ليس شيء أعجل عقوبة من البغي وقطيعة الرحم، واليمين الفاجر تَدع الدِّيَار بَلَاقِع) أي فوارغ من أهلها.

- وعيد قسم كاذب

(وفي رواية: ما من عمل أطِيع الله فيه بأعجل ثواباً من صلة الرحم، وما من عمل عُصِيَ الله فيه بأعجل من عقوبة البغي، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع).

(وفي رواية: ما من شيء أعجل عقوبة مما يعصى الله فيه) أي من جملة المعاصي (من البغي) متعلق بأعجل، ورواه أحمد والبخاري في تاريخه، وأبو داود والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم عن أبي بكرة، بلفظ: "ما مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أن يَجعل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة، من قطيعة الرحم، والخيانة، والكذب، وأن أعجل الطاعة ثواباً، صلة الرحم، حتى أن أهل البيت ليكونون فخرة، فتنموا أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا.

وبه (عن ناصح، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه

ص: 536

قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة) أي صلاتها ودعاءها (كما يعلمنا السورة من القرآن) سبق الكلام عليه.

- طلب العلم فريضة على كل مسلم

وبه: (عن ناصح، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ العِلمِ فريضَة على كُلِّ مُسْلِم") الحديث مشهور. رواه ابن عدي والبيهقي، عن أنس رضي الله عنه، والطبراني في الأوسط، والخطيب عن حسين رضي الله عنه بن علي رضي الله عنه. والطبراني في الأوسط، عن ابن عباس رضي الله عنه. وتمام، عن ابن عمر. والطبراني في الكبير، عن ابن مسعود والخطيب، عن علي والطبراني في الأوسط. عن ابن عباس رضي الله عنه، والبيهقي، عن أبي سعيد.

وفي رواية لابن ماجه، عن أنس:"طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وواضع العلم عند غير أهله، كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب".

وروى ابن عبد البر في العلم عن أنس رضي الله عنه، بلفظ:"طلب العلم فريضة على كل مسلم، وإن طالب العلم، يستغفر له كل شيء. حتى الحيتان في البحر".

واعلم أن ورود الأحاديث من طرق كثيرة، وتعددها، يوجب القول بحسن الحديث، فلا ينافي ما قال البيهقي، من أن متنه مشهور، وإسناده ضعيف.

ص: 537

وقد روي من أوجه كلها ضعيفة، وسئل الإمام أحمد، فيما حكاه الجوزي عنه في العلل المتناهية، فقال: إنه لا يصح عندنا في هذا الباب شيء، أي لا يصح، وكذا قول إسحاق بن راهوية، إنه لم يصح، فإنه لا ينافى أنه يحسن هذا.

وقال العراقي: وقد صحح بعض الأئمة بعض طرقه، وقال المزني: إن طرقه تبلغ به رتبة الحسن.

وقال الديلمي: روى أيضاً من حديث أبي بن كعب، وحذيفة رضي الله عنه، وسلمان وسمرة بن جندب، ومعاوية بن جيده، وأبي أيوب، وأبي هريرة، وعائشة بنت الصديق. وعائشة بنت قدامة وأم هاني، وقد ثبت مخارجها في الأحاديث المتواترة، كذا ذكره شيخ مشايخنا، جلال الدين السيوطي.

وقال الزركشي: روى من أوجه في كل طرقه مقال.

وأخرجه ابن ماجه عن كثير بن شنظير، عن محمد بن سيرين بن كثير، مختلف فيه، والحديث حسن، وقال ابن عبد البر: روي من وجوه، كلها معلول، وقال ابن أبي داود: سمعت أبي يقول: ليس في طلب العلم فريضة أصح من هذا، يعني من سنده الذي ذكره هذا.

وفي شرح الجامع الصغير للعلقمي، سئل النووي عن هذا الحديث، فقال: إنه ضعيف، وإن كان معناه صحيحاً. وقال تلميذه الحافظ: هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن، وهو كما قال: فإني رأيت له خمسين طريقاً، جمعتها في جزء، وحكمت بصحته. لكنه من القسم الثاني، وهو الصحيح لغيره، قلت: وقد سبق أن بعضهم صحح بعض طرقه، فهو من القسم الثاني من الصحيح لذاته، ثم اعلم أن المراد بهذا العلم، هو الذي لا يسع البالغ العاقل، جهله، أو علم ما يطرأ له خاصة، أو أراد أنه فريضة على كل مسلم حتى يقوم به من فيه الكفاية.

ص: 538

ثم روي عن ابن المبارك أن سئل عن تفسير هذا الحديث، فقال: ليس هو الذي تظنون، إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شيء من أمر دينه، فيسأل عنه حتى يعلمه. وقال البيضاوي: المراد بالعلم هنا، ما لا مندوحة للعبد عن تعلمه، كمعرفة الصانع، والعلم بوحدانيته، ونبوة رسوله، وكيفية الصلاة، فإن علمه فرض عين. وقال الشيخ السهروردي: قيل هو علم الإخلاص بمعرفته آفات النفوس، وما يفسد الأعمال، لأن الإخلاص مأمور به، وقيل: معرفة الخواطر، إذ به يعرف الفرق بين لمة الملك، ولمة الشيطان، وقيل هو طلب علم الحلال، حيث كان أكل الحلال فريضة، وقيل: هو علم البيع والشراء، والنكاح والطلاق، إذا أراد الدخول في شيء من ذلك يجب عليه طلب علمه، وقيل هو طلب علم الفرائض الخمس التي بني الإسلام عليها.

وقيل هو علم التوحيد بالنظر والاستدلال، وقيل: هو طلب علم الباطن، وما يزداد به العبد يقيناً، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- حديث السواك

أبو حنيفة (عن علي بن الحسن الردَّاد) بتشديد الراء (عن تمام) بتشديد الميم الأولى (عن جعفر بن أبي طالب) وهو ذو الجناحين، أسلم قديماً، وكان أكبر من أخيه علي بعشر سنين، وكان أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عنه ابنه عبد الله، وخلق كثير من الصحابة والتابعين، قتل شهيداً يوم مؤتة سنة ثمان، وله إحدى وأربعون سنة، فوجد فيما أقبل من جسده، تسعون ضربة، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أراكم قُلَّحاً) بضم القاف وتشديد المفتوحة، وبالحاء المهملة، جمع

ص: 539

قالح من القلح محركة صفرة الأسنان (اسْتَاكُوا) أمر من الاستياك، وهو استعمال السواك (فلولا أن أشق على أمتي) أي بتكليف أمر صعب (لأمرتهم) أي وجوباً، وإلا فقد أمرتهم ندباً (بالسواك عند كل صلاة) أي عند وضوئها، كما في روايات أُخر، وهو الأحوط، لئلا ينقض وضوءه عند إرادة الصلاة، بخروج دمه عند استعمال السواك، وإلا فلا منع، ولا مانع من الجمع.

وفي رواية: "مالي أراكم تدخلون عليَّ قُلحاً، اسْتَاكُوا" أي في أيِّ وقت كان. وفيه تنبيه على المبالغة، ليزول المقصود ويحصل النظافة.

وقد روى أحمد عن ابن عمر مرفوعاً: "عليكم بالسِّواك فإنه مطيبة للفم، مرضاة للرب".

وفي رواية عبد الجبار الخولاني رحمه الله، عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "عليكم بالسواك، فنِعْمَ الشيء السِوَاك، يذهب بالخفرة، وهو صفرة، تعلو الأسنان، وَيَقْرَعُ البَلْغَم، وَيَجْلُو البَصَر، وَيَشُدُّ اللثَّة، ويذهب بالبَّخر، وُيصْلِحُ المَعدة، وَيَزيدُ دَرَجَاتِ الجَنَّةِ وَيَحمُدُ المَلَائِكَةَ، وَيُرضي الرَّب، ويُسْخِطُ الشَيْطَان. (فلولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم أن يستاكوا عند كل صلاة، أو عند كل وضوء) أو للتنويع، أو للشك، والله أعلم.

والحديث رواه مالك وأحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد، وأبو داود، والنسائي عن زيد بن خالد.

وفي رواية لمالك رحمه الله، والشافعي رحمه الله، والبيهقي، عن أبي

ص: 540

هريرة رضي الله عنه، بلفظ:"لَوْلَا أَنْ أشُقَّ عَلَى أمَّتي لأَمَرْتهم بالسِّوَاكِ مع كُلِّ وُضُوء".

وفي رواية لأحمد والنسائي، عن أبي هريرة بلفظ، لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك.

ورواه الحاكم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ولفظه: "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم الوضوء (أي وجوده) عند كل صلاة".

وفي رواية للحاكم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الوضوء".

- المسح على الخفين

ما سمع بهذا الأمر قبل هذه، ولذا أنكره

أبو حنيفة: (عن أبي بكر الجهم) بفتح الجيم وسكون الهاء (عن ابن عمر، قال: قدمت على غزوة العراق) أي على أهلها، أو عسكرها (فإذا سعد بن مالك) وهو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرة، وقد سبق ذكره (يمسح على الخفين، فقلت: ما هذا؟) أي المسح عليها، فكأنه ما رأى هذا الفعل، وما سمع بهذا الأمر قبل هذه، ولذا أنكره (فقال: يا ابن عمر إذا قدمت على أبيك فاسأله عن ذلك) أي فإنه أعرف بما هنالك، (قال: فأتيته)، أي أبي، (فسألته، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح فمسحنا) أي تبعاً له، ولا نعرف وجهه، إذ لا يحتاج إلى دليله غير هذا، وهذا لا ينافي ما قال بعضهم، إن آية الوضوء مجملة، باعتبار

ص: 541

القراءتين، وفعله عليه الصلاة والسلام مبين لها، غسل الرجلين، ومسح على الخفين.

(وفي رواية قال: قدمت العراق) أي بنية الغزو، (فإذا سعد بن مالك يمسح على الخفين، فقلت: ما هذا قال: إذا قدمت على عمر فاسأله؟ فقال: قدمت على عمر فسألته، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمسح فمسحت).

(وفي رواية، قال: قدمت العراق، لغزوة جلولا) بفتح الجيم واللام، موضع ببغداد، ولها وقعة معروفة، (فرأيت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، يمسح على الخفين) فقلت ما هذا يا سعد (قال: إذا لقيت أمير المؤمنين) يعني عمر رضي الله عنه، وهو أول من سمي بأمير المؤمنين (فاسأله: قال فلقيت عمر، فأخبرته بما صنع) أي سعد، من المسح (فقال عمر صدق سعد) أي في فعله المطابق لنقله (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فصنعته).

ص: 542

(وفي رواية) أي عن ابن عمر (قدمنا على غزوة العراق، فرأيت سعد بن أبي وقاص، يمسح على الخفين، فأنكرت عليه، فقال لي: إذا قدمت على عمر فاسأله عن ذلك، قال ابن عمر: فلما قدمت عليه، سألته، وذكرت له ما صنع سعد، فقال: عمك) أي أخو أبيك في الدين (أفقه منك، رأينا) أي أنا وهو وغيره (رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح، فمسحنا) وهذا صريح في أن المسح ثابت أولاً، وليس بمنسوخ آخراً، وقد سبق تحقيق هذا المرام فيما سبق من الكلام.

- صلاة الوتر

أبو حنيفة (عن أبي يعقوب العبدي، عمن حدثه، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زادكم صلاة) أي على الصلوات الخمس المفروضة، فإن الزيادة لا بد أن يكون من جنس المزيد فيه (وهي وتر) أي صلاة وتر، فيكون فرضاً إلا أنه لما كان الدليل ظنياً، قال إمامنا بأنه واجب، أي اعتقاداً، وفرض عملاً.

ص: 543

وفي رواية: إن الله افترض عليكم، أى بالصلوات الخمس، وزادكم الوتر، أي صلاته.

(وفي رواية: إنَّ الله زادَكُم صَلَاة الَوتر) وسبق عن الحسن نقل الإِجماع على أنه ثلا ث ركعات.

(وفي رواية: إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فحافظوا عليها) وقد قيل إن الصلاة الوسطى هي الوتر، وكان هذا الحديث مأخذه حيث خص بالمحافظة عليها طبق قوله سبحانه {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوّاتِ والصَّلَاةِ الوُسطى} (1) والحديث رواه جماعة من المحدثين، عن جمع من الصحابة، فرواه ابن راهويه في مسنده، عن عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، عنه عليه الصلاة والسلام، قال:"إن الله زادكم صلاة هي لكم خير من حمر النعم: الوتر، وهي لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر".

ورواه الطبراني والدارقطني عن عكرمة، عن ابن عباس، رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام: أمرنا فاجتمعنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله تعالى زادكم صلاة، فأمرنا بالوتر.

ورواه الحاكم، عن عمرو بن العاص، قال: سمعت أبا نضرة الغفاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى زادكم صلاة وهي الوتر، فصلوها، ما بين العشاء إلى طلوع صلاة الصبح".

(1) البقرة 238.

ص: 544

ورواه الحاكم وأبو داود والترمذي وابن ماجه: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ الله أمَرَكُمْ بصلاةٍ هيَ خيرٌ من حُمر النِّعَمِ، وهي الوتر، فجعلها لكم ما بين العشاء إلى طلوع الفجر".

قال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه، لتفرد التابعي عن الصحابي، يعني، وهو غير مضر، وقول الترمذي: غريب، لا ينافي الصحة، لما عرف في محله من الأصول، وكذا القول في كتابه، حسن صحيح غريب.

وما نقل عن البخاري، من أنه أعله بقوله: لا يعرف سماع بعض هؤلاء من بعض، فبناءً على اشتراط العلم باللقى والصحيح اللقاء بإمكان اللقى هذا.

وقد روى أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوتر حق، فمن لم يوتر، فليس مني، الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني، الوتر حق، فمن لم يوتر فليس مني".

- الوتر واجب على كل مسلم

ورواه الحاكم وصححه، وأخرج البزار عن الأسود، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الوتر واجب على كل مسلم".

وبه (عن أبي يعقوب، عمن حدثه، عن سعد بن مالك، قال: كنا نطبق) بتشديد الموحدة المكسورة، أي نجعل اليدين على الفخذين في الركوع (ثم أمرنا بالركب) بضم ففتح، جمع الركبة، أي بأخذها حال الركوع.

ص: 545

وقد روى الطبراني في معجمه عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"يا بني، وإذا ركعت فضع يديك على ركبتيك، وفرج بين أصابعك، وارفع يديك عن جنبيك".

- نهى صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف

وبه (عن أبي يعقوب، عمن حدثه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عتاب) بتشديد الفوقية (بن أسيد) بفتح فكسر (إلى أهل مكة) أي أميراً، وهو قرشي أموي، أسلم يوم الفتح، يوم خروجه عليه الصلاة والسلام، إلى حنين، فولاه عليها، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عامل عليها، وأقره أبو بكر عليها، إلى أن مات بها في سنة ثلاث عشر، يوم موت أبي بكر، وكان من سادات قريش، خيراً صالحاً، قيل: نزلت فيه: {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلياً واجْعَلْ لنَا من لَدُنْكَ نصيراً} (1)(فقال أنههم) أمر، من نهى ينهى (عن شرطين، في بيع، وعن بيع وسلف) في رواية الترمذي والنسائي، عن أبي هريرة، أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيعين في بيعة.

قال صاحب النهاية، هو أن يقول، بعتك هذا الثوب نقداً بعشرة، ونسيئة بخمسة عشر، فلا يجوز، لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره، فيقع عليه العقد، قال: ومن صوره: أن يقول: بعتك هذا بعشرين، على أن بعتني ثوبك

(1) النساء 75.

ص: 546

بعشرة، فلا يصح الشرط الذي فيه، ولأنه يسقط بسقوط بعض الثمن، فيصير الثاني مجهولاً، وقد نهى عن بيع وشرط، وبيع وسلف، وهما هذان الوجهان، انتهى.

وهذا يفيد أن شرطاً في بيع أيضاً منهي عنه، إلا أن يكون شرطاً مما يقتضيه العقل، ومحل بسطه كتب الفقه، والتقييد بقول في بيع يفيد أن الشرط في النكاح غير مفسد، (وعن ربح ما لم يضمن) وهو بيع ما اشتراه قبل قبضه، فربح كذا في النهاية (وعن بيع ما لم يقبض).

والحديث رواه الطبراني، عن حكيم بن حزام، ولفظه: نهى عن سلف وشرطين في بيع، وبيع ما ليس عندك، وربح ما لم تضمن.

- الحجامة غير مفطر للصيام، كما هو مذهب الجمهور خلافاً لأحمد

أبو حنيفة: (عن أبي السوَّاد) بتشديد الواو، ويقال: أبو السوداء، وهو السلمي (عن ابن حاجب، عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم بالقاحة) بالقاف والحاء المهملة، موضع بين مكة والمدينة (وهو صائم) أي فرضاً أو نفلاً، والجملة حالية، وفي رواية قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاحة، وهو محرم، أي بالحج والعمرة، وهذا محمول على أن الاحتجام وقع في موضع لم يحتج إلى قطع شعره، أو على عذر ويوجب كفارة صائم، وهذا يدل على أن الحجامة غير مفطر للصيام، كما هو مذهب الجمهور، خلافاً لأحمد حيث تعلق بظاهر الحديث، أفطر الحاجم والمحجوم.

رواه أحمد، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، عن ثوبان، قال السيوطي في الجامع الصغير، وهو متواتر، أي معنى، وتأويله

ص: 547

المشهور، أنهما تعرضا للإفطار، وقيل إنه منسوخ.

وقد روى الترمذي: ثلاث لا يفطرن الصيام، الحجامة، والقيء، والاحتلام، ورواه أكثر أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنه، ولفظه: تقديم القيء، قال: وهذا من أحسنها إسناداً واجتهاداً.

وروى البخاري وغيره، أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وهو محرم. واحتجم وهو صائم.

وقيل لأنس رضي الله عنه: كنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا، إلا من أجل الضعف، رواه البخاري. وقال أنس: أول ما كرهت الحجامة للصائم، ابن جعفر بن أبي طالب، احتجم وهو صائم، فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذا، ثم رخص عليه الصلاة والسلام في الحجامة بعد للصائم، وكان أنس رضي الله عنه يحتجم وهو صائم، رواه الدارقطني.

وقال في رواية: كلهم ثقات، لا أعلم له علة.

- أجرة الحجام

(وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام أجرة) أي أجرته (ولو كان) أي أجر الحجام (خبيثاً) أي حراماً (ما أعطاه) وفيه رد لمن قال بكراهة أكله، وأنه ينبغي أن يطعم عبده، أو ذريته.

وقد روى ابن ماجه، عن أبي مسعود، أنه عليه الصلاة والسلام: نهى عن كسب الحجام، فالنهي محمول على التنزيه، لا على التحريم، بدليل فعله عليه الصلاة والسلام.

ص: 548

- نهي متعة النساء

أبو حنيفة: (عن يونس بن عبد الله، عن أبيه ربيع بن سبرة) بفتح السين وسكون الموحدة (الجهني، عن أبيه) أي هو سبرة بن معبد الجهني، سكن المدينة، روى عنه ابنه الربيع، وعداه في المصريين (قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء، يوم فتح مكة) وصورة النكاح المتعة، أن يقول الرجل لامرأة خالية من الموانع، أتمتع بك عشرة أيام، مثلاً، أو متعيني نفسك أياماً، أو عشرة أيام، لم يذكر أياماً، بكذا من المال.

(وفي رواية: نهى عن المتعة) أي متعة النساء (عام الحج) أي سنة حجة الوداع، فيكون تأكيداً لما قبله، وإيذاناً بأنه ناسخ لما قبلها، ولما بينها من إباحتها، فإنه تعدد إباحتها وتحريمها.

(وفي رواية: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء عام الفتح) في صحيح مسلم، أنه عليه الصلاة والسلام حرمها يوم الفتح.

وفي الصحيحين، أنه عليه الصلاة والسلام حرمها يوم فتح خيبر، والتوفيق، أنها مرتين، المتعة ولحوم الحمر الأهلية، والتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة.

وقيل لا يحتاج إلى الناسخ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أباحها ثلاثة أيام، فبانقضائها، ينتهي الإباحة، وذلك لما قال محمد بن الحسن في الأصل: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 549

أنه أحل المتعة ثلاثة أيام من الدهر في غزاة غزاها، اشتد على الناس فيها العزوبة، ثم نهى عنها.

وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وقد حرم الله ذلك إلى يوم القيامة.

والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة، وفي كتاب السير مسطورة، وابن عباس رضي الله عنه، صح رجوعه بعد ما اشتهر عنه من إباحتها.

وقيل، إنما أباح للمضطر.

والحاصل، أنه لا خلاف في تحريمها من الأئمة، إلا طائفة من الشيعة.

- من نسب إباحة المتعة إلى الإمام مالك فقد أخطأ

وأما في الهداية من قوله: وقال مالك رحمه الله هو جائز: فقال ابن الهمام: نسبته إلى مالك غلط، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- مسند حماد بن أبي حنيفة

مسند حماد بن أبي حنيفة رحمه الله، هو حماد بن نعمان الإمام ابن الهمام، تفقه على أبيه، وأفتى في زمنه، وتفقه عليه ابنه إسماعيل، وهو في طبقة أبي يوسف، ومحمد، وزفر، والحسن بن زياد وكان الغالب عليه الورع.

أبو حنيفة: قال الفضل بن دكين: تقدم حماد بن النعمان، إلى شريك بن عبد الله، في شهادة فقال له شريك: والله إنك لعفيف النظر والفرج خيار مسلم، توفي سنة ست وسبعين ومائة، لما توفي أبوه، كان عنده ودائع كثيرة من ذهب وفضة، وغير ذلك، وأربابها غائبون، وفيهم أيتام، فحملها ابنه حماد إلى القاضي لتسليمها منه، فقال له القاضي: لا نقبلها منك ولا نخرجها من عندك فإنك أصل لها وموضعها، فقال له حماد: زنها واقبضها، وتبرأ ذمته، أبي حنيفة رحمه الله، ثم افعل ما بدا لك، ففعل القاضي ذلك، وبقي في وزنها أياماً، فلما أكل وزنها،

ص: 550

استرد حماد، فلم يظهر، حتى دفعها إلى غيره.

- حرمة الوطء من جانب الدبر

(حماد) أي روى عن أبي حنيفة رحمه الله والده (عن أبي الهيثم) بفتح الهاء وسكون التحتية، وفتح المثلثة (المكي، عن أبي يوسف بن ماهك) بفتح الهاء بمنع الصرف، (عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت عمر رضي الله تعالى عنه، تزوجها في سنة ثلاث، وطلقها تطليقة واحدة، ثم راجعها حيث نزل الوحي "راجع حفصة، فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة".

وروى عنها جماعة من الصحابة والتابعين، ماتت سنة خمس وأربعين، وهي ابنة ستين وقد روى ابن عساكر، عن هند بن أبي هالة، مرفوعاً "إن الله أمرني أن لا أتزوج إلا أهل الجنة (أن امرأة أتتها) أي جاءتها (مستغيثة، فقالت: إن زوجي يأتيني) أي يجامعني (مجنبة) بضم الميم وكسر النون المخففة، أو بفتحها مشددة، أي حال كوني على جنبي، (فبلّغه) بتشديد اللام (تكرهه) أي فعله ذلك (فبلغ ذلك) أي الكلام (إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا بأس إذا كان) أي الجماع (في صمام واحد) بكسر الصاد، يقال صمام لقارورة بكسرها سدادها، كذا في القاموس، فهو كناية عن الفرج، واحتراز عن الدبر.

وفي النهاية: الصمام المسلك، وهو طهر، فتدبر.

وفي حديث الترمذي. عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه،

ص: 551

قال: جاء عمر رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال حولت رحلي البارحة، فلم يزد عليه شيئاً، وأوحى الله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1) يقول: أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة.

- كنت أوسع على الموسر

وبه: (عن أبيه، عن أبي مالك الأشجعي، قال: حدثني ربعي) بكسر الراء (بن حراس) بكسر الحاء (عن حذيفة رضي الله عنه أي ابن اليمان (قال: يؤتى بعبد الله تعالى) إلى موضع حكمه (يوم القيامة) أي للمحاسبة (فيقول) أي العبد (أي رب) أي يا رب (ما عملت إلا خيراً) أي طاعة (ما أردت به) أي بذلك الخير (إلا لقاءك) أي ابتغاء رضائك لا سمعة، ولا رياء لسواك (فكنت أوسع على الموسر) أي على الغني زيادة في توسعه (وأندر) من الإندار بالدال المهملة (عن المعسر) أي أسقط الدين عنه والمعنى: لا تجاوزه وأسامحه (فيقول الله تعالى: أنا أحق بذلك) أي التجاوز منك (تجاوزوا) أمر للملائكة (عن عبدي) أي المتجاوز جزاء وفاقاً (فقال أبو مسعود الأنصاري) شهد العقبة الثانية، سكن الكوفة، ومات

(1) البقرة 223.

ص: 552

في خلافة علي رضي الله تعالى عنه، روى عنه ابنه بشير، وخلق سواه، وأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه رأى (حذيفة رضي الله عنه سمعه) أي الحديث السابق (عنه) أي الكوفي، سمعت عنه صلى الله عليه وسلم.

- المقام المحمود والشفاعة الكبرى

وبه (عن أبيه، عن عطية العوفي، قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه بضم الخاء المعجمة، وسكون الدال المهملة، نسبة إلى قبيلة بني خدرة، وهو سعيد بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، كان من الحفاظ المكثرين، والعلماء، والفضلاء، والعقلاء.

روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، مات سنة أربع وسبعين، ودفن بالبقيع، وله أربع وثمانون سنة (يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول): بقراءتي (عسى)، أتوقع (أن يبعثك ربك) أي يقيمك (مقاماً محموداً) أو يحشرك في مقام محمود، قال: يحتمل موقوفاً ومرفوعاً، (يخرج الله تبارك وتعالى قَوْماً من النَّارِ) أي جماعة شاملة من الرجال والنساء (من أهل الإيمان والقبلة) أي ملة أهل الإسلام (بشفاعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك) أي مقام شفاعته المذكور (هو المقام المحمود) أي من جملته، فإن حقيقته هو الشفاعة الكبرى الشاملة للخلق طراً (فيؤتى بهم) بإخراجين من النار (نهراً) بفتح الهاء وتسكين (ويقال له الحيوان) بفتح الحاء والياء، أي نهر الحياة الكاملة، ومنه قوله تعالى: {وإنَّ الدَّارَ الآخِرَة

ص: 553

لَهِيَ الحَيَوَانُ} (1)(فيلقون فيه) بصيغة المجهول، أو المعروف (فينبتون) أي نباتاً ثانياً (وينمون) نمواً سريعاً (كما ينبت التقادير) وهو صغار القثاء، شبهوا بها لأنها تثمر سريعاً (ثم يخرجون) بصيغة المجهول، والفاعل، وكذا قوله (فيدخلون الجنة) وأما قوله (فيسمون الجهنميين) والمجهول متعين (ثم يطلبون إلى الله تعالى) أي متضرعين إليه (أن يذهب عنهم ذلك الاسم)، يعني لكونهم مكتوبين على جباههم، هؤلاء العتقاء من النار (فيذهب عنهم) أي فيمحو ذلك الاسم من جباههم. ومن قلوب أهل الجنة، حتى يصيروا كواحد منهم، وقد سبق نحو ذلك فيما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- القياس الكاسد

وبه (عن أبيه، عن محمد بن قيس) وهو ابن مخرمة القرشي الحجازي، روى عن أبي هريرة رضي الله عنه وعائشة رضي الّه عنها، وعنه، عبد الله بن كثير، وغيره (قال: سألت ابن عمر أو ابن كثير) شك منه أو من غيره (عن بيع الشحم فقال: قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم) كما نص الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُوْمَهُمَا} (2) الآية (فحرموا أكلها

(1) العنكبوت 64.

(2)

الأنعام 146.

ص: 554

واستحلوا بيعها وأكل ثمنها) مع أن الآية مطلقة، فقيدوها من تلقاء أنفسهم، فلا يرد أن قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ} (1) محمول على أكلها، وجاز الانتفاع بجلدها، فإن هذا البيان استفيد من صاحب الشريعة، لا بالرأي الفاسد، والقياس الكاسد، وإن الذي حرم الخمر، حرم بيعها وأكل ثمنها، وقد سبق، بعض الحديث مرفوعاً.

وقد روى أحمد والجماعة عن جابر، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد والشيخان، والنسائي، وابن ماجه، عن عمر مرفوعاً، بلفظ:"قاتل الله اليهود، إن الله عز وجل، لما حرم عليهم الشحوم جملوها" بالجيم "ثم باعوها وأكلوا ثمنها".

قوله: جملوها: بالجيم، أي أذابوها.

- العبرة بخواتيم الأعمال والأحوال

(عن أبيه، عن عبد العزيز بن رفيع) بالتصغير، وهو الأسدي المكي، سكن الكوفة، وهو من مشاهير التابعين وثقاتهم، سمع ابن عباس، وأتى عليه نيّف وتسعون سنة، (عن مصعب) وهو ابن سعد بن أبي وقاص القرشي، سمع أباه وعلياً، وابن عمر.

روى عنه سماك بن حرب وغيره (عن سعد) أحد العشرة المبشرة (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما مِنْ نَفْسٍ) أي من نفوس بني آدم، لأن الكلام فيهم (إلا قد كتب الله عز وجل أي في اللوح المحفوظ، أو أثبت في القضاء والقدر (مدخلها

(1) المائدة 3.

ص: 555

ومخرجها) أي الطاعة والمعصية، وطلب الرزق وغيرهما، وهما يحتملان المصدر واسمي الزمان والمكان (وما هي لاقية) أي ملاقية في الدنيا والعقبى، (قيل: ففيم العمل) أي الآن، والحال أن الأمور كلها مفروغ منها في الأزل (يا رسول الله؟ قال: اعملوا) أي لا بد من العمل وظهوره إلى تمام الأجل (فكل ميسر) أي مسهل مهيأ (لما خلق له) أي قدر له من أسباب الأمل (فمن كان من أهل الجنة، يسر لعمل أهل الجنة) أي حتى يموت على عملهم، (ومن كان من أهل النار يُسِّرَ لِعَمَلِ أَهلِ النَّارِ) حتى يموت على عملهم، فإن العبرة بخواتيم الأعمال، والأحوال.

(قال الأنصاري) أي بعض منهم (الآن) أي هذه الساعة (حق العمل) أي ظهر وجه حكمة الأمر بالعمل، وهذا نظير قول زليخا: الآن حصحص الحق، والأحاديث في هذا الباب كثيرة شهيرة، منها ما أورده صاحب المشكاة في أول كتابه، وقد شرحناها في بابه.

- عذاب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

وبه: (عن أبيه، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتعمداً فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ") قد سبق الكلام عليه، (قال عطية: وأشهد) أي وأحلف (أني لم أكذب على أبي سعيد، وأن أبا سعيد لم يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره.

ص: 556

- قيام الليل

(وبه: عن أبيه، عن عبد الرحمن بن حزم) بفتح الحاء المهملة وسكون الزاء (عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا زَالَ جبرائيل يوصيني بالجار) أي بالإحسان إليه والتعطف عليه (حتى ظننت) أي حسبت (أنه) أي الله تعالى (يورِّثه) بالتشديد والتخفيف، أي الجار، من مثله، والحديث بعينه، رواه أحمد والشيخان، وأبو داود، والترمذي، عن ابن عمر وأحمد، والستة، عن عائشة رضي الله عنها.

ورواه البيهقي عن عائشة بلفظ الأصل مع زيادة: (وما زال يوصيني بالمملوك، حتى ظننت أنه يضرب له أجلاً ووقتاً إذا بلغه عتق، وما زال جبرائيل يوصيني بقيام الليل) أي للتهجد والعبادة والقراءة (حتى ظننت) أي علمت وتحققت (أن خيار أمتي لا ينامون إلا قليلاً) كما يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (1) أي من قليل زمانه الذي فيه يرقدون.

وفي تفسير قول آخر، وهو: أنهم كانوا قليلاً من الناس موصوفين بأنهم ما يهجعون مطلقاً، أو بعضه على أن ما نافية، وفي قليل من الليل عدم هجوعهم إذا

(1) الذاريات 17.

ص: 557

كانوا يقومون ثلث الليل، أو نحوه، كما أشار إليه قوله تعالى:{قُم اللَّيْلَ إلاّ قَلِيلاً نِصفُهُ أو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيهِ} (1) الآية.

وقوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدْنَى مِنْ ثُلُثَي الليْلَ ونِصفَهُ وثُلُثهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الّذِينَ مَعَك} (2).

وفي الحديث: أشرافُ أمتي حملة القرآن، وأصحاب الليل، رواه الطبراني والبيهقي.

عن ابن عباس (عن أبيه، عن سلمة بن كهيل) بالتصغير (عن أبي عرا، عن ابن مسعود، قال: لا يبقى في النار) أي أحد من المؤمنين مخلداً (إلا من ذكر الله في هذا الآية {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر

قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّين

وَلَم نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِين} إلى قوله {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافِعين} (3) سبق الكلام عليه.

- الحقب

وبه (عن أبيه، عن عاصم) لعله الإمام في القراءة، فإنه شيخ الإمام (عن أبي صالح) وهو ابن الذكوان الزيات السمان من أجلاء التابعين (قال: الحقب) وهو بضم، وبضمتين (ثمانون سنة) أو أكثر، هكذا في القاموس (منها) أي من

(1) المزمل 2 - 3.

(2)

المزمل 20.

(3)

المدثر 42 - 48.

ص: 558

الثمانين سنة (أيام عدد أيام الدنيا) لعله أراد عدد أيام خلق أصول الدنيا، المفهوم من قوله سبحانه وتعالى {الَّذي خَلَقَ السّموَات والأرضَ فِي سِتَةِ أيَّامٍ} (1) وستة أيام عدد أيام الدنيا باعتبار ما مضى بالنسبة إلى القائل، وإلا فقد ثبت أن عمر الدُنيا سبعة أيام كل يوم ألف سنة، وإن آخر من يخرج من الناس من عصاة المؤمنين، من لبث فيها سبعة آلاف سنة، عمر الدنيا، ومع هذا قلنا: فلابد من اعتبار كسر فيها، فأنا نحن الآن في سنة اثني عشر بعد الألف الذي هو السابع، نعم يتجاوز عن خمسمائة، وإلا فلزم أن يكون ثمانية آلاف كما حققه شيخ مشايخنا السيوطي في رسالته الكشف في مجاوزة هذه الأمة من الألف، وخلاصته، أنه أراد الحقب ثمانون سنة، وكل سنة اثنتي عشر شهراً، وكل شهر ثلاثون يوماً، وكل يوم ألف سنة.

وروى ذلك عن علي رضي الله تعالى عنه، كما في تفسير البغوي، لكن لا يخفى أنه لا يندفع به الاشكال الوارد بحسب الظاهر المتبادر في قوله سبحانه {إنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصاداً

لِلطَاغِيْنَ مَآباً. لَابِثِينَ فِيهَا أحقَاباً} (2) فإن قد يتوهم منه انقطاع العذاب بعد لبث الأحقاب.

فالأظهر في الجواب، أن العدد لا مفهوم له، أو هو ليس ظرفاً لما قبله من قوله لابثين، بل لما بعده من قوله {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرداً ولا شَرَاباً

إلَاّ حَمِيماً وغَسَّاقاً} (3) فيفيد أنهم بعدها يذوقون أشياء أخر، من ضريع وزقوم، وصديد ونحوها، والمراد، التكثير لا التحديد، فقد قال الحسن: إن الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال:{لابثين فيها أحقاباً} فوالله ما هو إلا أنه مضى حقب دخل إلى الأبد، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود.

(1) الحديد 4.

(2)

النبأ 21 - 23.

(3)

النبأ 24 - 25.

ص: 559

وروى السدي، عن حرة، عن عبد الله قال: "لو علم أهل النار، أنهم لابثون (يلبثون) في النار عدد حصى الدنيا، لفرحوا، ولو علم أهل الجنة عدد حصى الدنيا، لحزنوا.

- حبس جبرائيل

وبه (عن أبيه، عن زر) بكسر الزاء وتشديد الراء، وهو ابن حبيش الأسدي الكوفي، عاش في الجاهلية، ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، وهو من أكابر القراء المشهورين، من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، سمع عمر رضي الله عنه، روى عنه خلق كثير من التابعين وغيرهم، (عن سعد بن جبير) وهو من سادات التابعين، كما سبق ذكره.

(عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل عليه السلام: مَا لَكَ لَا تَزُورَنَا أكثر مِما تَزُورهُ) فإنا نشتاق إلى لقائك ومشاهدة طلعتك هيأتك (فأنزلت بعد ليال) أي قليلة ({وَمَا نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ})(1) كما هو مبين {لَا يَعْصُون الله ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُون مَا يُؤْمَرُون} (2)({له ما بين أيدينا وما خلفنا}) الآية أي ({وما بين ذلك وما كان ربك نسياً}) والحديث بعينه رواه البخاري، عن زر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه.

(1) مريم 64.

(2)

التحريم 6.

ص: 560

وقال عكرمة، والضحاك، وقتادة، ومقاتل، والكلبي: احتبس جبرائيل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، حين سأله قومه عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فقال:"أخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله تعالى، حتى شَقَّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نزل بعد أيام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبطأت عليّ حتى ساء ظني واشتقت إليك. فقال جبرائيل: كنت أشوق، ولكني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست أجست، فأنزل الله تعالى:{وما نتنزل إلا بِأَمْرِ ربك} ونزل: {والضحى} ، وقوله:{له ما بين أيدينا وما خلفنا} ، أي علم ما بين أيدينا من الآخرة والثواب والعقاب، وما خلفنا ما مضى من الدنيا، {وما بين ذلك} ، ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة.

- ما بين النفختين أربعون سنة

وقيل ما بين الدنيا من أمر العقبى، وما خلفنا من أمر الدنيا، وما بين ذلك، ما بين النفختين، وهو أربعون سنة، وقيل غير ذلك، قوله:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسيّاً} (1) أي ناسياً، وهو منزه عن النسيان، أو المعنى، أي ما نسيك ربك، أي ما تركك.

- معنى إحسان يوسف عليه السلام

وبه (عن أبيه، عن أبي سلمة بن سبط، قال: كنت عند الضحاك) بن مزاحم (فسأله رجل عن هذه الآية) أي من سورة يوسف {إنَّا نرَاكَ مِنْ المُحْسِنين} (2) قال

(1) مريم 64.

(2)

يوسف 36 و 78.

ص: 561

أهل السجن له: (ما كان إحسانه) أي الذين كانوا يرونه (قال) أي الضحاك (كان) أي يوسف (إذا رأى رجلاً مضيقاً عليه) بتشديد التحتية المفتوحة (وسع عليه) أي بما قدر له من المقام والطعام (وإذا رأى مريضاً) أي لا يقوم بخدمته أحد (قام عليه) أي بنفسه، وبخدمته، (وإذا رأى محتاجاً سأل) أي عن حاجته (ولقضاء حاجته) أي وأما راحته.

وفي تفسير البغوي، روي أن الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله:{إنا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ} ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن عاده، وقام عليه، وإذا ضاق المكان وسع عليه، وإذا احتاج، جمع له شيئاً، وكان مع هذا يجتهد في العبادة، ويقوم الليل كله للصلاة، وكان يسليهم، ويقول: أبشروا واصبروا وتؤجروا.

وقيل: إن المعنى {إنا نَرَاكَ من المحسنين} ، في الرؤيا.

- يدرس الإسلام

وبه (عن أبيه، عن مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: يدرس الإسلام) بصيغة المجهول: أي ينمحي آثاره ويندرس أقلامه (كما يدرس وشى الثوب) أي إذا عسق، وهو بفتح الواو وسكون الشين المعجمة، نقش الثوب، ويلون كل لون (ولا يبقى) أي ممن أدرك الإسلام (إلا شيخ كبير أو عجوز

ص: 562

فانية) شك من أحد الرواة، والمراد أحد هذين النوعين من جنس المتقدمين، (يقولون: قد كان قوم) أي من المسلمين قبل هذا (ويقولون لا إله إلا الله، وهم) أي هؤلاء الناقلون، (ما يقولون لا إله إلا الله، قال) أي الراوي (فقال: صلة بن زفر) بكسر الصاد وتخفيف اللام، أحد الحاضرين، (فما يغني عنهم يا عبد الله) الله أعلم بالمخاطب، أي أيُّ شيء ينفعهم (لا إله إلا الله) أي مجرد التوحيد، ولو كان مقروناً بإقرار النبوة، لأن هذه الكلمة علم للشهادتين، أو من باب الاكتفاء، لما علم من الدين، أن أحدهما لا يستغني عن الأخرى، وأنهما متلازمان في الاعتبار لمقام اليقين. (وهم لا يصومون ولا يصلون ولا يحجون ولا يصدقون) أي لا يزكون (قال: ينجون بها من النار) أي لقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن قال لا إله إلا الله دخل الجنة".

وفي رواية: حرم الله عليه النار، وهو: إما محمول على أنهم حينئذ لم يكونوا عالمين بوجوب هذه الأركان، أو ينجون بها في آخر الزمان، ولو كان بعد دخولهم النيران (ثم قال الثانية) أي في المرة الثانية، أو المقالة الثانية (يمد بها صوته، يا صلة ينجون بها من النار).

- قيام الساعة

وفي هذا الباب روايات كثيرة، وأحاديث شهيرة، منها ما رواه أحمد ومسلم والزهري، عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً:"لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله".

وفي رواية أحمد ومسلم، عن ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تقوم الساعة إلا

ص: 563

على أشرار الناس ورواه الستة والحاكم، عن أبي سعيد رضي الله عنه:"ما تقوم الساعة حتى لا يحج البيت".

وبه (عن أبيه، عن عبد الملك)، أي ابن عمر، وسبق ذكره (عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يَدخُلُ قومٌ مِنْ أهْلِ الإِيمانِ يَوْمَ القِيامَةِ النَّارَ بذنوبِهِمْ) أي من الكبائر والصغائر، كما هو مقرر في عقيدة أهل السنة، (فيقول لهم المشركون: ما أغنى عنكم إيمانُكُمْ) أي نفعكم مجرد إيمانكم، حيث دخلتم النار بعصيانكم (ونحن) أي معاشر الكفار وأنتم جماعة الفجار (في دار واحدة نعذب) فهذا من جهلهم بحال عصاة المؤمنين، فإن تعذيبهم لتقريب الكافرين لا كمية ولا كيفية، بل تعذيبهم، إنما هو تأديبهم، وتهذيبهم، (فيغضب الله عز وجل لهم) أي فيظهر آثار غضبه سبحانه لأجل الإيمان، ولو صدر عنهم بعض العصيان. (فيأمر أن لا يبقى في النار أحد يقول لا إله إلا الله) أي ويعترف مع هذا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيخرجون، وقد احترقوا حتى صاروا كالحممة السوداء) الحمم كصرد الفحم، وهو الواحدة بها (إلا وجوههم، فإنه) أي الشأن (لا تزرق أعينهم، ولا يسود وجوههم)(1) بتشديد الراء والواو، على صيغة

(1) لعله تسود، كما في قوله تعالى:{يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}

ص: 564

المجهول، أو بتشديد القاف والدال، على صيغة المعروف فيهما (فيؤتى بهم نهراً على باب الجنة، فيغتسلون فيه، فيذهب عنهم كل فتنة) أي محنة، (وأذى)، أي أذية وبلية (ثم يدخلون الجنة، فيقول لهم الملك) أي واحد من هذا الجنس، أو بعضهم (طبتم) أي طاب باطنكم بالإيمان، وطهر ظاهركم بالنيران (فادخلوها) أي الجنة أو الجنان (خالدين) أي مقدرين الخلود، بلا غاية في الأزمان (فيسمون الجهنميين في الجنة، قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (ثم يدعون) أي يطلبون إزالة هذا الاسم عنهم حياء منهم (فيذهب عنهم ذلك الاسم فلا يدعون) بصيغة المجهول، أي فلا يسمون (به) أي بما ذكر أبداً (فإذا خرجوا) أي هؤلاء العصاة (من النار، قال الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين، فذلك قول الله عز وجل ({ربما}) بالتشديد والتخفيف، وهو التكثير، أو التقليل، وهو المناسب لهذا الحديث الجليل ({يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}) (1) قال البغوي في تفسيره: اختلفوا في الحال الذي يتمنى الكافر هذا، قال الضحاك: حالة المعاينة، وقيل يوم القيامة، والمشهور، أنه حين يُخْرِجُ الله تعالى المؤمنين من النار.

روي عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله تعالى من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: أَلَسْتُم مُسْلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب، فأخذنا بها، فيغفر الله لهم بفضل رحمته، فيأمر

(1) الحجر 2.

ص: 565

كل مَنْ كان مِنْ أهل القبلة في النار، فيخرجون منها، فحينئذ {يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} .

- اتقوا من فراسة المؤمن

وبه: (عن أبيه، عن عطية) العوفي (عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اتَقُوا مِنْ فَرَاسَةِ المؤمن") بفتح الفاء، أي إدراكه الكامل (فإنه ينظر بنور الله تعالى، ثم قرأ) النبي صلى الله عليه وسلم، أو الصحابي، استشهاداً، أو اعتضاداً، {إنَّ في ذلك لآيات للمتوسمين} (1) للمؤتمنين، قال: يحتمل مرفوعاً، وموقوفاً المتفرسين.

والحديث بعينه رواه البخاري في تاريخه، والترمذي في جامعه عن أبي سعيد والحاكم، وسمويه، والطبراني، وابن عدي، عن أبي أمامة، وابن جرير، عن ابن عمر، وحكي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه دخل عليه بعض أصحابه، وتدركوا النظر إلى امرأة، فقال: يدخل أحدكم بعين زانية، فقال، أوَحياً بعد رسول الله، قال، لا، ولكن فراسة صادقة، وعلم للفراسة، كان للإمام فيه اليد الطولى، كما هو المشهور في مناقبه.

وأما قوله تعالى للمتوسمين، فقال ابن عباس رضي الله عنه: الناظرين، وقال مجاهد للمتفرسين، وقال قتادة: للمعبرين، وقال مقاتل: للمتفكرين.

(1) الحجر 75.

ص: 566

- أول من ضرب الدنانير

وبه (عن أبيه، عن أبي سليمان قال: أول من ضرب الدنانير) أي السكة (على الذهب تبع) بضم التاء، وفتح الموحدة المشددة، وهو السعد بن كرب.

في القاموس: التبابعة، ملوك اليمن الواحد ككسرى، ولا يسمى به إذا كانت له حمير وحضرموت، ودار التبابعة بمكة، ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} (1) فله قصة طويلة، ذكرها البغوي في تفسيره.

وذكر أبو حاتم، عن الرياشي، قال: كان أبو كرب، أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وذكر لنا أن كعباً، كان يقول: ذم الله قومه ولم يذمه، وكانت عائشة تقول (لا تَسُبُّوا تُبَّعاً فإنه كان رجلاً صالحاً) وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت، وأورد البغوي بسنده عن سهل ابن سعد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لا تسبوا تبعاً، فإنه قد كان أسلم.

وأورد أيضاً بسنده المذكور فيه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، من المخرجين عن المقري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري تبع، نبياً كان، أو غير نبي"، (وأول من ضرب الدراهم) أي سكه على الفضة (تبع الأصغر، أول من ضرب الفلوس) أي السكة على النحاس

(1) الدخان 37.

ص: 567

(وأدارها في أيدي الناس، نمرود بن كنعان) في القاموس، نمرود، بالضم، من الجبابرة، ولعله أراد ضم الراء، وإلا فالمشهور على الألسنة، إنما هو فتح النون، وكنعان، وهو ابن سام بن نوح.

- الفرق بين الكبرياء والعظمة

وبه (عن أبيه، عن عطاء بن السائب) وهو ابن مزيد الثقفي، مات سنة ست وثلاثين ومائة، أو نحوه، لما ذكره صاحب المشكاة، في أسماء رجاله، في فضل التابعين (عن أبي مسلم الأغر) بالغين المعجمة، والراء المشددة (صاحب أبي هريرة رضي الله عنه أي المخصوص به في النفل (عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي) أي صفتان المخصوصتان بي ليس لأحد أن يشاركهما معي (فمن نازعني واحداً منها) بأن ادعى أنه موصوف بالكبر والتعظيم (ألقيه في جهنم) ولعل الفرق بينهما أن الكبرياء متعلق بالذات، والعظمة بالصفات.

والحديث بعينه رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وابن ماجه أيضاً، عن ابن عباس، ولفظهم: قذفته، بدل ألقيه.

وفي رواية للحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، فمن نازعني ردائي فضحته، ورواه السموية، عن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنه: قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عذبته.

ص: 568

وبه (عن أبيه، عن إبراهيم) أي النخعي (عن محمد بن المنكدر التيمي) سمع جابراً بن عبد الله وأنس بن مالك، وابن الزبير، وعمه ربيعة، وروى عنه جماعة، منهم الثوري، ومالك، مات سنة ثمانين ومائة، وله نيف وسبعون سنة، وهو تابعي كبير، من مشاهير التابعين وأجلتهم، جمع بين العلم والزهد والعبادة، والدين المتين، والصدق اليقين، (أنه بلغه) أي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة موقوفاً، لكنه في حكم المرفوع (إن المتكبر رأسه بين رجليه) أي يجعله الله معكوساً، منكوساً، حيث كان يرتفع برأسه، ويتبختر برجله (في تابوت مقفل عليه) أي مغلق ومضيق، لا يرى وجه الخلق، ولا يرون وجهه، في مقابلة عبوسة وجهه، وإدارة خده عن الخلق، مع نظر في كبره إلى الخلق، (ولا يخرج من التابوت أبداً في النار) أي مادام فيها إن كان مصراً من عصاة أهل الإيمان، أو مخلداً فيها إن كان من أهل الكفر والكفران.

وبه (عن أبيه، عن عبد الملك، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله) أي في تفسيره {فوربك لنسألنهم أجمعين

عما كانوا يعملون} قال: عن لا إله إلا الله) أي عما يعملون في حق هذه الكلمة، من القيام لحق الله سبحانه، وبمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وفي تفسير البغوي {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين} (1) يوم القيامة، {عما كانوا

(1) الحجر 92 - 93.

ص: 569

يعملون} في الدنيا، قال محمد بن إسماعيل، يعني البخاري، قال: عدة من أهل العلم: لا إله إلا الله، ثم هذا سؤال توبيخ وتقريع، فلا ينافي قوله سبحانه وتعالى:{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عن ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَان} (1) فإن المراد به سؤال استعلام.

وقال عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية: إن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف، يسألون من بعضها.

وبه (عن أبيه، عن حماد) أي ابن سليمان، كوفي، يعد في التابعين، سمع جماعة، روى عنه شعبة، والثوري وغيرهما، كان أعلم الناس، برأي إبراهيم النخعي، يقال: مات سنة عشرين ومائة، (عن إبراهيم) هو النخعي، من أكابر التابعين (قال: يؤم القوم) أي يجوز أن يؤمهم (ولد الزنا) أي ما ورد من أنه أشر الثلاثة (والعبد) مع أنه مملوك، والغالب عليه الجهل، (والأعرابي) وهو البدوي، وقد نزل في حقهم:{الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} (2)(إذا قرأ) أي الواحد منهم (القرآن) وكان من يقرأ القرآن في الصدر الأول عالماً بالسنة والفقه، المتعلق بالصلاة ونحوها. ولذا ورد: يؤمهم أقرأهم.

وإنما قال بعض العلماء بكراهية الاقتداء خلف هؤلاء الثلاثة، لأن الغالب عليهم الجهل، بالقراءة والسنة، ولاستنكاف العامة عن الاقتداء بهم.

وأما إذا تبين أنهم من أهل العلم، فجاز الاقتداء بهم بلا شبهة، بل ربما

(1) الرحمن 39.

(2)

التوبة (براءة)97.

ص: 570

يكونون أولى من غيرهم، ولذا أخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم في المدينة، عند خروجه عليه الصلاة والسلام لبعض غزواته، ليؤم الناس، مع كونه أعمى، فإنه يكره إذا كان هنالك من هو أعلم منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- إتيان النساء نحو المجاش حرام

وبه: (عن أبيه، عن حميد الأعرج، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إتيان النساء) كناية عن جماعهن (نحو المجاش) بفتح الميم، وتشديد الشين، أي الأدبار (حرام") وقد تقدم الكلام عليه.

- دواء

وبه: (عن أبيه، عن قيس، عن ابن مسلم، عن طارق بن شهاب) يكنى أبا عبد الله البجلي الكوفي، أدرك الجاهلية، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له سماع منه إلا شاذاً، غزا في خلافة أبي بكر وعمر، ثلاثاً وثلاثين، ومات سنة اثنين وثمانين، (عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، إلا السأم) أي الموت الأكبر (والهرم) وهو الموت الأصغر (فعليكم بألبان البقر، فإنها تخلط من كل شيء) تقدم الكلام عليه، فتدبر.

ص: 571

- وضوء

وبه (عن أبيه، عن خالد بن علقمة، عن عبد، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه توضأ، فغسل كفيه ثلاثاً، وتمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً، وغسل قدميه) أي ثلاثاً (وقال هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق التحقيق، والله ولي التوفيق.

وبه: (عن أبيه، عن إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصيب أهله) أي يجامع بعض نسائه (في أول الليل، ولا يصيب ماء) أي لا للغسل ولا للوضوء، وهذا لا ينافيه أنه كان يتيمم، وهذا أيضاً وقع أحياناً، وإلا فقد كان يغسل أول الليل، أو يتوضأ (فإذا استيقظ من آخر الليل، عاد) أي إلى الجماع إذا أراد (واغتسل).

وهذا الحديث أيضاً تقدم، والله سبحانه أعلم.

وبه: (عن أبيه، عن أبي فروة، عن عطاء بن السائب أبي الضحاك) تابعي ثقفي، (عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل:{آلم} ) في البقرة

ص: 572

وغيرها (قال: أنا الله أعلم) إيماء إلى أن الهمزة رمز إلى أنا، واللام إلى الجلالة، والميم إلى أعلم، أخذ من كل كلمة حرفاً، مشيراً من أوله، أو وسطه، وآخره إليها ودالاً عليه.

وقيل: الهمزة رمز إلى الله تعالى، والميم إلى محمد، واللام إلى جبرائيل، والمعنى: أن الله تعالى أنزل على محمد بواسطة هذا الملك.

وفي الأصل زيادة (وأرى) وهذا منقول، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، (في آلمر) أول الرعد.

وهنا أقوال أخر، ولغيره من المفسرين، قيل: يبلغ سبعين، والمعتمد عند الجمهور منهم الخلفاء الأربعة في تفسير الحروف المقطعات، أن الله سبحانه وتعالى أعلم بمراده بذلك.

- نهى صلى الله عليه وسلم أن يشرب في آنية فضة

عن أبيه، عن أبي قودة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى) تقدمت ترجمته في الحديث بعينه (قال: استسقى حذيفة بن اليمان من دهقان، فأتاه بشراب في إناء فضة، فأخذ الإناء، فضرب به وجهه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يشرب في آنية الفضة").

ص: 573

وبه (عن أبيه، عن أبي المنهال) بكسر الميم (عن القعقاع الخششي) بضم الخاء وفتح الشينين المعجمتين، (عن ابن مسعود، أنه قال:) أي موقوفاً، وتقدم عنه مرفوعاً ("حرام أن تؤتى النساء في المجاش").

- لغو اليمين

وبه: (عن أبيه، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة) في قول الله عز وجل: ({لَا يُؤَاخِذكُمْ الله باللَّغْوِ في أَيمَانِكُمْ}) قالت: هو قول الرجل، لا والله) أي تارة (وبلى والله) ومعناهما كلا والله (ما يصل به كلامه) أي يجري على لسانه عجلة في بيانه لصلة كلام من غير قصد، وعقد كما بينه قوله (مما لا يعقد عليه قلبه حديثاً) أي من قصد اليمين، ولذا قال تعالى:{ولكن يُؤَاخِذكُمْ بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (1). والحديث رواه الشافعي رحمه الله، أنبأنا مالك عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت، لغو اليمين قول الإنسان، لا والله، وبلى والله، ورفعه بعضهم.

وإلى هذا ذهب الشعبي وعكرمة، وبه قال الشافعي.

وقال الجمهور، هو أن يحلف على شيء يرى أنه صادق، ثم يتبين له خلاف

(1) البقرة 225.

ص: 574

ذلك، وهو قول الزهري، والحسن والنخعي، وقتادة، ومكحول.

وبه قال أبو حنيفة: وقالوا: لا كفارة فيه، ولا إثم، وقال على ما هو المبين في القضية.

وبه قال طاوس، وقال سعيد بن جبير هو اليمين في المعصية، لا يؤاخذه الله بالحنث فيها بل يحنث ويكفر.

وقال مسروق: ليس عليه كفارة، أيكفر خطوات الشيطان.

وقال الشعبي في الرجل يحلف على المعصية: كفارته أن يتوب عنها، كذا في تفسير البغوي، واعلم أن الحديث رواه أصحاب السنن عن عائشة مرفوعاً، كما ذكره ابن الهمام، ولا يلزم من رواية ابن الهمام هذا أن يكون مذهبه، فإن المعتمد في المذهب أن يمين اللغو هو أن يحلف على أمر وهو يظن أنه كما قال، والأمر بخلافه، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه.

وبه قال أحمد، ولا كفارة فيها، وهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك رحمه الله، وأحمد رحمه الله، وقال الشافعي رحمه الله: فيها الكفارة.

- إن شاء الله تعالى

وبه (عن أبيه، عن القاسم بن عبد الرحمن) تابعي شامي (عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: مَنْ حلف على يمين) أي محلوف عليه (وقال إن شاء تعالى) أي متصلاً بيمينه (فقد استثنى) أي فلا حنث عليه، وكذا إذا نذر، وقال: إن شاء الله تعالى متصلاً، لا يلزمه شيء، قال محمد: بلغنا ذلك عن ابن

ص: 575

مسعود، وابن عباس، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وكذا قال موسى:{ستجدني إن شاء الله صابراً} (1) ولم يصبر، ولم يعد مخالفاً لوعده.

وقال مالك رحمه الله: يلزمه حكم اليمين والنذر، لأن الأشياء كلها بمشيئة الله تعالى، فلا يتغير بذكره حكم.

والجمهور على قوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ حَلَفَ على يمينٍ وقال إن شَاءَ الله فلا حنث عليه"، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ثم شرط عمل الاستثناء في الإبطال الاتصال، فلو انقطع بتنفيس وسعال، ونحوه، لا يضر.

- مسألة إيلاء

وبه (عن أبيه، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، قال في المؤلى) بالهمزة، ويبدل، وهو المذكور في قوله تعالى:{يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِم تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فإِنْ فَاؤوا فإنَّ الله غَفُورٌ رَحِيم} (2) والإيلاء لغة: اليمين، وفي الشرع: هو اليمين على تركِ قربان الزوجة أربعة أشهر (فيئة) أي رجعته المستفادة من قوله سبحانه: فإن فاؤوا (الجماع، إلا أن يكون له عذر) أي مانع من الجماع، كمرض أحدهما، أو امتناعها، أو جهالة مكانها، أو بينهما مسيرة أربعة أشهر (ففيئه باللسان) بأن يقول: فئت إليها، أو رجعت عما قلت، أو راجعتها، أو أبطلت إيلاءها.

وكان إبراهيم النخعي يقول: الفيء باللسان على كل حال، فإذا فاء، فعليه

(1) الكهف 69.

(2)

البقرة 226.

ص: 576

الكفارة بيمينه في قول الفقهاء، إلا الحسن وإبراهيم، وقتادة، فإنهم أسقطوا الكفارة إذا فاء، لقوله تعالى:{فإنَّ الله غفورٌ رَحيم} . وقال غيرهم: هذا في إسقاط العقوبة لا الكفارة.

- مسألة خلع

وبه (عن أبيه، عن أيوب السجستاني: أن امرأة ثابت بن قيس) أي ابن شماس الأنصاري، الخزرجي، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطيب الأنصار، وشهد يوم اليمامة مع مسيلمة الكذاب، سنة اثني عشرة، روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وغيره (أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لا أنا ولا ثابت) أي: لا أجتمع أنا معه، ولا هو معي، وهو كناية عن عدم إرادتها له (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتختلعين) أي تفتدين مِنْه (بِحَديقَتِهِ) أي أتردين عليه بستانه الذي جعله مهراً لك (فقالت: نعم وأزيد) أي عليه من عندي أيضاً، هذا من كمال كراهتها له، وقوله: أزيد، يحتمل فعلاً، وأفعل (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (أما الزيادة فلا) أي فلا حاجة بها.

والحديث رواه البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنه، بأن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، لا أعيب عليه في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته، قالت: نعم! قال صلى الله عليه وسلم: "اقْبل الحَدِيقَة وطَلِّقها تَطْليقَة" انتهى. وليس فيه ذكر الزيادة، وقد رويت مرسلة، ومسندة فروى أبو داود في مراسيله، وعبد الرزاق كلهم عن عطاء، وأقرب الأسانيد، مسند عبد الرزاق، وقال: أخبرنا ابن

ص: 577

جريج عن عطاء جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، فقال: أتردين عليه حديقته التي أصدقها؟ قالت: نعم، وزيادة، قال: وأما الزيادة فلا.

- المراسيل أصح

وأخرجه الدارقطني، كذلك، والمراسيل أصح. وأخرج عن ابن الزبير، أن ثابت بن قيس بن شماس، كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أبي سلول، وكان أصدقها حديقة، فكرهته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ " قالت: نعم وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أما الزيادة فلا، ولكن حديقته التي أعطاكِ، قالت نعم"، فأخذها وخلى سبيلها.

قال: سمعه أبو الزبير من غير واحد، ثم أخرج عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يأخذ الرجل من المختلعة أكثر مما أعطاها.

- المرسل حجة عندنا بانفراده

وروى ابن ماجه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وفيه: فأمره أن يأخذ حديقته ولا يزداد، فقد علمت أن لا شك في ثبوت هذه الزيادة، لأن المرسل حجة عندنا بانفراده، وعند غيرنا، إذا اعتضد بمرسل آخر يرسل من روى غير رجال الأول بمسند كان حجة، وقد اعتضد بهما هنا جميعاً.

هذا، وذكر عبد الرزاق، عن علي: لا يأخذ منها فوق ما أعطاها، ورواه وكيع، عن أبي حنيفة، عن عمران الهمداني، عن علي، أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.

وقال طاوس: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.

ص: 578

- رؤية الله تعالى

وبه: (عن أبيه عن إسماعيل بن أبي خالد، وبنيان بن بشر، عن قيس بن أبي حازم) هو الأضمني البجلي، أدرك زمن الجاهلية، وأسلم، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فوجده قد توفي، يعد في تابعي الكوفة، وقد ذكر في أسماء الصحابة مع اعترافهم بأنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في التابعين من روى عن نفسه من العشرة إلا هو، وروى عنه جماعة كثيرة من التابعين، شهد النهروان مع علي، وطال عمره، حتى جاوز المائة، ومات سنة ثمان وتسعين، (قال: سمعت جرير ابن عبد الله) أي البجلي، وقد سبق ذكره (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ) أي رؤية ظاهرة (كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْر) أي في كمال الظهور، منزهاً عن الجهة والمقابلة والصورة والهيئة (وَلَا تَضَامُونَ في رؤيته) بتشديد الميم، مع فتح التاء على حذف أحد التائين، أو بضمها، أي لا تحتاجون أن يضم بعضكم إلى بعض كما هو العادة في رؤية الهلال، يعني يكون رؤية الله على وجه كل أحد في محله، ينظر الله بحسب ما يتجلى عليه.

وفي رواية، بتخفيف الميم، من الضم، من هو الضر، وفتح حرف المضارعة، أي لا يضر بعضكم بعضاً في رؤيته، لأجل المزاحمة في مشاهدته، والمعنى السكون في رؤيته، (فانظروا) أي تفكروا واجتهدوا إن كنتم تريدون اللقاء على وجه الكمال والبهاء (أن لا تُغْلَبُوا) بصيغة المجهول، أي لا يغلبكم

ص: 579

الشيطان، ولا يشغلكم الأموال والأهل عن التهيؤ للعبادة في صلاة (قبل طلوع الشمس) فهي صلاة الفجر (وقبل غروبها") وهي صلاة العصر، أو العصر والظهر، وخصا بالذكر، لأن من داوم عليهما، يوفق للمواظبة بالأولى على غيرها (قال حماد) هو ابن الإمام على سياق الكلام (يعني) أي يريد عليه الصلاة والسلام من الصلاتين (الغداة) أي الفجر (والعشاء) أي الظهر والعصر، ولا يمكن تفسير العشى مما يشبههما، والمغرب والعشاء، لتقييدها في الحديث بما قبل الغروب.

- والأحاديث في هذا الباب مشتهرة كادت أن تكون متواترة

ولعل التقييد بالوقتين، للإيماء بأن اللقاء يكون في مقدارهما غالباً لعامة المؤمنين، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَلَهُم رِزْقُهُمْ فيها بُكْرَةً وَعَشِيّاً} (1) والحديث رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة، كلهم عن جرير، بلفظ: وإنكم سترون ربكم مثل هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، فافعلوا". والأحاديث في هذا الباب مشتهرة، كادت أن تكون متواترة، فيا حسرةً على المعتزلة المنكرة.

(1) مريم 62.

ص: 580

- إسناد أبي حنيفة رحمه الله عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

قال شيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي رحمه الله: وقفت على فتيا رفعت إلى الشيخ الولي العراقي صورتها: هل رأى أبو حنيفة أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يعدُّ في التابعين، أم لا؟ فأجاب بما نصه: الإمام أبو حنيفة لم تصح له رواية عن أحد من الصحابة، وقد رأى أنس بن مالك، فمن يكتفي في التابعين بمجرد رؤية الصحابة، يجعله تابعياً، ومن لم يكتف بذلك، لا يعده تابعياً.

ورفع هذا السؤال إلى الحافظ ابن حجر، يعني العسقلاني، فأجاب بما نصه: أدرك الإمام أبو حنيفة جماعة من الصحابة، لأنه ولد بالكوفة، سنة ثمانين من الهجرة، وبها يومئذ من الصحابة عبد الله بن أبي أوفى، فإنه مات بعد ذلك بالاتفاق، وبالبصرة يومئذ أنس بن مالك، ومات سنة تسعين أو بعدها.

- الإمام الأعظم من التابعين

وقد أورد ابن سعد بسند لا بأس به، أن أبا حنيفة رأى أنساً، وكان غير هذين من الصحابة في البلاد أحياء قد جمع بعضهم جزء فيما ورد من رواية أبي حنيفة من الصحابة، لكن لا يخلو إسناده من ضعف، والمعتمد على إدراكها ما تقدم، وعلى رؤيته من الصحابة، ما أورده ابن سعد في الطبقات وهو بهذا الاعتبار من طبقة التابعين، ولم يثبت ذلك لأحد من أئمة الأعصار للمعاصرين له، كالأوازعي بالشام، والحماد بالبصرة، والثوري بالكوفة، ومالك بالمدينة، ومسلم بن خالد الزنجي بمكة، والليث بن سعد بمصر، انتهى.

وقال السخاوي في شرحه لألفية العراقي، والثنائيات في الموطأ، للإِمام مالك، والوحدان في حديث الإِمام أبي حنيفة، لكن بسند غير مقبول، إذ المعتمد، أنه لا رواية له عن أحد من الصحابة.

وفي شرح المشكاة لابن حجر المكي، أدرك الإمام الأعظم ثمانية من الصحابة، منهم أنس وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعيد، وأبو الطفيل، انتهى، وقال: قال الكردري رحمه الله تعالى: جماعة من المحدثين أنكروا ملاقاته مع الصحابة، وأصحابه أثبتوه بالأسانيد الصحاح الحسان، وهم أعرف بأحواله

ص: 581

منهم، والمثبت العدل العالم أولى من النافي، وقد جمعوا مسنداته، فبلغ خمسين حديثاً، برواية الإمام عن الصحابة الكرام، وأنشد بعضهم شعر:

كفى النعمان فخراً ما رواه من الأخبار من غرر الصحابة

- يقلد التابعي كما يقلد الصحابي

وإلى ما ذكرنا، أشار الإمام بقوله: ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى الرأس والعين، وما جاءنا عن التابعين، فهم رجال، لأنه ممن زاحم التابعين في الفتوى، اللهم إذا كان التابعي يزاحم في الفتوى الصحابي، فإنه يقلد التابعي، كما يقلد الصحابي، وهذا سبب صالح لتقديم مذهبه على سائر المذاهب.

- طلب العلم

أبو حنيفة (عن أنس بن مالك) وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، سنة أحد وتسعين، وقيل: ثلاث، وله يوم مات من السن مائة وثلاث، وقيل تسع وتسعون، فيكون الإمام يوم وفاته ابن ثلاث عشرة سنة، أو إحدى عشرة سنة، وقد تردد الإمام إلى البصرة، على أن إمكان اللقاء كفاية على الصحيح، (قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"طلب العلم فريضة على كل مسلم") سبق الكلام عليه، مستوفى مبنى ومعنى.

- الدال على الخير كفاعله

وبه (عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدال على الخير كفاعله") ورواه البزار عن أنس وابن مسعود والطبراني، عن سهل بن سعد، وعن أبي مسعود، وذكره البارذي في مختصره جامع الأصول، ورواه الترمذي في كتاب العلم بلفظ:

ص: 582

إن الدال على الخير كفاعله، ورواه العسكري، والدارقطني، وغيرهما عن ابن عباس، مرفوعاً، ولفظه: كل معروف صدقة، والدال على الخير كفاعله، والله يحب إغاثة اللهفان.

وفي صحيح مسلم ومسند أحمد، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، عن أبي مسعود، رفعه: من دل على خير فله مثل أجر فاعله، ورواه أحمد وأبو يعلى والضياعي، عن بريدة وابن أبي الدنيا هي قضاء الحوائج، عن أنس، بلفظ الدال على الخير كفاعله، والله يحب إغاثة اللهفان المكروب، وقد تقدم بسند آخر من الإمام، وسبق عليه الكلام.

- الدال على الشر كفاعله

وأما حديث الدال على الشر كفاعله، فقد أخرجه أبو منصور الديلمي، في مسند الفردوس، من حديث أنس رضي الله عنه، بإسناد ضعيف جداً، قاله العراقي في كتاب الشرق والمحبة والرضى، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب إغاثة اللهفان، تقدم من أخرجه، والظاهر، أن الإمام أسنده بسندين، بخلاف بقية الأئمة الأعلام، والله أعلم بالمراد، وقد أفرده ابن عساكر أيضاً، عن أبي هريرة هذا الحديث بعينه.

- ولادة أبي حنيفة رحمه الله

قال أبو حنيفة: (ولدت سنة ثمانين) هذا قول الأكثرين، وعلى قول الأقلين: سنة سبعين، (وقدم عبد الله بن أنيس) بتصغير أنس، صاحب رسول

ص: 583

الله صلى الله عليه وسلم (الكوفة سنة أربع وتسعين) وهو ممن شهد أحد، أو بعدها، وكان مهاجراً أنصارياً عقبياً (ورأيته وسمعت منه وأنا ابن أربع عشرة سنة، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حبك الشيء يعمي) من الإعماء (ويصم") من الإصمام، والحديث رواه أبو داود، من حديث أبي الدرداء، مرفوعاً، وقد وهم الصنعاني فحكم عليه بالوضع.

قال السخاوي: ويكفينا سكوت أبي داود عليه، فليس بموضوع، ولا شديد الضعف وحسن، قلت وفي الجامع الصغير للسيوطي، رواه أحمد والبخاري في تاريخه، وأبو داود عن أبي الدرداء والخرايطي في اعتلال القلوب عن أبي بردة، وابن عباس، عن عبد الله بن أنيس، انتهى.

وقد ذكر صدر الأئمة المكي، والسيد الحافظ الديلمي، وبرهان الإسلام الغزنوي، أن الإمام لقي عبد الله بن أنيس.

وذكر الكردري: أنه ذكر في المناقب بالإسناد عن أبي داود الطيالسي، قال: سمعت الإمام يقول: قدم علينا بالكوفة عبد الله بن أنيس عام أربع وتسعين، وأنا ابن أربع عشرة سنة، سمعته يقول: قال صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يعم ويصم" لكن في ملاقاة عبد الله بن أنيس، به إشكال، لأن أهل السير والتواريخ مجموعون على أنه مات بالمدينة عام أربع وخمسين قبل ولادة الإمام بسنتين، انتهى، فيحمل الرواية على نوع من المرسل، فتأمل.

ثم اعلم أن الحب ربطة القلب بالشيء رغباً وانصباباً، الهم عليه، وانكباب الهمة إليه خالياً، ويتخلف باختلاف كدر القلب، وصفائه، قلوب المالئين إنائه، فمن محب للحق ومحب للباطل، ومحب للعلي الأعلى، ومن متعلق بالأقل،

ص: 584

فمحب الحق أبكم وأصم وأعمى من غير مولاه، ومحب الباطل، لا يبصر ولا يسمع، إلا عمن يهواه، ويتولاه، أهل الله، صم بكم عمي، عما لا يفهم في السر والعلن، مصروفة هممهم إلى تكميل الفرائض والسنن، وسرارهم طاهرة طيبة عن المخالفات، والأحسن، فهم إلى الله ذاهبون، صم بكم عمي، فهم لا يرجعون، أولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فيقول لهؤلاء المتدلين بغرور إني في بقيع الطيب مقبور، وما أنت بمسمع من في القبور، ومن تعلق قلبه بغير المولى، خلا عن هذا الصفات، وتولى، وبالهوى في النار هوى، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ومن لم يجعل الله له نوراً، فما له من نور.

- تفقه

قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى (ولدت سنة ثمانين، وحججت مع أبي سنة ست أو تسع وتسعين، وأنا ابن تسعة عشرة فلما دخلت المسجد الحرام، رأيت حلقة) بسكون اللام، وتفتح وتكسر، أي جماعة من الناس (عظيمة) أي كثيرة (فقلت لأبي: حلقة من هذا؟ فقال: حلقة عبد الله بن الحارث بن جزء) بفتح الجيم وسكون الزاء بعدها همزة (الزبيدي) بفتح الزاي، وكسر الموحدة (صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فتقدمت، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ تَفَقَّه في دِينِ الله كَفَاهُ الله هَمَّهُ". وفي رواية: ما أهمه) أي في أمر دينه ودنياه، لما ورد: من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله ما أهمه من هم الدين والدنيا ورزقه من حيث لا يحتسب لقوله تعالى:

ص: 585

{وَمَنْ يتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ويرزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبْ} (1) وقد ورد: إني إله، فإني أرزق عبد المؤمن من حيث لا يحتسب، رواه الديلمي في مسند الفردوس، والبيهقي عن علي رضي الله عنه.

قال الكردري: وذكر في كتاب المناقب له بعض كتب الفقه أنه لقي عبد الله بن الحارث بن جزء، وهو مات بمصر، سنة خمس أو ست، أو سبع، أو ثمان وثمانين، فسنه إذن من خمس إلى ثمان، يوم موته على هذا، ألا يقتسم كلام أخطب الخطباء، بإسناده عن أبي بن سماعة، عن أبي يوسف رحمه الله، أن الإمام لقيه حتى حين حجه مع أبيه، وسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تفقه" الحديث، لأن حجة الإمام مع والده، كانت سنة ست وتسعين فلا يتحقق الملاقاة.

وذكر برهان الإسلام حسن بن علي الحسين الغزنوي، أنه مات سنة تسع وتسعين، فيمكن الرواية.

والأقرب ما ذكره أبو منصور البغدادي بإسناده عن بلال بن أبي العلاء، عنه أنه قال: حملني أبي على عاتقته وذهب إلى عبد الله بن الحارث، فقال له: ما تريد؟ قال: أريد أن تحدث إلي، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إغاثة الملهوف فرض على كل مسلم، من تفقه في دين الله، الحديث، الصبي الذي على العاتق في العادة إذا كان ابن خمس له وقريباً منه، فيصح من الزمان.

وأما من حيث المكان، فلو كان وفاته في آخر التسعين، يصح مكاناً، لكن الحمل على العاتق مشكل مخالف العادة إلا إذا فرض الملاقاة في غير الحرم، فيصح، وإذا كان وفاته في الثمانين، أقول: ولا يبعد أن أباه حمله على عاتقه للازدحام في المسجد الحرام، لا سيما في حلقة صحابي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أراد أنه يراه ويسمع عنه الكلام. والله أعلم بحقيقة المرام، ومثل هذا الحديث رواه

(1) الطلاق 2.

ص: 586

الحسن، عن عمران بن الحصين مرفوعاً:"من انقطع إلى الله تعالى كفاه الله كل مؤنته، ورزقه من حيث لا يحتسب".

- يكثر الصدقة ويكثر الاستغفار

وبه (عن جابر، عن عبد الله رضي الله تعالى عنهما) مثل هو وأبوه العقبة الثانية، وشهد بدراً وما بعده من المشاهد، وقدم الشام ومصر، ووالده كان من النقباء الاثني عشر، ذلك بعمرة في آخر عمره، مات بالمدينة سنة سبع أو ثمان وسبعين، وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو أميرها، قال الكردري: فلا يتصور الملاقاة إلا على قول من قال ولادة الإمام كانت سنة إحدى وسبعين، والأكثر على خلافه، والله تعالى أعلم.

(أنه جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما رزقت) بصيغة المجهول أي ما رزقني الله تعالى (ولداً قط، ولا ولد لي) تأكيد لما قبله، والمراد ولا ولد أيضاً سقط (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم ("فأين أنت من كثرة الاستغفار) أي لأي شيء غفلت عنه، وأين ذهبت أنت من تكثيره (وكثرة الصدقة ترزق بها) واحدة من الخصلتين، أو بالصدقة، وتعرف ما قبله بالقائلة، فيكون من قبل قوله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وِإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إلا عَلَى الخَاشِعِينَ} (1)(قال) أي جابر (فكان الرجل يكثر الصدقة. ويكثر الاستغفار) أي بعد ذلك (قال جابر، فولد له

(1) البقرة 45.

ص: 587

تسعة ذكور) ولعله مقتبس من قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام {فَقُلْتُ اسْتَغْفِروا رَبَّكُم إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنينَ} (1) وقد ورد: من أكثر الاستغفار، جعل الله له مِنْ كل غَمٍ فرجاً، ومِنْ كلِّ ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب، رواه أحمد والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ذكر أنه لقي جابر بن عبد الله، وقال سمعته يقول: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصيحة لكل مسلم.

وبه (قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى قال ابن عبد البر) هو الأسلمي، شهد الحديبية وخيبر وما بعد ذلك من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تحول إلى الكوفة، وهو آخر من بقي بالكوفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات سنة سبع وثمانين بالكوفة، وكان النبي هنا دارا في وسلم (2)، وكان قد كف بصره، وقيل: بل مات بالكوفة سنة ست وثمانين، وقال الكردري: سنة ست أو سبع وثمانين، فيكون سنه على قول الأكثرين يوم مات هذا الصحابي، ستاً أو سبعاً، وعلى قول الأقل، أربعاً وعشرين أو خمساً وعشرين، فعلى القولين يتحقق السماع، ويصح الرؤية والرواية، أما على قول الأقل فظاهر وأما على قول الأكثر، فروى ابن الصلاح، عن موسى بن هارون الجمالي، أحد الحفاظ؛ أنه قال: إذا فرق الصبي بين البقرة والحمار، جاز له سماع الحديث، وذكر القاضي الحافظ عياض بن موسى الخضي أن إلى أحد الحدثين حدوا أوله عن محمود بن الربيع، وذكروا حديث البخاري في صحيحه عنه بعد إذ ترجم متى تصح سماع الصبي؟ بإسناده عن محمود ابن الربيع، قال: عقلت سنه صلى الله عليه وسلم، فحدثتها في وجهي ابن خمس سنين من دنو.

(1) نوح 10.

(2)

كذا في الأصل

ص: 588

- ابن أربع سنين قرأ القرآن

وفي رواية، كان ابن أربع سنين، قال ابن الصلاح: بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: رأيت صبياً ابن أربع سنين حمل إلى المأمون، وقد قرأ القرآن، ونظر في الذي عرضه، إذا جاع بكى.

وعن القاضي أبي محمد الأصفهاني، قال: حفظت القرآن ولي خمس سنين، فإذا لا تنكر سماع الإمام من أبي أوفى، وقد ذكر سيد الحفاظ، والديلمي عنه أنه قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حبك للشيء يعمي ويُصم، والدال على الشر كمثله""والله يحب إغاثة اللهفان"(يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ بَنَى لله مَسْجِداً ولو مَفخَض قطاة) المفخض، بفتح الميم والخاء بينهما فاء: الوكر، والقطاة: طائر وأخطاه القطا طائر معروف، وسميت بها لحكاية صوتها، فإنها تقول ذلك.

قيل: إن وكد بالشين بمحراب المسجد في استدارية، ولا يكون إلا في الأرض، فيناسب المسجد. وقيل: خرج ذلك مخرج الترغيب بالقليل مخرج الكثير، وهو الظاهر. (بَنى الله تعالى له بيتاً في الجنة) والحديث بعينه رواه ابن حبان وغيره من حديث أبي ذر وابن ماجه من حديث أنس وأحمد، عن ابن عباس بزيادة: لبيضها بعد قطاة، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من بَنَى مسجداً بَنَى الله لَهُ بيتاً في الجنة مثله" ورواه ابن ماجه، مثله عن علي، ورواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن عثمان، ولفظه:"مَنْ بَنَى مَسْجداً بَنَى الله له بيتاً في الجنة".

ص: 589

ورواه الطبراني عن أبي أمامة، بلفظ:"من بنى لله مَسْجداً بنى الله له بيتاً في الجَنَّة أوسع منه".

وبه: (قال: سمعت واثلة) بكسر المثلثة (بن الأسقع) بالقاف، وهو الليثي، أسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يجهز إلى تبوكَ، يقال له أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، وكان من أصحاب الصفة، نزل البصرة، ثم نزل الشام، وكان منزله على ثلاثة فراسخ من دمشق، بقرية يقال لها البلاط، ثم تحول إلى بيت المقدس، ومات بها وهو ابن مائة سنة، روى عنه جماعة، (يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُظْهِرَنَّ) بالنون الثقيلة (شماتة) في القدح بالبلية (لأخيك) أي المسلم (فيعافيه الله ويبتليك) الظاهر أنهما منصوبان على جواب النهي، ولا يبعد أن يكونا مرفوعين على لغة معروفة مراعاة للسجع، أو المشاكلة.

والحديث رواه الترمذي عن واثلة، بلفظ:"لا تُظْهِرَنَّ الشَّمَاتَةَ لأخيك فيرحَمُهُ الله ويبتليك".

وفي المناقب، قال الإمام: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَظُنُّ أَحَدُكُم أنه يُقرب إلى الله تعالى بأقرب من هذه الركعات" يعني الصلوات الخمس، وفي معناه، رواه البخاري عن أبي هريرة من الحديث القدسي:"ما تَقَرَّبَ إليَّ عبدٌ بشيءٍ أحبُّ إليَّ مما افترض عليه".

- الجراد

وبه (قال: سمعت عائشة بنت عجرة تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر جند

ص: 590

الله) أي أكثر خلقه في الأرض، فيه إيماء إلى قوله تعالى {ولله جُنُودُ السَمَواتِ والأرض} (1) وإشارة إلى كثرته في قوله سبحانه {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِر} (2)(الجراد لا آكله) أي لعدم موافقة طبعه له (ولا أحرمه) وأجمع المسلمون على إباحة أكله، وقد قال عبد الله بن أبي أوفى في غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، نأكل الجراد، ورواه البخاري وأبو داود، وأبو نعيم، وفيه: يأكله معنا، يعني أحياناً، فلا ينافي ما تقدم من قوله، ولا آكله، أي دائماً، لا بهذا الوقت، ولا يبعد أن يحمل عدم أكله على الحضر، وأكله في السفر إما للضرورة وإما موافقة لمن حضر.

وروى ابن ماجه عن أنس قال: إنه قال: كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتناوبن الجراد في الأطباق وذكره ابن المنذر أيضاً، وليس فيه ما يدل على أكله عليه السلام بيقين، ثم قال الأئمة الأربعة: يحل أكله سواء مات حتف أنفه، أو بذكوة، ونحوه، عن أحمد: إذا قتله البرد لم يوكل، وملخص مذهب مالك: إن قطعت رأسه حل، وإلا فلا.

- أحلت لنا ميتتان والدمان

وكان سعيد بن المسيب يكره أكل ميت الجراد، إلا إذا أخذ حياً ثم مات.

والدليل على عموم حله، قوله عليه السلام "أحلت لنا ميتتان والدمان، أما الميتتان، الحوت والجراد. وأما الدمان، فالكبد والطحال" رواه أحمد والشافعي وابن ماجه والبيهقي والدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً.

واختلف العلماء في قتل الجراد إذا دخل بأرض قوم وأصيد، قيل لا يقتل، لأنه خلق عظيم بأرض الله يأكل رزق الله.

(1) الفتح 4.

(2)

القمر 7.

ص: 591

ويؤيده قوله عليه السلام: لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم، رواه الطبراني والبيهقي في شعبه.

وعامة الفقهاء: على أنه يحل قتله، لأن في تركه إفساد الأمور. ورخص صلى الله عليه وسلم بقتل المسلم إذا أخذ ماله. وأجابوا عن الحديث بأنه محمول على حال عدم إفساده.

ثم اعلم أن المحدثين اتفقوا على أن أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا على عهد أبي حنيفة أحياء، وإن تنازعوا في روايته عنهم، وهم: أنس وعبد الله بن أبي أوفى. وقد سبق تاريخهما، وسهل بن سعد بن عدي، مات وهو ابن إحدى وتسعين. وقيل ثمان وتسعين، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة. وأبو الطفيل، عامر بن واثلة الكناني، مات بمكة سنة اثنين ومائة. وهو آخر مَنْ مات مِنَ الصحابة في جميع الأرض، وعليه اتفق المحدثون.

وأولُ حجٍ حجَّه الإمامُ مع والده عام ست وتسعين، وهو من كمال العبد العادي، أن قبله يكون موجوداً بمكة، ولم يره الإمام مع والده.

وذكر جماعة: أن الإمام لقي معقل بن يسار المزني، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وسكن البصرة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وإليه ينسب نهي معقل بالبصرة.

روى عنه الحسن وجماعة، ومات زمن عبد الله بن زياد بالبصرة بعد الستين، وقيل في آخر خلافة معاوية.

وقد قيل إنه توفي أيام يزيد بن معاوية، وكذا ذكره ابن عبد البر، قيل فيكون موته سنة سبع وسبعين، وولادة الإمام سنة ثمانين، فيكون وفاة الصحابي قبل ولادة الإمام.

ص: 592

وأجيب بأن هذه الملاقاة تكون محمولة على قول الأقل، وهو أنه ولد سنة إحدى وستين، وأنه مات سنة سبع وستين، فيكون الإمام يوم السماع. ابن ست سنين، فتحقق السماع، مع أن الحمل على الإرسال هنا يمكن، فإن التابعي إذا استبان له الإسناد بطرق أرسل، وإذا قال: بطريق: أسند، وذكر إسناد السماع لا ينافي وجود الواسطة، وإن كان فيه نوع من النزاع.

- علامات المؤمن وعلامات المنافق

وذكر في المناقب انتقال معقلاً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "علامات المؤمن ثلاثة، إذا قال صَدَقَ، وإذا وَعَدَ وَفى، وإذا ائتُمِنَ أدَّى، وعلامات المنافق ثلاث، إذا قال كَذَبَ، وإذا وَعَدَ خَلَف وإذا ائتُمِنَ خَان".

وفي رواية الشيخين والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: رقى صلى الله عليه وسلم أسترقى منه، وإنما رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعوذتين حين طبه بسندين أعظم، فيعلم الله إما إعلاماً يكون الاشتغال بالسبب مأذوناً فيه، كما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان الأفضل، ليعلم الجواز، وإما لأنه عليه السلام اطلع أن تقدير الله تعالى في الرقى، فكان ذلك امتثالاً للتقدير بالاشتغال، لا الأسباب والتدبير، وكل ما ورد من تداوي رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمول على هذه الثانية.

قال الكردري: وذكر سيد الحفاظ الديلمي وبرهان الإسلام الغزنوي بأسانيدهم إلى الصحابة عن الإمام أنه قال: سمعت أنساً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الجَنَّة، وَلو تَوَكَلْتُم على الله حق توكله، لرزقكم كَمَا يَرزُقُ الطَيْر، تَغْدُو خِمَاصاً وتروحُ بِطَاناً".

أقول هذا الحديث: رواه البزار بسنده عن أبي سعيد، ولفظه:"من قال لا إله إلا الله مُخَلِصاً دَخَلَ الجَنَّة".

ص: 593

وفي رواية: إخلاصه أن يحجزه عن محارم الله تعالى، وأما آخره، فقد رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، والحاكم، عن عمر ولفظه:"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، يرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً".

ورواه البيهقي عنه بلفظ: "توكلون على الله حَقَّ توكله، لرزقت كما يرزق الطير، تغذوا خماصاً وتروح بِطَاناً.

وورد في حديث صحيح برواية الشيخين وغيرهما عن جماعة من الصحابة من ألفاظ مختلفة أن سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون.

- التوكل نوعان

قال الكردري: التوكل نوعان: الأول، وهو سكون النفس إلى ما سبق في القضاء بلا مبالاة لفوات نفع، أو دفع ضرر والاضطراب، وعدم مساواة الوصول والحرمان عنده بنفي وجود هذا النوع من التوكل، وكذلك الميل إلى الأسباب، والاشتغال بها يدفع هذا النوع إليه، أشاد عليه السلام بقوله:"لو توكلتم على الله حق توكله" لأن من المعلوم أن الطير لا يلتفت إلى حصول نفع ودفع ضرر، لا يبالي بالوصول، والحرمان. والتوكل فقال: لو كنتم على صفة غير مبالٍ بنيل أو فوات، وكنتم متوكلين حق التوكل أدركتم فأقسم لكم من غير حرث ولا زرع.

وهذا هو المندوب المدعو إليه، والثاني، وهو مأذون في غير المدعو إليه، وهو ما يكون لرفع الضرر والمكاره، فإِنه أيضاً توكل، إلا أنه ناقص، ألا ترى أن عمر قال لما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الطير:"أَْرسِلْ نَاقَتي أم أقيد، وَأَتَوَكَلْ، قال: لَا بَلْ قَيِّدْ وَتَوَكَّلْ".

فإِن كان يريد بالتوكل التحرز من الآفات والبلاء، لا السكون إلى ما سبق من القضاء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالنوع الذي وقع فيه المشورة إذ المستشار مؤتمن، ومثله ما

ص: 594

قال عليه السلام لكعب بن مالك المُتَخَلِّفْ عَنْ غَزْوَةِ تَبوك أَحَدُ الثلاثة: "أَنْفِق عليك مالك" حين قال: نيتي أن أتخلع من مالي، وقال لبلال:"أَنْفِقْ مالاً ولا تَخْشَ من ذي العَرْشِ إقلالاً" لأنه صلى الله عليه وسلم كان مستكمل التوكل على الله. ساكناً إلى ماله عند مولاه، غير ملتفت إلى حظه وهواه.

وأما غيره، فكان مراده الاحتراز عن المكاره، والاحتمال لدفع المضار، وكذا قيل لأبي بكر الصديق: أن يدعى لك الطبيب. قال: الطبيب أمرضني. وإليه أشار الجليل بقوله: {وَإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يُشْفِينِ} (1) والقيل إلى النوع الثاني عن سعد بن الربيع، كواه النبي صلى الله عليه وسلم، وأتى رحبه الدهني هناك، من هنا، فخرجها بمشقص.

ثم اعلم أن الحسن بن زياد ذهب إلى أن التداوي لا يجوز، لأنه يمنع التوكل على الله تعالى {فَتَوَكّلُوا إنْ كُنْتُم مُؤْمِنين} (2)

(1) الشعراء 80.

(2)

المائدة 23.

ص: 595