الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام الزاهد أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري. من ذرية أبي أيوب الأنصاري. كان حنبليًا حافظًا للحديث، بارعًا في اللغة، آية في التصوف والوعظ، إمامًا متفننا، قائمًا بنصر السنة ورد المبتدعة. وهو صاحب كتاب منازل السائرين. مات في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
كلام الحارث المحاسبي
في كتاب الرعاية
ذكر ما وقفت عليه من كلام الحارث بن أسد المحاسبي في ذلك. والحارث هذا قد عده الأستاذ أبو منصور التميمي في الطبقة الأولى من أصحاب الشافعي وقال إمام المسلمين في الفقه والتصوف والحديث والكلام والزهد والورع والمعرفة. مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
قال في كتابه: الرعاية ((باب الغرة بالجدال وحسن البصر بالاحتجاج)) والرد على أهل الأديان.
وفرقة جدلة خصمة مغترة بالجدال، والرد على المختلفين من أهل الأهواء وأهل الأديان. يتأول في ذلك أنه لا يصح لأحد عمل حتى يصح
إيمانه، والقول بسنة النبي- صلى الله عليه وسلم فليس عند أحدهم أحد يعرف ربه، ولا يقول عليه الحق غيره، أو من كان مثله.
ثم هم فرقتان: فرقة ضالة مضلة لا تفطن لضلالته، لا تساعها في الحجاج، ومعرفتها بدقائق مذاهب الكلام، وحسن العبارة بالرد على من خالفها، فهم عند أنفسهم من القائلين على الله بالحق، والرادين لكل ضلالة، لا أحد أعلم منهم بالله، ولا أولى به منهم. والفرقة الثانية من المغترين بالجدل والبصر بالحجاج، تقول بالحق ولا تدين بغيره، وقد اغترت بالجدل. ترى أنه لا يصح لها قول دون الفحص والنظر وقيام الحجة على من خالفها، فقد اغترت بذلك، حتى قطعت أعمارهم بالاشتغال عن الله وعمى عليها أكثر ذنوبها وخطاياها، وهي تظن أن ذلك أولى بها وأقرب لها إلى ربها، وهي أيضًا لا تسلم في مجادلتها من أن تخطئ في تأويلها، وقولها: إلا أن اعتقادها السنة مع اغترارها.
ثم قال: (باب) ما تنفى به الغرة بالجدل والحجاج: أما الفرقة الضالة فإنها تنفي ذلك بأن ترجع إلى نفسها، فتعلم أن من القرآن محكمًا ومتشابهًا، وكذلك (من) السنة فلا يقضى بمتشابه على محكم، ويقضى بالمحكم على المتشابه، وأن الخطأ في التأويل لا يحصى، فتتهم نفسها وتعلم أن الله سائلها عما تدين به. والجماعة قد مضت على الهدى وسنة نبيها- صلى الله عليه وسلم فلا تخرج من إجماعها وإن حسن ذلك في عقولها فإن تثبتت كما وصفت لك أبصرت ضلالها ولم تغتر بشدة حجاجها إذا علمت أن غيرها ممن خالفها شديد الحجاج.
بصير بالجدل، وهو عندها ضال مضل، وكذلك لا تأمن أن تكون هي عند الله كذلك، وإن أبصرت الجدل والخصومة، فإن اتهمت نفسها على الآراء والتأويل، وتثبتت عند المتشابه فقضت بالمحكم عليه، وأوقفت فيما لم يجعل لها النظر فيه. ولم تخرج عن إجماع من مضي زالت عنها غرتها وثابت إلى ربها من ضلالها.
وأما الفرقة المصيبة للحق مع غرتها (عن الله)، بالخصومات والجدل عما هو أولى بها، فإنما تنفي غرتها بذلك، بأن تعلم أن الله تعبد من مضي بما تعبدها. وقد أدرك كثير منهم أهل البدع والأهواء فما جعل عمره ولا دينه غرضًا للخصومات، ولا اشتغل بذلك عن النظر لنفسه والعمل ليوم فقره، إلا أن يرى موضع حاجة يظن أنه إن تكلم بالحق قبل منه. فيقول بالحق ويحذر أن يخطي على الله فيرد الباطل بالباطل، فكانوا على ذلك، وذموا الجدل والخصومات.
ورووا ذلك عن النبي- صلى الله عليه وسلم رواه عنه أبو أمامة أنه قال: ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل. وذم الله تعالى ذلك فقال {ألد الخصام} وقال لقريش {بل هم قوم خصموم} فذم المراء والجدل فليرجع إلى نفسه، فيقول لها: إنما تدعينني إلى الإتباع والسنة بجدلك لأهل الأهواء ودعائك لهم بالجدل، والمراء ترك السنة، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم نهى بسنته عن الجدل والخصومات وغضب على أصحابه حتى كأنما فقئ في
وجهه حب الرمان- جمرة الغضب- إذ خرج عليهم (وهم) يختصمون، وهم أولي الخلق بالفهم والبصر بالحجاج، فقال: ألهذا بعثتم أم بهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض. انظروا ما أمرتم به، فاعملوا به، وما نهيتم عنه فانتهوا.
ثم هو في نفسه- صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى جميع أهل الأديان، فما جادلهم إلا بما تلى عليهم من التنزيل، ولو شاء كلمهم بالمقاييس ودقيق الكلام. ولو كان ذلك هدي كان أولى به وعليه أقوى، فلم يقم عليه الحجة إلا بالتنزيل، وضرب عن جدلهم بالدقائق وعلم أن ذلك رضى ومحبة لربه. فترك الجدل والخصومات من السنة.
ونرجع إليها أيضًا بأخرى من التذكرة، فنقول: إني لو نجوت وعطب أهل الأرض من أهل الأهواء ما ضرني ذلك ولو عطبت ونجوا ما نفعني، فإقامتي الحجة عليهم وتركي أن أقيم الحجة على نفسي، لله عز وجل من تضييع أمره، حتى أؤدي ما أمرني به، وأنتهي عما نهاني عنه. وأربح أيام عمري ليوم فقري وفاقتي أولى بي. فقد شغلني عن نفسي و (عن العمل) نجاتي.
ومع ذلك ما يؤمنني أن أقيم الحجة ببعض التأويل أو القياس أرى أنه هدى، وهو عند الله (ضلال) كذب عليه. وقد تبين لي ذلك فيما مضى من عمري، فقد كنت أقول القول ثم يتبين لي أنه خطأ فأرجع عنه، فما كانت حالي عند ربي أن لو مت على حالي تلك، فلذلك لا آمن مثلها، ثم أموت عليها، قبل أن أعرف خطئي. فإذا أنا قد أهلكت نفسي بطلبي لنجاة غيري.
ومع ذلك أنه لو كانت المجادلة من السنة ولم أكن أشتغل بها عن العمل لآخرتي، وأمنت الخطأ في حجاجي لما كان لكلامهم موضع فيه بر وخير في آخرتي، إذا لم أر أحدًا منهم رجع عن قوله ولا تاب من بدعته، فلو كان ذلك كذلك لكنت معنيًا بنفسي فكيف وقد نهيت عن الجدل وهو يشغلني عن العمل لنجاتي، ومع ذلك أتعرض للخطأ على الله والكذب عليه، أو في دينه، وأنا لا أشعر.
فإذا رجع إلى نفسه بذلك، أبصر غرته. واهتم بنفسه، وعلم أنه كان في غرور وزخرف من رأيه، وأنه قد مضى عمره بترك ما هو أولى به، فحينئذ يهتم للعمل، ويتفقد عيوبه، والتوبة منها قبل لقاء ربه عز وجل.