الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في المهالك والورطات، وهل زاغ من زاغ، وهلك من هلك، وألحد من ألحد إلا بالرجوع إلى الخواطر والمعقولات، وإتباع الآراء في قديم الدهر وحديثه. وهل نجا من نجا إلا بإتباع سنن المرسلين، والأئمة الهادية من الأسلاف المتقدمين.
وإذا كان هذا النوع من العلم لطلب زيادة في الدين، فهل تكون الزيادة بعد الكمال إلا نقصانًا عائدًا على الكمال، مثل زيادة الأعضاء والأصابع في اليدين والرجلين. فليتق امرؤ به عز وجل، ولا يدخلن في دينه ما ليس منه، وليتمسك بآثار السلف والأئمة المرضية، وليكونن على هديهم وطريقهم، وليعض عليها بنواجذه، ولا يوقعن نفسه في مهلكة يضل فيها الدين، ويشتبه عليه الحق، والله حسيب أئمة الداعين إ لى النار، ويوم القيامة لا ينصرون.
فصل الجواب عن قولهم أن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم
ونشتغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبق أن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم، وهذا رأس شعب المبتدعة في رد الأخبار، وطلب الدليل من النظر والاعتبار، فنقول وبالله التوفيق.
إن الخبر إذا صح عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ورواه الثقات والأئمة، وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا عامة قول أهل الحديث والمقنين من القائمين على السنة وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولابد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به.
شيء اخترعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأخبار وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول.
ولو أنصف الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد.
ترى أصحاب القدر يستدلون بقول النبي "صلى الله عليه وسلم" كل مولود يولد على الفطرة وبقوله "صلى الله عليه وسلم" خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم.
وترى أهل الأرجاء يستدلون بقوله "صلى الله عليه وسلم" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. قالوا: وإن زنى وإن سرق؟ قال نعم وإن زنى وإن سرق. وترى الرافضة يستدلون بقوله "صلى الله عليه وسلم": جاء بقوم من أصحابي فيسلك بهم ذات الشمال. فأقول أصيحابي أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم. الخبر.
وترى الخوارج يستدلون بقوله "صلى الله عليه وسلم" سباب المسلم فسق وقتاله كفر، وبقوله "صلى الله عليه وسلم": لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، إلى غير هذا من الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق.
ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومت أخروهم عن رواية الأحاديث في صفات الله عز وجل وفي مسائل القدر والرؤية وأصل الإيمان، والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحدين
المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار في الترغيب والترهيب والوعد والوعيد في فضائل النبي "صلى الله عليه وسلم" ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين عليه وكذلك أخبار الرقائق والعظات، وما أبه ذلك مما يكثر عده وذكره. وهذه الأشياء كلها علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع علم السامع بها. فإذا قلنا إن خبر الواحد بها لا يجوز أن يوجب العلم حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ. وجعلناهم لاغين هاذين مشتغلين بما لا فيد أحدًا شيئًا، ولا ينفعه ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه.
وربما يترقى هذا القول إلى أعظم من هذا. فإن النبي "صلى الله عليه وسلم" أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من أصحابه ليؤدوه إلى الأمة وينقلوا عنه، فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدي، نعوذ بالله من القفول الشنيع والاعتقاد القبيح.
ويدل عليه أن الأمر مشتهر في أن النبي "صلى الله عليه وسلم" بعث الرسل إلى الملوك: إلى كسرى وقيصر وملك الإسكندرية وإلى أكيدر دومه وغيرهم من ملوك الأطراف، وكتب إليهم كتبًا على ما عرف ونقل واشتهر. وإنما بعث واحدًا واحدًا ودعاهم إلى الله تعالى وإلى التصديق برسالته لالتزام الحجة وقطع العذر لقوله عز وجل {ر سلًا مبشرين ومنذرين لئلًا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} .
وهذه المعاني لا تحصل إلا بعد وقوع العلم المن أرسل إليه بالإرسال والمرسل وان الكتاب من قبله والدعوة منه، وقد كان نبينا "صلى الله عليه وسلم" بعث إلى الناس كافة وكثير من الأنبياء بعثوا إلى قوم دون قوم،
وإنما قصد بإرسال إلى هؤلاء الملوك والكتاب إليهم؟ الدعوة في جميع الممالك ودعاء الناس عامة إلى دينه على حسب ما أمره الله تعالى بذلك، فلو لم يقع العلم بخبر الواحد من أصحابه في هذا الأمر وكذلك في أمور كثيرة اكتفى "صلى الله عليه وسلم" بإرسال الواحد من أصحابه، منها أنه "صلى الله عليه وسلم" بعث عليًا رضي الله عنه لينادي في الموسم بمنى: ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فمدته إلى أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة.
ولابد في هذه الأشياء من وقوع العلم للقوم الذين كان يناديهم حتى إن أقدموا على شيء من هذا بعد سماع هذا القول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبسوط العذر في قتالهم. وكذلك بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم إذا أجابوا شرائعه. وبعث إلى أهل خيبر في أمر القتيل واحدًا يقول لهم: إما أن تؤدوا أو تؤذنوا مجرب من الله ورسوله. وبعث إلى قريظة أبا لبابة بن عبد المنذر يستنزلهم على حكمه وجاء أهل قباء واحد وهم في مسجدهم يصلون فأخبرهم بصرف القبلة إلى المسجد الحرام فانصرفوا إليه في صلاتهم واكتفوا بقوله.
ولا بد في مثل هذا من وقوع العلم به وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الطلائع والجواسيس في ديار الكفر ويقتصر على الواحد في ذلك
ويقبل قوله إذا رجع، وربما أقدم عليهم بالقتل والنهب بقوله وحده.
ومن تدبر أمور النبي صلى الله عليه وسلم وسيره وسيرته، لم يخف عليه ما ذكرنا، وما يرد هذا إلا معاند مكابر، ولو أنك وضعت في قلبك أنك سمعت الصديق أو الفاروق أو غيرهما من وجوه الصحابة رضي الله عنهم يروى لك حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من الاعتقاد مثل جواز الرؤية على الله تعالى، أو إثبات القدر. أو غير ذلك، لوجدت قلبك مطمئنًا إلى قوله: لا يتداخلك شك في صدقة، وثبوت قوله.
وفي زماننا هذا: ترى الرجل يسمع من أستاذه الذي يختلف إليه ويعتقد فيه التقدمة والصدق أنه سمع أستاذه يخبر عن شيء من عقيدته التي يريد أن يلقى الله تعالى بها ويرى نجاته فيها، فيحصل للسامع علم بمذهب من نقل عنه أستاذه ذلك، بحيث لا يختلجه شبهة، ولا يعتريه شك، وكذلك في كثير من الأخبار التي قضيتها العلم يوجد بين الناس فيحصل لهم العلم بذلك الخبر، ومن رجع إلى نفسه علم ذلك.
واعلم أن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب، وللظن والتجوز فيه مدخل، ولكن هذا الذي قلناه لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلًا بعلم الحديث، والبحث عن سيرة النقلة والرواة، ليقف على رسوخهم في هذا العلم، وكنه معرفتهم به، وصدق ورعهم في أحوالهم وأقوالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر، والبحث عن أحوال الرواة. والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها. ولقد كانوا رحمهم الله، وأنزل رضوانه عليهم، بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدًا في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، وأدوا على ما أدى إليهم، وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن بما
يجل عن الوصف ويقصر دونه الذكر، وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم، وأمانتهم، وظهر له العلم فيما نقلوه، ورووه، ولا يحتج إلى شيء من هذا الذي قلناه، والله ولي التوفيق والمعونة.
والذي يزيد ما قلناه إيضاحًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الفرقة الناجية. قال: ما أنا عليه وأصحابي، بمعنى من كان على ما أنا عليه وأصحابي، فلابد من تعرف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليس طريق معرفتنا إلا النقل فيجب الرجوع إلى ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا تنازعوا الأمر أهله، فكما يرجع في معرفة مذاهب الفقهاء الذين صاروا قدوة في هذه الأمة إلى أهل الفقه، ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة ويرجع في معرفة النحو إلى أهل النحو، فكذلك يجب أن يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه إلى أهل النقل والرواية، لأنهم عنوا بهذا الشأن، واشتغلوا بحفظه والتفحص عنه ونقله، ولولاهم لا ندرس علم النبي "صلى الله عليه وسلم" ولم يقف أحد على سنته وطريقته.
فإن قال قائل: إن أهل الفقه مجمعون على قول الفقهاء، وطريق كل واحد منهم في الفروع. وأهل النحو مجمعون على طريق البصريين والكوفيين في النحو وكذلك أهله الكلام مجمعون على طريق كل واحد منهم من متقدميهم وسلفهم.
فأما ما يرجع إلى العقائد فلم يجتمع أهل الإسلام على ما كان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه بل كان كل فريق يدعى دينه وينتسب إلى ملته ويقول نحن الذين تمسكنا بملة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" واتبعنا
طريقته، ومن كان على غير ما نحن عليه، فهو مبتدع صاحب هوى، فلم يجز اعتبار الذي تنازعنا فيه بما قلتم.
الجواب أن كل فريق من المبتدعة إنما يدعى أن الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لأنهم كلهم يدعون شريعة الإسلام، ملتزمون في الظاهر شعائرها، يرون أن ما جاء به محمد "صلى الله عليه وسلم" هو الحق، غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك، وأحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام، وأن الحق الذي قام به رسول الله "صلى الله عليه وسلم" هو الذي يعتقده وينتحله، غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة، إلا مع أهل الحديث والآثار، لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفًا عن سلف، وقرنًا عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأخذ أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الناس من الدين المستقيم؛ والصراط القويم إلا هذا الطريق، الذي سلكه أصحاب الحديث.
وأما سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقة لأنهم رجعوا إلى معقولهم، وخواطرهم وآرائهم فطلبوا الدين من قبله، فإذا سمعوا شيئًا من الكتاب والسنة عرضوه على معيار عقولهم، فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرفوه بالتأويلات البعيدة، والمعاني المستنكرة، فجادوا عن الحق، وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء
ظهورهم، وجعلوا السنة تحت أقدامهم، تعالى الله عما يصفون.
وأما أهل الحق، فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم، عرضوه على الكتاب والسنة فإن وجدوه موافقًا لهما قبلوه، وشكروا الله عز وجل حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه، وإن وجدوه مخالفًا لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق ورأى الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل، وهذا معنى قول أبي سليمان الداراني، وهو واحد زمانه في المعرفة، ما حدثتني نفسي بشيء إلى طلبت منه شاهدين من الكتاب والسنة، فإن أتى بهما وإلا رددته في نحره، أو كلام معناه.
ومما يدل على أن أهل الحديث هم على حق؛ أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار؛ وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد يجرون في على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها قولهم في ذلك واحد وفعلهم واحد لا ترى بينهم اختلافًات ولا تفرقًا في شيء ما وإن قل.
بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم نقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد وهو على الحق دليل أبين من هذا. قال الله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}؛ وقال تعالى:{واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} .
وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين وشيعًا وأحزابًا لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد يبدع بعضهم بعضًا بل يترقون إلى التفكير يكفر الابن أباه والرجل أخاه والجار جاره. تراهم أبدًا في تنازع وتباغض واختلاف تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم "تحسيهم جميعًا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون".
أو ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين والبصريون منهم يكفر البغداديين ويكفر أصحاب أبي علي الجباثي ابنه أبا هاشم وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم. إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضًا ويتبرأ بعضهم من بعض.
وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم وهل على الباطل دليل أظهر من هذا قال تعالى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} .
وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل فأورثهم الاتفاق والايتلاف وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه. وأما دلائل العقل فقلما يتفق بل عقل كل واحد يرى صاحبه غير ما يرى الآخر وهذا بين والحمد لله.
وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول فإنا وجدنا أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ورضي
عنهم من بعده واختلفوا في أحكام الدين. فلم يفترقوا ولم يصيروا شيعًا. لأنهم لم يفارقوا الدين ونظروا فيما أذن لهم فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة مثل مسألة الحد والمشركة وذوي الأرحام ومسألة الحرام وفي أمهات الأولاد، وغير ذلك مما يكثر تعداده من مسائل البيوع والنكاح والطلاق، وكذلك في مسائل كثيرة من باب الطهارة وهيآت الصلاة وسائر العبادات فصاروا باختلافهم في هذه الأشياء محمودين وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الأمة حيث أيدهم باليقين.
ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمة في التنزيل وللسنة فكانوا مع هذا الاختلاف. أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام ولم ينقطع عنهم نظام الألفة، فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية صاحبها إلى النار، ظهرت العداوة وتباينوا وصاروا أحزابًا فانقطعت الأخوة في الدين، وسقطت الألفة، فهذا يدل على أن هذا التباين والفرقة، إنما حدثت من المسائل المحدثة التي ابتدعها الشيطان، فألفاها على أهواء أوليائه، ليختلفوا ويرمي بعضهم بعضًا بالكفر.
فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس فتفرقوا واختلفوا فلم يورث الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضًا ولا تفرقًا وبينهم بقيت الألفة والنصيحة والمودة والرحمة والشفقة علمًا أن ذلك من مسائل الإسلام، يحل النظر فيها، والأخذ بقول من تلك الأقوال لا يوجب تبديعًا ولا تكفيرًا، كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين، مع بقاء الألفة والمودة، وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها، فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض والتدابر والتقاطع وربما ارتقى إلى التكفير، علمت أن ذلك ليس في أمر الدين في شيء بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها ويعرض عن الخوض فيها لأن الله شرط تمسكنا بالإسلام أنا نصبح في ذلك إخوانًا و
فقال تعالى {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} .
فإن قال قائل: إن الخوض في مسائل القدر، والصفات وشرط الإيمان يورث التقاطع والتدابر والاختلاف، فيجب طرحها، والإعراض عنها على ما زعمتم.
الجواب: إنما قلنا هذا في المسائل المحدثة، فأما الإيمان في هذه المسائل من شرط أصل الدين فلابد من قبولها على نحو ما ثبت فيه النقل عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه، ولا يجوز لنا الإعراض عن نقلها وروايتها وبيانها لتفرق الناس في ذلك، كما في أصل الإسلام والدعاء إلى التوحيد، وإظهار الشهادتين، وقد ظهر بما قدمنا، وذكرنا بحمد الله ومنه أن الطريق المستقيم مع أهل الحديث، وأن الحق ما نقلوه ورووه، ومن تدبر ما كتبناه وأعطى من قلبه النصفة وأعرض عن هواه واستمع وأصغى بقلب حاضر، وكان مسترشدًا متهديًا ولم يكن متعنتًا وأمده الله بنور اليقين عرف صحة جميع ما قلناه ولم يخف عليه شيء من ذلك، والله الموفق، من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم.
وقد أجاب بعض أهل السنة عن قولهم: إن الخبر الواحد لا يوجب العلم بجواب آخر سوى ما قلناه، وقد بيناه في كتاب القدر، وإن كان الجواب الصحيح ما ذكرناه، وهو طريق أهل الحق ولا معدل بنا عن طريقهم، بل لا نختار عليه شيئًا غيره، ولا نطلب طريقًا سواه، نسأل الله تعالى