الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر كلام أبي القاسم اللالكائي
في كتابه أصول السنة
قال في أول كتابه أصول السنة. أما بعد: فإن أوجب ما على المرء معرفة اعتقاد الدين، وما كلف الله عباده من فهم توحيده وصفاته وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها، والاستدلال عليها بالحجج والبراهين، وكان من أعظم مقول، وأوضح حجة ومعقول، كتاب الله الحق المبين، ثم قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار والمتقين، ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون، ثم التمسك بمجموعها والمقام عليها إلى يوم الدين، ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إليها مما أحدثها المضلون. هذه الوصايا الموروثة المتبوعة، والآثار المحفوظة المنقولة، وطرائق الحق المسلوكة، والدلائل اللائحة المشهورة، والحجج الباهرة المنصورة، التي عملت عليها الصحابة والتابعون، ومن بعدهم من خاصة الناس وعامتهم من المسلمين. واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين. ثم من اقتدى بهم من الأئمة المهتدين، واقتفى آثارهم من المتبعين، واجتهد في سلوك سبيل المتقين وكان مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
فمن أخذ في مثل هذه المحجة وداوم بهذه الحجج على منهاج الشريعة أحسن في دينه التبعة، في العاجلة والآجلة. وتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، واتقى بالجنة التي يتقي بمثلها، فيتحصن بجملتها، ويستعجل بركتها، ويحمد عاقبتها في المعاد والمآل.
ومن أعرض عنها. وابتغى الحق في غيرها مما يهواه، أو يروم سواها فيما تعداه أخطأ فيما اختار بغيته وأغواه، ومسك به سبل الضلالة، وأرداه في مهاوي الهلكة فيما يعترض على كتاب الله وسنة رسوله، بضرب الأمثال، ودفعها بأنواع المحال، والحيد عنهما بالقيل والقال، مما لم ينزل الله به من سلطان ولا عرفه أهل التأويل واللسان. ولا انشرح له صدر موحد عن فكر أو عيان. فقد استحوذ عليه الشيطان. وأحاط به الخذلان، وأغراه بعصيان الرحمن، حتى كابر نفسه بالزور والبهتان، فهو دائب الفكر في تدبير مملكة الله بعقله المغلوب، وفهمه المقلوب، بتقبيح القبيح من حيث وهم، أو بتحسين الحسن بظنه، فهو راكض ليله ونهاره في الرد على كتاب الله وسنة رسوله، والطعن عليهما ومخاصمًا بالتأويلات البعيدة فيهما أو مسلطًا رأيه على ما لا يوافق مذهبه بالشبهات المخترعة الركيكة، حتى يتسق الكتاب والسنة على مذهبه وهيهات أن ينفق. ولو أخذ سبيل المؤمنين وسلك مسلك المتبعين، لبنى مذهبه عليهما واقتدى بهما، ولكنه مصدود، وعن الخير مصروف، فهذه حالته إذا نشط للمحاورة في الكتاب والسنة.
فأما إذا رجع إلى أصله، وما بنى بدعته عليه اعترض عليهما بالجحود والإنكار، وضرب بعضها ببعض من غير استبصار، واستقبل أجلهم بهت الجدل والنظر من غير اتفكار. وأخذ في الهزء والتعجب من غير اعتبار، استهزاء بآيات الله وحكمته، واجتراء على دين رسول الله وسنته، وقابلهما
برأي النظام والعلاف والجبائي وابنه الذين هم قلدة دينه. قوم لم يتدينوا بمعرفة آية من كتاب الله، ولم يتفكروا في معنى آية ففسروها أو تأولوها، على معنى إتباع من سلف صالح علماء الأمة إلا على ما أحدثوا من آرائهم الحديثة، ولا اغبرت أقدامهم في طلب سنة أو عرفوا من شرائع الإسلام مسألة. فيعد رأي هؤلاء حكمة وعلمًا وحججًا وبراهين. ويعد كتاب الله وسنة رسوله حشوًا وتقليدًا، وحملتهما جهالًا. ثم تخطئة المسلمين.
وإنما وجه خطئهم عندهم إعراضهم عما نصبوا من آرائهم لنصرة جدلهم، وترك أتباعهم لمقالتهم، واستحسانهم لمذاهبهم، فهو كما قال الله تعالى {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيام عذاب الحريق} .
ثم ما قرفوا به المسلمين من التقليد والحشو، ولو كشف لهم عن حقيقة مذاهبهم كانت أصولهم المظلمة وآراؤهم المحدثة وأقاويلهم المنكرة، بالتقليد أليق، وبما انتحلوها من الحشو أخلق.
إذ لا استناد له في تمذهبه إلى شرع سابق، ولا استناد لما يزعمه إلى
قول سلف الأمة باتفاق مخالف أو موافق. إذ فخره على مخالفيه بحذقه، واستخراج مذاهبه بعقله وفكره، من الدقائق، وإنه لم يسبقه إلى بدعته إلا منافق مارق، أو معاند للشريعة مشاقق.
فليس بحقيق من هذه أصوله أن يغيب على من تقلد كتاب الله وسنة رسوله واقتدى بهما وأذعن لهما واستسلم لأحكامهما، ولم يعترض عليهما بظن أو تخرص أو استحالة أن يطعن عليه، لأنه بإجماع المسلمين على طريق الحق أقوم، وإلى سبيل الرشاد أهدى وأعم، وبنور الاتباع أسعد، ومن ظلمة الابتداع وتكلف الاختراع أبعد وأسلم من الذي لا يمكنه التمسك بكتاب الله إلا متأولًا، ولا الاعتصام بسنة رسوله إلا منكرًا متعجبًا ولا الانتساب إلى الصحابة والتابعين والسلف الصالحين إلا متمسخرًا مستهزئًا، لا شيء عنده إلا مضغ الباطل والتكذيب على الله ورسوله والصالحين من عباده، وإنما دينه الضجاج، والبقباق، والصياح، واللقلاق. ثم إنه من حيث حدثت هذه الآراء المختلفة في الإسلام.
وظهرت هذه البدع من قديم الأيام، وفشت في خاصة الناس والعوام، لم تر دعوتهم انتشرت في عشر منابر من منابر الإسلام متوالية، ولا أمكن أن تكون كلمتهم بين المسلمين عالية، أو مقالتهم في الإسلام ظاهرة، بل كانت داحضة وضيعة مهجورة، وكلمة أهل السنة ظاهرة، ومذاهبهم كالشمس نائرة.
وكان أول ما ظهر من هذه البدع التنازع في القدر، حتى سئل عبد الله ابن عمر، فروى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم الخبر بإثبات القدر والإيمان به، وحذر من خلافه. وكذلك عرض على ابن عباس وأبي سعيد
الخدري وغيرهم فصنعا مثل ذلك، وحث العلماء على اجتناب هؤلاء، ونبهوا المسلمين من مكالمتهم، خوفًا أن يضلوا مسلمًا عن دينه بشبهة، وامتحان، أو بزخرف قول من لسان. فمضت على هذا القرون يتواصل الأولون للآخرين حتى ضرب الدهر ضرباته، وأبدى من نفسه حدثاته، وظهر قوم أجلاف، زعموا أنهم لمن قبلهم أخلاف، وادعوا أنهم أكثر منهم في المحصول، وفي حقائق العقول، وأهدى إلى التحقق، وأحسن نظرًا منهم في التدقيق، وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم. ورغبوا عن مكالمتهم لقلة فهمهم، وأن نصرة مذهبهم في الجدال معهم، حتى أبدلوا من الطيب خبيثًا، ومن القديم حديثًا، وعدلوا عما كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم وبعثه الله به، وأوجب عليه دعوة الخلق إليه، وامتن على عباده بإتمام نعمته عليهم بالهداية إلى سبيله فقال تعالى {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} . فوعظ الله عباده بكتابه؛ وحثهم على إتباع سنة رسوله ليبين لهم حكمته، ويدعو إلى دينه بكتابه وسنته فقال في آية أخرى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} ، لا بالجدال والخصومة، فرغبوا عنها وعولوا على غيرها، فسلكوا بأنفسهم مسلك المضلين، وخاضوا مع الخائضين، ودخلوا في ميدان المتحيرين، وابتدعوا من الأدلة ما هو خلاف الكتاب والسنة رغبة للغلبة وقهر المخالفين للمقابلة.
ثم اتخذوها دينًا واعتقادًا [بعد] ما كانت دلائل الخصومات
والمغايظات وظللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين، وتسموا بالسنة والجماعة ومن تحيز عنهم، وسموه بالجهل والغباوة، فأجابهم إلى ذلك من لم يكن له قدم في معرفة السنة، ولم يسع في طلبها بما يلحق فيها من المشقة، وطلب لنفسه الدعة والراحة. واقتصر على اسمه دون رسمه لاستعجال الرياسة ومحبة اشتهار الذكر عند العامة، والتلقب بإمام أهل السنة وجعل دأبه: الاستخفاف بنقله الأخبار، وتزهيد الناس أن يتدينوا بالآثار بجهله بطريقها وصعوبة المرام بمعرفة معانيها وتصور فهمه عن مواقع الشريعة منها ورسوم التدين بها. حتى عفت رسوم الشرائع الشريفة، ومعاني الأسانيد القديمة، وفتحت دواوين الأمثال والشبهة، وطويت دلائل الكتاب والسنة.
وانقراض من كان يتدين بحججها، للأخذ بالثقة، وبتمسك بها للضنة، ويصون سمعه عن هذه البدع المحدثة. وثار كل من أراد صاحب مقالة.
ووجد على ذلك الأصحاب والأتباع، وتوهم أنه ذاق حلاوة السنة والجماعة بتفادي بدعته، وكلا، إنه كما ظنه، أو خطر بباله. إذ أهل السنة لا يرغبون عن طرائقهم من الإتباع، وإن نشروا بالمناشير ولا يستوحشون لمخالفة أحد بزخرف قول من غرور أو بضرب أمثال زور.
فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة. ولم يكن لهم قهر ولا ذلك أعظم مما تركهم السلف على تلك الحالة يموتون من الغيظ كمدا ودردًا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلًا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقًا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلًا، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من
الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه في الحجج، وبلغوا من التدقيق في اللجج، فصاروا أقرانًا وأخدانًا، وعلى المداهنة خلانًا وإخوانًا، بعد أن كانوا في الله أعداء وأضدادًا، وفي الهجرة في الله أعوانًا، يكفرونهم في وجوههم عيانًا، ويلعنونهم جهارًا. وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين.
ونسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا، وأن يمسكنا بالإسلام والسنة، ويعصمنا بهما بفضله ورحمته، إنه على ما يشاء قدير. فهلم الآن إلى تدين المتبعين، وسيرة المتمسكين، وسبيل المقتدين بكتاب الله وسنته، والمتأدبين بشرائعه وحكمته الذين قالوا {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} وتنكبوا سبيل المكذبين بصفات الله وتوحيد رب العالمين. فاتخذوا كتاب الله إمامًا وآياته فرقانًا. ونصبوا الحق بين أعينهم عيانًا، وسنن رسول الله- صلى الله عليه وسلم جنة وسلاحًا. واتخذوا طرقها منهاجًا، وجعلوها برهانًا فلقوا الحكمة. ووقوا من شر الهوى والبدعة لامتثالهم أمر الله تعالى في إتباع الرسول، وتركهم الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق. يقول الله تعالى فيما يحث على إتباع دينه، والاعتصام بحبله والاقتداء برسوله- صلى الله عليه وسلم {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} . وقال تبارك وتعالى {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} . وقال تعالى {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}
وقال {فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم الألباب} . وقال تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، والله غفور رحيم} . وقال تعالى {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين} .
ثم أوجب الله طاعته وطاعة رسوله، فقال {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون} . وقال تعالى {من يطع الرسول فقد أطاع الله} . وقال {وإن تطيعوه تهتدوا} وقال تعالى {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} . وقال {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} . وقال تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ، قيل في تفسيره إلى الكتاب والسنة.
ثم حذرهم من خلافه والاعتراض عليه، فقال {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما} . وقال تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا} . وقال تعالى {فليحذر الذين يخالفهم عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} .
وروى العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم موعظة دمعت منها الأعين، ووجلت منها القلوب. قلنا يا رسول الله: موعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ فقال: قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة.
وروى عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم خطًا ثم خط خطوطًا يمينًا وشمالًا. ثم قال هذا سبيل على كل سبيل منها شيطان؟ يدعو الله. ثم قرأ {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} .
وعن ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا: فقد كفيتم.
فلم نجد في كتاب الله وسنة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الإتباع وذم التكلف والاختراع. فمن اقتص هذه الآثار كان من المتبعين. وكان أولاهم بهذا الاسم وأحقهم بهذا الرسم. أصحاب الحديث لاختصاصهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم وأتباعهم لقوله، وطول ملازمتهم له وتحملهم علمه وحفظهم أنفاسه وأفعاله. فأخذوا عنه الإسلام مباشرة، وشرائعه مشاهدة، وأحكامه معاينة من غير واسطة، ولا سفير بينهم وبينه واصلة فحاولوها عيانًا. وحفظوا عنه شفاها: وتلقفوه من فيه رطبا، وتلقنوه من لسانه عذبا، واعتقدوا جميع ذلك حقا. وأخلصوا بذلك من قلوبهم يقينًا.
فهذا دين أخذ أوله عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم مشافهة لم يشبه لبس ولا شبهة. ثم نقلها العدول عن العدول من غير تحايل ولا ميل، ثم الكافة عن الكافة، والضافة عن الضافة، والجماعة عن الجماعة. أخذ كف بكف؛ وتمسك خلف بسلف، كالخروف يتلو بعضها بعضًا، ويتسق أخراها على أولاها رصفا ونظما.
فهؤلاء الذين تمهدت بنقلهم الشريعة: وانحفظت بهم أصول السنة؛ فوجبت بذلك لهم المنة على جميع الأمة، والدعوة لهم من الله بالمعونة، فهم حملة علمه، ونقلة دينه، وسفرته بينه وبين أمته؛ وأمناؤه في تبليغ الوحي عنه، فحري أن يكونوا أولى الناس به في حياته ووفاته.
وكل طائفة من الأمم مرجعها إليهم في صحة حديثه وسقيمه، ومعولها عليهم فيما يختلفون في أمره.
ثم كل من اعتقد مذهبًا فإلى صاحب مقالته التي أخذ بها ينتسب، وإلى رأيه يستند إلى أصحاب الحديث؛ فإن صاحب مقالتهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم فهم إليه ينتسبون، وإلى علمه يستندون، وبه يستدلون، وإليه يفزعون، وبرأيه يقتدون، وبذلك يفتخرون؛ وعلى أعداء سنته بقربهم منه يصولون؛ فمن يوازيهم في شرف الذكر، أو يباهيهم في ساحة الفخر؛ وعلو الاسم، إذ اسمهم مأخوذ من معاني الكتاب والسنة، يشتمل عليها لتحققهم بها أو لاختصاصهم بأحدها، فهم مترددون في انتسابهم إلى الحديث، بين ما ذكر الله سبحانه في كتابه، فقال تعالى ذكره {الله نزل أحسن الحديث} فهو القرآن فهم حملة القرآن، وأهله، وقراؤه، وحفظته. وبين أن ينتموا إلى حيث رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فهم نقلته وحملته.
فلا شك أنهم يستحقون هذا الاسم لوجود المعنيين فيهم لمشاهدتنا أن اقتباس الناس الكتاب والسنة فيهم، واعتماد البرية في تصحيحها عليهم، لأنا ما سمعنا عن القرون التي قبلنا، ولا رأينا نحن في زماننا مبتدعًا رأس في إقراء القرآن، وأخذ الناس عنه في زمن من الأزمان ولا ارتفعت لأحد منهم راية في رواية حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم فيما خلا من الأيام، ولا اقتدى بهم أحد في دين الله، ولا شريعة من شرائع الإسلام.
فالحمد لله الذي كمل لهذه الطائفة سهام الإسلام، وشرفهم بجوامع هذه الأقسام، وميزهم من جميع الأنام حيث أعزهم الله بدينه، ورفعهم بكتابه، وعلا ذكرهم بسنته، وهداهم إلى طريقته، وطريقة رسوله. فهي الطائفة، المنصورة، والفرقة الناجية، والعصبة الهادية، والجماعة العادلة، المتمسكة بالسنة التي لا تريد برسول الله- صلى الله عليه وسلم بديلًا. ولا عن قوله تبديلًا. ولا عن سنته تحويلًا، لا يثنيهم عنها تقلب الأعصار والأزمان، ولا يلويهم عن سننها ابتداع من كاد الإسلام ليصد عن سبيل الله ويبغيها عوجًا، ويصدف عن طرقه جدلًا ولجاجًا ظنًا منه كاذبًا، وتخمينًا باطلًا إنه يطفي نور الله، والله متمم نوره ولو كره الكافرون. واغتاظ به الجاحدون، فإنهم السواد الأعظم والجمهور الأضخم، فيهم العلم والحكم، والعقل والحلم، والخلافة والسيادة، والملك والسياسة، وهم أصحاب الجمعات، والمشاهد، والجماعات، والمساجد والمناسك والأعياد، والحج، والجهاد، وباذلوا المعروف للصادر والوارد، وعمار الثغور والقناطر الذين جاهدوا في الله حق جهاده، واتبعوا رسوله على منهاجه، الذين أذكارهم في الزهد مشهورة وأنفاسهم على الأوقات محفوظة، وآثارهم على الزمان متنوعة، ومواعظهم
للخلق زاجرة، وإلى طرق الآخرة داعية. فحياتهم للخلق منبهة، ومسيرهم إلى مصيرهم لمن بعدهم عبرة. وقبورهم مزارة، ورموسهم على الدهر غير دراسة وعلى تطاول الأيام غير ناسية.
يعرف الله إلى القلوب محبتهم، ويبعثهم على حفظ مودتهم، يزارون في قبورهم كأنهم أحياء في بيوتهم، لينشر الله لهم بعد موتهم الأعلام حتى لا تندرس أذكارهم على الأعوام، ولا تبلى أساميهم على الأيام. فرحمة الله عليهم ورضوانه، وجمعنا وإياهم في دار السلام.
ثم إنه لم يزل في كل عصر من الأعصار إمام من سلف، أو عالم من خلف قائمًا لله بحقه وناصحًا لدينه، فيما يصر فهمته إلى جميع اعتقاد أهل الحديث على سنن كتاب الله ورسوله وآثار صحابته، ويجتهد في تصنيفه، ويتعب نفسه في تهذيبه رغبة منه في إحياء سنته وتجديد شريعته وتطرية ذكرهما على أسماع المتمسكني بهما من أهل ملته. أو لزجر غال في بدعته، أو متشيع يدعو إلى ضلالته، أو مفتتن بهما لقلة بصيرته، فأفرغت في ذلك جهدي، وأتعبت فيه نفسي- رجاء ثواب الله واستنجاز موعده في استبصار جاهل، واستنقاذ ضال، وتقويم عادل، وهداية حائر.
وأسأل الله التوفيق فيما أرومه، والإقالة من الخطأ فيما أنحوه وأقصده.
وقد كان تكررت مسألة أهل العلم إياي عودًا وبدأ في شرح اعتقاد مذاهب أهل الحديث قدس الله أرواحهم. وجعل ذكرنا لهم رحمة ومغفرة، فأجبتهم إلى مسألتهم لما رأيت فيه من الفائدة الحاصلة والمنفعة السنية التامة وخاصة في هذه الأزمنة التي تناسى علماؤها رسوم مذاهب أهل السنة
واشتغلوا عنها بما أحدثوا من العلوم الحديثة حتى ضاعت الأصول القديمة التي أسست عليها الشريعة. وكان علماء السلف إليها يدعون، وإلى طرقها يهدون، وعليها يعولون. فجددت هذه الطريقة ليعرف معانيها وحججها ولا يقتصر على سماع اسمها دون رسمها. فابتدأت بشرح هذا الكتاب بعد أن تصفحت عامة كتب الأئمة الماضين رضي الله عنهم أجمعين، وعرفت مذاهبهم وما سلكوا من الطرق في تصانيفهم ليعرفوا به المسلمين وما نقلوا من الحجج في هذه المسائل التي حدث الخلاف فيها بين أهل السنة، وبين من انتسب إلى المسلمين ففصلت هذه المسائل.
وبينت في تراجمها أن تلك المسألة متى حدث في الإسلام الاختلاف فيها، ومن الذي أحدثها وتقولها ليعرف حدوثها، وأنه لا أصل لتلك المقالة في الصدر الأول من الصحابة، ثم استدل على صحة مذاهب أهل السنة بما ورد في كتاب الله تعالى فيها وبما روى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم فإن وجدت فيهما جميعًا ذكرتهما. وإن وجدت في أحدهما دون الآخر ذكرته، وإن لم أجد فيهما إلا عن الصحابة الذين أمر الله ورسوله أن يقتدي بهم، ويهتدي بأقوالهم، ويستضاء بأنوارهم لمشاهدتهم الوحي والتنزيل ومعرفتهم معاني التأويل احتججت بها. فإن لم يكن فيها أثر عن صحابي فعن التابعين لهم بإحسان الذين في قولهم الشفاء والهدى، والتدين بقولهم القرابة إلى الله والزلفى. فإذا رأيناهم قد أجمعوا على شيء عولنا عليه. ومن أنكروا قوله أوردوا عليه بدعته أو كفروه حكمنا به واعتقدناه. ولم يزل من لدن رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا قوم يحفظون هذه الطريقة ويتدينون بها. وإنما هلك من حاد عن هذه الطريقة بجهله طرق الإتباع. وكان في الإسلام من تؤخذ عنه هذه الطريقة قوم معدودون. أذكر أساميهم في ابتداء هذا الكتاب لتعرف أساميهم، فيكثر الترحم عليهم والدعاء لهم،