الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام ابن جرير الطبري
في كتاب صريح السنة
ذكر ما وقفت عليه من كلام أبي جعفر بن جرير الطبري في ذلك، وهو أحد الأئمة المجتهدين، له مذهب مستقل فيه تصانيف مدونة، وأتباع كانوا يفتون بقوله ويحكمون، منهم المعافى بن زكريا الجريري وغيره. قال ابن السمعاني في الأنساب: الجريري- بفتح الجيم وكسر الراء- نسبة إلى مذهب ابن جرير الطبري.
وقال الخطيب: كان ابن جرير أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه. وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره. فكان عارفًا بكتاب الله، عارفًا بالقراءات بصيرًا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن. عالمًا بالسنن وطرقها، وصحيحها، وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم. وله كتب كثيرة في التفسير والآثار وأصول الفقه وفروعه.
وقال ابن السبكي في الطبقات: كان مجتهدًا مطلقًا أحد أئمة الدنيا، وكان تفقه أولًا للشافعي. أخذ عن الزعفراني، والربيع المرادي، ثم استقل وألف كتبًا في مذهب نفسه. مات سنة عشر وثلاثمائة.
قلت: وهو عندي المبعوث على رأس المائة الثالثة، وقد بسطت ترجمته في طبقات المفسرين.
قال في كتابه المسمى صريح السنة: الحمد لله مفلح الحق وناصره، ومدحض الباطل وما حقه، الذي اختار الإسلام لنفسه دينًا فأمر به وحاطه وتوكل بحفظه، وضمن إظهارها على الدين كله، ولو كره المشركون ثم اصطفى من خلقه رسلًا؛ ابتعثهم بالدعاء إليه، وأمرهم بالقيام به، والصبر على ما نابهم فيه من جهلة خلقه، وامتحنهم من المحن بصنوف وابتلاهم من البلاء بضروب، تكريمًا لهم غير تدليل وتشريف غير تخسير، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، فكان أرفعهم عنده درجة أحدهم إمضاء لأمره مع شدة المحنة، وأقربهم إليه زلفى أحسنهم نفادًا لما أرسله به مع عظم البلية. يقول الله عز وجل في محكم كتابه لنبيه- صلى الله عليه وسلم {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} وقال له- صلى الله عليه وسلم ولأتباعه رضوان الله عليهم {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب} وقال {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيرا. إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلى المؤمنون، وزلزلوا زلزالًا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلى غرورا} . وقال تعالى {ألم أحسن الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن الكاذبين} . فلم يخل جل ثناؤه أحدًا من مكرمي رسله ومقربي أوليائه من محنة في عاجله دون آجله ليستوجب بصبره عليها من ربه من
الكرامة ما أعده له، ومن المنزلة لديه ما كتبه له.
ثم جعل تعالى ذكره- علماء كل أمة نبي ابتعثه منهم ورثته من بعده، والقوام بالدين بعد اخترامه إليه وقبضه، الذابين عن عراه وأسبابه، والحامين عن أعلامه وشرائعه، والناصبين دونه لمن عانده وجادله، والدافعين عنه كيد الشيطان وضلاله، فضلهم بشرف العلم، وكرمهم بوقار الحلم؛ وجعلهم للدين وأهله أعلامًا، وللإسلام والهدى منارًا، وللخلق قادة وللعباد أئمة وسادة، إليهم مفزعهم عند الحاجة، وبهم استغاثتهم عند النائبة لا يثنيهم عن التعطف والتحنن عليهم سوء ما بهم من أنفسهم، يولون ولا يصدهم عن الرقة عليهم، والرأفة بهم قبح ما إليه يأتون. تحريا منهم طلب جزيل ثواب الله فيهم. وتوخيًا طلب رضي الله في الأخذ بالفضل عليهم. ثم جعل جل ذكره علماء أمة نبينا- صلى الله عليه وسلم من أفضل علماء الأمم التي خلت قبلها فيما كان قسم لهم من المنازل والدرجات والمناقب والمكرمات، فكمل وأجزل لهم فيه حظًا، ونصيبًا مع ابتلاء الله أفاضلها بمنافقيها، وامتحانه خيارها بشرارها؛ ورفعها بسفلها ووضعائها، فلم يكن يثنيهم ما كانوا به مهم يبتلون، ولا كان يصدهم ما في الله منهم يلقون عن النصيحة لله في عباده وبلاده أيام حياتهم. بل كانوا بعلمهم على جهلهم يعودون. وبحملهم لسفههم يتعهدون وبفضلهم على نقصهم يأخذون. بل كان لا يرضى كثير منهم ما أزلفه لنفسه عند الله من فضل ذلك أيام حياته، وادخر منه من كريم الذخائر لديه قبل مماته، حتى تبقى لمن بعده آثارًا على الأيام باقية. ولهم إلى الرشاد هادية جزاهم الله عن أمة نبيهم- صلى الله عليه وسلم أفضل ما جزى عالم أمة عنهم وحباهم من الثواب أجزل الثواب. وجعلنا ممن
قسم له من صالح ما قسم لهم، وألحقنا بمنازلهم وكرمنا بحبهم، ومعرفة حقوقهم، وأعاذنا والمسلمين جميعًا من مرديات الأهواء ومضلات الآراء، إنه سميع الدعاء.
ثم إنه لم يزل من بعد مضي رسول الله- صلى الله عليه وسلم لسبيله حوادث في كل دهر تحدث ونوازل في كل عصر تنزل يفزع فيها الجاهل إلى العالم فيكشف فيها العالم سدف الظلام عن الجاهل بالعلم الذي أتاه الله وفضله به على غيره. إما من أثر وإما من نظر: فكان من قديم الحادثة بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم من الحوادث التي تنازعت فيها أمته واختلافها في أفضلهم بعده- صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالإمامة وأولاهم بالخلافة.
ثم القول في أعمال العباد طاعاتها ومعاصيها. وهل هي بقضاء الله وقدره أم الأمر في ذلك مفوض إليهم؟
ثم القول في الإيمان هل هو قول وعمل، أم هو قول بغير عمل؟ وهل يزيد وينقص أم لا زيادة له ولا نقصان؟ ثم القول في القرآن: هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ ثم رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ثم القول في إلفاظهم بالقرآن؟
ثم حدث في دهرنا هذا حمقات خاض فيها أهل الجهل والعناد- نوكي الأمة- والرعاع يتعب إحصاؤها ويمل تعدادها منها القول: في اسم الشيء أهو هو أم هو غيره؟ ونحن نبين الصواب لدينا من القول في ذلك. ثم تكلم على المسائل المذكورة مسألة مسألة بالأثر.
ثم قال: وأما القول في إلفاظ العباد بالقرآن، ولا أثر فيه نعلمه عن صحاب مضى، ولا تابعي قفى، إلا عمن في قوله الغنى والشفاء، وفي اتباعه