الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام الحافظ أبي عمر بن عبد البر
في كتابه ((بيان العلم))
باب: ما تكره فيه المناظرة والجدال والمراء
قال في كتابه: بيان العلم ((باب)) ما تكره فيه المناظرة والجدال والمراء.
نهى السلف رحمهم الله عن الجدال في الله عز وجل في صفاته وأسمائه. وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر، لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع إلى الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك، لأن الله عز وجل لا يوصف عند الجماعة- أهل السنة- إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء، فيدرك بقياس أو بعلم نظر، وقد نهينا عن التفكر في الله، وأمرنا بالتفكر في خلقه الدال عليه قال: وللكلام في ذلك موضع غير هذا، والدين قد وصل إلى العذراء في خدرها، والحمد لله:
قرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا موسى بن معاوية قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال سلام بن أبي مطيع عن يحيى بن سعيد. قال: قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل. وبه عن ابن مهدي قال: حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التلون في الدين. وذكر سنيد قال حدثنا محمد ابن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي في قوله ((أغرينا بينهم العداوة والبغضاء)) قال الخصومات بالجدل في الدين. وذكره عبد الرحمن ابن مهدي بن هشيم بن كثير عن العوام بن حوشب عن التيمي مثله سواء.
قال سنيد وقال معاوية بن عمرو: إياكم وهذه الخصومات، فإنها تحبط الأعمال وقال العوام بن حوشب، ذكره ابن مهدي عن هشيم عنه. وروى سفيان الثوري عن سالم بن أبي حفصة عن أبي يعلى منذر بن يعلى الثوري عن ابن الحنفية قال: لا تنقضي الدنيا، حتى تكون خصوماتهم في ربهم. قال ابن عباس: لا يزال أمر هذه الأمة مقاربا، حتى يتكلموا في الولدان والقدر. وقد أخبرنا عبد المؤمن بن عبد المؤمن قال: حدثنا أحمد بن سلمان النجار قال حدثنا عبد الملك بن محمد الرقاشي. قال حدثنا حسين بن حفص الأصباني قال: قال سفيان الثوري عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى خصومات الناس في ربهم. قال عبد الملك: فذكرت ذلك لعلي بن المديني قال: ليس هذا بشيء، إنما أراد حديث محمد بن الحنفية: لا تقوم الساعة حتى تكون خصومتهم في ربهم.
قال ابن مهدي وأنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن عمر والأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز قال: إذا رأيت قومًا يتناجون في ربهم دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة وقال الأوزاعي وبكر بن مضر: إذا أراد الله بقوم شرًا ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل. وسئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: تلك دما كف الله عنها يدي أريد أن ألطخ بها لساني. وقال الهيثم بن جميل قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله الرجل يكون عالمًا بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة. فإن قبلت منه، وإلا سكت.
وقال مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت: أنشدت إسحق بن إسرائيل هذا الشعر فأعجبه، وكتبه، وهو شعر قيل منذ أكثر من عشرين سنة. قال أبو عمر: وهذا الشعر عندهم له لا شك فيه والله أعلم، وكان شاعرًا محسنًا
أأقعد بعدما رجفت عظامي *** وكان الموت أقرب ما يليني
أجادل كل معترض خصيم *** وأجعل دينه غرضا لديني
فاترك ما علمت لرأي غيري *** وليس الرأي كالعلم اليقيني
وما أنا والخصومة وهي لبس *** تصرف في الشمال وفي اليمين
وقد سنت لنا سنن قوام *** يلحن بكل فج أو وجين
وكان الحق ليس به خفاء *** أغر كغرة الفلق المبين
وما عوض لنا منهاج جهم *** بمنهاج ابن آمنة الأمين
فأما ما علمت فقد كفاني *** وأما ما جهلت فجنبوني
فلست مفكرًا أحد يصلي *** ولم أجرمكم أن تكفروني
وكنا أخوة نرمي جميعًا *** فنرمي كل مرتاب ظنين
فما برح التكلف إن رمتنا *** بشأن واحد فرق الشؤون
فأوشك أن يخر عماد بيت *** وينقطع القرين من القرين
قال مصعب بن عبد الله الزبيري كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدين أكرهه، ولم يذل أهل بلدنا يكرهونه، وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك. ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل. فأما الكلام في الدين وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إلي، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل.
قال أبو عمر: قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده، وعنده أهل بلده، يعني العلماء منهم رضي الله عنهم. وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه. وضرب مثلا فقال. نحو رأي جهم والقدر، والذي قاله مالك، رحمه الله، عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديمًا وحديثًا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق. وأما الجماعة: فعلى ما قال مالك رحمه الله: إلا أن أضطر أحد إلى الكلام، فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل، وصرفه صاحبه عن مذهبه أو خشى ضلال عامة أو نحو هذا.
قال يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد
قال لي: يا أبا موسى لأن يلقي الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام، لقد سمعت من حفص كلامًا لا أقدر أن أحكيه.
وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبدًا، ولا تكاد ترى أحدًانظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل. وقال مالك: أرأيت إن جاء من هو أجدل منه، أيدع دينه كل يوم لدين جديد.
ذكر ابن أبي خيثمة قال حدثنا محمد بن أبي شجاع البلخي قال سمعت الحسن بن زياد اللؤلؤي، وقال له رجل في زفر بن الهذيل كان ينظر في الكلام، فقال: سبحان الله ما أحمقك. ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف. وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنه يهمهم غير الفقه، والاقتداء بمن تقدمهم.
قال أبو عمر. أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم.
أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال ثنا إبراهيم بن بكر قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إسحق بن خواز منداد البصري المالكي قال في كتاب الإجارات من كتابه في الخلاف قال مالك: لا تجوز الإجارة في شيء من كتب أهل الأهواء والبدع والتنجيم. وذكر كتابًا
ثم قال: وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب
الكلام من المعتزلة وغيرهم. وتفسخ الاجارة في ذلك، وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزائم الجن، وما أشبه ذلك، وقال في كتاب الشهادات، في تأويل قول مالك لا تجوز شهادة أهل البدع، وأهل الأهواء. قال وأهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، وأشعريًا كان أو غير أشعري. ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويهجرون، ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها.
قال أبو عمر رضي الله عنه: ليس في الاعتماد الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله، أو صح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أو اجتمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحو يسلم له ولا يناظر فيه. وعن الأوزاعي قال كان مكحول والزهري يقولان. أرووا هذه الأحاديث، كما جاءت، وكذلك قال مالك والأوزاعي؛ وسفيان بن سعيد؛ وسفيان بن عييبة ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات، وذكر سنيد ثنا معتمر بن سليمان عن جعفر عن رجل من فقهاء أهل المدينة قال: إن الله تبارك وتعالى علم علمًا علمه للعباد، وعلم علمًا لم يعلمه العباد. فمن تكلف العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعدًا، قال. والقدر منه؛ وعن سعيد بن حبيب قال ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين.
وقال جعفر بن محمد: الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس، كلما ازداد نظرًا، ازداد حيرة. قال أبو عمر رضي الله عنه: رواه السلف وسكتوا عنها، وهم كانوا أعمق الناس علمًا، وأوسعهم فهمًا وأقلهم تكلفًا؛ ولم يكن سكوتهم عن عي، فمن يسعه ما وسعهم فقد خاب وخسر روى حماد ابن زيد عن عبد الله بن عون عن إبراهيم قال لم يدخر لكم شيء خبي عن القوم لفضل عندكم. وذكر سعيد قال ثنا معتمر عن سلام بن مسكين عن قتادة قال قال ابن مسعود. من كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا؛ وأقلها تكلفًا؛ وأقومها هديا؛ وأحسنها حالًا. اختارهم الله لصحبة نبيه- صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وذكر ابن وهب في جامعه قال. سمعت سليمان بن بلال يقول سمعت ربيعة يسأل. لم قدمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهم بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة، فقال ربيعة. قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه. وقد اجتمعوا على العلم بذلك فهذا مما ينهى الله، ولا نسأل عنه ولقد أحسن القائل:
قد نقر الناس حتى أحدثوا بدعًا *** في الدين بالرأي لم يبعث بها الرسل
حتى استخف بدين الله أكثرهم *** وفي الذي حملوا من دينه شغل