الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرشد والهدى، ومن يقوم قوله لدينا مقام قول الأئمة الأول أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: اللفظية جماعة تقول: الله حتى تسمع كلام الله ممن يسمع، ثم سمعت جماعة من أصحابنا يذكرون عنه أنه كان يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال هو غير مخلوق فهو مبتدع، ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله: إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه وفيه الكفاية والمقنع، وهو: الإمام المتبع. وأما القول في الاسم أهو المسمى أم هو غير المسمى؟ فإنه من الحمقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتتبع، ولا قول من إمام فيستمع. فالخوض فيه شين، والصمت عنه زين اهـ.
* * *
ذكر ما وقفت عليه من كلام أبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي في ذلك رأيت له رسالة في الغنية عن الكلام.
كلام أبي أحمد بن محمد الخطابي
في رسالته الغنية عن الكلام
قال في أولها: عصمنا الله وإياك أخي من الأهواء المضلة والآراء المغوية والفتن المحيرة، ورزقنا وإياك الثبات على السنة، والتمسك بها ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف، وانتهجها بعدهم صالحو الخلف، وجنبنا وإياك مداحض البدع وثنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسواء الواضحة، وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل وتعاطي الباطل، والقول بما ليس لنا به علم والدخول فيما لا يعنينا، والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه. ونعمنا وإياك بما عملنا، وجعله سببًا لنجاتنا، ولا جعله وبالا علينا برحمته.
وقفت على مقالك أخي وليك الله بالحسنى، وما وصفته من أمرنا ناحيتك، وما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها، وميل بعض
منتحلي السنة إليها واغترارهم بها. أو اعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة، وجنة لها يذب ب عنها، ويذاد بسلاحه عن حرمها، وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالسهم، وتعذر الأمر عليك في مقارقتهم، لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله؛ وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره، وكلا الأمرين يصعب عليك.
أما القبول فلأن الدين يمنعك منه، ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه. وأما الرد والمقابلة، فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول. ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور.
وسألتني أن أمدك بما يحضرنا في نصرة الحق من علم وبيان. وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان، وأن أسألك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها، ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها، فرأيت إسعافك به لازمًا في حق الدين .. وواجب النصيحة لجماعة المسلمين، فإن الدين النصيحة.
واعلم أخي أدام الله سعادتك أن هذه الفتنة قد عمت اليوم، وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت، فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله تعالى. وذلك مصداق قول النبي- صلى الله عليه وسلم:((إن الدين بدأ غريبًا، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)) فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين أهله فلا تنكر ما نشاهده منه. وسلوا الله العافية من البلاء، وأحمده على ما وهب لك من السلامة، وحاطك به من الرعاية وجميل الولاية.
ثم إني تدبرت هذا الشأن، فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته: يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم وفضل
ذكاء وذهن، ويوهمه أنه إن رضي في عمله ومذهبه بظاهر من السنة. واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة للعامة، وعد واحدًا من الجمهور والكافة، فإنه قد ضل فهمه، واضمحل لفظه وذهنه. فحركهم بذلك على التنطح في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر ليبينوا بذلك من طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، فاختدعهم بهذه المحجة حتى استنزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في مشبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا عن حقائقها، فلم يخلصوا منها إلى شفا نفس ولا قبلوها بيقين علم.
ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض، وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم. ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله- صلى الله عليه وسلم ولسنته المأثورة عنه، وردوها على وجوهها، وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزندق، ونسبوهم إلى ضعف المنة وسوء المعرفة، لمعاني ما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله ولو سلكوا سبيل القصد، ووقعوا عندما انتهى بهم التوقيف. لوجدوا برد التقى وروح القلوب، ولكثرت البركة وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
واعلم أدام الله توفيقك أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزًا عنه ولا انقطاعًا دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة. وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة، وأضربوا
عنها لما تحققوا من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على سنة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم، لما هداهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته.
ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها، غناء، وممدوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما. فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها، واعترضهم الملحدون بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم، حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل، لم يقووهم، ولم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلة من الرأي، غبنا منه، وخدعة من الشيطان، والله المستعان.
فإن قال هؤلاء القوم فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم، ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها. وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقًا، وإن الرسول لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها؟
قلنا إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف. ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصائع، ونرغب عنها إلى ما هو أضح بيانًا، وأصح برهانًا، وإنما هو الشيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه.
وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات، ولا يرون
لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور، ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء.
فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والانقطاع على سالكها، وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته، وسائر ما ادعى على أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه، ومن الطريقة التي يسلكونها ويزعمون أن من لم يتوصل إليه من تلك الوجوه كان مقلدًا غير موحد على الحقيقة، هو أن الله تعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمد- صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا وقال له {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} .
وقال- صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة أصحابه: ألا هل بلغت؟ وكان الذي أنزل إليه من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله (اليوم اكملت لكم دينكم) فلم يترك- صلى الله عليه وسلم شيئًا من أمر الدين، قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله، إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال. ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدًا في كل وقت وزمان، ولو أخر عنه البيان، لكان التكليف واقعًا بما لا سبيل للناس إليه، وذلك فاسد غير جائز.
وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علمنا يقينًا أن النبي- صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها، إذ لا يمكن أحدًا من الناس أن يروي في ذلك عنه، ولا عن أصحابه من هذا النمط حرفًا واحدًا فما فوقه، لا من طريق تواتر ولا آحاد، علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم.
ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدال، لعدوا في جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم، كما نقل أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم، فلما لم يظهر ذلك، دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل، وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه:
أحدها ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه، وقد تحداهم به، وبسورة من مثله، وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء، فكل عجز عنه، ولم يقدر على شيء منه بوجه إما بأن لا يكون من قواهم ولا من طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه، وحسن معانيه.
وإما أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرتهم طبعًا وتركيبًا، ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته، وحجة عليهم في وجوب تصديقه.
وإما أن يكون إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان، والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون. وعلى الوجوه كلها فالعجز موجود، والانقطاع حاصل هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهورة عنه الخارجة عن رسوم الطباع الناقضة للعادات كتسبيح الحصى في كفه، وحنين الجزع لمفارقته، وزحف الجبل تحته، وسكوته لما ضربه
برجله، وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليها، وسجود البعير له، ونبوع الماء من أصابعه، حتى توضأ به بشر كثير، وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه، حتى أكل منه عدد جم. وإخبار الذراع إياه بأنها مسمومة، وأمور كثيرة يكثر تعدادها، وهي مشهورة ومجموعة في الكتب التي انتسبت لمعرفة هذا الشأن.
فلما استقر بما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم، وثبت ذلك في عقولهم، صحت عندهم نبوته، وظهرت عن غيره بينونته، ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى، وإثبات صفاته، وإلى ذلك مما وجدوه في أنفسهم، وفي سائر المصنوعات، من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعًا حكيمًا عالمًا خبيرًا، تام القدرة، بالغ الحكمة.
وقد نبههم الكتاب عليه، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته، فقال (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة، ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع الحكيم ما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك، والجوارح التي يتأثر بها القبض والبسط، والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها، كالأضراس الحادثة فيهم عند غنائهم عن الرضاع، وحاجتهم إلى الغذاء فيقع بها الطحن له وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء، والكبد التي يسلك إليه صفاوته، وغنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن، وكالأمعاء التي إليها يرسب ثقل الغذاء وتمجه، فيبرز عن البدن.
وكقوله {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت. وإلى الجبال كيف نصبت. وإلى الأرض كيف سطحت} . وكقوله {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} وما أشبه ذلك من جلال الأدلة، وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول، وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه.
فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه، ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة، واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها.
ثم علموا سائر صفاته توقيفًا عن الكتاب النمزل الذي بان حقه، وعن قول النبي- صلى الله عليه وسلم المرسل الذي قد ظهر صدقه.
ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم كافة عن كافة، قرنًا بعد قرن، فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواترًا واستفاضة على الوجه الذي تقوم به الحجة. وينقطع فيه العذر، ثم كذلك من بعدهم عصرًا بعد عصر إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة وتقوم به الحجة.
فكان ما اعتمده المسلمون في الاستدلال من ذلك أصح وأبين في التوصل إلى المقصود به أقرب، إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني تدرك بالحس وبمقدمات من العلم مركبة عليها لا يقع الخلف في دلالتها.
فأما الأعراض فإن التعلق بها: إما أن يكون عسرًا. وإما أن يكون تصحيح الدلالة من جهتها عسرًا متعذرًا. وذلك أن اختلاف الناس قد كثر فيها. فمن قائل- لا عرض في الدنيا ناف لوجود الأعراض أصلًا.
وقائل: إنها قائمة بأنفسها لا تخالف الجواهر في هذه الصفة إلى غير ذلك في الاختلاف فيها. وأوردوا في نفيها شبها قوية، فالاستدلال بها والتعلق بأدلتها لا يصح إلا بعد التخلص من تلك الشبه والانفكاك عنها.
والطريقة التي سلكناها سليمة من هذه الآفات، بريئة من هذه العيوب. فقد بان ووضح فساد قول من زعم وادعى من المتكلمين أن من لم يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده من الوجه الذي يصححونه في الاستدلال، فإنه غير موحد في الحقيقة، لكنه مستسلم مقلد، وأن سيبله سبيل الذرية في كونها تبعًا للآباء في الإسلام.
وثبت أن قائل هذا القول مخطئ، وبين يدي الله ورسوله مقدم، وبعامة الصحابة، وجمهور السلف مزر، وعن طريق السنة عادل، وعن نهجها ناكب.
فهذا قولهم ورأيهم في عامة السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف. فلا تشتغل رحمك الله بكلامهم ولا تغتر بكثرة مقالاتهم فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض.
وما من كلام نسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه أو يقاربه. فكل بكل معارض وبعض ببعض مقابل، وإنما يكون تقدم الواحد منهم، وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان، وحذقه في صنعة الجدل والكلام. وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم، فهم يطالبونهم بعودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعًا، وجعلوه مبطلًا، وحكموا بالفلج لخصمه عليه- والجدل لا يبين به حق. ولا تقوم به حجة.
وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين. كلتاهما باطلة، ويكون الحق في ثالثة غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبه، غير مصحح مذهب، وإن كان مفسدًا به قول خصمه، لأنهما مجتمعان معًا في الخطأ مشتركان فيه كقول الشاعر فيهم:
حجج تهافت كالزجاج تخالها *** حقًا وكل كاسر مكسور
وإنما كان الأمر كذلك، لأن واحدًا من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي ينصرها أصلا صحيحا وإنما هو أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل. فيكثر المقال ويدوم الاختلاف، ويقل الصواب. قال الله تعالى {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} . فأخبر سبحانه أن ما كثر فيه الاختلاف فإنه ليس من عنده. وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين فاسدة، لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل، وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله سبحانه عنه.
ثم قال في صفة الحق: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} فإن قيل: إن دلائل النبوة ومعجزات النبي- صلى الله عليه وسلم ما عدا القرآن إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر، والحجة لا تقوم بنقل الآحاد على من كان في الزمان المتأخر لجواز وقوع الغلط فيها واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها.
قيل: هذه الأخبار، وإن كان شروط التواتر في آحادها معدومة، فإن جملتها راجعة من طريق المعنى إلى التواتر، ومتعلقة به حينا لأن بعضها يوافق بعضًا ويجانسه، إذ كل ذلك واقع تحت الإعجاز، والأمر المزعج للخواطر،
الناقض لمجرى العادات. ومثال ذلك: أن يروي قوم أن حاتم طي وهب لرجل مائة من الإبل. ويروي آخرون أنه وهب لرجل آخر ألفًا من الغنم. وآخرون أنه وهب لآخر عشرة أرؤس من الخيل والرقيق، وما يشبه ذلك، حتى يكثر عدد ما يروى منه، فهو وإن لم يثبت التواتر في كل واحد منها نوعًا نوعًا فقد ثبت التواتر في جنسها، فقد حصل من جملتها العلم الصحيح بأن حاتمًا سخي.
كذلك هذه الأمور فإن لم تثبت أفراد أعيانها تواترًا فقد ثبتت برواية الجم الغفير الذي لا يحصى عددهم، ولا يتوهم التواطؤ في الكذب عليهم أنه جاء بمعنى معجز للبشر خارج عما في قدرتهم، فصح بذلك أمر نبوته، وبالله التوفيق.
فإن قيل: فيجب على هذه المقدمة التي قدمتموها: أن لا يكون الإيمان بالله، ولا معرفة وحدانيته واجبًا على من يعقل قبل أن يبعث إليه رسول، وأن الاختلاف لا يكون بتركته مؤاخذًا عليه معاقبًا، قيل: كذلك نقول: وعليه دل قوله سبحانه {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، وقوله حكاية عمن استحق العقوبة على ترك الإيمان به وبالبعث {ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا بلى} . فأقام الحجة عليهم ببعثه الرسل. فلو كانت الحجة لازمة بنفس العقل، لم تكن بعثة الرسل شرطًا لوجوب العقوبة.
وقال- صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فدل على أنه الداعي إلى الإيمان وصح أن الدعوة له والحجة إنما تقوم به.
هذا آخر كلام الخطابي، وكان إمامًا في الفقه واللغة وغيرها. توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.