الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يثبتنا عليه، وأن يمدنا بتوفيق بعد توفيق من قبله وأن يجعل ما قصدناه من بيان الحق لوجهه، وسعينا لطلب ما عنده إنه عليم قدير وولي كريم.
أصل الدين هو الاتباع
"فصل" سؤال قالوا قد جعلتم أصل الدين هو الإتباع، ورددتم على من يرجع إلى المعقول ويطلب الدين من قبله، وهذا خلاف الكتاب لأن الله ذم التقليد في القرآن وندب الناس إلى النظر والاستدلال والرجوع إلى الاعتبار، وأمر بمحادثة المشركين بالدلائل العقلية، وإنما ورد السمع مؤيدًا لما يدل عليه العقل، ومن تدبر القرآن، ونظر في معانيه وجد تصديق ما قلناه فيه.
الجواب: قلنا قد دللنا فيما سبق أن الدين هو الإتباع، فذكرنا في بيانه ودلائله ما يجد المؤمن شفاء الصدر وطمأنينة القلب بحمد الله منه وتوفيقه.
وأما لفظ التقليد فلا نعرفه جاء في شيء من الأحاديث وأقوال السلف، فيما يرجع إلى الدين، وإنما ورد الكتاب والسنة بالإتباع، وقد قالوا إن التقليد قبول الغير من فير حجة وأهل السنة إنما اتبعوا قول رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وقوله نفس الحجة فكيف يكون هذا قبول قول الغير من غير حجة فإن المسلمين قد قامت لهم الدلائل السمعية على نبوة الرسول "صلى الله عليه وسلم" لما نقل إلينا أهل الإتقان والثقات من الرواة ما لا يعد كثرة من المعجزات والبراهين والدلالات التي ظهرت عليها وقد نقلها أصحاب الحديث في كتبهم ودونوها.
وليس المقصود من ذكرها في هذا الموضع بيانها بتفاصيلها، وإنما قصدنا بيان طريق أهل السنة فلما صحت عندهم نبوته، ووجدوا صدقه
في قلوبهم، وجب عليهم تصديقه فيما أنباهم من الغيوب ودعاهم إليه من وحدانية الله عز وجل وإثبات صفاته وسائر شرائط الإسلام وعلى أنا لا ننكر النظر قدر ما ورد به الكتاب والسنة لينال المؤمن بذلك زيادة اليقين وثلج الصدور وسكون القلب.
وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام فيما أسسوا، فغنهم قالوا أوال ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل، وهذا قول مخترع، لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين، ولو انك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها منقولًا من النبي "صلى الله عليه وسلم" ولا من الصحابة، وكذلك من التابعين بعدهم وكذلك يجوز أن يخفى عليهم أول الفرائض، وهم صدر هذه الأمة، والسفراء بيننا وبين رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ولئن جاز أن يخفى العرض الأول على الصحابة والتابعين حتى لم يبينوه لأحد من هذه الأمة مع شدة اهتمامهم بأمر الدين، وكان عنايتهم، حتى استخرجه هؤلاء بلطف فطنتهم في زعمهم. فلعله خف عليهم فرائض آخر، ولئن كان هذا جائزَا، فلقد ذهب الدين فاندرس، لأنا إنما نبني أقوالنا على أقوالهم. فإذا ذهب الأصل، فكيف يمكن البناء عليه. نعوذ بالله من قول يؤدي إلى هذه المقالة الفاحشة القبيحة، التي تؤدي إلى الانسلاخ من الدين، وتضليل الأئمة الماضين.
هذا وقد تواترت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين. قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: أمرت أنت أقاتل الناس؛ حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: إذا نازلتم أهل حصن، أو مدينة فادعوهم إلى شهادة لا إله إلا الله، ومثل هذا كثير.
ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أن يدعى إلى الإسلام، فإن أبى وسال النظرة والإمهال لإيجاب إلى ذلك، ولكنه إما أن يسلم أو يعطي الجزية أو يقتل، وفي المرتد إما أن يسلم أو يقتل، وفي مشركي العرب على ما عرف.
وإذا جعلنا الأمر على ما قاله أهل الكلام لم يكن الأمر على هذا الوجه، ولكن ينبغي أن يقال له: اعني الكافر، عليك النظر والاستدلال لتعرف الصانع بهذا الطريق ثم تعرف الصفات بدلائلها وطرقها. ثم مسائل كثيرة إلى أن يصل الأمر إلى النبوات، ولا يجوز على طر يقهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يذكر له هذا ويمهل، لان النظر والاستدلال لا يكون إلا بمهلة. خصوصًا إذا طلب الكافر لذلك. وربما يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين ليتمكنوا من النظر على التمام والكمال، وهو خلاف إجماع المسلمين.
وقد حكي عن أبي العباس بن سريح أنه قال: "لو أن رجلًا جاءنا. وقال: إن الأديان كثيرة فخلوني انظر في الأديان، فما وجدت الحق فيه قبلته، وما لم أجد فيه تركته. لم تخله، وكلفناه الإجابة إلى الإسلام، وغلا أوجبنا عليه القتل.
وقد جعل أهل الكلام من تخلف ناظرًا فيه وفي غيره من الأديان، مقيمًا على الطاعة، مؤتمرًا بأمره. محمودًا في فعله، وهذا جهل عظيم في الإسلام وينبغي على قولهم: إذا مات في مدة النظرة والمهلة قبل قبول الإسلام أنه مات مطيعًا لله مقيمًا على أمره. لابد من إدخاله الجنة كمال يدخل المسلمون. وقد جعلوا غير المسلم مطيعًا لله، مؤتمرًا بأمره في باب الدين.
وأوجبوا إدخاله الجنة. وقد قال تعالى: {ومن يتغ غير الإسلام دينًا فلن
يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}. وقال النبي "صلى الله عليه وسلم": "لا دخل الجنة إلا نفس مؤمنة"، وهذال حديث ثابت لا شك فيه.
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الدين طريقة الإتباع: أنا إذا سلكنا طريق الإنصاف، وطرحنا التباغي والمكابرات من جانب، فلابد من الانقياد لما قلناه، لان المقصود من النظر في الابتداء، إذا كان هو إصابة الحق، فليتدبر المرء المسترشد أحوال هؤلاء الناظرين، وكيف تحيروا في نظرهم وارتكسوا فيه، فلئن نجا واحد بنظره، فقد هلك فيه الألوف من الناس، وغلى أن يبصر واحد فواحد بنظرة طريق الحق بنظر رحمة سبق من الله له، فقد ارتطم ب طريق الكفر والضلالات والبدع بنظرهم أضعاف عدد الأولين.
وهل كانت الزندقة والإلحاد وسائر أنواع الكفر والضلالات والبدع منشؤها وابتداؤها إلا من النظر، ولو أنهم أعرضوا عن ذلك، وسلكوا طريق الإتباع، ما أداهم إلى شيء منها، فما من هالك في العالم، إلا وبدو هلاكه من النظر ن ومات من ناج في الدين سالك سبيل الحق إلا وبدو نجاته عن حسن الإتباع. أفيستجيز مسلم أن يدعو الخلق إلى مثل هذا الطريق المظلم، ويجعله سبيل منجاتهم فكيف يجد ذولب وبصيرة أن يسلك مثل هذا الطريق وأنى له الأمان من هذه المهالك وكيف له المنجاة من أودية الكفر وعامتها بل جميعًا إنما يهبط عليها من هذه المرقاة، أعني طلب الحق من النظر، ولو أعطى الخصم النصفة لا يجد بدًا من الإقرار أن من كان غوره في النظر أكثر كان حيرته في الدين أشد وأعظم.
وهل رأى أحد متكلمًا أداه نظره وكلامه إلى تقوى في الدين أو ورع في المعاملات أو سداد في الطريقة أو زهد في الدنيا أو إمساك عن حرام أو شبهة أو خشوع في عبادة، أو ازدياد من طاعة، أو تورع من معصية إلا الشاذ النادر. بل لو قلبت القصة كنت صادقًا تراهم أبدًا منهمكين في كل فاحشة، متلبسين لكل قاذورة، لا يرعوون عن قبيح ولا يرتدعون من باطل إلا من عصمة الله فأين دلهم النظر على اليقين وحقيقة التوحيد، فبئس ثمرة اليقين هذا، وتعسًا لتوحيد إلى مثل هذه الأشياء، وأوردهم هذه المتالف في الدين، ومن الله التوفيق وحسن المعونة لإصابة طريق الحق والثبات عليه بمنه.
وقالوا أيضًا وهو الأصل الذي يؤسسه المتكلمون والطريق الذي يجعلونه قاعدة علومهم وربما قالوا من لم يحكم هذا الأصل لم يمكنه إثبات: حدث العالم وذلك مسألة العرض والجوهر وإثباتهما. فإنهم قالوا: إن الأشياء لا تخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون جسمًا أو عرضًا أو جوهرًا، فالجسم ما اجتمع من الافتراق، والجوهر ما احتمل الأعراض، والعرض ما لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم بغيره، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا أخبار رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في خلق الروح قبل الجسد، لأنه لم يوافق نظرهم وأصولهم واختراعهم، وردوا خبره "صلى الله عليه وسلم" في خلق العقل قبل الخلق وإنما ردوا هذه الأخبار لأن العقل عندهم عرض كالروح، والعرض لا يقوم بنفسه فردوا الأخبار بهذه الطريق. وكذلك ردوا الخير الذي روى عن النبي "صلى الله عليه وسلم" أن الموت يذبح على الصراط، لأن الموت عرض لا ينفرد بنفسه. فهذا أصلهم الثاني الذي أدى إلى رد الأخبار الثابتة عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم". ومثل هذا كثير يأتي بيانه.
ولهذا قال بعض السلف: إن أهل الكلام أعداء الدين، لأن اعتمادهم على حدسهم وظنونهم وما يؤدي إليه نظرهم وذكرهم، ثم يعرضون عليه الأحاديث، فما وافقه قبلوه، وما خالفوه ردوه على ما سبق بيانه.
وأما أهل السنة سلمهم الله، فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب ووردت به السنة، ويحتجون له بالحجج الواضحة والدلائل الصحيحة على حسب ما أذن فيه الشرع وورد به السمع، ولا يدخلون بآرائهم في صفات الله تعالى ولا في غيرها من أمور الدين، وعلى هذا وجدوا سلفهم وأئمتهم. وقد قال الله تعالى {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا. وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا} وقال أيضًا {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته).
وقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في خطبة الوداع، وفي مقامات له شتى، وبحضرته عامة أصحابه رضي الله عنهم: ألا هل بلغت، وكان مما أنزل إليه وأمر بتبليغه أمر التوحيد، وبيانه بطريقته، فلم يترك النبي "صلى الله عليه وسلم" شيئًا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه؛ ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لو آخر فيها البيان لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إليه.
وإذا كان الأمر على ما قلناه، وقد علمنا أن النبي "صلى الله عليه وسلم" لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وذكر ماهيتهما. ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة من هذا النمط حرفًا واحدًا فما فوقه، لا في طريق تواتر ولا آحاد. فعلمنا
أنهم ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء، وسلكوا غير طريقهم، وأن هذا طريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ولا أصحابه رضي الله عنهم، وسلوكه يعود عليهم بالطعن والقدح، ونسبتهم إلى الجهل وقلة العلم في الدين واشتباه الطريق عليهم.
وبلغني أنه كان لأبي هاشم الجبائي ابنة تسمى فاطمة، وكان أصحابه يقولون: إن فاطمة بنت أبي هاشم أعلم بالله وبطريق الحق من فاطمة بنت محمد "صلى الله عليه وسلم" ورضي عنها فنعوذ بالله من طريق يؤدي إلى مثل هذا القول. ونسأله التوفيق لما يحب ويرضى.
وإياك رحمك الله أن تشتغل بكلامهم، ولا تغير بكثرة مقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه أو يقاربه، فكل بكل معارض، وبعض ببعض مقابل، وإنما يكون تقدم الواحد منهم، وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان، وحذقه في صناعة الجدل والكلام. وأكثر ما يغلب بعضهم بعضًا. إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول لهم ومناقضات على أقوال حفظوها عليهم، فهم يطالبونهم بقودها وطردها. فمن تقاعد عن ذلك سموه من طريق الجدل منقطعًا وجعلوه مبطلًا، وحكموا بالفلج لخصمه، والجدل لا يتبين به حق. ولا تقوم به حجة وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين، كلتاهما باطلة، ويكون الحق في ثالثة غيرهما. فمناقضة أحدهما صاحبة لا تصحح مذهبه، وإن أفسد به قول خصمه لأنهما مجتمعان في الخطأ مشتركان فيه. يقول الشاعر:
حجج تهافت كالزجاج تخالها
…
حقًا وكل كاسر مكسور
وإنما كان الأمر كذلك لأن واحدًا من الفريقين لا يعتمد في مقالته أصلًا صحيحًا وإنما هو آراء تتقابل وأوضاع تتكافأ وتتعادل ولو أنصفوا في المحاجة لزم الواحد منهم أن يتنقل عن مذهبه يوم كل كذا وكذا مرة لما يورد عليه من الإلزامات، وتراهم ينقطعون في الحجاج وينتقلون. وهذا على أنه ليس قصدهم طلب الحق، إنما طريقهم إتباع الهوى فحسب. فإذا ألزم قال: هذا إلزام توجه على لا على مذهبي، وسنأتي بعد بالجواب أو يوجد من يفصل عن هذه الشبهة ممن ينتحل ديني ومذهبي، فإذا راعينا مثل هذا لم تقم حجة على كافر أبدًا، وما هذا إلا طريق يوهم جميع الكافرين أنهم على الحق، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وتعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
ومن قبيح ما يلزمهم في اعتقادهم أنا إذا بنينا الحق على ما قالوا وأوجبنا طلب الدين بالطريق الذي ذكروه، وجب من ذلك تكفير العوام بأجمعهم لأنهم لا يعرفون إلا الإتباع المجرد، ولو عرض عليهم طريق المتكلمين في معرفة الله تعالى ما فهمه أكثرهم. فضلًا من أن يصير فيه صاحب استدلال وحجاج ونظر، وإنما غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه سلفهم وأتمتهم في عقائد الدين. والعض عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار، بقلوب سليمة طاهرة عن الشبهات والشكوك تراهم لمن يحيدون عما اعتقدوه. وإن قطعوا إربًا إربًا، فهنيئًا لهم هذا اليقين، وطوبي لهم هذه السلامة. فإن كفروا هؤلاء الناس فهم السواد الأعظم، وجمهور الأمة، فماذا الاطى بساط الإسلام، وهدم منار الدين وأركان الشريعة. وأعلام الإسلام، والحلق هذه الدار -أعني دار الإسلام- بدار الكفر وجعل أهليهما بمنزلة واحدة، ومتى يوجد في الألوف.