الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجراح
الْجِرَاحُ: بكسر الجيم جَمْعُ جِرَاحَةٍ، والمراد به مَا يَحْصُلُ بِهِ الزُّهوقُ وَالإِبَانَةُ، أو ما لا يحصل واحدًا منهما. وترجم الباب بهذه الترجمة، وإن كان التبويب بالجنايات أشمل لصدقه على الجناية بالمحدد والمثقل؛ لكون الجراح أغلب طرق القتل، والأصل في ابتداء القتل وتحريمه ما ذكره الله تعالى من قصة ابني آدم هابيل وقابيل (149) وقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (150). ومن السُّنَّة أحاديث كثيرة مشهورة، والقتلُ بغير حقِّ من أكبر الكبائر بعد الكفر وإذا قُتل ظلمًا
باب ما جاء في الحرص: الحديث (3232)، وقول ابن حبان كما أثبته ابن الملقن رحمه الله.
(149)
(150)
البقرة / 178.
واقتص الوارث أو عفى على مال أو مجانًا فظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الدار الآخرة كما قاله المصنف.
الْفِعْلُ الْمُزْهِقُ، أي للروح، ثَلَاثَةٌ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، وجه الحصر؛ أن الجاني إن لم يقصد عين المجني عليه فهو الخطأ، وإن قصده، فإن كان بما يقتل غالبًا فهو العمد، وإلا فهو شبه العمد. وَاعْلَمْ: أنَّ قَيْدَ الإِزْهَاقِ يُخْرِجُ الجنايةَ على الأطرافِ، فلو عبَّر بالجناية لكان أشمل.
وَلَا قِصَاصَ إِلَّا فِي الْعَمْدِ، أما وجوبه فيه عند اجتماع شرائطه فبالإجماع؛ وأما عدم وجوبه في الخطأ؛ فلقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (151) فأوجب الدية ولم يتعرض للقصاص، وأما عدم وجوبه في شبه العمد؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم[أَلَا أَنَّ دِيَّةَ الْخَطَإِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فِيْهِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا] صحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وابنُ القَطَّانِ. وقال: لا يضرُّهُ الاختلاف (152).
وَهُوَ، أي العمد، قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا: جَارِحٌ أَوْ مُثَقَّلٌ، وهذا ما اقتصر عليه الجمهور في تفسيره؛ ويشترط في العمدية تعمد قصد عين الشخص، ورجح في الروضة في موضع؛ ما يقتضي عدم اشتراطه، فَإِنْ فُقِدَ قَصْدُ أَحَدِهِمَا، أي الفعل أو الشخص، بِأَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ فَمَاتَ، أوْ رَمَى شَجَرَةً فَأَصَابَهُ؛
(151) النساء / 92.
(152)
• رواه أبو داود في السنن: كتاب الديات: باب في الخطأ شبه العمد: الحديث (4547). والنسائي في السنن: كتاب القسامة: ذكر الاختلاف على خالد الحذاء: ج 8 ص 41. وابن ماجه في السنن: كتاب الديات: باب دية شبه العمد: الحديث (2628).
• رواه ابن حبان في الإحسان: كتاب الديات: ذكر وصف الدية في القتيل الخطأ: الحديث (5979). وقال ابن الملقن رحمه الله: وقال ابن القطان: هو صحيح ولا يضره الاختلاف: ينظر تحفة المحتاج: ج 2 ص 443: الحديث (1540).
فَخَطَأْ، هذا تفسيرٌ للخطأ؛ وهو مهموز (•) وفي المثال الأول نظر، فإن الواقع لا ينسب إليه فعل فضلًا عن كونه خطأ، نَعَمْ يجعل حكم فعله حكم الخطأ لقربه منه وبُعده عن غيره، وَإِنْ قَصَدَهُمَا، يعني الفعل والشخص، بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالبًا فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَمِنهُ الضَّرْبُ بِسَوْطٍ أوْ عَصًا، هذا هو الصحيح في تفسيره؛ وقد أوضحت ذلك في الأصل.
فَلَوْ غَرَزَ إِبْرَةً بِمَقْتَلٍ، أي كالدماغ والعين وأصل الأذن ونحوها، فَعَمْدٌ؛ لخطر الموضع وشدَّة تأثيره، وَكَذَا بِغَيْرِهِ، كالإلية والفخذ، إِنْ تَوَرَّمَ، أي الموضع للإمعان في الغرز والتوغل في اللحم، وَتَأَلَّمَ حَتى مَاتَ، للعلم بحصول الهلاك به، وفيه وجه في الكفاية: أن مَحِلَّهُ إذا لم يبالغ في إدخال الإبرة. فإن بالغ وجب الْقَوْدُ قطعًا، كما صرح به جماعة، وعبارة الرافعي صريحة في جريان الخلاف في المبالغة، ولم يذكر الحاوي الصغير الألم بل اقتصر على الورم، قال الرافعي: وَالْوَرَمُ يُغني عنه؛ لأنه لا يخلو عنه، وقال المصنف في كلامه على الوسيط في دوام الألم بلا ورم، الأصح الوجوب، وبه قطع الشيخان أبو حامد وأبو إسحق، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرٌ وَمَاتَ فِي الْحَالِ فَشِبْهُ عَمْدٍ؛ لأنه لم يقتل مثله في العادة. فأشبه ما لو مات بعد مدة ولم يعقب الغرز ألمًا ولا ورمًا، وَقِيْلَ: عَمْدٌ، كما لو طعنه بمسلة فمات فِي الحال؛ لأن في البدن مقاتل خفية ربما صادفها، وَقِيْلَ: لَا شَيْءَ، أي لا قصاص ولا دية، وفي الرُّقْمِ للعبادي: أن الغرز في بدن الصغر والشيخ الهرم والنَّضْوِ الخلق (153) يوجب القِصَاص بكل حال، وَلَوْ غَرَزَ فِيْمَا لَا يُؤْلِمُ كَجِلْدَةِ عَقِبٍ فَلَا شَيْءَ بحَالٍ، لعلمنا أنه لم يمت به، والموت عَقِبهُ موافقة قدر؛ فهو كما لو ضربه بقلم أو ألقى عليه خرقة فمات في الحال.
فَرْعٌ: قَالَ الإِمَامُ: إِبَانَةُ فَلَقَةٍ (•) خَفِيْفَةٍ مِنَ اللَّحْمِ كَغَرْزِ الإِبْرَةِ.
(•) في النسخة (1): مشهور بدل مهموز.
(153)
النَّضْوُ بالْكسْرِ: الْبَعِيْرُ الْمَهْزُولَةُ. وَ (النَّضْوُ) أَيْضًا الثَّوْبُ الخلق. وَأَنْضَيتُ الثَّوْبَ أَخلَقْتُهُ وَأَبْلَيْتُهُ.
(•) في النسخة (1): قِلْفَةٍ بدل فَلَقَةٍ.
وَلَوْ حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالطَّلَبَ حَتَّى مَاتَ، فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَمُوتُ مِثْلُهُ فِيْهَا غَالِبًا جُوْعًا أَوْ عَطَشًا فَعَمْدٌ؛ لأنه قصد إهلاكه، وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوةً وضعفًا، والزمان حرًّا وبردًا؛ لأن فقد الماء في الحر ليس كهو في البرد، واحترز بقوله (مَنَعَهُ) عما إذا كان عنده طعام وشراب فلم يتناوله خوفًا أو حزنًا أو أمكنه طلبه بالسؤال فلم يفعل؛ فإنه لا يجب على حابسه قصاص ولا ضمان؛ لأن الحابس لم يقتله، وإنما المحبوس قتل نفسه. ولو منعه الشراب دون الطعام فلم يأكل المحبوس خوفًا من العطش فمات، فلا قصاص قطعًا ولا ضمان على الأصح؛ لأنه المهلك نفسه، ولو منعه الطعام وحده فيتجه إلحاقه بما لو منعهما، وَإِلَّا، أي وإن لم تمض هذه المدة، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ جُوعٌ وَعَطَشٌ سَابِقٌ فَشِبْهُ عَمْدٍ؛ لأن هذا الفعل لا يقتل غالبًا، وَإنْ كَانَ بَعْضُ جُوعٍ وَعَطَشٍ وَعَلِمَ الْحَابِسُ الْحَالَ فَعَمْدٌ؛ لظهور قصد الإهلاك، وَإِلَّا، أي وإن لم يعلم الحابس الحال، فَلَا، فِي الأَظْهَرِ؛ لأنه لم يقصد إهلاكه، والثاني: يلزمه القِصَاص، كما لو ضرب المريض ضربًا يهلكه، ولا يُهلك الصحيح وهو جاهل بمرضه.
فَرْعٌ: لو حبسه وعَرَّاهُ حتى مات بالبرد، فهو كما لو حبسه ومنعه الطعام والشراب، ذكره القاضى.
فَرْعٌ: لو أخذ طعامه، أو شرابه، أو ثيابه في مفازة، فمات جوعًا، أو عطشًا، أو بردًا، فلا ضمان؛ لأنه لم يحدث فيه صنعًا، حزم به المتولي والرافعي، وقال القاضي: إنه الصحيح.
فَرْعٌ: لو قتله بالدخان أو بحلِّ عصابة الفصادة ومنعه من إعادتها وجب القِصَاص.
فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْقِصَاصُ بِالسَّبَبِ، أي قياسًا على المباشرة، فَلَوْ شَهِدَا بِقِصَاصٍ فَقُتِلَ ثُمَّ رَجَعَا وَقالَا تَعَمَّدْنَا، الكذب، لَزِمَهُمَا القِصَاصُ؛ لتوصلهما إلى قتله بسبب يقتل غالبًا، إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الْوَليُّ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا، أي فإنه لا قصاص والحالة هذه
عليهما؛ لأنهما لم يلجئاه إلى قتله حسًا ولا شرعًا فصار قولهما شرطًا محضًا كالممسك مع القاتل، فعلى الولي حينئذ القِصَاص رجعوا أو لم يرجعوا، وقد ذكر المصنف في كتاب الشهادات ما إذا رجع الولي وحده ومع الشهود، وسيأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
وَلَوْ ضَيَّفَ بِمَسْمُومٍ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَمَاتَ وَجَبَ القِصَاصُ، أي سواء قال لهما هو مسموم أم لا؛ لإلْجائهما إليه، ومثله الأعجمي الذى يعتقد وجوب طاعة الآمر؛ قال الرافعي: ولم يفرقرا بين الصبي المميّز وغيره، ولا نظروا إلى أن عَمَدَ الصبي عمد أم خطأ؟ وللنظرين فيه مجال.
أوْ بَالِغًا عَاقِلًا وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ الطَّعَامِ فَدِيَةٌ، أي فلا قصاص؛ لأنه فعل ما يهلك باختياره من غير إلجاء، وَفِي قَوْلٍ قِصَاصٌ؛ لتغريره فأشبه الإكراه، وَفِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ، تغليبًا للمباشرة، أما إذا علم حال الطعام فهو المهلك نفسه. وَلَوْ دَسَّ سُمًّا فِي طَعَامِ شَخْصٍ، الْغَالِبُ أَكْلُهُ مِنهُ، فَأَكَلَهُ جَاهِلًا، فَعَلَى الأَقْوَالِ، أي المذكورة لما سلف، ولو دسّه في طعامه فدخل شخص داره بغير إذنه فأكله فلا ضمان.
وَلَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحُ عِلَاجَ جُرْحٍ مُهْلِكٍ فَمَاتَ وَجَبَ القِصَاصُ، أي على الجارح؛ لأن الْبُرْءَ غير موثوق به لو عالج، ومجرد الجراحة مهلكة، وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ لَا يُعَدُّ مُغْرِقَا كَمُنْبَسِطٍ فَمَكَثَ فِيْهِ مُضْطَجِعًا حَتَّى هَلَكَ فَهَدَرٌ؛ لأنه المهلك نفسه، نعم: لو كَتَّفَهُ وألقاهُ على هيئة لا تمكنه الخلاص؛ فعليه القِصَاص، وقيَّد في أصل الروضة الماء بكونه راكدًا.
فَرْعٌ: الاستلقاءُ كالاضطجاع.
أوْ مُغْرِقٍ لَا يَخلُصُ مِنْهُ إِلَّا سِبَاحَةً، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا، أوْ كَانَ مَكْتُوفًا؛ أَوْ زَمِنًا فَعَمْدٌ؛ لأن هذا مهلك لمثله، وَإِنْ مَنَعَ مِنْهَا عَارِضٌ كَرِيْحٍ وَمَوْجٍ فَشِبْهُ عَمْدٍ، أي فتجب دية ولا قصاص كما سيأتي، وَإِنْ أَمْكَنَتْهُ، أي السباحة، فترَكَهَا، أي حُزنًا أو لَجَاجًا، فَلَا دِيَةَ فِي الأظْهَرِ؛ لأنه بترك السباحة مُعرض عمَّا ينجيه، والئاني: تجب
الدية؛ لأنه قد يمنعه من السباحة دهشة أو عارض باطن، أَوْ فِي نَارٍ يُمْكِنُ الخَلَاصُ مِنْهَا فَمَكَثَ فِيْهَا فَفِي الدِّيَّةِ الْقَوْلَانِ، قد عرفتهما بتعليلهما والأظهر وجوبها، وَلَا قِصَاصَ فِي الصُّوْرَتَيْنِ، أي فِي صورة الإلقاء في الماء والنار، وَفِي النَّارِ وَجْهٌ، كما لو جرحه فترك التداوي حتى مات، وفي الماء قول أو وجه أيضًا بالوجوب، واحترز بقوله (يُمْكِنُ الْخَلَاصُ) عما إذا لم يمكن؛ لِعِظَمِها، أو كونها في وهدةٍ، أو كونه مكتوفًا أو زمنًا أو صغيرًا فمات منها، أو خرج منها متأثرًا متألمًا، وبقي متألمًا إلى أن مات؛ فعليه القِصَاص.
فَصْلٌ: وَلَوْ أَمْسَكَهُ فَقَتَلَهُ آخَرٌ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَرَدَّاهُ فِيهَا آخَرٌ، أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ شَاهِقٍ، أي من مكان عالٍ، فَتَلَقَّاهُ آخَرُ فَقَدَّهُ، أي قطعه نصفين مثلًا، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْمُرَدِّي وَالْقَادِّ فَقَطْ، دون. الممسك والحافر والملقي، أما في الأُولى: فلقوله عليه الصلاة والسلام: [إِذَا أمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الآخرُ يُقْتَل الَّذِي قَتَلَ وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ] رواه البيهقي من حديث ابن عمر بإسناد على شرط الصحيح، ثم صوَّبَ إرساله، وأما ابن القطان فصحح رفعه (154). نعم يأثم بالإمساك للقتل ويعزر، وكما لا قصاص لا دية، هذا في الحر، أما لو كان المقتول عبدًا فيطالب الممسك بالضمان باليد والقرار على القاتل، وأما في الثانية: فلأنَّ الحفرَ شرطٌ، وَالْمُرَدِّي سببٌ، وأما في الثالثة: : فلأن فِعْلَهُ قَطَعَ أثرَ السبب الأول.
وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ، أي كلجة بحر، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الأَظْهَرِ؛ لأنه رماه في مهلكة وقد هلك به بسبب رميه، ولا نظر إلى جهة الهلاك كما لو ألقاه في بئر مهلكة؛ في أسفلها سكاكين لم يعلم بها الملقي فهلك بها، ويؤخذ من هذا التعليل أن محلَّ الخلاف إذا لم يعلم بالحوت الذي في اللجة، فإن علم به، وجب القِصَاص قطعًا، كما لو ألقاه على أسد في زَبِيَّتِهِ، والثاني: لا يجب؛ لأنه
(154) رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الديات: جماع أبواب صفة القتل العمد: باب الرجل يحبس الرجل للآخر: الحديث (16460).
هلك بغير ما قصد إهلاكه به، فأشبه ما لو رماه من شاهق فَقَدَّهُ إنسان بسيفه، فإنه لا قود على الرامي كما سلف، ولكن تجب دية مغلظة، وهذا القول من تخريج الربيع، والخلاف جارٍ سواء التقمه قبل وصوله إلى الماء أو بعده في نيل مصرَ وغيره، أَوْ غَيْرِ مُغْرِق فَلَا، أي فلا قصاص قطعًا؛ لأنه لم يقصد إهلاكه ولم يشعر بسبب الإهلاك، فأشبه ما لو دفع رجلًا دفعًا خفيفًا فألقاه فجرحه سكين كان هناك ولم يشعر به الدافع فلا قصاص، ولكن يجب في الصورتين دية شبه العمد.
فَصْلٌ: وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلٍ، أي بغير حق، فَعَلَيهِ القِصَاصُ، لأنه كالمباشر، وَكَذَا عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الأَظْهَرِ، بفتح الراء لأنه قتله عمدًا عدوانًا لاستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله المضطر ليأكله، بل أولى، لأن المضطر على يقين من التلف إن لم يأكل بخلاف المُكرَه، والثاني: لا يجب؛ لأنه آلةٌ للمكرِه بكسر الراء فصار كما لو ضربه به، والخلاف جارٍ سواء صدر الإكراه من الإمام أو نائبه أو إمام البغاة أو المتغلب باللصوصية أو غيرهم على الأصح.
تَنْبِيْهٌ: الصحيح في الإكراه هنا، أنه لا يحصل إلّا بالتخويف بالقتل، أو بما يخاف منه التلف كالقطع، وألحَقَ الغزالي الضرب الشديد، وقيل: يحصل بما يحصل به الإكراه على الإطلاق.
فَإِنْ وَجَبَتِ الدِّيَّةُ، أي بأن صار الأمر إليها، وُزِّعَتْ، أي على الشريكين، فَإِنْ كَافَأهُ أَحَدُهُمَا فَقَطْ؛ فالقِصَاصُ عَلَيْهِ، اى دون الآخر كشريك الأب، فإذا أكره عبدٌ حرًا على قتل عبد، أو ذميّ مسلمًا على قتل ذميّ، فالقِصَاص واجب على الآمر دون المأمور، ولو أكرَهَ حرٌّ عبدًا على قتل عبد، أو مسلم ذميًا على قتل مسلم فالحكم بالعكس، وَلَوْ أَكْرَهَ بَالِغٌ مُرَاهِقًا، أي علي قتل إنسان، فَعَلَى الْبَالِغِ القِصَاصُ، إِنْ فُلْنَا: عَمْدُ الصَّبِيِّ عَمْدٌ، وَهُوَ الأَظْهَرُ؛ لوجود مقتضيه وهو القتل مَحْض العدوان، فإن قلنا: إن عمَدَه خطأ فلا قصاص؛ لأنه شريك مخطئ، أما المراهق؛ فلا محالة في عدم وجوب القِصَاص في حقه، ووجه من يقول إن عمده عمدٌ؛ أنه يميز مضاره من
منافعه، ويؤَدَّبُ على القتل، فأشبه الكامل، ووجه مقابله رفع القلم عنه، ويجاب بأن المراد فيما يتعلق بالبدن؛ ولهذا لا نوجب القِصَاص.
فَرْعٌ: لو أكره مراهق بالغًا؛ فلا قصاص على المراهق، وفي البالغ القولان: إن قلنا عَمْدُ الصبي، عمد، وإن قلنا خطأ؛ فلا قصاص قطعًا؛ لأنه شريك مخطئ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى رَمْيِ شَاخِصٍ عَلِمَ الْمُكرِهُ أَنَّهُ رَجُلٌ وَظَنَّهُ الْمُكرَهُ صَيْدًا، أي أو حجرًا، فَالأَصَحُّ وُجُوبُ القِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ، أي بكسر الراء؛ لأن المكرَه جاهل بالحال، فكان كالآلة للمكرِه، فأشبه ما إذا أمر صبيًا لا يعقل أو أعجميًا بقتل إنسان فقتله، فإنه يجب القِصَاص على الآمر، والثاني: لا يجب عليه؛ لأنه شريك مخطئ، أَوْ عَلَى رَمْي صَيْدٍ فَأَصَابَ رَجُلًا فَلَا قِصَاصَ عَلَى أَحَدٍ، أي من المكرِهِ والمكرَهِ لأنهما لم يتعمدا، أَوْ عَلَى صُعُودِ شَجَرَةٍ فَزَلِقَ وَمَاتَ فَشِبْهُ عَمْدٍ؛ لأنه لا يقصد به القتل غالبًا، وَقِيْلَ: عَمْدٌ؛ لأنه تسبب إلى قتله فأشبه ما لو رماه بسهم، وهذا هو قول الغزالي، وحمله بعضهم على ما إذا كان الصعود مما يتفق الهلاك به غالبًا، وحُمل الأول على ما إذا كان يَسْلَمُ فيه غالبًا، أَوْ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، فَلَا قِصَاصَ فِي الأَظْهَرِ؛ لأن ما جرى ليس بإكراه حقيقة؛ لأن المكرَه من يتخلص بما يؤمر به عما هو أشد عليه وهو الذى خوّفَهُ المُكْرِه وهاهنا المأمور به القتل المخوَّف به، ولا يتخلص بقتل نفسه عن القتل، فلا معنى لإقدامه عليه، والثاني: يجب؛ لأنه بالإكراه على القتل والحالة هذه؛ والإلجاء إليه قاتل له، نعم: لو هدده بقتل يتضمن تعذيبًا شديدًا لو لم يقتل نفسه، قال الرافعي في الشرح الصغير: يشبه أن يكون إكراهًا ويخرج بالنفس ما لو أكرهه على قطع اليد، وإلّا قتله فإنه إكراه عند العبادي خلافًا للقاضي.
فَرْعٌ: لو قال: أُقْتُلْ فلانًا وإلّا قتلت ولدك؟ قال الروباني: الصحيح أنه إكراه عندي؛ لأن ولده كنفسه.
وَلَوْ قَالَ: اقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ؛ فَقَتَلَهُ! فَالْمَذْهَبُ لَا قِصَاصَ؛ لأن الإذن شبهة
دَارِئَةٌ للقصاص، وَالأَظْهَرُ: لَا دِيَةَ، إِعْلَمْ: أنه إذا تَجَرَّدَ الإذنُ في القتل، ففي الدية قولان ذكرهما المصنف في أوائل الفصل الأخير من باب كيفية القِصَاص، وهما مَبْنِيَّانِ على أن الدية هل تجب للورثة ابتداء عقب هلاك المقتول؟ أو تجب للمقتول في آخر جزء من حياته ثم تنتقل إليهم؟ إن قلنا بالأول: وجبت، ولم يؤثر إذنه؛ وإلّا فلا، وهذا الئاني أظهر؛ لأنه تنفذ منها ديونه ووصاياه، ولو كانت للورثة ابتداءً لم يكن كذلك، إذا عرفت ذلك، فإذا انضم الإكراه إلى الإذن فسقوط القِصَاص أقوى كما قال الرافعي، قال: وأما الدية، فإنْ لم نوجبها عند تجرد الإذن فمع الإكراه أولى، وإن أوجبناها بُنيَ على أن المكرَه هل عليه نصف الدية؟ إن قلنا: نعم، فعليه نصف الدية، وإلّا فلا.
وَلَوْ قَالَ: اقْتُلْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، أي وإلّا قتلتك، فَلَيسَ بِإِكْرَاهٍ، أي فمن قتله منهما كان مختارًا لقتله، وإنما الْمُكْرَهُ مَنْ حُمِلَ على قتل معين لا يجد عنه محيصًا، وقيل: إنه إكراه، فعلى هذا يجئ في إيجاب القِصَاص على القاتل القولان، وأما المكرِه بالكسر فيظهر تخريجه على الخلاف في إن قَصَدَ عين الشخص! هل يشترط في العمدية؟ فإن شرطناه لم يجب، وإلا وجب.
فَصْل: وُجِدَ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعًا فِعْلَانِ مُزْهِقَانِ، مُذَفَّفَانِ كَحَزٍّ، وَقَدٍّ أَوْ لَا، أي غير مذففين، كَقَطْعِ عُضْوَيْنِ، أي ومات منهما، فَقَاتِلَانِ، أي فيجب عليهما القِصَاص أو الدية لوجود سببهما، فإن كان أحدهما مذفَّفًا دون الآخر فقياس ما سيأتي أن يكون المذفَّف هو القاتل، واحترز بقوله (مَعًا). عما إذا ترتب؛ وسنذكره إثر ذلك، وَإِنْ أَنْهَاهُ رَجُلٌ إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ: بِأَنْ لَمْ يَبْقَ إِبْصَارٌ وَنُطْقٌ وَحَرَكَةُ اخْتِيَارٍ. ثُمَّ جَنَى آخَرُ، فَالأوَّلُ قَاتِلٌ؛ لأنه صيره إلى حالة الموت، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي؛ لأنه هتك حرمة الميت فهو كما لو قطع عضوَ ميِّتٍ، وَإِنْ جَنَى الثَّانِي قَبْلَ الإِنْهَاءِ إِلَيْهَا، فَإن ذَفَّفَ كَحَزٍّ بَعْدَ جُرْحٍ، فَالثَّانِي قَاتِلٌ؛ لوجود سببه؛ ولأنه قطع سراية الجرح الأول، وَعَلَى الأَوَّلِ قِصَاصُ الْعُضْوِ أَوْ مَالٌ بِحَسْبِ الْحَالِ، لأن حياته في الحال مستقرة وتصرفاته نافذة. عهد عمرُ رضي الله عنه وأوصى في هذه الحالة فعُمِل بعهده
ووصاياه (155)، وَإِلا فَقَاتِلَانِ، أي وإن لم يذفف الثانى أيضًا ومات بسرايتهما، بأن أجافاه، أو قطع الأول يده من الكوع، والثاني من المرفق، فهما قاتلان؛ لأن القطع الأول قد انتشرت سرايته.
فَرْعٌ: لو شك في الانتهاء إلى أحد المذبوحين، عمل بقول أهل الخبرة.
وَلَوْ قَتَلَ مَرِيْضًا فِي النَّزْع وَعَيْشُهُ عَيْشُ مَذْبُوحٍ، وَجَبَ الْقِصَاصُ؛ لأن انتهاء المريض إلى تلك الحالة غير مقطوع به، وقد يُظن به ذلك ثم يشفى، وهذا ما جزم به الإمام فتبعه المصنف، وأما القاضي حسين فقال: مَنْ قتله لا يكون قاتلًا.
فَصْلٌ: قَتَلَ مُسْلِمًا ظَنَّ كُفْرَهُ بدَارِ الْحَرْبِ، لَا قِصَاصَ، أي بأن كان عليه زِيُّ الكفَّارِ أو رآهُ يعظِّمُ آلِهَتهُمْ (•) لا قصاص وما ذكرناه هو ما مثَّل به الرافعي، وهو في الأول قياس ما قرَّرهُ الرافعي في الرِّدَّةَ أنَّ التَّزَيِّ بزيِّهِم رِدَّةٌ؛ لكن رجح في الروضة خلافه، وَكَذَا لَاَ دِيَةً، فِي الأظْهَرِ؛ للجهل، ووضوح العذر فيما فعل هناك، والثاني: تجب الدية؛ لأنها تثبت مع الشبهة، فعلى هذا، هل هى دية عمدٍ أو شبه عمدٍ أم خطأ؟ فيه أوجه حكاها الرافعي تبعًا للوجيز، وقال في الوسيط: إن الأولين قولان، والثاني: وجهٌ، وقد نص الشافعى على الثاني فاستفده، واحترز بقوله (ظَنَّ كُفْرَهُ)
(155) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ رضي الله عنه؛ وَثَبَ عُبَيْدُ اللهِ عَلَى الهُرْمُزَانِ فَقتَلَهُ؛ فَقِيلَ لِعُمَرَ: إِنَّ عُبَيدَ الله بْنَ عُمَر قَتَلَ الهُرْمُزَانَ! فَقَالَ: (وَلمَ قَتَلَهُ؟ ) قَالَ: إنَّهُ قَتَلَ أبِي. قِيْلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مُسْتَخْلِيًا بأَبِي لُؤْلُوَةَ وَهُوَ أَمَرَهُ بِقَتْلَ أَبِي، فَقَالَ عُمَرُ:(مَا أَدْرِي مَا هَذَا، انْظُرُوا إِذَا أنَا مِتُّ فَاسْأَلُواْ عُبَيْدَ اللهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الهُرْمُزَانِ هُوَ قَتَلَنِي، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَدَمُهُ بدَمِي، وَإِنْ لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ فَأَقِيْدُوا عُبَيْدَ اللهِ مِنَ الْهُرمُزَانِ) فَلَمَّا وُلِيَ عُثْمَانُ رضي الله عنه؛ قِيْلَ لَهُ: أَلَا تُمْضِي وَصِيَّةَ عُمَرَ رضي الله عنه فِي عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: وَمَن وَليُّ الهُرْمُزَانِ؟ قَالُوا: أَنْتَ يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ، فَقَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ. رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الجنايات: الأثر (16516).
(•) في النسخة (2): الصَّنَمُ بدل آلِهَتَهُمْ، وفي الهامش رمز الناسخ إلَى نسخة (حـ) آلِهَتَهُمْ.
عما إذا لم يظنه وفيه تفصيل، فإن عرف مكانه، فكما لو قتله في دار الإسلام، فإن لم يعرف مكانه ورمى سهمًا إلى صف الكفار في دار الحرب، سواء عَلِمَ أن في الدار مسلمًا أم لا، نظرٌ؛ إن لم يعين شخصًا أو عين كافرًا، فأخطأ، وأصاب مسلمًا، فلا قصاص عليه ولا دية، وكذا لو قتله في بَيات أو إغارة ولم يعرفه، وإن عين شخصًا فأصابه فكان مسلمًا فلا قصاص عليه، وفي الدية قولان: قال الرافعي: ويشبه أن يكونا هما القولين فيمن ظنه كافرًا، أَوْ بِدَارِ الإِسْلَامِ وَجَبَا؛ لأن الظاهر من حال مَنْ هو في دار الإسلام العصمة، وَفِي القِصَاصِ قَوْل، أي أنه لا يجب كنا في دار الحرب، أوْ مَنْ عَهِدَهُ مُرْتَدًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ عَبْدًا، أَوْ ظَنِّهُ قَاتِلَ أَبِيْهِ، فَبَان خِلَافُهُ، فَالْمَذهَبُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ، اعْلَمْ: أن الشافعي نصَّ على أنه إذا قتل من عهده مرتدًا أو ظن أنه لم يسلم فكان أسلم، أن القِصَاص يجب، ونص فيما لو عهده ذميًا أو عبدًا فقتله ظانًا أنه لم يسلم ولم يعتق فبان خلافه أنه لا قصاص، فقيل في الجميع قولان؛ أحدهما: يحب القِصَاص؛ لأنه كان من حقه التَّثَبُّتُ، والثاني: لا يجب، لِظّنِّهِ عدم الْمُكَافَأَةِ، وقيل بظاهر النص؛ لأن المرتد يحبس ولا يخلى، فقاتله مقصر بخلاف الذمي والعبد، وقيل: يجب القِصَاص في الجميع قطعًا؛ لأن ظنه لا يبيح القتل، والمذهب وجوب القِصَاص في الجميع، وإن أثبتنا الخلاف، كما لو علم تحريم القتل وجهل وجوب القِصَاص، وأما إذا ظنه قاتل أبيه فقتله، فَبَانَ غيره، فإن القِصَاص يجب على أظهر القولين؛ لأنه يلزمه التثبت، ولم يعهده قاتلًا حتى يستصحبه، ولم يذكر في الروضة طريقةً فيه، نَعَمْ؛ ذكرها الرافعي بحثًا فقال: والوجه التسوية بينه وبين ما إذا ظنه مرتدًا أو حربيًا من غير أن يعهده كذلك، ولم يكن كما ظنه، إما في القطع وإما في إثبات القولين، واحترز بقوله (عَهِدَهُ) عما إذا لم يعهد ردته بل ظنها، فإن القِصَاص واجب لا محالة، ولو قتل من ظنه عبدًا أو ذميًا ولم يعهد منه ذلك؛ فحكى الإمام في وجوب القِصَاص قولين أيضًا، وجعل ما إذا عهده كذلك مرتبًا عليهما. وَلَوْ ضَرَبَ مَرِيْضًا جَهِلَ مَرَضَهُ ضَرْبًا يَقتلُ الْمَرِيْضَ، أي دون الصحيح، وَجَبَ القِصَاصُ؛ لأن جهله لا يبيح الضرب وقد حصل القتل بصورة التعدّي، وَقِيْلَ:
لَا؛ لأن ما أتى به ليس بمُهلِك عنده (•).
فَصْلٌ: وُيشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتِيْلِ إِسْلَامٌ أَوْ أَمَانٌ، أي بعقد ذمة أو عهدٍ أو ضرب رق على كتابي بعصمة، وكذا وثني ونحوه على المذهب، فَيُهْدَرُ الحَرْبِيُّ، إذ لا إيمان له، ولا أمان، وَالْمُرْتَدُّ، أي في حق المسلم كذلك أيضًا، وأما في حق ذمي ومرتد آخر فسيأتي الخلاف فيه، وَمَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ كَغَيْرِهِ، أي فإذا قتله غير المستحق يلزمه القِصَاص؛ لأنه ليس بِمُبَاحِ الدَّمِ، وإنما عليه حق قد يترك وقد يستوفى، نعم؛ لو قتل قاطع الطريق بغير إذن الإمام لا قصاص عليه بل الدية؛ لأن قتله يتحتم ويجيء فيه وجه، وهذا إذا راعينا في قتله القِصَاص؛ فإن لم نراعه فعليه التعزير فقط، لافتياته على الإمام.
فَرْعٌ: يد السارق معصومة على غير المستحق، كذا جزم به الحاوي الصغير، وتبع في ذلك الماوردي، والذي في الرافعى والروضة في بابه أنها ليست معصومة بالنسبة إليه أيضًا، نَعَمْ؛ يُعَزَّرُ كذا أطلقوه، قالا: ويشبه أن يجعل وجوب القِصَاص على الخلاف في قتل الزاني المحصن.
وَالزَّانِي الْمُحْصَنُ إِن قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ قُتِلَ بهِ؛ لأنه لا تسلط له على المسلم، ولا حق له في الواجب عليه، أَوْ مُسْلِمٌ؛ فَلَا فِي الأَصَحِّ؛ لأنه مباح الدم فأشبه المرتد، وهذا هو المنصوص أيضًا، والثاني: يجب القِصَاص؛ لأن الرجم للإمام، وأيدي الآحاد مصروفة عنه، فأشبه ما لو قتل من عليه القِصَاص غير مستحقه، وربما بني الخلاف على أنه الحق لله تعالى أو للمسلمين، وصحح المصنف في تصحيحه أنه إذا ثبت زناه بالإقرار وجب بقتله القِصَاص. أو الدية، ولم يذكر ذلك في الروضة، ثم محل
(•) في هامش النسخة (2) تعليق؛ قال: والذي أطلقه الرافعي تبعًا لِلْمُحَرَّر مقيَّدٌ بما إذا ضربه غير تأديب، فإنْ ضربه تأديبًا ضَرْبًا يَقْتلُ المريضَ؛ وهو جاهلٌ بمرضه، فإنه لا يجب عليه القود، إذ لا عدوان كما صرح به في الوسيط. ا. هـ. ورمز إلى شرح الدميري على المنهاج.
الخلاف المذكور ما إذا قتل قبل أن يأمر الإمام بقتله، فإن قتل بعد أمر الإمام فلا قصاص قطعًا، نقله في الروضة من زوائده عن القاضي أبي الطيب.
فَرْعٌ: لو قتل الزاني المحصن مثله وجب القِصَاص على الأصح.
وفِي الْقاتِلِ بُلُوغٌ وَعَقْلٌ، أي يشترط في القتيل ما مرَّ؛ وفي القاتل بلوغٌ وعَقْلٌ، فلا قصاص على صبي ومجنون، كما لا حدَّ عليهما.
فَرْعٌ: من تقطّع جنونه أُعطي لكل زمن حكمه.
وَالمَذْهَبُ وُجُوبُهُ عَلَى السَّكْرَانِ؛ لتعديه، وقد سبق توجيه الخلاف فيه في كتاب الطلاق، وأُلْحِقَ به المتعدي بتناول الأدوية المزيلة للعقل، وَمَنْ يعذر في زوال عقله كالمكره وكمن شرب دواء فسكر ثم قتل لا قِصاص عليه، وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْقَتلِ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونًا، صُدِّقَ بِيَمِيْنهِ إِنْ أمْكَنَ الصِّبَا وَعُهِدَ الْجُنُونُ؛ لأن الأصل بقاؤهما، وَلَوْ قَالَ: أَنَا صَبِيٌّ، أي الآن، فَلَا قِصَاصَ، وَلَا يُحَلَّفُ؛ لأن اليمين لإثبات المحلوف عليه، ولو ثبت صباه لبطلت يمينه، وفي الذخائر عن الحاوي: أن المذهب التحليف، وَلَا قِصَاصَ عَلَى حَرْبِيٍّ، كما لا يضمن المال لعدم التزامه، وهل عدم الوجوب عليه مختص بالمسلم أم هو عام فيه؟ وفي حقِّ الحربيِّ كلام الغزالي يقتضي الثاني؛ وتعليله يقتضي الأول، وَيَجِبُ عَلَى الْمَعْصُومِ، أي وهو الممنوع من قتله، وَالْمُرْتَدِّ؛ لالتزامهما الأحكام، وسواء كان معصومًا بذمة أو هدنة أو أمان.
فَصْلٌ: وَمُكَافَأَةٌ، أي ويشترط مساواة المقتول القاتل، فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ، أي فلا يقتل مسلم بكافر لقوله صلى الله عليه وسلم:[لَا يُقتلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ] رواه البخاري من حديث علىّ رضي الله عنه (156).
(156) هو من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه؛ الحديث؛ رواه البخاري في الصحيح: كتاب العلم: باب كتابة العلم: الحديث (111). والترمذي في الجامع: كتاب الديات: باب ما جاء لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ: الحديث (1412). والنسائى في السنن: كتاب القسامة: باب سقوط القود من المسلم بكافر: ج 8 ص 23 - 24.
فَرْعٌ؛ قَتَلَ عبدٌ مسلمٌ عبدًا مسلمًا لكافر، فقيل: لا يثبت القِصَاص؛ لئلا يثبت القِصَاص ابتداء للكافر على مسلمٍ، وأصحهما: نَعَمْ؛ لتساوي العبدين؛ ويكون السيد كالوارث، ولو قتل عبدٌ كافرٌ عبدًا كافرًا لمسلم فالأصح في الروضة ثبوته.
وَيُقتَلُ ذِمِّيٌّ بِهِ، أي وكذا معاهد لشرفه عليهما، وَبِذِمِّيٍّ، أي ويقتل الذمّي بالذمّي، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتَهُمَا؛ لأن الكُفْرَ كله كَالْمِلَّةِ الواحدة، فَلَوْ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ، لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ؛ لأنهما كانا متكافئين حال الجناية، والاعتبار في العقوبات بحال الجناية، ولا نظر إلى ما يحدث بعدها، ألا ترى أن العبدَ إذا زنا أو قذف ثم عتق يقام عليه حدُّ العبيد.
وَلَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، فَأَسْلَمَ الْجَارِحُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ، فَكَذَا فِي الأصَحِّ، أي أن القِصَاص لا يسقط للتكافؤ حال الجرح، والثاني: يسقط نظرًا لحالة الزهوق، وهذا الخلاف في قصاص النفس، أما لو جرح جرحًا يوجب قصاصًا كقطع طرف، ثم أسلم القاطع، ثم سرى؛ وجب القِصَاص في الطرق قطعًا قاله البغوي والرافعي، وَفِي الصُّوْرَتَيْنِ، أي وهما إذا طرأ إسلام القاتل بعد القتل أو بعد الجرح، إِنَّمَا يَقْتَصُّ الإِمَامُ بِطَلَبِ الوَارِثِ، أي ولا يفوضه إليه حذرًا من تسلط الكافر على المسلم، اللَّهُمَّ إلا أن يسلم فيفوّضه إليه، وَالأظْهَرُ: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِذِمِّيٍّ؛ لاستوائهما في الكفر فأشبها الوثنيين، والثاني: لا؛ لبقاء حرمة الإسلام فيه بدليل قضاء الصلاة والصوم، وَبِمُرْتَدٍّ، أي والأظهر قتل مرتد بمرتد كما لو قتل ذمّيٌّ ذميًا، والثاني: لا؛ لأن المرتد مباح الدم، لا ذِمِّيٍّ بِمُرْتَدٍّ؛ لأنه مهدرٌ كالحربى، وَقَتْلُ معصومٍ بمهدرٍ بعيدٌ، والثاني: نعم؛ لأن الذمي يقتله عنادًا لا تدينًا فأشبه ما لو قتل مسلمًا.
فَصْلٌ: وَلَا يُقتَلُ حُرٌّ بِمَنْ فِيْهِ رِقٌّ؛ لأنه لا يقطع طرفه بطرفه باتفاق منا ومن أبي حنيفة، فأولى أن لا يُقتل به، وحديث [مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ] منقطع أو مؤوَّل (157)، وَيُقْتَلُ قِنٌّ، وَمُدَبَّرٌ، وَمُكَاتَبٌ، وَأُمُّ وَلَدٍ، بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ؛ لتساويهم في
(157) • قلتُ: أما انقطاعه؛ فإنه من رواية الحسن عن سمرة بن جندب، وفي السنن =
الملك، وَلَوْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا، ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ، أَوْ عَتَقَ بَيْنَ الْجُرْح وَالْمَوْتِ فَكَحُدُوثِ الإِسْلَامِ، أي فيما إذا قتل ذمّيٌّ ذميًا أو جرحه ثم أسلم وقد تقدم عن قريب.
وَمَن بَعْضُهُ حُرٌّ لَوْ قَتَلَ مِثْلَهُ لَا قَصَاصَ، وَقِيْلَ: إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيْةُ الْقَاتِل وَجَبَ، اعْلَمْ: أن المبعّض إذا قتل مثله ينظر، إن كان قدر الحرية في القاتل أكثر فلا قصاص قطعًا، وإن استوى القدران أو زادت حرية المقتول، وجهان؛ أشهرهما عند المتقدمين: وجوب القِصَاص؛ لأنه إما مساوٍ أو فاضل، وأصحهما عند المتأخرين: لا؛ لأنه لا يقتل بجزء الحرية جزء الحرية، وبجزءِ الرِّقِّ جزءَ الرِّقِّ، بل جميعه بجميعه؛ ولهذا لو كان القتل خطأً، أو آلَ الأمرُ إلى الدية وأوجبنا نصف الدية، ونصف القيمة مثلًا، لا نقول نصف الدية في مال القاتل ونصف القيمة في رقبته، بل يجب ربُع الدية وربع القيمة في ماله وربُع الدية وربُع القيمة في رقبته، وهذا متفق عليه، فلو وقع الاستيفاء
الكبرى: كتاب الجنايات: جماع أبواب تحريم القتل: باب ما روي فيمن قتلَ عبدهُ أو مثَّل به: الحديث (16375)، قال البيهقي: قال الشيخ: يشبه أن يكون الحسن لم ينس الحديث؛ ولكن رغب عنه لضعفه، وأكثر أهل العلم بالحديث رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة، وذهب بعضهم إلى أنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة. انتهى.
• أما التأويل، قال البيهقي رحمه الله: وأما علي بن المديني، فكان يثبت سماع الحسن من سمرة. انتهى. فذهب البعض إلى تأويل الحديث على وجه: أراد الشارع ممن كان عنده العبد، لئلا يتوهم أن تقدم الملك يمنع من ذلك. قال الترمذي: قال بعضهم: إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ، وإذا قَتَلَ عبدَ غيره قُتِلَ به، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة. انتهى من الجامع الصحيح للترمذي: كتاب الديات: الحديث (1414).
• وفي الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [أنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَنَفَاهُ سَنَةً؛ وَمَحَى سَهْمَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ، وَأمَرَهُ أن يُعْتِقَ رَقَبَةً]. رواه الدارقطني في السنن: كتاب الحدود والديات: الحديث (187) منه: ج 3 ص 144. وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين؛ فإسناده صحيح. ورواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الجنايات: جماع أبواب تحريم القتل: الحديث (16380)(16381).
شائعًا، لزم قتل البعض، الحرُّ بالبعضِ، الحرُّ والرقيقُ معًا. وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرٍّ ذِمِّيٍّ، أي بأن قتلَ عبدٌ مسلمٌ حرًّا ذميًّا أو عكسه، وكذا إن قتل كافرٌ ابنهُ المسلمُ أو عكسه؛ لأن الحُرَّ والمسلمَ والأب لا يقتل بِمَفْضُولِهِ.
وَلَا بِقَتْلِ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم[لَا يُقَادُ الأبُ مِنْ ابْنِهِ] صححه الحاكم والبيهقي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه (158). والأُمُّ كالأب، وكذا الجدُّ والجدَّاتُ وإن عَلَوا من قبل الأب والأُمِّ جميعًا، وَلَا لَهُ، أي ولا يقتل لأجل ولدٍ له وإن سفل أي بقتل غيره، فلو قتل الوالد معتق ولده لم يكن للولد أن يقتص منه؛ لأنه إذا لم يقتص منه لجنايته على الولد كان أولى أن لا يستوفيه الولد، وكذا إذا قتل زوجة ابنه أو زوجته وله منها ولد، ويُقْتَلُ بِوَالِدَيهِ؛ لأن سقوط القِصَاص عن الوالد لِلنَّصِّ، وحرمةُ الولد ليس كذلك، وكذا سائر المحارم يقتل بعضهم ببعض.
وَلَوْ تَدَاعَيَا مَجْهُولًا، فَقَتَلَهُ أحَدُهُمَا، فَإِنْ أَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِالآخَرِ اقْتُصَّ، وَإلا فَلَا؛ لأنا تبيّنا أنه غير ابنه في الأُولى دون الثانية، ولو أَلْحَقَهُ بغيرهما اقتصَّ من القاتل أيضًا وهو وارد على عبارة الشيخ دون عبارة الْمُحَرَّرِ، ثم هذا كله إذا ألحق المولود أحدهما بالدعوة؛ أما إذا أُلْحِقَ بالفِراش، فإن أَلْحَقَهُ بأحدهما اقتص من الآخر إن انفرد بقتله أو شارك فيه، وإن ألحقه بأحدهما، أو انتسب بعد البلوغ فقتله الذي لَحِقَهُ لم يقتص منه، فإن أقام الآخر بيّنة، لَحِقَهُ نسبه واقتص من الأول.
وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ أَخَوَينِ الأَبَ، والآخَرُ الأُمَّ مَعًا، فَلِكُلِّ قِصَاصٌ، أي على الآخر؛
(158) • رواه الحاكم في المستدرك: كتاب العتق: الحديث (2856/ 16) بلفظ [لَا يُقَادُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَالِكِهِ، وَلَا وَالِدٍ مِنْ وَلَدِهِ]، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي كتاب الحدود: الحديث (8101/ 78)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهدان. ووافقه الذهبي قال: صحيح. ورواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الجنايات: الحديث (16377)؛ وفي إسناده نظر.
• أما لفظ المتن؛ رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار: كتاب الجراح: باب الرجل يقتل ابنه: الحديث (4830)، وقال: إسناده صحيح.
لأنه قتل مورثه، والاعتبار بالمعيَّة والترتيب أيضًا بزهوق الروح لا بالجرح، فإن عفى أحدهما فللمعفوِّ عنه أن يقتصَّ من العافي، وإن لم يعف قدِّم للقصاص من خرجت قرعته وهذا معنى قول المصنف، وَيُقَدَّمُ بِقُرْعَةٍ، إذ لا مَزِيَّةَ لأحدهما على الآخر، فَإِنِ اقْتُصَّ بِهَا، أَوْ مُبَادِرًا، فَلِوَارِثِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ قَتْلُ الْمُقْتَصِّ، إِن لَمْ نُوَرِّث قَاتِلًا بِحَقٍّ، أو بِلَا حَقٍّ، أي فإن اقتص من خرجت قرعته أو بادر بلا قرعة، فإن قلنا: القاتل بحق لا يحرم الميراث، ولم يكن المقتص محجوبًا، سقط القِصَاص عنه؛ لأنه ورث القِصَاص المستحق على نفسه أو بعضه، وإن قلنا: يحرُمُ، وهو المذهب، أو كان هناك من يحجبه فللوارث المقتص منه أن يقتص من المبادر؛ لثبوته عليه، وَكَذَا إنْ قَتَلَا مُرَتَّبًا، وَلَا زَوْجِيَّةَ، أي وكذا إذا قتلا مرتبًا ولم تكن الزوجية باقية بين الأب والأم؛ فلكل واحد منهما حق القِصَاص، وهل يُقدم بالقرعة أم يقتص من المبتدئ بالقتل؟ وجهان؛ أرجحهما في الروضة الثاني، ونقله الإمام عن الأصحاب، وَإِلا فَعَلَى الثَّانِي فَقَطْ، أي وإن كانت الزوجية باقية بين الأب والأم فلا قصاص على القاتل أولًا، ويجب على القاتل الثاني؛ وذلك لأنه إذا سبق أحدهما إلى قتل الأب لم يرث حق الأب لكونه قاتلًا وكان حق القِصَاص للابن الآخر، وللأم بالزوجية، وإذا قتل الآخر الأمِّ كان الأول هو الذى يرثها فينتقل إليه القِصَاص المستحق عليه ويسقط، ولو تقدم قتل الأم وتأخر قتل الأب سقط القِصَاص عن قاتل الأم وثبت على قاتل الأب فإذا اقتص القاتل الأول من الثاني، وقلنا القاتل بحق يُحرَم الميراث أو كان المقتص محجوبًا فلورثة المقتص منه نصيبه من دية القتيل الأول يطالبون به القاتل الأول.
فَصْلٌ: ويُقْتَلُ الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ، أي إذا كان فعل كلٍ منهم لو انفردا لقتل، سواء قتلوه بمثقل أو بمحدد أو بغيرهما لعموم قوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (159) أي بالقِصَاص، وَلأنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَتَلَ نَفَرًا خَمْسةً أوْ سَبْعةً بِرَجُلٍ
(159) الإسراء / 33.
قَتَلُوهُ غِيْلَةً، وَفَالَ:(لَئِنْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ جَمِيْعًا) رواه مالك (160)، وفيه قول: أنهم لا يقتلون به.
وَللْوَليِّ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضُهِمْ عَلَى حِصَّتِهِ مِنَ الدِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الرُّؤوسِ، توزيعًا عليهم، أما لو ضربه كل واحد ضربة بسوط أو عصى خفيفة فمات، ففي وحوب القِصَاص عليهم وجوه؛ أصحها كما سيأتي الوجوب بأنْ تَوَاطَؤُا.
وَلَا يُقْتَلُ شَرِيْكُ مُخْطِئ وَشِبْهِ عَمْدٍ؛ لأن الزهوق حصل بفعلين أحدهما يوجبه، والآخر ينفيه، فغلب الْمُسْقِطُ كما إذا قتل المبعَّضُ رقيقا، وقال المزني: يُقْتَصُّ مِنْهُمَا، وَيُقْتَلُ شَرَيكُ الأبِ. وَعَبْدٌ شَارَكَ حُرًّا فِي عَبْدٍ، وَذِمِّيٌّ شَارَكَ مُسْلِمًا فِي ذِمِّيٍّ؛ لأن كل واحد من الأجنبي، والعبد، والذمي، لو انفرد بالقتل وجب عليه القِصَاص، فإذا شارك من لا يقتص منه لا لمعنىً في فعلهِ وجبَ أيضًا، كما لو كانا عامدين (•) فعفى الوليُّ عن أحدهما، وليس شريك الأب كشريك الخاطئ، فإن الخطأَ شبهةٌ في فعل الخاطئ، والفعلان مصادفان لمحل واحد، فأورث الخطأ في أحدهما شبهة في القِصَاص، كما لو جرح واحد جراحتين جراحة عمدًا والأخرى خطأً، وشبهة الأبوة في نفس الأب لا في الفعل، وذات الأب تتميز عن ذات الأجنبي فلا تؤثر شُبْهَتُهُ في حقِّه، وَكَذَا شَرِيْكُ حَرْبِيٍّ، أي في قتل مسلم، وَقَاطِعٍ قِصَاصًا، أَوْ حَدًّا، وَشَرِيْكُ النَّفْسِ، وَدَافِع الصَّائِل فِي الأَظْهَرِ؛ لحصول الزهوق بفعلين عمدين، وامتناع القِصَاص على الآخر لمعنى يخصه فصار كشريك الأب، والثاني: لا يجب، بل عليه نصف الدية؛ لأن من لا يضمن أخف حالًا من الخاطئ فأولى أَلّاَ يجبَ على الشريك في هذه الصورة.
(160) عن سَعيْدٍ بْنِ الْمُسَيَّبِ؛ أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ نَفَرًا خَمْسةً أَوْ سَبْعَةً؛ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَتَلُوهُ قَتْلَ غَيْلَةٍ. وَقَالَ عُمَرُ: (لَوْ تَمَالأَ عَلَيه أهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيْعًا). رواه الإمام مالك في الموطأ: كتاب العقول: باب ما جاء في الغيلة والسحر: ج 2 ص 871.
(•) في النسخة (2): كما إذا كانا عامدين.
وَلَوْ جَرَحَهُ جُرْحَيْنِ عَمْدًا وَخَطَأً وَمَاتَ بِهِمَا، أَوْ جَرَحَ حَرْبِيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا، ثُمَّ أسْلَمَ، وَجَرَحَهُ ثَانِيَةً، فَمَاتَ لَمْ يُقْتَلْ، أما في الأُولى؛ فلأن الزهوق لم يحصل بالعمد المحض، نَعَمْ: يجب نصف دية مخففة على العاقلة، ونصف دية مغلظة من ماله، وأما في الثانية؛ فلأن الموت حصل بمضمونٍ وغير مضمون، نَعَمْ: يثبت موجب الجراحة الواقعة في حال العصمة من القِصَاص أو الدية المغلظة.
وَلَوْ دَاوَى جُرْحَهُ بِسُمٍّ مُذَفِّفٍ، أي قاتل، بأن شرّبه أو وضعه على الجراحة، فَلَا قِصَاصَ عَلَى جَارِحَهِ، لأنه قطع سراية الجرح فأشبه ما لو جرحه إنسان فذبح المجروح نفسه، نَعَمْ؛ عليه أَرْشُ جراحته أو القِصَاص إن تعلق بها قصاص، كما لو قطع بها طرفًا، قال الماوردي: ولا فرق بين أن يكون المجروح عَلِمَ حال السُّمِّ أم لا، وَإِن لَمْ يَقْتُل غَالِبًا، فَشِبْهُ عَمْدٍ، أي فلا قصاص من النفس، بل عليه نصف الدية المغلظة، أو القِصَاص في الطرف إن اقتضته، وَإِنْ قَتَلَ غَالِبًا وَعَلِمَ، أيْ المجروح، حَالَهُ، فَشَرِيْكُ جَارِحِ نَفسِهِ، أي فيجب القود على الأظهر، كما مر سلوكًا بفعل المجروح سلوك العمد، وَقِيْلَ: شَرِيكُ مُخطِئٍ؛ لأن المجروح إنما قصد المداواة فشريكه شريك خاطئٍ، واحترز بقوله (وَعَلِمَ حَالَهُ) عما إذا لم يعلم حال المجروح بأنه يقتل غالبًا، فإنه لا قصاص كما لو كان مما لا يقتل غالبًا.
وَلَوْ ضَربوهُ بِسِيَاط فَقَتَلُوهُ، وَضَرْبُ كُل وَاحِدٍ غَيْرُ قَاتِلٍ، أي بأن ضربه كل واحد من العدد الكبير ضربة، فَفِي القِصَاصِ عَلَيهِمْ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا: يَجِبُ إِنْ تَوَاطَئُواْ، أي على أن يضربوه تلك الضربات، بخلاف ما إذا وقعت اتفاقًا، وهذا بخلاف الجراحات، فإنه لا يشترط فيها التواطؤ؛ لأن الجرح نفسه قَصْدٌ إلى الإهلاك، والضرب بالسوط الخفيف لا يظهر فيه قصد الاهلاك، إلّاَ بالموالاة من واحد، أو المواطأة من جماعة، والثاني: لا قصاص على واحد منهم؛ لأن فعل كل واحد منهم ليس عمدًا مقتضيًا للقصاص، ومن عداه شركاؤه، ولا قصاص على شركاء الخاطئ ولا شركاء صاحب شبه العمد، فعلى هذا تجب الدية قطعًا؛ قاله الإمام. والثالث: يجب على الجميع القِصَاص لئلا يصير ذلك ذريعة إلى القتل، واحترز بقوله (وَضَرْبُ
كُل وَاحِدٍ غَيْرُ قَاتِلٍ) عما إذا كان ضرباتُ كل واحدٍ منهم قاتلة لو انفردت، فإن عليهم القِصَاص كما أسلفته، وإذا آل الأمر إلى الدية وزعت على عدد الضربات لا بالسوية على الأظهر؛ لأن الضربات تلاقي ظاهر البدن فلا يعظم فيها التفاوت بخلاف الجراحات.
وَمَنْ قَتلَ جَمعًا مُرَتبًا قُتِلَ بأوَّلهِم؛ لاستحقاقه القِصَاص أولا وللباقين الديات، وكذا لو قطع الواحد أطراف جماعة، أَوْ مَعًا، أي بأن هدم عليهم جدارًا أو جرحهم وماتوا، فَبِالْقُرعَةِ، أي وجوبًا لتساويهم؛ وقيل: استحبابًا، وصححه الروياني، وَللْبَاقِيْنَ الدياتُ.
فَرعٌ: لو أشكلَ الحال فلم يدرِ أَقتْلُهُم كان معًا، أو مرتبًا، جعل كما لو قتلهم معًا؛ فيقرع.
قُلْتُ: فَلَوْ قَتَلَهُ غَيْرُ الأوَّلِ، عَصَى، أي بأن بادر وأقدم على ذلك، ولم يعفُ الأول، ولم يقتص عصى أي ويعزر لإبطال حق غيره، وَوَقَعَ قِصَاصًا؛ لأن حقه متعلق به، بدليل ما لو عفى ولي الأول، فإنه ينتقل إلى من بعده. وَللأولِ دية. وَالله أعلَمُ؛ لتعذر القِصَاص بغير اختياره.
فَصْلٌ: جَرَحَ حَربيًا أَوْ مُرتَدًّا أوْ عَبدَ نَفْسِهِ فَأسلَمَ، أي الحربي والمرتد، وَعَتَقَ، أي العبد، ثُم مَاتَ بِالجرح، فَلَا ضمَان؛ لأن الجراحة والحالة هذه غير مضمونة بالقِصَاص، فالسراية كذلك كقطع يد السارق إذا سرى إلى النفس، وَقِيلَ: تَجِبُ دِيةٌ، اعتبارًا بحالة استقرار الجناية.
ولَوْ رَمَاهُمَا فَأَسْلَمَ وَعَتَقَ، فَلَا قِصَاصَ؛ لعدم المكافأة في أول أجزاء الجناية، وَالْمَذهبُ وُجُوبِ دِيةِ مُسْلِمٍ، اعتبارًا بحالة الإصابة؛ لأنها حالة اتصال الجناية، والرمي كالمقدمة التي يتسَببُ بها إلى الجناية، وعبارة الرافعي في إيراد الخلاف: إن قلنا يجب الضمان في مسألة الحربي، والمرتد إذا أسلم بعد الجرح ثم مات فهنا أولى،
وإن قلنا لا يجب هناك فهنا ثلاثة أوجه أصحها، وهو المنصوص: أنه تجب اعتبارًا بحالة الإصابة، والثاني: لا تجب، اعتبارًا بحالة الرمي، والثالث: تجب فِي المرتد دون الحربي؛ لأن المرتد لا يجوز لغير الإمام قتله بخلافه، ويجري الخلاف فيما إذا رمى إلى عبد نفسه ثم أعتقه قبل الإصابة، وأولى بالضمان؛ لأن العبد معصوم مضمون بالكفارة فعبر المصنف عن ذلك بالمذهب. مُخَفْفَةَ عَلَى العَاقِلَةِ، كما لو رمى إلى صيد فأصاب آدميًا، وهذا مما جزم به في الْمُحَرر، وحكى في الشرح فِي الديات فيه ثلاثة أوجه: دية عمد، دية شبهة عمد، دية خطأ، فلك أن تُعِيْدَ قولهُ، والمذهب إلى كونها مُخَفَّفَةً أم لا؟ وهو ظاهر كلامه، ويكون أطلق الطرق على الأوجه مجازًا.
وَلَوِ ارتَدَّ المَجْرُوحُ وَمَاتَ بِالسِّرَايَة، فالنَّفْسُ هدر، أي فلا يجب قصاصها؛ ولا ديتها؛ ولا الكفارة؛ لأن نفسه تلفت وهي مهدرة.
وَيَجِبُ قِصَاصُ الْجُرح، أي كالموضحة وقطع اليد، فِي الأظْهرِ؛ لأن القِصَاص في الطرف منفرد عن القِصَاص في النفس، ويستقر فلا يتغير بما يحدث بعده، ألا ترى أنه لو قطع طرفه وجاء آخر وحزَّ رقبته يجب على الأول قصاص الطرف، وإن لم يجب عليهما قصاص النفس، والثاني: لا يجب؛ لأن الطرف تبع للنفس إذا صارت الجناية قتلا، فإذا لم يجب قصاص النفس لا يجب قصاص الطرف، وكذلك لو قطع طرف إنسان فمات منه، فعفى وليه عن القِصَاص، لم يكن له أن يقتص في الطرف، يَسْتَوْفِيْهِ قَرِيبهُ المُسْلِمُ، أي الذي كان يرثه لولا الردة؛ لأن القِصَاص للتشفي، وذلك يتعلق بالقريب دون الإمام، فإن كان ناقصًا انتظر كمالَه ليستوفي، وَقِيلَ: الإمَامُ؛ لأنه لا وارث لِلْمُرتَدِّ فيستوفيه الإمام كغيره، وادعى ابن كج أن الأكثرين عليه، وأن الاصطخري انفرد بالأول، فَإنِ اقتَضَى الجُرحُ مَالًا، إي لا قصاصًا كالجائفة والهاشمة، وَجَبَ أَقَل الأمرَينِ: مِنْ أرشِهِ وَدِيَّة، أي من الأرش الذي تقتضيه الجراحة ودية النفس، فإن كان الأرش أقل كالجائفة، وقطع اليد الواحدة لم يزد بالسراية في الردة شيء، وإن كانت دية النفس أقل كما إذا قطع يديه ورجليه فارتد ومات؟ فلو مات بالسراية مسلمًا لم يجب أكثر منها، فإذا مات
مرتدًا (•) فأولى أن لا تجب أكثر منها، وَقِيلَ: أرشُهُ، أي وقيل: الواجب أرش الجرح بالغًا ما بلغ، فيجب فيما إذا قطع يديه ورجليه ديتان؛ لأن الأرش إنما يندرج في الدية إذا وجب ضمان النفس بتلك الجراحة، والنفس هنا تلفت مهدرة، فلو أدرجنا لأهدرنا فجعلت الردة قاطعة للإدراج قائمة مقام الاندمال، وعلى كل حال فالواجب فَيءٌ لا يأخذ القريب منه شيئًا، وَقِيلَ: هدر، أي لا يوجب مالًا؛ لأن الجراحة إذا سرت صارت قتلا؛ وصارت الأطراف تابعة للنفس، والنفس مهدرة فلذلك ما يتبعها، والأصح وجوب المال؛ لأنه وجب بالجناية أرش، والردة تمنعُ وجوب شيء بعدها، ولا يسقط ما وجب قبلها، وهذا كما لو قطع أطراف رجل وقتل الرجلُ نفسه؛ فإنه لا يسقط ضمان الطرف، وهذا كله إذا طرأت الردة بعد الجرح، فلو طرأت بعد الرمي وقبل الإصابة، فلا ضمان باتفاقهم، فإنه مرتد حين تأثير الجناية، قال الرافعى: ويجيء فيه وجه من نظيره فيما إذا رمى إلى مرتد فأسلم قبل الإصابة أنه يعتبر وقت الرمي وإن لم يذكروه.
وَلَوِ ارْتَدَّ؛ ثُمَّ أَسلَمَ؛ فَمَاتَ بِالسرَايَةِ، فَلَا قِصَاصَ، لتخلل حالة الإهدار، وَقِيلَ: إِن قَصُرَتِ الردَّةُ وَجَبَ؛ لأنها إذا قصرت لم يظهر فيها أثر للسراية، وَتَجِبُ الديةُ، أي إذا فرعنا على الأظهر أنه لا يجب القِصَاص كما مر فتجب الدية لوقوع الجرح والموت في حالة العصمة، وَفِي قَوْلٍ: نِصْفُها، توزيعًا على العصمة والإهدار، وفي قول ثالث: أنه يجب ثلثاها توزيعًا على الأحوال الثلاث حالتي العصمة وحالة الإهدار، ثم قال الأكثرون: موضع الخلاف ما إذا طالت مدة الإهدار، فإن قصرت وجب كل الدية قطعًا، وقيل بالطرد في الحالين.
فَرع: رمى إلى مسلم؛ فارتدَّ وعاد إلى الإسلام ثم أصابه السهم؛ فلا قصاص على المشهور.
وَلَو جَرَحَ مُسْلِم ذِميًا فَأسْلَمَ، أو حُرُّ عَبدًا فَعُتِقَ، وَمَاتَ بِالسرَايَةِ، فَلَا قِصَاصَ؛
(•) في النسخة (2): شريك بدل مرتدًا.
لأنه لم يقصد بالجناية من يكافئه، وَتَجِبُ دِيَّة مسلم؛ لأنه كان مضمونًا أولًا، وهو في الانتهاء حر مسلم، وَهِيَ لِسَيِّدِ العَبْدِ، أي سواء كانت الدية مثل القيمة، أو أقل؛ لأنه يستحق هذا القدر بالجناية الواقعة في ملكه، فَإن زَادَتْ، أي الدية، عَلَى قِيْمَتِهِ، فَالزيادَةُ لِوَرَثَتِهِ؛ لأنها وجبت بسبب الحرية.
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، أي أو فَقَأَ إحدى عينيه، فَعَتَقَ ثم مَاتَ بِسِرَايَةٍ، أي وأوجبنا كمال الدية، فَلِلسيدِ الأقَل مِنَ الديةِ الوَاجبَةِ، وَنصف قِيمَتِهِ، أي وهو أرش الطرف المقطوع في ملكه لو اندملت الجراحة؛ لأن السرايةَ لم تحصل في الرِق حتى تعتبر في حق السيد، فإن كان كَلُّ الدية أقلَّ فلا واجب غيره، وإن كان نصف القيمة أقل فهو أرش الجناية الواقعة في ملكه، وَفِي قَوْلٍ: الأقَل مِنَ الديةِ وَقِيْمَتِهِ، أي من كل الدية ومن كل القيمة؛ لأن السراية حصلت بجناية مضمونة للسيد، وقد اعتبرنا السراية حيث أوجبنا دية النفس، فلابد من النظر إليها في حق السيد، فيقدر موته رقيقا، وموته حرًا، ونوجب للسيد أقل العوضين، فإن كانت الدية أقل فليس على الجاني غيرها، ومن إعتاق السيد جاء النقصان، وإن كانت القيمة أقل فالزيادة وجبت بسبب الحرية، فليس للسيد. إلّا قدر القيمة الذي كان يأخذه لو مات رقيقًا.
وَلَو قطعَ يَدَهُ (•) فَعَتَقَ فَجَرَحَهُ آخَرَانِ وَمَاتَ بِسِرَايَتهِم فلا قِصَاصَ عَلَى الأولِ وَإِن كَان حُرًا؛ لعدم المكافأة، وَيَجبُ عَلَى الآخَرِينَ؛ لوجودها وصار الشريك الأبُّ، وأما الدية فتجب على الثلاثَة أثلاثًا، ولا حق للسيد فيما يجب على الآخرين وإنما يتعلق حقه. مما على الأول، وفيما يستحقه القولان، فعلى القول الأول: أقل الأمرين من ثلث الدية وثلث القيمة، وعلى الثاني: الأقل من ثُلثِ الدية وأرش الجناية في ملكه، وهو نصف القيمة.
فَصل: يُشْتَرَطُ لقِصَاصِ الطرَفِ، وَالجُرح، مَا شُرِطَ لِلنفْسِ، أي من كون القتل محضًا عدوانًا، ومن كون القاتل مكلفًا ملتزمًا، ومن كون المقتول معصومًا؛
(•) في هامش النسخة (2)؛ كتب يقول: وَلَو قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ.
فلا يجب القِصَاص فيما إذا وقعت الجراحة خطأ، أو شبه عمدٍ، ومن لا يُقتل به؛ لا يقطع بطرفه، ولا يشترط في قصاص الطرف التساوي في البدن، فيقطع العبد بالعبد؛ والمرأة بالرجل؛ وبالعكس، والذمي بالمسلم؛ والعبد بالحر؛ ولا عكس فيهما.
وَلَوْ وَضَعُوا سَيفًا عَلَى يَده وَتَحَامَلُوا عَلَيْهِ دَفْعَة، فَأَبَانُوها قُطِعُوا، كما في النفس، ويخالف ما لو سرق رجلان نصابًا واحدًا؛ لا يجب القطع؛ لأنه حق الله بخلافه، أما إذا تميز فعل الشركاء، بأن قطع هذا من جانب؛ وهذا من جانب؛ حتى التقت الحديدتان، أو قطع أحدهما بعض اليد؛ وجاء الآخر؛ فقطع الباقي؛ فلا قصاص على واحد منهما، وتجب الحكومة على كل واحد منهما على ما يليق بجنايته، وينبغي أن يبلغ مجموع الحكومتين دية اليد.
فَصْلٌ: وَشِجَاجُ الرأسِ، وَالْوَجْهِ: عَشْرٌ، أي كما يأتي؛ والشِجاج بكسر الشين جمع شَجةٍ وبفتحها كما ضبطه بخطه في الأصل:
1 -
حَارِصَةٌ، أي بمهملات، وَهِيَ مَما شَق الجِلْدَ قَلِيلًا، أي نحو الخدش، وفسَّرها صاحب المهذب وغيره: بما يكشطُ الجلدَ؛ وهي مأخوذةٌ من قولهم حَرَصَ القَصَّارُ الثوبَ، إذا خَدَشَهُ قليلا بالدَّقِّ، أو كَشَطَ عنهُ الوسخَ.
2 -
وَدَامِيَة تدمِيْهِ، أي تدمي موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، خلافًا للإمام والغزالي فإن قطر فهي الدابِعَةُ.
3 -
وَبَاضِعَةٌ تَقْطَعُ اللحمَ؛ لأن البَضعُ هو الشق.
4 -
وَمُتَلَاحِمَة تَغُوصُ فِيْهِ، أي في اللحم، ولا تبلغُ الجلدة بين اللحم والعظم.
5 -
وَسِمحَاق، بكسر السين، تَبلُغُ الْجِلدَةَ الْتِي بَيْنَ اللحمِ وَالعَظْمِ، سميت بذلك؛ لأن تلك الجلدة تسمى سمحاق الرأس.
6 -
وَمُوضحَة تُوَضِّحُ الْعَظمَ، أي تكشفه بحيث يقرع بِالمِروَدِ، وإن كان العظمُ غير مشاهد للدم الذي ستره، ولو غرز إبرة في رأسه ووصلت إلى العظم؛ فالأصح: أنه إيضاحٌ.
7 -
وَهاشمَةٌ تَهْشِمُهُ، أي تُكَسِّرُهُ.
8 -
وَمُنَقِّلَة تَنْقُلُهُ، أي تنقل العظم من موضع إلى موضع.
9 -
وَمَأمُومَة تَبْلُغُ خَرِيْطَةَ الدمَاغ، أي المحيطة به وهي أُمُّ الرأسِ.
10 -
وَدَامِغَة تخْرِقُها، أي تَخرُقُ خريطة الدماغ وتصل الدماغ وهي مذففة.
هذه العشرة؛ هي المشهورة؛ ووراءها أخر على اختلاف ذكرته في الأصل. وجيع هذه الشجاج تفرض في الجبهة؛ كما تفرض في الرأس؛ كما صرح به المصنف، وكذلك يتصور ما سوى المأمومة والدامغة في الخد وقصبة الأنف واللحى الأسفل.
وَيَجِبُ القِصَاصُ فِي الْمُوضحَةِ فَقَطْ؛ لتيسر ضبطها واستيفاء مثلها، وأما غيرها فلا تؤمن الزيادة والنقصان في طول الجراحة وعرضها، ولا توثق باستيفاء المثل، ولذلك لا توجب القِصَاص في كسر العظام، وَقِيلَ: وَفِيْمَا قَبلَها سِوى الحَارِصَةِ، وهي الدَّامِيَةُ؛ وَالبَاضِعَةُ؛ وَالْمُتَلَاحِمَةُ؛ وَالسمحَاقُ؛ لإمكان الوقوف على نسبة المقطوع إلى الجملة، أما الحارصة، فلا قصاص فيها قطعًا كما حكاه الإمام؛ لأنه لا وقع لها ولا يفوت بها شيء، واستثناء المصنف الحارصة مما زاده على المُحَرر، قال في الدقائق: ولابد منه (•)؛ لأن عبارتهم توهم إجراء الخلاف فيها. قُلْتُ: لكن قال في الكفاية: كلامُ جماعةٍ يُفْهِمُ خلافًا فيها.
ولو أَوْضَحَ فِي بَاقِي الْبَدَن؛ أَوْ قَطَعَ بَعضَ مَارِنٍ؛ أَوْ أُذُنٍ وَلَم يُبِنْهُ، وَجَبَ القِصاصُ فِي الأصَح، أما في الأولى: وهي فيما إذا أوضح في بقية بدنه سوى الرأس والوجه، كما إذا أوضح عظم الصدر، أو العنق؛ أو الساعد؛ أو الأصابع؛ فوجه عدم الوجوب القياس على الأرش؛ فإنه لا أرش فيه مقدر، ووجه الوجوب وهو الأصح:
(•) دقائق المنهاج: كتاب الجراح: ص 73: وهو كما قال: زيادة لهُ لابُدَّ منها، فإن الحارصة لا قصاص فيها قطعًا، وإنما الخلاف في غيرها. إ. هـ. منه.
تيسر استيفاء المثل، ولا يعتبر القِصَاص بالأرش. ألا ترى أن الأصبع الزائدة يقتص بمثلها وليس لها أرش مقدر، وكذلك الساعد بالكف، وعلى عكسه الجائفة لها أرش مقدر ولا قصاص فيها.
وأما في الثانية: وهي ما إذا قطع بعض الأذن؛ أو بعض المارن، وهي: ما لَانَ من الأنف، ولم يُبْنِه فقال الرافعي: فيه اختلاف قول مرتب على الخلاف في الباضعة والمتلاحمة، والظاهر الوجوب لإحاطة الهواء بهما؛ وإمكان الإطلاع عليهما من الجانبين، ويقدر المقطوع بالجزئية كالثلث والنصف ويستوفى من الجاني مثله، فلا نظر إلى مساحة المقطوع؛ وقد تختلف الآذان كبرًا وصغرًا.
فَصل: ويجِبُ، أي القِصَاص، فِي القَطْع مِنْ مَفصِلٍ؛ لإنضباطه، حَتى فِي أَصلِ فَخْذٍ وَمَنكب إِن أَمكَن بِلَا إِجَافَةٍ، وَإلا، أي وإن لم يمكن إلّا بإجافة، فَلَا عَلَى الصحِيْح؛ لأن الجوائف لا تنضبطْ ضيقًا؛ وسعة؛ وتأثيرًا؛ ونكاية؛ ولذلك لم يجز القِصَاص فيها، والثاني: أنه يقتضي إذا كان الجاني أجاف، وقال أهل النظر: يمكن أن تقطع ويجاف مثل الجائفة، ووجهه أن الجائفة هاهنا تابعة غير مقصودة، وهذا هو المقابل للوجه الصحيح لا أنه يقتص مطلقًا.
ويجِبُ، أي القِصَاص، فِي فَقْءِ عَيْن، وَقَطْع أذن، وَجَفْن، وَمَارن، وَشَفَةٍ، وَلسان، وَذَكَر، وَأنثَيَينِ؛ لأن لها نهايات مضبوطة وإن لم يكن مفصل، وَكَذَا إِليَانِ، وَشُفْرَانِ فِي الأصَحِّ؛ لأن لها نهاية تنتهي إليها، والثاني: لا؛ لأنه لا يمكن الاستيفاء إلّا بقطع غيره.
وَلَا قِصَاصَ فِي كَسرِ العِظَامِ، وَنَحوِها؛ لعدم الوثوق بالمماثلة، وَلَهُ قَطْعُ أقْرَبِ مَفْصَلٍ إِلَى مَوْضِع الكَسرِ، وَحُكُومَةُ البَاقِي؛ لتعذر القِصَاص لما أسلفناه، فإذا قطع يده من الذراع مثلا فيقتص من الكوع ويأخذ أرش ما زاد ولا يخفى أن له العفو والعدول إلى المال.
فَصل: وَلَوْ أَوضَحَهُ وَهشَمَ، أَوْضَحَ؛ لإمكان القِصَاص في الموضحة، وأشبه
قطع اليد من وسط الساعد؛ فإن له أن يقتص في الكف، وَأَخَذَ خمسَةَ أبعِرَةٍ؛ لتعذر القِصَاص في الهشم، وهذا المأخوذ هو أرش ما بين الهاشمة والموضحة. وَلَوْ أَوْضَحَ وَنَقَلَ، أَوْضَحَ وَلَهُ عَشْرَةُ أَبعِرَةِ؛ لما قلناه في التي قبلها، وهذا المأخوذ هُوَ أَرشُ ما بين الموضحة والمنقّلة.
وَلَوْ قَطَعَهُ مِنَ الكُوع فَلَيْسَ لَهُ التِقَاطُ أَصَابِعِهِ؛ لأنه قدر على وضع الحديدة على محل الجناية، ومهما أمكن رعاية المماثلة لا يعدل عنها، فَإن فَعَلَهُ عُزِّرَ؛ لعدوله عن المستحق، وَلَا غُرمَ، له؛ لأنه لا يستحق إتلاف الجملة؛ فلا يلزمه بإتلاف البعض غُرم؛ كما أن مستحق قتل النفس لو قطع طرف الجاني لا غُرمَ عليه، وَالأصَحُّ: أن لَهُ قَطْعُ الْكف بعدَهُ، كما أن مستحق النفس لو قطع يد الجاني له أن يعود ويحز رقبته، والثاني: لا، وهو نظير ما جزم به الإمام فيما إذا قطع يده من مفصل فاستوفى من الجاني دونه؛ وأراد أن يقتص من المفصل، كما أنه إذا طلب حكومة لم يجب إليها.
وَلَوْ كَسَرَ عَضدَهُ؛ وَأبَانَهُ، قُطِعَ مِنَ الْمِرفَقِ؛ لأنه أقرب مفصل إلى محل الجناية، والعضد من مفصل المرفق إلى الكف، وَلَهُ حُكُومَةُ الْبَاقِي؛ لعدم إمكان القِصَاص منه. فَلَو طَلَبَ الْكُوعَ؛ مُكّنَ فِي الأصَحّ؛ لأنه عاجز عن القطع في محل الجناية، وهو بالعدول عن الكوع تارك لبعض حقه فلا يُمنَعُ منه، والثاني: لا يمكن؛ لأنه عدول عما هو أقرب إلى محل الجناية، والبغوي رجح الأول، وإيراد الروياني وغيره يُشْعِرُ بترجيح الثاني، وقال في الشرح الصغير: إنه الأولى؛ ولم يذكر ترجيحًا.
وَلَوْ أَوْضَحَهُ فَذَهبَ ضَوؤُهُ، أي عينيه، أَوضَحَهُ، طلبًا للمماثلة، فَإن ذَهبَ الضَّوءُ، وإلا أَذهبَهُ بِأَخَف مُمكِنٍ؛ كَتَقرِيبِ حَدِيدَةٍ مُحمَاةٍ مِن حَدَقَتِهِ، أي أو طرح كافور فيها ونحوهما، واستشكل بعضهم كيفية إمكان إذهاب الضوء بذلك على وجه تقع به المماثلة.
وَلَو لَطَمَهُ لَطْمَةً تُذْهِبُ ضَوْءَهُ غَالِبًا فذهبَ، لَطَمَهُ مِثْلَها، طلبًا للمماثلة، فَإِن