الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الأَيْمَانِ
الأَيْمَانُ: هُوَ جَمْعُ يَمِيْنٍ، سُمَّيَتْ بِذَلِكَ؛ لأَنَّهُمْ كَانُواْ عِنْدَ الْحَلْفِ يَتَقَابَضُونَ بِأَيْمَانِهِمْ؛ وَهِيَ فِي الشَّرْعِ مَا سَيَأْتِي. وَالأَصْلُ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ
…
} الآية (469)، وَالأَحَادِيْثُ الشَّهِيرَةُ، وَإِجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى انْعِقَادِ الْيَمِيْنِ، وَتَعَلُّقُ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِيْهَا.
لَا تَنْعَقِدُ، يعني اليمين، إِلَّا بِذَاتِ اللهِ تَعَالَى أَوْ صِفَةٍ لَهُ كقَوْلِهِ: وَاللهِ، وَرَبَّ الْعَالَمِيْنَ، وَالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَمَنْ نَفْسِي بِيَدِهِ، وَكُلُّ اسْمٍ مُخْتَصًّ بِهِ سبحانه وتعالى، أي كالإله ومالك يوم الدين؛ لأن الأيمان معقودة (•) بِمَنْ عَظُمت حُرمَتُهُ وَلَزِمَتْ طَاعَتُهُ، وإطلاق هذا مختصٌّ بالله تعالى، والمراد بالذات في كلام المصنف الحقيقة، والعالَم بفتح اللام كُلُّ المخلوقاتِ.
وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: لَمْ أُرِدْ بِهِ الْيَمِيْنَ، لأن هذه الألفاظ لا تحتمل غير اليمين، وَمَا انْصَرَفَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الإِطْلَاقِ كَالرَّحِيْمِ، وَالْخَالِقِ، وَالرَّازِقِ، وَالرَّبَّ تنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِيْنُ، أي سواءٌ أراد الله تعالى أو أطلق، لأن الإطلاق ينصرف إليه، إِلا أن يُرِيْدَ غَيْرهُ، لأنه قد يستعملُ في حقِّ غيره كرحيم القلب وربَّ الدار وخالقِ الكذبِ
(469) البقرة / 224: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
(•) في النسخة (1): نبه الناسخ إلى أنها في النسخة أخرى: منوطة.
ورازقُ الجيش، قال تعالى:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} (470) وقال: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (471).
وَمَا اسْتُعْمِلَ فِيْهِ وَفِي غَيْرِهِ سوَاءٌ: كالشَّيْءِ وَالْمَوْجُودِ وَالْعَالِمِ وَالْحَيَّ لَيْسَ بِيَمِيْنٍ إِلَّا بنِيَّةٍ، لأنها لَمَّا استعملت فيهما سواءً؛ أشبهت كنايات الطلاق، وهذا ما صححه في الروضة؛ أعني فيما إذا نوى، وصحح الرافعي في الشرح: أنه لا يكون يمينًا، ولو نوى؛ لأن ما يطلق على الباري وغيره ليس بتعظيم ولا حرمة، واليمين إنما تنعقد باسم معظم وهذا مردود، وَالصِّفَةُ: كَوَعَظَمَةِ اللهِ، وَعِزَّتِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَكَلَامِهِ، وَعِلْمِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيْئَتِهِ يَمِيْنٌ، لأن هذه لم يزل موصوفًا بها فأشبهت اليمين بأسمائه فتنعقد يمينه بها ولو أطلق، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَ، وَبِالْقُدْرَةِ الْمَقْدُورَ، لأنه محتمل.
وَلَوْ قَالَ: وَحَقِّ اللهِ؛ فَيَمِيْنٌ؛ إِلَّا أَنْ يُرِيْدَ الْعِبَادَاتِ، لأن حقَّ الله تعالى، وإن كان يطلق على العبادات التي أمر بها، ويطلق بمعنى استحقاقه الإلهية والتعالي والعظمة؛ لكنه غلب استعماله في اليمين فصرف إليه.
وَحُرُوفُ الْقَسَمِ: بَاءٌ، وَوَاوٌ، وَتَاءٌ: كَبِاللهِ وَوَاللهِ وَتَاللهِ، وَتخْتَصُّ التَّاءُ بِاللهِ تَعَالَى، لأنها لا تدخل إلّا عليه، وَلَوْ قَالَ: اللهَ؛ وَرَفَعَ أَوْ نَصَبَ أو جَرَّ فَلَيْسَ بِيَمِيْنٍ إِلَّا بِنِيَّةٍ، لأنه لا يعرفه إلاّ الخواص، وَلَوْ قَالَ: أَقْسَمتُ؛ أَوْ أُقْسِمُ؛ أَوْ حَلَفْتُ؛ أَوْ أَحْلِفُ بِاللهِ لأَفْعَلَنَّ؛ فَيَمِيْنٌ إِنْ نَوَاهَا أو أَطْلَقَ، لكثرته في الاستعمال، وَإِنْ قَالَ: قَصَدْتُ، أي بما ذَكَرتُ، خَبَرًا مَاضِيًا؛ أَوْ مُستَقبَلًا! صُدَّقَ بَاطِنًا، لاحتمال ما يدَّعيه، وَكَذَا ظَاهِرًا عَلَى الْمَذْهَبِ، لظهور الاحتمال أيضًا، كذا نصَّ عليه، ونصَّ في الإيلاء: أنه إذا قال: أقسمتُ بالله لا وَطِئْتُكِ، ثم قال: أردتُ يمينًا ماضيةً أنه لا يقبل، وللأصحاب ثلاث طرق؛ أظهرها: حكاية قولين فيهما؛ اظهرهما: القبول لما قلناه، والثاني: المنعُ؛ لظهوره في الإنشاء، والطريق الثاني: القطعُ بالمنعِ، وحملَ ما ذكره هنا على القبول باطنًا، والثالث: تقريرُ النَّصَّيْنِ، والفرقُ أن حقَّ الله تعالى مبنيٌّ
(470) العنكبوت / 17.
(471)
النساء / 8.
على المسامحة بخلاف حقَّ الآدمي، ومحلُّ الخلاف ما إذا لم يعلم له يمينٌ ماضية، فإن عُلِمَ؛ قُبِلَ ارِاَدَتُهُ خبرًا عن ماضٍ قطعًا.
وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أُقْسِمُ عَلَيكَ بِاللهِ؛ أَوْ أَسْأَلُكَ بِاللهِ لَتَفْعَلَنَّ؛ وَأرَادَ يَمِيْنَ نَفْسِهِ فَيَمِيْنٌ، لصلاحية اللفظ له، وَإِلَّا فَلَا، حَملًا على الشفاعة.
ولَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأنَا يَهُودِيٌّ؛ أَوْ بَرِيءٌ مِنَ الإِسْلَامِ؛ فَلَيْسَ بِيَمِيْنٍ، لانتفاء الاسم والصفة، نَعَمْ؛ يَسْتَغْفِرُ اللهَ؛ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ جَبْرًا لما وقعَ من الخللِ، وَمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِهَا بِلَا قَصْدٍ، أى كقوله في حالة غضبٍ أو لَجَاجٍ أو عَجَلةٍ أو صِلَةِ كلامٍ لا والله؛ وبلى والله، لَمْ تَنْعَقِدْ، أي بل هو لَغْوُ اليمينِ؛ كما قالت عائشة في قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (472) رواه أبو داود مرفوعًا وصححه ابن حبان (473)، ولو كان يحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره فهو في معنى لغو اليمين أيضًا، والمراد من تفسير اللَّغْوِ بِلَا والله وَبَلَى والله أن يقولَ أحدهما تارة والآخر أُخرى كما نَبَّهَ عليه ابن الصلاح، أما لو جمعهما في كلام واحد، فقد قال الماوردي: الأُولى لغو؛ لأنها غير مقصودة، والثانية منعقدة؛ لأنها استدارك مقصود منه.
فَرْعٌ: إذا وقع مثل ذلك في الطلاق أو العتاق وادَّعى أنه لم يقصد اليمين، لا يقبلُ في الحكم لتعلق حقَّ الغير به.
وَتَصِحُّ، يعني اليمين، عَلَى مَاضٍ، بالإِجماع، وَمُسْتَقْبَلٍ، أي إذا كان ممكنًا، قال
(472) البقرة / 225.
(473)
• رواه أبو داود في السنن: كتاب الأيمان والنذور: باب لغو اليمين: الحديث (3254) وفي الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: كتاب الأيمان: الحديث (4318) عن إبراهيم الصائغ قال: سَأَلْتُ عَطَاءً عنِ اللَّغْوِ فِي الْيَمِيْنِ؟ فَقَال: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: [هُوَ كَلامُ الرَّجُلِ كَلَّا وَاللهِ؛ وَبَلَى وَاللهِ].
• رواه البخاري في الصحيح موقوفًا: كتاب التفسير: الحديث (4613).
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: [وَاللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا](474)، أما غيره كالصُّعُودِ إلى السماء وقَلْبِ الْحَجَرِ ذَهَبًا، فالأصحُّ: انعقاد يمينه وتلزمه الكفارة في الحال، ولو حلف لا يصعد إلى السماء أو لا يقتل ميتًا؛ فالأصح: عدم انعقاد يمينه.
فَصْلٌ: وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ، لأنه جعل الله عرضة ليمينه وقد نهاه عنه، إِلَّا فِي طَاعَةٍ، كالجهاد للحديث السالف [وَاللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا]، ويستثنى أيضًا الأيمان الواقعة في الدَّعَاوَى إذا كانت صادقة فإنها لا تكره، وكذا إذا دعت إليها حاجة كتوكيد وتعظيم أمر، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ عَصَى، أى بيمينه، وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ وَكَفَّارَةَ، لأن الإقامة على هذه الحالة معصية، أَوْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ أَوْ فِعْلِ مَكْرُوهٍ، أي كإلتفات في الصلاة ونحوه، سُنَّ حِنْثُهُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، لقوله عليه الصلاة والسلام لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ:[وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِيْنٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا؛ فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِكَ] متفق عليه (475)، أَو تَرْكِ مُبَاحٍ أَوْ فِعْلِهِ؛ فَالأَفْضَلُ: تَرْكُ الحِنْثِ، لقوله تعالى:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (476)، وَقِيلَ: الْحِنْثُ، لينتفع المساكين بالكفَّارة، وَلَهُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةٍ بِغَيْرِ صَوْمٍ، أي كالكفارة بالمال، عَلَى حِنْثٍ جَائِزٍ، لأنها وجبت بشيئين يختصَّان بها فجاز تقديمها
(474) عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: [وَاللهِ لأَغْزُوَنَّ قرَيشًا، وَاللهِ لأغزُونَّ قُرَيشًا، وَاللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا] ثُمَّ سَكَتَ فَقَالَ: [إِنْ شَاءَ اللهُ]. رواه ابن حبان في الإحسان: كتاب الأيمان: ذكر نفي الحنث عمن استثنى: الحديث (4328). والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الأيمان: باب الحالف يسكت بين يمينه واستثنائه: الحديث (20494 - 20497). وأبو داود في السنن: كتاب الأيمان والنذور: باب الاستثناء في اليمين: الحديث (3285 و 3286).
(475)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الأيمان والنذور: باب (1): الحديث (6622)، وكتاب كفارات الأيمان: باب الكفارة قبل الحنث: الحديث (6722) واللفظ له. ومسلم في الصحيح: كتاب الأيمان: باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها: الحديث (19/ 1652).
(476)
النحل / 91.
على أحدهما كتعجيل الزكاة، نَعَمْ: الأَولى أن لا يكفِّرَ حتى يحنث خروجًا من خلاف أبي حنيفة، واحترز بقوله:(بِغَيْرِ صَوْمٍ) عما إذا كفَّر بالصوم؛ فإن الصحيح: أنه لا يجوز تقديمها على الحنث؛ لأنها عبادة بدنية فلم يجُز تقديمها على وقت وجوبها بغير حاجة كصوم رمضان، ولا خلاف في امتناع التقديم قبل انعقاد اليمين، قِيْلَ: وَحَرَامٍ، أى إن كان الْحِنْثُ بارتكاب حرام بأن حلف لا يزني؛ لأن الكفارة لا يتعلق بها تحريم ولا تحليل؛ فأن المحلوف عليه على حالة حرام قبل اليمين وبعدها، وقبل التكفير وبعده، ووجه المنع كَيْلَا يتوسَّلُ به إلى المعصية، ولأن التقديم رخصة فلا تستباح بها المعاصي، وهذا ما رجحه البغوي فتبعه الرافعي في المُحَرَّرِ، لكنه صحَّحَ الجواز في الشرح الصغر ونقلهُ عن كثيرين في الكبير، وصرَّحَ المصَنِّفُ في أصل الروضة: بأنه الأصح عند الأكثرين لا جرم قال هنا، قُلْتُ: هَذَا أصَحُّ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَكَفَّارَةِ ظِهَارٍ عَلَى الْعَوْدِ، أي وكذا يجوز تقديم كفارة الظهار على العود؛ لأنه تقديم بعد وجود أحد السببين، لأن الكفارة منسوبةٌ إلى الظِّهَارِ؛ كما أنها منسوبة إلى اليمين، ويتصور تقديم كفارة الظهار على العود في صور منها: إذا ظاهر من رجعية ثم كَفَّرَ ثم راجعها، وَقَتْلٍ علَى الْمَوْتِ، أى وكذا يجوز تقديم كفارة القتل على الموت بعد حصول الجرح، وكذا تقديم جزاء الصيد قبل الموت بعد الجرح، ثم هذا في التكفير بالإعتاق، فأما الصوم فلا يتقدم على الصحيح كما سبق، ولا يجوز تقديم كفارة القتل على الجرح بحال لا في الآدمي ولا في الصيد، وَمَنْذُورٍ مَالِيًّ، أي وكذا يجوز تعجيل المنذور إذا كان ماليًا، كإِنْ شَفَى اللهُ مريضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أن أُعْتِقَ أو أَتَصَدَّقَ بِكَذَا، فيجوزُ تقديم الإعتاق والتَّصَدُّقِ على الشفاء، ورجوع الغائب، وعن فتاوى القفال ما تنازع فيه وصححه المصنف في الروضة في باب تعجيل الزكاة، ونقله الرافعي عن تصحيح ابن عبْدان وأقره عليه، واحترز بـ (الماليّ) عن البدني فإنه لا يجوز تقديمه على الحنث قطعًا.
فَصْلٌ: يَتَخَيَّرُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِيْنِ بَيْنَ عِتْقٍ كَالظَّهَارِ، وَإطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِيْنَ
لِكُلَّ مِسْكِيْنٍ مُدُّ حَبًّ مِنْ غَالِبِ قُوْتِ بَلَدِهِ، وَكِسْوَتُهُمْ بِمَا يُسَمَّى كِسْوَةً كَقَمِيْصٍ أَوْ عِمَامَةٍ أَوْ إِزَارٍ، لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
…
} الآية (477)، قوله (كَالظَّهَارِ) أي من كونها مؤمنة بلا عيب كما أسلفنا هناك، والجامع بينهما التكفير، وخرج بقوله (عَشْرَةِ مَسَاكِيْنَ) ما إذا أطعم خمسة وكسى خمسة؛ فإنه لا يجوز، كما لا يجوز إعتاق نصف رقبة وإطعام خمسة، واعتبار الْمُدَّ أنه سَدَادُ الراغب وكفايةُ المقتصد ونهايةُ الزهيد، واعتبارُ الغالب كما في الظهار، واعتبار مسمَّى الكِسْوَةِ؛ لأن الشارع أطلقها ولا عُرْفَ لَهُ فِيْهَا.
فَرْعٌ: يجزئُ المنديلُ؛ قاله الأصحابُ.
لَا خُفًّ؛ وَقُفَّازَيْنِ؛ وَمِنْطَقَةٍ، لخروج ذلك عن الكِسوة الملبوسَةِ، وَلَا يُشتَرَطُ صَلَاحِيَتُهُ لِلْمَدْفُوع إِلَيْهِ فَيَجُوزُ سَرَاوِيْلُ صَغِيْرٍ لِكَبِيْرٍ لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَقُطْنٌ، أي وصوفٌ كما في المُحَرَّرِ، وَكَتَّانٌ؛ وَحَرِيْرٌ لاِمْرَأَةٍ وَرَجُلٍ، لوقوع اسم الكسوة على ذلك، وليس لَمْ تَذْهَبْ قُوَّتُهُ، كالطعام العتيق؛ فإن ذهبت أو تَخَرَّقَ فلا يجوزُ كإلاطعام الْمُسَوسِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الثَّلَاثَةِ، أي وهي العتق وإلاطعام والكسوة، لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلاثةِ أَيَّامٍ، للآية (478)، وَلا يَجِبُ تَتَابُعُهَا فِي الأَظْهَرِ، لإطلاق الآية، والثاني: يجب؛ لِقِرَاءَةِ ابنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيَّ بْنِ كَعْبٍ {ثَلَاَثةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ} (479) والقراءَةُ
(478)
قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} المائدة / 89.
(479)
• عَنِ الرَّبِيْعِ بْنِ أَنَسٍ، قَال: كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَقْرَأُ (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ). رواه الطبري في جامع البيان: سورة المائدة: تفسير الآية 89: الرقم (9750).
• عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ - بْنِ مَسْعُودٍ - (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ). رواه الطبري في جامع البيان: النص (9751). =
الشَّاذَّةُ كخَبَرِ الواحد في وجُوبِ العملِ بها، وأجاب الأول: بأن الشَّاذَّ إنما يكون كخبر الواحد إذا ثبت كونهُ قرآنًا ولا ثبوت لأنه يجوز أن يكون تفسيرًا؛ وعموم القراءة المشهورة أولى (480)، وَإِنْ غَابَ مَالُهُ انْتَظَرَهُ، وَلَم يَصُمْ، أي وإن حلت له الزكاة، لقدرته على التكفير بالمال من غير ضرر (•) وأخذ الزكاة لحاجة تختص بمكانه والكفارة تعتبر بإمكانه.
فَرْعٌ: لو لم يجد الرقبة ومالُهُ حاضرٌ! أنتظرَ أيضًا.
وَلَا يُكَفّرُ عَبْدٌ بِمَالٍ، لعدم ملكه له؛ ولو بالتمليك على الأظهر، إِلَّا إِذَا مَلْكَهُ سَيِّدُهُ طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً، ليكفَّرَ بهما أو ملكه مطلقًا ثم أذن له في ذلك، وَقُلْنَا: يَملِكُ، أما إذا أطلق التمليكَ؛ فإنه لا يملك إخراج كفارته بغير إذن سيده، وخرج بقوله (طَعَامًا أوْ كِسْوَةً) ما إذا ملكه عبدًا ليعتقه عنها وهو الأصح؛ لأنه يستعقب الولاء ولا يمكن إثباته للعبد، بَلْ يُكَفَّرُ بِصَوْمٍ، لما ذكرناه من أنه لا يملك ولو مُلَّكَ على الأظهر.
فَرْعٌ: إذا قلنا له أنْ يكفَّرَ بالمال فمقتضى كلام صاحبِ التَّنْبِيْهِ: أنه ليس له العَّدُولُ عنه إلى الصيام، والذي أبداهُ الإمام والرافعيُّ الجوازُ.
وَإِنْ ضَرَّهُ، يعني الصوم كَالْحَرِّ الشديد والنهار الطويل أو كان يضرُّهُ ويُضعِفُهُ عن العمل، وَكَانَ حَلَفَ وَحَنِثَ بِإِذْنِ سَيَّدِهِ صَامَ بِلَا إذْنٍ، لوجود الرضى من السيد فيهما، أَوْ وُجِدَا، يعني الحلف والحنث، بِلَا إذْنٍ لَمْ يَصُمْ إِلَّا بِإذْنٍ، لأنه لم
• قال الطبري: (فأما ما روي عن أبي وابن مسعود من قراءتهما (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابعَاتٍ) فذلك خلاف ما في مصاحفنا، وغير جائز لنا أن نشهد بشيء ليس من الكلام أنه من كتاب الله) جامع البيان: ج 5 ص 42.
(480)
قلت: القراءة في مثل هذا المقام فَهْمٌ للصحابي، وهو من قبيل الرأي في تفسير القرآن، ويعد تفسير الصحابي فيما كان سبب نزول في حكم الخبر المرفوع، وما كان ليس كذلك فهو رأي واجتهاد في فهم النص وليس خبرًا؛ ولا يقاس على خبر الواحد.
(•) في النسخة (1): ضرورة.
يأذن في السبب وعليه فيه ضرر؛ فكان له منعه وإخراجه منه كالحج، وَإِنْ أَذِنَ فِي أحَدِهِمَا، فالأَصَحُّ: اعْتِبَارُ الْحَلِفِ، أي فيُنظر إن كان بإذنه أو دونه، وكلام المصنف يشمل ما إذا أذن في اليمين دون الحنث وعكسه، أما الأُولى: وهي ما إذا حلف بالإذن وحنث بغيره، وفيه وجهان كما ذكره في الكتاب؛ أحدهما: أن له أن يصوم بغير إذنه؛ لأن إذنه في الحلف إذن فيما يترتب عليه، والثاني: المنعُ؛ لأن اليمين مانعة من الْحِنْثِ؛ فليس إذنهُ فيها إذنًا في التزام الكفَّارة، وهذا ما صححه الرافعي في شرحيه ونقله عن الأكثرين، وتبعه في الروضة، لكن في المحرر صحح الأول فتبعه المصنف هنا، وأما الثانية: وهي ما إذا حلف بغير إذنه وحَنِثَ بإذنه؛ وفيه وجهان أيضًا؛ أحدهما: أنه لا يصوم إلا بإذنه؛ لأن الحلف هو السبب الأول؛ ولم يأذن السيد فيه وإنما العبد وَرَّطَ نفسه فيه، وهذا ما صححهُ في الكتاب تبعًا لِلْمُحَرَّرِ، والثاني: له أن يصوم بغير إذن السيد؛ لأن الحنث يستعقب الكفارة، فالإذنُ فيه يكفي إذنًا في التكفير، وصحح في الروضة تبعًا للرافعي، ولعل ما في الكتاب تبعًا لِلمُحَرَّر سَبْقُ قَلَمٍ من الْحِنْثِ إِلَى الْحَلْفِ، وهذه المسألة هي نظير رجوع الضامن في الأقسام الأربعة كما سلف في بابه، واحترز المصنف أوَّلًا بقوله (فَإِنْ ضَرَّهُ) عما إذا لم يضرُّهُ الصوم كالشتاء ونحوه؛ فإنه ليس له المنع والحالة هذه على الأصح؛ لأنه لا يتضررُ به، ومَنْ بَعضُهُ حُرٌّ وَلَهُ مَالٌ يُكَفَّرُ بِطَعَامٍ أَوْ كِسوَةٍ، أي ولا يصوم لقدرته على ما يُقدم على الصوم، لَا عِتْقٍ، لنقصه؛ لأنه ليس أهلًا للولاء.
فَصْلٌ: حَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا أَوْ لَا يُقِيمُ فِيْهَا! فَليَخْرُجْ فِي الْحَالِ، فَإِنْ مَكَثَ بِلَا عُذْرٍ حَنَثَ، وَإِنْ بَعَثَ مَتَاعَهُ، لأن اسم السُّكْنَى يقعُ على الابتداء وعلى الاستدامة، ألَا تَرَى أنك تقولُ: سكنتُ الدار شهرًا، وسواء أخرج أهله وأثاثه وبقي وحده كما ذكره المصنف أمْ لا؟ لأنه حلف على سكنى نفسه لا أهله ومتاعه، أما إذا مَكَثَ لعذرٍ؛ بأن أُغلق الباب أو منع من الخروج ونحوهما؛ فإنه لا يَحْنَثُ، ثم أن المصنف أطلقَ الخروج ولم يُقَيَّدْهُ، وَقَيَّدَهُ ابنُ الصباغ وصاحبُ التَّنْبِيهِ وابنُ الصلاح وغيرهم بما إذا خرج بِنِيَّةِ التَّحَوُّلِ؛ وذلك يُشعر بأنه إذا خرج لا بِنِيَّتِهِ وتركَ قماشَهُ يَحْنَثُ
وفيه نظرٌ، لأن من كان في دار وخرج منها إلى السوق مثلًا يُعَدُّ ساكنًا؛ نظرًا إلى أن عادة الساكنِ أن يخرج ويدخل، وَإنِ اشْتَغَلَ بِأسْبَابِ الْخُرُوجِ: كَجَمْعِ مَتَاعٍ؛ وَإِخْرَاجِ أَهْلٍ؛ وَلُبْسِ ثَوْبٍ لَمْ يَحْنَثْ، لأنه لا يعدُّ ساكنًا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فخَرَجَ أَحَدَهُمَا فِي الْحَالِ لَم يَحْنِثْ، لعدم المساكنة؛ فإنْ مكثا بلا عذر فيه حنث، وَكَذَا لَوْ بُنِيَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ وَلِكُلَّ جَانِبٍ مَدْخَلٌ فِي الأَصَحِّ، لاشتغاله برفع المساكنة، والثاني: يحنث لحصولها إلى تمام البناء مِنْ غير ضرورة، وهذا ما صححه الجمهور كما نقله الرافعي وتبعه عليه في الروضة، وما في الكتاب هو ما صَحَّحَهُ البغويُّ وعجيبٌ مِن الْمُحَرَّرِ وَالمُصَنِّفِ كَيْفَ تابعاهُ وخالَفَا الجمهورَ، وهذا كله إذا قَيَّدَ المساكنةَ ببعض المواضعِ لفظًا وإليه الإشارة بقوله (هَذِهِ الدَّارِ)، فأما إذا لم يُقَيَّدْهَا لفظًا؛ فَيُنْظَرُ: إن نوى موضعًا معينًا من بيتٍ أو دارٍ أو محلةٍ أو بلدةٍ؛ فالأصح: أن اليمين محمولةٌ على ما نوى وإلاّ فَيَحْنَثُ بالمساكنة في أيِّ موضعٍ كان.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا، يعني الدار، وَهُوَ فِيْهَا أَوْ لَا يَخْرُجُ وَهوَ خَارِجٌ فَلَا حِنْثَ بِهَذَا، لأنه ليس داخلًا ولا خارجًا، فلو نوى بالدخول الاجتناب فأقام حنث في الأصح، أَوْ لَا يَتَزَوَّجُ؛ أَو لَا يَتَطَهَّرُ؛ أو لَا يَلْبَسُ؛ أَو لَا يَرْكَبُ؛ أَوْ لَا يَقُومُ؛ أَوْ لَا يَقْعُدُ فَاسْتَدَامَ هَذِهِ الأَحْوَالَ حَنَثَ، قُلْتُ: تَحْنِيثُهُ بِاسْتِدَامَةِ التَّزَوُّجِ، وَالتَّطَهُّرِ غَلَطٌ لِذُهُولٍ، هو كما قال، فإنه صرَّحَ في الشَّرْحِ: أنه لا حنث فيهما، وَفَرَّقَ بأن الاستدامة فيهما ليست كالابتداء، ولهذا لا يقال: تزوجتُ شهرًا أو تطهَّرْتُ شهرًا، بلْ مُنْذُ شهرٍ بخلاف غيرهما؛ يقول: لَبِسْتُ الثوبَ شهرًا وركبتُ الدابة شهرًا وكذا الباقي.
وَاسْتِدَامَةُ طِيْبٍ لَيْسَ تَطَيَّبًا فِي الأَصَحَّ، لأنه لم يحدث فعلًا؛ ولهذا لو تطيَّبَ ثم أَحْرَمَ واستدامَ لا تلزمهُ الفديةُ، والثاني: نعم؛ لأنه منسوبٌ إلى التَّطَيُّبِ، وَكَذَا وَطْءٌ؛ وَصَوْمٌ؛ وَصَلَاةٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ، أي على الأصح في كلها ويتصور ذلك في الصلاة إذا حلف ناسيًا لها فإن اليمين ينعقد.
فَصْلٌ: ومَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا حَنِثَ بِدُخُولِ دِهْلِيْزٍ دَاخِلَ الْبَابِ، أَوْ بَيْنَ بَابَيْنِ، لأنه من الدار؛ ومن جاوز الباب عُدَّ داخلًا، لَا بِدُخُولِ طَاقٍ قُدَّامَ الْبَابِ، لأنه لا يقال دخل الدار، قال الرافعي: وَالطَّاقُ هو المعقودُ خارج الباب، ولَا بِصُعُودِ سَطْحٍ غَيْرِ مُحَوَّطٍ، ولا سُترة عليه، وَكذا مُحَوَّطٍ فِي الأَصَحَّ، كما لو حصل على بعض جدران الدار؛ لأن السطح حاجز يَقِي الدار من الْحَرَّ وَالْبَرْدِ كالجدارِ، والثاني: يحنث؛ لإحاطة حيطان الدار به.
وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ؛ أَوْ رَأْسَهُ؛ أَوْ رِجْلَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لأنه لا يُسَمَّى داخلاً، فَإِنْ وضَعَ رِجْلَيْهِ فِيْهَا مُعتَمِدًا عَلَيْهِمَا حَنَثَ، لأنه يسمى داخلًا، وَلَوِ انْهَدَمَتْ، أي الدار المحلوف عليها، فَدَخَلَ وَقَدْ بَقِيَ أَساسُ الْحِيْطَان حَنَثَ، لأنها منها، وَإِنْ صَارَتْ فَضَاءً؛ أَوْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا؛ أَوْ حَمَّامًا؛ أَوْ بُسْتَانًا فَلَا، لزوال مُسَمَّى الدار.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ حَنَثَ بِدُخُولِ مَا يَسْكُنُهَا بمِلْكٍ لَا بِإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ وَغَصْبٍ، لأن الإضافة تقتضي الْمِلْكَ، إِلَّا أَنْ يُرِيْدَ مَسْكَنَهُ، أي فَنَعمَلُ بِقَوْلِهِ؛ لأن الشَّرْعَ وردَ به مَجَازًا فَأَثَّرَتْ فِيْهِ النَّيَّةُ؛ قال تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (481) أي من بيوت الأزواج، وانما قلنا إنهُ مَجَازٌ؛ لأنه يَصْدُقُ أنها ليست داره بل مسكنه، واستثنى ابن يونس الطلاق والعِتَاقَ؛ وقال: إنه يُدَّيَنُ باطنًا، وَاعْتُرِضَ عليه بأن نِيَّةَ السَّكَنِ توجبُ التغليظ عليه وذلك موجب لوقوع الطلاق والعتق فلا حاجة إلى الإستثناء، وَيَحْنَثُ بِمَا يَمْلُكهُ وَلَا يَسْكُنُهُ إِلَّا أَنْ يُرِيْدَ مَسْكَنَهُ، عملًا بقصده.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ؛ أَوْ لَا يُكَلَّمُ عَبدَهُ؛ أَو زَوْجَتَهُ فَبَاعَهُمَا؛ أَوْ طَلَّقَهَا فَدَخَلَ وَكَلَّمَ لَمْ يَحْنِثْ، لأنه لم يدخل داره ولم يكلم عبده ولا زوجته لزوال الْمِلْكِ بالبيع والطلاق، ولو عَبَّرَ بقوله (فأزال ملكهما) بدل (بَاعَهُمَا) لكان أعمَّ ليدخل الهبة وغيرها، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: دَارهُ هَذِهِ أو زَوْجَتُهُ هَذِهِ أَوْ عَبْدَهُ هَذَا فَيَحْنَثُ،
(481) الطلاق / 1.
تغليبًا للتعيين فإنَّه أقوى، إِلَّا أَنْ يُرِيْدَ مَما دَامَ مِلْكُهُ، عملًا بإرادته.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا مِنْ ذَا الْبَابِ فَنُزِعَ وَنُصِبَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ بِالثَّانِي، وَيحْنَثُ بِالأَوَّلِ في الأَصَحِّ، حملًا لليمين على المنفذ الأول لأنه المحتاج إليه في الدخول دون الباب المنصوب عليه، والثاني: أنَّه يحمل عليهما جميعًا حتَّى لا يحنث إذا فُقِدَ واحدٌ منهما؛ لأن الإشارة وقعت عليهما، والثالث: أن يمينه تحمل على الباب المتخذ من الخشب ونحوه؛ لأن اللفظ له حقيقة، فيحنثُ بدخول المنفذ الْمُحَوَّلِ إليه ولا يحنثُ بالأول، وهذا كلُّهُ إذا أطلق، فإن قال: أردتُ بعض هذه الْمَحَامِلِ حُمِلَ عليه وارتفعَ الخلافُ، أَوْ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا حَنَثَ بِكُلِّ بَيْتٍ مِنْ طِيْنٍ؛ أوْ حَجَرٍ؛ أَوْ آجُرٍّ؛ أَوْ خَشَبٍ؛ أَوْ خَيْمَةٍ، أي سواء كان حَضَرِيًّا أو بَدَوِيًّا، قَرِيْبًّا من البَلَدِ أو بَعِيْدًا، لأن اسم البيت يقعُ عليه حقيقةً في اللغة؛ لأنه كُلُّ مَا جُعِلَ لِلسَّكَنِ، وَتُسَمَّيْهِ خيمةً أو مَضْرِبًا إنما هو اسمُ نوعٍ، وهذا إذا أَطلق؛ فإنْ نَوَى نوعًا منها حُمِلَ عليه، وَلَا يَحْنَثُ بِمَسْجِدٍ؛ وَحَمَّامٍ؛ وَكَنِيسَةٍ؛ وَغَارِ جَبَلٍ، لأنها لا تُسمَّى بيتًا عُرْفًا، أوْ لَا يَدْخُلُ عَلَى زَيْدٍ! فَدَخَلَ بَيْتًا فِيْهِ زَيْدٌ وَغَيرُهُ حَنَثَ، لوجود صورة الدخول على الجميع، وَفِي قَوْلٍ: إِنْ نَوَى الدُّخُولَ عَلَى غَيْرِهِ دُونَهُ لَا يَحْنَثُ، كما في مسألة السَّلَامِ الآتية، لكن الفرقَ واضحٌ؛ وهو أن الاستثناء لا يصح في الأفعال، ألا ترَى أنَّه لا يصُحُّ أنْ يقالَ: دخلتُ عليكم إلاّ زيدًا، ويصحُّ أنْ يقال: سَلَّمْتُ عليكم إلاّ زيدًا، فَلَوْ جَهِلَ حُضُورَهُ فَخِلَافُ حِنْثِ النَّاسِي، أي والجاهل، والأصحُّ فيهما عدم الحنث، وتوقف جماعة في الإفتاء لها مسألة الناسي، قُلْتُ: وَلَوْ حَلَفَ لا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيْهِمْ وَاسْتَثْنَاهُ لَمْ يَحْنَثْ، لأنه سَلَّمَ بلفظٍ عامٍّ يحتملُ إرادة الكُلِّ والبعضِ، فإذا نوى أحدُ مُحْتَمَلَيْهِ كان بِحَسْبِهِ، وَإِن أَطْلَقَ حَنَثَ في الأظْهَرِ، وَاللهُ أَعْلَمُ، نظرًا إلى عموم اللفظ، والثاني: لا، لأن اللفظ يصلح للجميع وللبعض فلا يحنث بالشك.
فَصْلٌ: حَلَفَ لا يَأكُلُ الرُّؤُوسَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ حَنَثَ برُؤُوسٍ تُبَاعُ وَحْدَهَم، أي وهي رؤوس الإبل؛ والبقر؛ والغنم عملًا بالعُرف المخصِّصِ اسم الرؤوس بها، لَا
طَيْرٍ؛ وَحُوْتٍ؛ وَصَيْدٍ، لأنها لا تباع مفردة، ولا يفهم من اللفظ عند الإطلاق، إِلَّا بِبَلَدٍ تُبَاعُ فِيْهِ مُفْرِدَةً، أَي فإنَّه يحنث بأكلها هناك، لأنها كرؤوس الأنعام في حق غيرهم، وهل يحنث بأكلها في غير ذلك البلد؟ وجهان؛ أحدهما: نعم لوجود مُسَمَّى الرأس، قال الرافعي: وهذا أقوى؛ وأقربُ إلى ظاهر النصِّ وتبعه في الروضة، والثاني: لا؛ عملًا بِعُرْفِ البلدِ، وصححهُ المصنِّفُ في التصحيح وهو ظاهرُ كلامه هنا، وَالْبَيْضُ يُحْمَلُ عَلَى مُزَايِلِ بَائِضِهِ، أي مفارقه، فِي الْحَيَاةِ كَدَجَاجٍ؛ وَنَعَامَةٍ؛ وَحَمَامٍ، لأنه المفهوم عند الإطلاق، نَعَمْ؛ المتصلَّبُ بعد الموت يحنث به في الأصح من زوائد الروضة، لا سَمَكٍ وَجَرَادٍ، لأنه يخرج بعد الموت بِشَقِّ الْبَطْنِ كذا عَلَّلَهُ الرافعيُّ، وَاللَّحْمُ عَلَى نَعَمٍ وَخَيْلٍ وَوَحْشٍ وَطَيْرٍ، لتناول اليمين جميع ذلك. أما الحرام كالميتة ونحوها؛ فالأقوى في الروضة عدمُ الحنث به، لا سَمَكٍ، لأنه لا يُفْهَمُ من إطلاق اسم اللحم عُرفًا؛ وإن سماهُ اللهُ لحمًا، وَشَحْمِ بَطْنٍ، أي وكذا شحم عَيْنٍ؛ لأنهما يخالفان اللحم اسمًا وصفة، وَكَذَا كَرِشٍ؛ وَكَبدٍ؛ وَطِحَالٍ؛ وَقَلْبٍ فِي الأصَحِّ، وكذا الأمعاءُ والرِّئَةُ؛ لأنها ليست لحمًا، والثاني: الْحِنْثُ؛ لأنها في حكم اللحم وقد تُقَامُ مقامه، وفي الصحيح:[أَلَا وَإِنَّ في الْجَسَدِ مُضْغَةً وَهِيَ الْقَلْبُ](482)، وَالأَصَحُّ: تَنَاوُلُهُ، يعني اللحم، لَحْمَ رَأْسٍ ولِسَانٍ، لِصِدْقِ الاسم عليهما، والثاني: لا، والأصحُّ: القطع بالأول، والخلافُ جارٍ في لحم الْخَدِّ وَالأَكَارِع، وَشَحْمِ ظَهْرٍ وَجَنْبٍ، أي وهو الأبيضُ الذي لا يخالطهُ الأحمر، لأنه لحمٌ سمينٌ ولهذا يَحْمَرُّ عند
(482) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: [الْحَلَالُ بَيِّنٌ؛ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى المُشبَّهَاتِ! اسْتَبْرَأَ لِدِيْنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوْشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إِنَّ حِمَى اللهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ. ألَا وَإنَّ في الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَّا وَهِيَ الْقَلْبُ]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب الإيمان: بالي فضل من استبرأ لدينه: الحديث (52). ومسلم في الصحيح: كتاب المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات: الحديث (107/ 1599).
الْهِزَالِ، والثاني: لا؛ لأنه شحمٌ؛ قال تعالى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} (483) وإذا كان شحمًا كان كَشَحْمِ البَطْنِ وَالْعَيْنِ.
فَرْعٌ: الصوابُ في الروضة الجزمُ بأن الجراد ليس من جنس اللحوم لعدم إطلاق الأسم عليه لغة وعرفًا.
وَأَنَّ شَحْمَ الظَّهْرِ لا يَتَنَاوَلُهُ الشَّحْمُ، لما ذكرناه من كونه لحمًا، والثاني: يتناوله لما ذكرناه من كونه شحمًا، وَأَنَّ الأَلِيَّةَ وَالسِّنَامَ لَيْسَا شَحْمًا وَلَا لَحْمًا، لأنهما يخالفان اللحم في الأسم والصفة، والثاني: هما لحمًا لقربهما من اللحم السمين، وَالألِيَّةُ لا تَتَنَاوَلُ سِنَامًا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا، لاختلاف الاسم والصفة، وَالدَّسَمُ يَتَنَاوَلُهُمَا وَشَحْمُ ظَهْرٍ وَبَطْنٍ وَكُلَّ دُهْنٍ، لصدق الاسم على جميع ذلك، وَلَحْمُ الْبَقَرِ يَتَنَاوَلُ جَامُوسًا، لدخوله تحت اسم البقر، وكذا البقر الوحشي على الأصح، وهو كالخلاف فيما لو حلف على ركوب حمارٍ فركب حمار وحشٍ.
فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ مُشِيْرًا إِلَى الْحِنْطَةِ: لَا آكُلُ هَذِهِ حَنَثَ بِأَكْلِهَا عَلَى هَيْئَتِهَا وَبِطَحْنِهَا وَخَبْزِهَا، عملًا بالإشارة، وَلَوْ قَالَ: لا آكُلُ هَذِهِ الْحِنْطَةَ حَنَثَ بِهَا مَطْبُوخَةً وَنِيئَةً وَمَقلِيَّةً، لوجود الأسم، لا بِطَحِيْنِهَا وَسَوِيْقِهَا وَعَجِيْنِهَا وَخُبْزِهَا، لزوال اسم الحنطة فصار كما لو زرعها فأكل حشيشها لزوال اسم الحنطة، وَلَا يَتَنَاوَلُ رَطْبٌ تَمْرًا وَلَا بُسْرًا وَلا عِنَبٌ زَبِيْبًا، لعدم الدخول تحت الاسم، وَكذَا العُكُوسُ، لما قلناه.
وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَتَتَمَّرَ فأَكَلَهُ، أَوْ لا أُكَلِّمُ ذَا الصَّبِيَّ فَكَلَّمَهُ شَيْخًا فَلَا حِنْثَ فِي الأَصَحِّ، لزوال الاسم كما في الحنطة، والثاني: نعم؛ لأن الصورة ما تبدلت ههنا وإنما تغيرت الصفة فصار كما لو قال لا آكل هذا اللحم فجعله شواءٌ وأكله، وَالْخُبْزُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ خُبْزٍ كَحِنْطَةٍ وَشَعِيْرٍ وَأَرُزٍّ وَبَاقِلَا وَذُرَةٍ وَحِمَّصٍ،
(483) الأنعام / 146.
لصدق الاسم على كل ذلك ولا يضر كونه غير معهود ببلده، فَلَوْ ثَرَدَهُ فَأَكَلَهُ حَنَثَ، لصدق الأسم، نَعَمْ: لو صار في المرقة كالحسو فَتَحَسَّاهُ لم يحنث.
وَلَوْ حَلَفَ لا يَأْكُلُ سَوِيْقًا فَسَفَّهَ أَوْ تَنَاوَلَهُ بِأُصْبُعٍ حَنَثَ، لأنه يُعَدُّ أكلًا، وَإِنْ جَعَلَهُ فِي مَاءٍ فَشَرِبَهُ فَلَا؛ لأن الحلف على الأكل ولم يوجد، أوْ لَا يَشْرَبُهُ فَبالْعَكْسِ، أي يحنث في الثَّانية لوجود المحلوف عليه دون الأول لأنه لم يشربه، أوْ لَا يَأْكُلُ لَبَنًا أَوْ مَائِعًا آخَرَ فَأَكَلَهُ بِخُبْزٍ حَنَثَ، لأنه كذلك يؤكل، أَوْ شَرِبَهُ فَلَا، لعدم الأكل، أَوْ لا يَشْربهُ فَبِالْعَكْسِ، أي يحنث في الثَّانية لوجود المحلوف عليه دون الأُولى لعدمه، أَوْ لا يَأْكُلُ سَمْنًا فَأَكَلَهُ بِخُبْزٍ جَامِدًا أوْ ذَائِبًا حَنَثَ، لأنه فعل المحلوف عليه، وزاد فأشبه ما لو حلف لا يدخل على زيد فدخل على زيد وعمرو، وَإنْ شَرِبَ ذَائِبًا فَلَا، لأنه لم يأكله، وَإِنْ أَكَلَهُ فِي عَصِيْدَةٍ حَنِثَ إِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ ظَاهِرَةً، أي متميزة في الحس، كما قاله الإمام لما ذكرناه من قبل من كونه فعل المحلوف عليه وزاد.
وَيَدْخُلُ فِي فَاكِهَةٍ رُطَبٌ وَعِنَبٌ وَرُمَّانٌ وَأُنْرُجٌّ وَرَطْبٌ وَيَابِسٌ، لوقوع اسم الفاكهة عليها، قُلْتُ: وَلَيْمُونٌ وَنَبْقٌ وَكَذَا بِطِّيْخٌ وَلُبُّ فُسْتُقٍ وَبُنْدُقٍ وَغَيْرِهِمَا فِي الأَصَحِّ، أما في البطيخ؛ فلأن لها نضجًا وادراكًا كالفواكه، وأما اللُّبُّ؛ فلأنه يعد من يابس الفاكهة، لَا قِثَّاءٌ وَخِيَارٌ وَبَاذِنْجَانٌ وَجَزَرٌ، لأنها من الخضروات لا من الفواكه، وَلَا يَدْخُلُ فِي الثِّمَارِ يَابِسٌ، وَالله أَعْلَمُ، نقله في الروضة عن الجمهور وفيه إشكال.
وَلَوْ أطلَقَ بِطِّيخٌ وَتَمْرٌ وَجَوْزٌ لَمْ يَدْخُلْ هِنْدِيٌّ، للمخالفة في الطعم واللون، والبطيخ الهنديُّ هو الأخضرُ وفيه نظرٌ، والمختار: الحنث؛ لإطلاقه عليه في بلدنا، وَالطَّعَامُ يَتَنَاوَلُ قُوْتًا وَفَاكِهَةً وَأُدْمًا وَحَلْوَى، كذا حدُّ الطعام هنا وَحَدَّهُ في باب الربا بحدٍّ آخر تقدم هناك فراجعه، وَلَوْ قَالَ: لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الْبَقَرَةِ تَنَاوَلَ لَحْمَهَا دُونَ وَلَدٍ وَلَبَنٍ، حملًا على الحقيقة المتعارفة، أَوْ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَثَمَرٌ دُونَ وَرَقٍ وَطَرَفِ غُصْنٍ، حَمْلًا على الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ وَالْحَقِيْقَةُ هُنَا تَعَذَّرَتْ.
فَصْلٌ: حَلَفَ لا يَأكُلُ هَذِهِ التَّمْرَةِ فَاخْتَلَطَتْ بِتَمْرٍ فَأَكَلَهُ إِلَّا تَمْرَةً لَمْ يَحْنَثْ، لجواز أن تكون هي المحلوف عليها، والأصل براءة الذمة، وكذا الحكم لو ضاع من الجميع تمرة ولا يخفَى الورعُ، أَوْ لَيَأْكُلَنَّهَا فَاختَلَطَتْ لَمْ يَبْرَأْ إِلَّا بِالْجَمِيْعِ، لاحتمال أن تكون المتروكة هي المحلوف عليها، أوْ لَيأْكُلَنَّ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ فَإِنَّمَا يَبَرُّ بِجَمِيْعِ حَبِّهَا، لأن يمينه تعلقت بالجميع، ولو قال: لا آكلها فترك حَبَّةً لم يحنث، أَوْ لا يَلْبَسُ هَذَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَحَدِهِمَا، لأن الحلف عليهما معًا ولم يوجد، فَإِنْ لَبِسَهُمَا مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا حَنِثَ، لأن يَمينه تعلقت بلبسهما وقد وجد، أَوْ لَا أَلْبَسُ هَذَا وَلَا هَذَا حَنِثَ بِأَحَدِهِمَا، لأنهما يَمِيْنَانِ، أَوْ لَيَأْكُلَنَّ ذَا الطَّعامِ غَدًا فَمَاتَ قَبْلَهُ، أي قبل مجيء الغد، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لأنه لم يبلغ زمن البرِّ والحنث، وَإِنْ مَاتَ أوْ تَلِفَ الطَّعَامُ فِي الْغَدِ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِن أَكْلِهِ حَنِثَ، لأنه تمكن من البر فصار كما لو قال: لآكُلَنَّ هذا الطعام، ويتمكن من أكله فلم يأكله حتَّى تلف؛ فإنَّه يحنث قطعًا، وَقَبْلَهُ، أي قبل التمكن، قَوْلَانِ كَمُكْرَهٍ، للفوت بغير اختياره؛ والأصح: عدم الحنث، وَإِنْ أَتْلَفَهُ بِأَكْلٍ وَغَيْرِهِ قَبْلَ الْغَدِ حَنِثَ، لأن الْبِرَّ يُقَيَّدُ بزمان فكان شرطًا كالمقيد بمكان وقد فَوَّتَهُ باختياره؛ لكن يحنث في الغد لا عند أكل شيء منه على الأصح عند الإمام، وصحَّحَ البَغَوِيُّ: أنَّه يحنث إذا مضى من الغد وقت إمكان الأكل، وَإِنْ تَلِفَ أَوْ أَتلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ فَكمُكْرَهٍ، لأنه فات بعد اختياره، أَوْ لأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، وكذا معه، فَلْيَقْضِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ الشَّهْرِ، لأن هذا اللفظ يقع على أول جزء من الليلة الأُولى من الشهر؛ لأن لفظة (عِنْدَ) تقتضي المقاربة، فَإِنْ قَدِمَ، أي القضاء، أَوْ مَضَى بَعْدَ الْغُرُوبِ قَدْرُ إِمْكَانِهِ حَنِثَ، لأنه فَوَّتَ الْبِرَّ على نفسه، وَإِنْ شَرَعَ فِي الْكَيْلِ، أي الوزن ونحوه، حِينَئِذٍ وَلَمْ يَفرُغْ لِكَثْرَتهِ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ، أي وكذا إذا ابتدأ حينئذ بأسباب القضاء ومقدماته.
فَصْلٌ: حَلَفَ، أَوْ لا يَتَكَلَّمَ فَسَبَّحَ أَوْ قَرَأَ قُرْآنًا فَلَا حِنْثَ، لأن الكلام في العرف ينصرف إلى كلام الآدميين، أَوْ لا يُكَلَّمُهُ فَسَلَّمَ عَلَيهِ حَنِثَ، لأنه نوع من الكلام، وَإِنْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ أوْ أشَارَ إِلَيهِ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا فَلَا فِي الْجَدِيْدِ، لعدم
تناول الأسم لذلك حقيقة إذ يصح نفي الكلام عنه فيقال ما كلمة بل كاتبه أو أشار إليه لقوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (484){فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} (485) وسواءٌ أشار الناطق أوِ الأخرس، وإنما جعلنا إشارته كنطقه في المعاملات للضرورة، والقديم: نعم؛ لقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} (486) ولقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} (487) فاستثنَى الرمزَ والإشارةَ من التَّكَلُّمِ فدَلَّ على أنهُمَا منهُ، وَلَوْ قَرَأَ آيَةً أَفْهَمَهُ بِهَا مَقْصُودَهُ وَقَصَدَ قِرَاءَةً لَم يَحْنَثْ، لأنه لم يكلمه، وَإِلَّا، أي وإن لم يقصد القراءة بل الإفهام، حَنِثَ، لأنه كلّمه، ولهذا تبطل الصلاة بمثل هذا، وإن أطلق! فهل يُخَرَّجُ على نظيره في الصلاة أو انقطع بعدم الحنث؟ فيه نظر.
فَصْلٌ: أَوْ لَا مَالَ لَهُ حَنِثَ بِكُلِّ نَوْعٍ وَإِنْ قَلَّ حَتَّى ثَوْبِ بَدَنِهِ، لصدق الاسم عليه، وَمُدَبِّرٍ، لأنه ملكه، وَمُعَلَّقٍ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَمَا وَصَّى بِهِ؛ لأنه يعدّ في ملكه، وَدَيْنِ حَالٍّ، أي على مَلَئٍ مُقر لأنه متى شاء أخذه فهو كوديعة له عند إنسان، وَكَذَا مُؤَجَّلٍ في الأصَحِّ، لأنه ثابتٌ في الذَّمَّةِ يصحُّ الإبراء منه، والثاني: المنع؛ لأن المالية موصوفة بموجود ولا موجود هنا، وسواء كان الذي عليه الدَّيْنُ موسرًا أو معسرًا على الصحيح لثبوت المال في الذمة، لَا مُكَاتَبٍ في الأصَحِّ، لأنه كالخارج عن ملكه، والثاني: نَعَمْ؛ لأنه عبدٌ ما بقي عليه درهم، أوْ لَيَضْرِبَنَّهُ، فَالْبِرُّ، أي بكسر الباء، بِمَا يُسَمَّى ضَرْبًا، أي ولا يبر بوضع اليد عليه ورفعها، وَلَا يُشْتَرَطُ إِيْلَامٌ؛ لأنه يقال ضَرَبَهُ وَلَمْ يُؤْلِمْهُ، وفيه وجه: أنَّه يُشترط، وقد سلف في الطلاق تصحيحهُ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: ضَرْبًا شَدِيْدًا، أي فإنَّه يشترط الايلام للتنصيص عليه، وَلَيْسَ وَضعُ سَوْطٍ عَلَيْهِ، وَعَضٌّ، وَخَنْقٌ، وَنَتْفُ شَعْرٍ، أي وَقَرْصٌ، ضَرْبًا، لأنه لا يتناول ذلك بدليل صحة نفيه عنه، قِيْلَ: وَلَا لَطْمٌ وَوَكْزٌ، أي وهو الدفع؛ لأنه لا
(484) مريم / 26.
(485)
مريم / 29.
(486)
آل عمران / 41.
(487)
الشورى / 51.
يُسَمَّى ضربًا عادة، والأصح: أنهما ضربٌ كما جزم به الرافعي، والمصنِّفُ في الطلاق، أَوْ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ أَوْ خَشَبَةٍ فَشَدَّ مِائَةً وَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً، أَوْ بِعِثْكَالٍ، أي عُرْجُونٍ، عَلَيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ بَرَّ إِنْ عَلِمَ إِصَابَةَ الْكُلِّ، أَوْ تَرَاكَمَ بَعْضٌ عَلَى بَعْضٍ فَوَصَلَهُ أَلَمُ الْكُلِّ، لأن الضرب بالمائة قد حصل، نَعَمْ؛ ما ذكره في الخشبة بعيدٌ يَأْبَاهُ لفظها، فالصواب: أنْ تُخَصَّصَ بعرف يطلقون اسم الخشبة على عيدان الشَّمَارِيْخِ، وصحح في الروضة تبعًا للشرح: أنَّه لا يَبِرُّ بعثكالٍ عليه مائة شمراخ فيما إذا حلف ليضربنه مائة سوط؛ لأنها أخشابٌ لا سياط، نَعَمْ؛ ظاهر كلام البندنيجي والمحاملي وابن الصباغ والبغوي ما في الكتاب كما أفاده ابنُ الرفعة، قُلْتُ: وَلَا شَكَّ فِي إِصَابَةِ الْجَمِيْعِ بَرَّ عَلَى النَّصِّ، وَاللهُ أَعْلَمُ، عملًا بالظاهر وهو الإصابة، وفيه قولٌ مُخَرَّجٌ: أنَّه لا يَبِرُّ وهو موافقٌ لما سلف في حَدِّ الزِّنَا فَرَاجِعْهُ، أوْ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ مَرَّةٍ لَم يَبَرَّ بِهَذَا، لأنه لم يضربه إلاّ مرة واحدة، وكذلك لو حلف ليضربنه مائة ضربة على الأصح.
فَصْلٌ: أَوْ لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ، يعني حقّي، فَهَرَبَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ اتَّبَاعُهُ لَمْ يَحْنَثْ، لأنه حَلَفَ على فعل نفسه ولم يوجد، قُلْتُ: الصَّحِيْحُ لا يَحْنَثُ إذَا أَمْكَنَهُ اتِّبَاعُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ، لما ذكرناه من أنَّه حلف على فعل نفسه فلا يحنث بفعل الغريم، ومن الأصحاب من أطلق تخريجه على قولي الإكراه لحصول المفارقة من غير اختياره، ولو فارقه باذنه فالأصح لا حنث، والمراد بالمفارقة هنا ما يقطع خيار المجلس، وَإِنْ فَارَقَهُ أوْ وَقَفَ حَتَّى ذَهَبَ وَكَانَا مَاشِيَيْنِ أَوْ أَبْرَأَهُ أَوِ احْتَالَ عَلَى غَرِيْمٍ ثُمَّ فَارَقَهُ أَوْ أَفْلَسَ فَفَارَقَهُ لِيُوسِرَ حَنَثَ، أما في الأُولى والثانية: فلوجود المفارقة، وأما في الثالثة: فلأنه فوت البر باختياره، وأما الرابعة: فلأن الحوالة، وإن قلنا: هي استيفاء فليست استيفاء حقيقة، وإنما هي كالاستيفاء في الحكم، وأما في الأخيرة فلوجود المفارقة، وإن كان تركه واجبًا كما لو قال لا أصلي الفرض! فصَلَّى؛ فإنَّه يحنث؛ وإن كانت الصلاةُ واجبةً عليه شرعًا، وَإن اسْتَوْفَى وَفَارَقَهُ فَوَجَدَهُ نَاقِصًا، إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ حَقَّهِ لَكِنَّهُ أَرْدَأُ لَمْ يَحْنَثْ، لأنَّ الرَّدَاءَةَ لا تمنعُ الاستيفاءَ، وَإِلَّا، أي وإن
كان غير جنس حقه بأن كان حقه دراهم فخرج المأخوذ نحاسًا أو مغشوشًا، حَنِثَ عَالِمٌ، أي بالحال، وَفِي غَيْرِهِ، أي وهو الجاهل، الْقَوْلَانِ، أي في الناسي، أَوْ لَا رَأَى مُنْكَرًا إِلَّا رَفَعَهُ إِلَى الْقَاضِي فَرَأَى وَتَمَكَّنَ فَلَمْ يَرْفَعْ حَتَّى مَاتَ حَنِثَ، لأنه فوت البر باختياره، فإن لم يتمكن! فقولًا حَنِثَ الْمُكْرَهُ، ويُحْمَلُ عَلَى قَاضِي الْبَلَدِ، فَإِنْ عُزِلَ فَالْبِرُّ بالرَّفْعِ إِلَى الثَّانِي، لأن التعريف بالألف واللام يرجع إليه، أَوْ إِلَّا رَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ بَرَّ بِكُلِّ قَاضٍ، أي في ذلك البلد وغيره لصدق الاسم، أَوْ إِلى الْقَاضِي فُلانٍ فَرآهُ ثُمَّ عُزِلَ، فَإنْ نَوَى مَا دَامَ قَاضِيًا حَنِثَ إِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُهُ، إِلَيْهِ، فَتَرَكَهُ، لتفويته البر باختياره، وَإِلَّا، أي وإن لم يتمكن من الرفع لمرض أو حبس أو جاء إلى باب القاضي فحجب، فَكَمُكْرَهٍ، أي الأصح فيه لا حنث، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بَرَّ بِرَفْعٍ إِلَيهِ بَعْدَ عَزْلِهِ، لتعلقه بالعين، وذكر القضاء تعريفًا له، ولو أطلق فالأصح البر أَيضًا بالرفع بعد عزله.
فَرْعٌ: لو كان في البلد قاضيان يستقلُّ كلٌّ منهما بجملةِ البلد كفَى الرفعُ إلى أحدهما، فإن انفرد كل بجانب؛ فهل يقال: إنه يتعين الجانب الذي فيه صاحب المنكر أم يخرج على الخلاف في أن المعتبر الرفع إلى القاضي حالة الحلف أو حالة رؤية المنكر؟ فيه نظرٌ.
فَصْلٌ: حَلَفَ لا يَبِيْعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي فَعَقَدَ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، أي بوكالة أو ولاية، حَنِثَ، لأنه يصدق عليه أنَّه باع واشترى، وَلَا يَحْنِثُ بعَقْدِ وَكِيْلِهِ لَهُ لأنه لم يفعل، أوْ لَا يُزَوِّجُ أَوْ لا يُطَلَّقُ أَوْ لا يَعْتِقُ أَوْ لا يَضْرِبُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ لا يَحْنَثُ، لما ذكرناه من كونه لم يفعله، وسواء كان ممن جرت عادته بالتوكيل فيه أم لا، إِلَّا أَنْ يُرِيْدَ أَنْ لا يَفْعَلَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، أي فإنَّه يحنث بالتوكيل فيما ذكر عملًا بإرادته، أَوْ لا يَنْكِحُ حَنِثَ بِعَقْدِ وَكِيْلِهِ لَهُ، لأن الوكيل هنا سَفِيْرٌ مَحْضٌ؛ ولهذا تجب تسمية الموكل، لا بِقَبُولِهِ هُوَ لِغَيْرِهِ، لأنه لم ينكح، أوْ لا يَبِيْعُ مَالَ زَيْدٍ فَبَاعَهُ بِإِذْنِهِ حَنِثَ، أي وكذا بإذن الحاكم لحجر أو امتناع لصدق اسم البيع، وَإِلَّا فَلَا، أي وإن باع من
غير إذن؛ فلا حنث لفساد البيع، أَوْ لا يَهَبُ لَهُ فَأَوْجَبَ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَحْنَثْ، لعدم التمام، وَكَذَا إِنْ قَبِلَ وَلَمْ يَقْبِضْ فِي الأَصَحِّ، لأن مقصود الهبة نقل الملك ولم يوجد، والثاني: يحنث؛ لأن الهبة قد حصلت؛ والمتخلف الْمِلْكُ، وَيحْنَثُ بِعُمْرَى وَرُقْبَى، وَصَدَقَةٍ، أي تطوعٍ؛ لأنها أنواع خاصة من الهبة، أما الواجبة فلا يحنث بها في الأصح، لا إِعَارَةٍ، إذ لا تمليك فيها، وَوَصِيَّةٍ، لأنها تمليك بعد الموت؛ والميت لا يحنث، وَوَقْفٍ، بناءً على أنَّه لا يملكه، أوْ لَا يَتَصَدَّقُ لَمْ يَحْنَثْ بِهِبَةٍ فِي الأَصَحِّ، لأنها ليست بصدقة، نعم؛ كُلُّ صَّدَقَةٍ هِبَةٌ وَلَا عَكْسَ، والثاني: يحنث؛ كما في عكسه، أوْ لا يَأْكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ لَمْ يَحْنَثْ بِمَا اشْتَرَاهُ مَعَ غَيْرِهِ، أي مشاعًا؛ لأن كُلَّ جزءٍ قيل فيه هذا اشتراهُ زيد صَدَقَ فيه؛ بل اشتراه عمرو، وَكَذَا لَوْ قَالَ: مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ في الأَصَحِّ، هذا قول الجمهور، والثاني: لا، لصدق الاسم، وَيَحْنَثُ بِمَا اشْتَرَاهُ سَلَمًا، لأنه نوع من الشراء، وَلَوِ اخْتلَطَ مَا اشْتَرَاهُ بِمُشْتَرَى غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أكْلَهُ مِنْ مَالِهِ، أي بأن أكل قدرًا صالحًا كَالْكَفِّ وَالْكَفَّيْنِ بخلاف عشر حَبَّاتٍ وعشرين، أوْ لَا يَدْخُلُ دَارًا اشتَرَاهَا زَيْدٌ لَمْ يَحْنَثْ بِدَارٍ أخَذَهَا بِشُفْعَةٍ، لعدم صدق الاسم.