المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الدعوى والبينات - عجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج - جـ ٤

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب النفقات

- ‌كتاب الجراح

- ‌بَابُ كَيفِيةِ القِصَاصِ وَمُسْتَوْفِيهِ وَالاختِلافِ فِيهِ

- ‌كِتَابُ الدِّيَّاتِ

- ‌بَابُ مُوجِبَاتِ الدِّيةِ وَالْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةِ

- ‌كتاب دعوى الدم والقسامة

- ‌كِتَابُ البُغَاةِ

- ‌كِتَابُ الرِّدَّةِ

- ‌كِتَابُ الزِّنَا

- ‌كِتَابُ حَدَّ الْقَذْفِ

- ‌كِتَابُ قَطْعِ الْسَّرِقَةِ

- ‌كِتَابُ قَاطِعِ الْطَّرِيقِ

- ‌كِتَابُ الأشْرِبَةِ

- ‌كِتَابُ الصِّيَالِ وضَمَانِ الوُلَاةِ

- ‌كِتَابُ السِّيَّرِ

- ‌كِتَابُ الْجِزْيَةِ

- ‌كِتَابُ الْهُدْنَةِ

- ‌كِتَابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِحِ

- ‌كِتَابُ الأضْحِيَّةِ

- ‌كِتَابُ الأَطْعِمَةِ

- ‌كِتَابُ الْمُسَابَقَةِ والْمُنَاضَلَةِ

- ‌كِتَابُ الأَيْمَانِ

- ‌كِتَابُ النَّذْرِ

- ‌كِتَابُ الْقَضَاءِ

- ‌بَابُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ

- ‌بَابُ الْقِسْمَةِ

- ‌كِتَابُ الشَّهَادَاتِ

- ‌كِتَابُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ

- ‌كِتَابُ الْعِتْقِ

- ‌كِتَابُ التَّدْبِيرِ

- ‌كِتَابُ الْكِتَابَةِ

- ‌كِتَابُ أمَّهَاتِ الأوْلَادِ

الفصل: ‌كتاب الدعوى والبينات

‌كِتَابُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ

الدَّعْوَى: فِي اللُّغَةِ الاِسْمُ مِنَ الاِدَّعَاءِ وَجَمْعُهَا دَعَاوَى، وَالْبَيِّنَاتُ: جَمْع بَيَّنَةٍ وَهِيَ الْمُوَضِحَةُ، وَالأَصْلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ [الْبَيَّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِيْنُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ] رواه البيهقي من حديث ابن عباس بإسناد جيد وهو في الصحيحين بنحوه (542).

تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى عِنْدَ قَاضٍ فِي عُقُوبَةٍ كَقِصَاصٍ وَقَذْفٍ، لعظم خطره والاحتياط في إثباته واستيفائه، وَإنِ اسْتَحَقَّ عَيْنًا فَلَهُ أَخْذُها إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً وَإِلَّا وَجَبَ الرَّفْعُ إِلَى قَاضٍ، تحرزًا منها، أَوْ دَيْنًا عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَدَاءَ طَالَبَهُ بِهِ، أي ليؤدي ما عليه، وَلَا يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ لَهُ، لأن الخيار في تعيين المال المدفوع إلى من عليه، أَوْ عَلَى مُنْكِرٍ وَلَا بَيِّنَةَ أَخَذَ جِنْسَ حَقَّهِ مِنْ مَالِهِ، أي إن ظفر به لعجزه عن حقه إلَّا بذلك ولا يأخذ غيره مع القدرة على الأصح، وَكَذَا غَيْرَ جِنْسِهِ إِنْ فَقَدَهُ

(542) • رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الدعوى والبينات: باب البينة على المدعي: الحديث (21805) ورواه من حديث أبي موسى ضمن كتاب عمر إلى أبي موسى: الأثر (21811).

• رواه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} : الحديث (4552)، بلفظ:[الْيَميْنُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]. ومسلم في الصحيح: كتاب الأقضية: باب اليمين على المدعى عليه: الحديث (1/ 1711).

ص: 1849

عَلَى الْمَذْهَبِ، للضرورة، وقيل: قولان؛ وجه المنع: أنه لا يتمكن من تملكه وليس له أن يبيع مال غيره لنفسه، وخرج بـ (الفقد) الوجدان فإنه لا يأخذ غيره كما تقدم، أَوْ عَلَى مُقِرٍّ مْمْتَنِعٍ أَوْ مُنْكِرٍ، وَلَهُ بَيَّنَةٌ فَكَذلِكَ، أي له الاستقلال بالأخذ لأن في المرافعة مؤنة ومشقة وتضييع زمان، وَقِيْلَ: يَجِبُ الرَّفْعُ إِلَى قَاضٍ، كما لو أمكنه تحصيل الحق بالمطالبة والتقاضي.

وَإِذَا جَازَ الأَخْذُ فَلَهُ كَسْرُ بَابٍ وَنَقْبِ جِدَارٍ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَالُ إِلَّا بِهِ، أي ولا يضمن ما فوقه على الأصح كمن لا يقدر على دفع الصائل إلا بإتلاف ماله فأتلفه لا يضمن، ثُمَّ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِهِ يَتَمَلَّكُهُ، بدلًا عما استحقه، وَمِنْ غَيْرِهِ يَبِيْعُهُ، أي بنفسه كما يتسلط على الأخذ ولا يتملكه على الصحيح، وَقِيْلَ: يَجِبُ رَفْعُهُ إِلَى قَاضٍ يَبِيْعَهُ، لأنه كيف يلي التصرف في مال غيره لنفسه، وهذا التصحيح من تصرف المصنف وهو مقتضى ما في الرافعي، ثم هذا إذا كان القاضي جاهلاً بالحال ولا بيّنة للأخذ، فإن كان عالمًا فالظاهر والمذهب: أنه لا يبيعه إلا بإذنه، وَالْمَأْخُوذُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، أي على الآخذ، فِي الأَصَحَّ، فَيَضْمَنُهُ إِنْ تَلِفَ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ، لأنه يأخذه لغرضه كالمستام بل أولى لأن المالك لم يسلطه، والثاني: لا؛ لأنه مأخوذ للتوثق والتوصل به إلى الحق فأشبه الرهن، وإذن الشرع في الأخذ يقوم مقام إذن المالك، وَلَا يَأْخُذُ، أي المستحق، فوْقَ حَقَّهِ إِنْ أَمْكَنَهُ الاِقْتِصَارُ، لحصول المقصود به، فإن لم يمكن فلا يضمن الزيادة على الأصح للعذر، وَلَهُ أَخْذُ مَالِ غَرِيْمٍ غَرِيْمِهِ، أي بأن يكون لزيد على عمرو دين ولعمرو على بكر مثله، يجوز لزيد أن يأخذ من مال بكر ماله على عمرو ولا يمنع من ذلك ردّ عمرو وإقرار بكر له، ولا جحود بَكرٍ إستحقاق زيد على عمرو.

فَرْعٌ: جحد دَيْنَهُ وله عليه صك بدين آخر قبضه ولم يعلم به الشهود، ففي فتاوى القفال: أنه لا يجوز أن يدّعي به ويقيم البيّنة عليه ويقبضه بدينه الآخر، وعن القاضي أبي سعيد: أن له ذلك، قال في الروضة: هو الصحيح.

ص: 1850

فَصْلٌ: وَالأَظْهَرُ: أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ يُخَالِفُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ، أي هو براءة الذمة، وَالمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُوَافِقُهُ، والثاني: أن المدّعي من لو سكت خُلّيَ ولم يطالب بشيء، والمدّعى عليه من لا يخلي ولا يكفيه السكوت، فَإِذَا أسْلَمَ زَوْجَانِ قَبْلَ وَطْءٍ؛ فَقَالَ: أسْلَمْنَا مَعًا فالنِّكَاحُ بَاقٍ، وَقَالَتْ: مُرَتَّبًا، أي فلا نكاح، فَهُوَ مُدَّعٍ، لأن ما يزعمه خلاف الظاهر وهي مدَّعًى عليها فَتَحْلِفُ ويرتفع النكاح، وإن قلنا بالقول الثاني: فالمرأة مُدَّعِيَةٌ وهو مُدَّعًى عليه؛ لأنه لا يُترك لو سكت؛ لأنها تزعم انفساخ النكاح فَيَحْلِفُ ويستمر النكاح.

فَرْعٌ: قد يكون الشخص مُدَّعيًا ومدَّعى عليه في المنازعة الواحدة كما في صورة التحالف.

وَمَتَى ادَّعَى نَقْدًا اشْتُرِطَ بَيَانُ جِنْسٍ؛ وَنَوْعٍ؛ وَقَدْرٍ؛ وَصِحَّةٍ؛ وَتَكَسُّرٍ إِنِ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا قيْمَةٌ، ليحصل التعريف، نَعَمْ؛ مُطْلَقُ الدينار ينصرف إلى الشَّرْعِيِّ فلا حاجة إلى بيان وزنه كما نَبَّهَ عليه الشيخ أبو حامد، أَوْ عَيْنًا تَنْضَبِطُ كحَيَوَانٍ وَصَفَهَا بِصِفَةِ السَّلَمِ، لحصول المقصود به، وَقِيْلَ: يَجِبُ مَعَهَا ذِكْرُ الْقِيْمَةِ، احتياطًا، والأصح المنع ويكفي الوصف بما سبق، فَإِنْ تَلِفَتْ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ، أي بكسر الواو، وَجَبَ ذِكْرُ الْقِيْمَةِ، لأنها الواجبة عند التلف، فإن كانت مِثْلِيَّةً فلا حاجة إلى ذكرها ويكفي الضبط بالصفات.

أَوْ نِكَاحًا لَمْ يَكْفِ الإِطْلَاقُ عَلَى الأَصَحِّ، بَلْ يَقُولُ: نَكَحْتُهَا بِوَلِيًّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَرِضَاهَا إِنْ كَانَ يُشْتَرَطُ، أي لكونها غير مجبرة؛ لأن النكاح فيه حق الله تعالى والآدمي، وإذا وقع لا يمكن استدراكه فلا يسمع دعواه إلا ببيّنة كالقتل، والثاني: يكفي الإطلاق كما اكتفى في دعوى استحقاق المال به، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَالأَصَحُّ: وُجُوبُ ذِكْرِ الْعَجْزِ عَنْ طَوْلٍ وَخَوْفِ عَنَتٍ، لأن الفروج يحتاط لها كالدم، والثاني: المنع، كما لا يشترط ذكر انتفاء الموانع.

أَوْ عَقْدًا مَالِيًّا كَبَيْعٍ؛ وَهبَةٍ كفَى الإِطْلَاقُ فِي الأَصَحَّ، لأن المقصود المال وهو

ص: 1851

أخف شأنًا؛ ولهذا لا يشترط الإشهاد بخلاف النكاح، والثاني: لا، بل لا بد من التفصيل والشروط كالنكاح.

فَصْلٌ: وَمَنْ قَامَت عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَيْسَ لَهُ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي، لأنه كالطعن في الشهود، فَإِنِ ادَّعَى أَدَاءًا؛ أَوْ إِبرَاءً؛ أَوْ شِرَاءَ عَيْنٍ؛ أَوْ هِبَتَهَا وَإِقْبَاضَهَا حَلَّفَهُ عَلَى نَفْيَّهِ، لاحتمال ما يدّعيه، وهذا إذا ادّعى حدوث شيء من ذلك بعد قيام البيّنة ومضى زمن إمكانه وإلا فلا يلتفت إلى قوله، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى عِلْمَهُ بِفِسْقِ شَاهِدِهِ أَوْ كَذِبِهِ فِي الأَصَحِّ، لأنه لو أقرّ به لبطلت شهادتهم، والثاني: لا، ويكتفي بظاهر العدالة وتعديل المزكّين، وَإِذَا اسْتُمْهِلَ لِيَأْتِي بِدَافِعٍ أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لأنها مدة قريبة لا يعظم الضرر فيها ومقيم البيّنة يحتاج إلى مثلها.

فَصْلٌ: وَلَوِ ادَّعَى رِقَّ بَالِغٍ فَقَالَ: أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، لأنها الأصل، أَوْ رِقَّ صَغِيْرٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، عملًا بالأصل أيضًا وهو عدم الملك، أَوْ فِي يَدِهِ حُكِمَ لَهُ إِنْ لَمْ يَعْرِفِ اسْتِنَادَهَا إِلَى الْتِقَاطٍ، كما لو ادّعى الملك في دابة أو ثوب في يده، فإن استندت إلى التقاط؛ فلا في الأظهر، فَلَوْ أنكَرَ الصَّغِيرُ وَهُوَ مُمَيِّزٌ فَإِنْكَارُهُ لَغْوٌ، كما لو كان غير مميّز فيحكم له برقّه، وَقِيْلَ: كَبَالِغٍ، فيحتاج مدَّعي الرِّق إلى بيِّنة، وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الأَصَحَّ، إذ لا يتعلق بها إلزام ومطالبة بالحال، والثاني: تسمع لِيُثَبَّتَ حالًا ويطالِبَ مآلًا، والثالث: تسمعُ للتسجيل فقط.

فَرْعٌ: تسمع إذا كان تبعًا للحال كما إذا أقرّ مثلًا أن عليه ألفًا نصفها حالٌّ ونصفها مؤجل؛ فيدّعي بالكل؛ قاله الماوردي، وذكر أيضًا: أن المؤجل لو وجب بعقد كالمُسَلَّمِ فيه وادَّعى صاحبه قاصدًا بدعواه تصحيح العقد فإن الدعوى تصح؛ لأن المقصود منه مستحقٌّ في الحال، كذا نقله عنه ابن أبي الدم في أدب القضاء، قال: وهو وإن كان حسنًا إلا أن فيه بحثًا نذكره.

فَصْلٌ: أصَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى جُعِلَ كَمُنْكِرٍ

ص: 1852

نَاكِلٍ، أي فَتُرَدُّ اليمين على المدّعي، فَإنِ ادَّعَى عَشَرَةً فَقَالَ: لا تَلْزَمُنِي الْعَشَرَةُ لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَقُولَ: وَلَا بَعْضُهَا، وَكَذَا يَحْلِفُ، أي إن حُلَّفَ لأن مدعي العشرة مُدَّعٍ لكل جزءٍ منها؛ فاشترط مطابقة الإنكار واليمين لدعواه، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعَشَرَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَنَاكِلٌ، أي عما دون العشرة، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ دُونَ الْعَشَرَةِ بِجُزْءٍ وَيَأْخُذُهُ، وَإِذَا ادَّعَى مَالًا مُضَافًا إِلَى سَبَبٍ: كَأَقْرَضْتُكَ كَذَا كَفَاهُ في الْجَوَابِ: لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا، أَوْ شُفْعَةً كَفَاهُ: لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا، أَوْ لَا تَسْتَحِقُّ تَسْلِيْمَ الشِّقْصِ، لأن المدعي قد يكون صادقًا في الإقراض؛ وغيره يعرض ما يسقط الحق من أداء وغيره، فلو نفى الإقراض وما في معناه كان كاذبًا، ولو اعترف به وادّعى المسقط طولب بالبيّنة وقد يعجز عنها فدعت الحاجة إلى قبول الجواب المطلق، وَيَحْلِفُ عَلَى حَسَبِ جَوَابِهِ هَذَا، أي ولا يكلف التعرض لنفي الجهة المدّعاة، فَإِنْ أَجَابَ بِنَفْيِ السَّبَبِ الْمَذْكُورِ، أي بأن قال: ما أَقْرَضْتَنِي أَوْ مَا غَصَبْتَ، حَلَفَ عَلَيْهِ، ليطابق اليمين الإنكار، وَقِيْلَ: لَهُ الْحَلِفُ بِالنَّفْيِ الْمُطْلَقِ، كما لو أجاب في الابتداء كذلك، وَلَوْ كَان بِيَدِهِ مَرْهُونٌ أَوْ مُكْرًى وَادَّعَاهُ مَالِكُهُ كَفَاهُ: لا يَلْزَمُنِي تَسْلِيْمُهُ، أي ولا يجب التعرض للملك، فَلَوِ اعْتَرَفَ بِالْمِلْكِ وَادَّعَى الرَّهْنَ وَالإِجَارَةَ، فَالصَّحِيْحُ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيَّنَةٍ، لأن الأصل عدمُها، والثاني: أن القول قوله؛ لأن اليد تصدقه في ذلك، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَخَافَ أوَّلًا إِنْ اعْتَرَفَ بِالْمِلْكِ جَحَدَهُ الرَّهْنَ وَالإِجَارَةَ فَحِيلَتُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِ ادَّعَيْتَ مِلْكًا مُطْلَقًا فَلَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيْمٌ وَإِنِ ادَّعَيْتَ مَرْهُونًا فَاذْكُرْهُ لأُجِيْبَ، قاله القفال، وقال القاضي: إن الجواب لا يسمع مع التردد بل حيلته أن يجحد ملكه إن جحد صاحب الدَّين الرَّهْنَ. وَإذَا ادَّعَى عَلَيْهِ عَيْنًا فَقَالَ: لَيْسَ هِيَ لِي، أوْ هِيَ لِرَجُلٍ لَا أَعْرِفُهُ، أَوْ هِيَ لاِبْنِي الطِّفْلِ، أو وَقْفٌ عَلَى الفُقَرَاءِ، أَوْ مَسْجِدِ كَذا، فَالأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا تَنْصَرِفُ الْخُصُومَةُ وَلَا تُنْزَعُ مِنْهُ، لأن الظاهر أن ما في يده ملكه، وما صدر عنه ليس بمزيل ولا يظهر لغيره استحقاقه، بَل يُحَلِّفُهُ المُدَّعِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيْمُ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، والوجه الثاني: أنها تنصرف عنه لأنه تبرأ من المدّعي،

ص: 1853

وينزع الحاكم المال من يده، فإن أقام المدّعي بيّنة على الاستحقاق أخذه وإلا حفظه إلى أن يظهر مالكه، والثالث: يسلَّم المال للمدّعي إذ لا مزاحم، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِمُعَيَّنٍ حَاضِرٍ يُمْكِنُ مُخَاصَمَتُهُ وَتَحْلِيْفُهُ سُئِلَ فَإنْ صَدَّقَهُ صَارَتِ الْخُصُومَةُ مَعَهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ تُرِكَ، المال، فِي يَدِ الْمُقِرِّ، وَقِيْلَ: يُسَلَّمُ إِلَى يَدِ الْمُدَّعِي، وَقِيْلَ: يَحْفَظُهُ الْحَاكِمُ لِظُهُورِ مَالِكٍ (•)، وهذه الأوجه سلفت في باب الإقرار أيضًا، وَإِنْ أقَرَّ بِهِ لِغَائِبٍ، فَالأَصَحُّ: انْصِرَافُ الْخُصُومَةِ عَنْهُ وَيُوقَفُ الأَمْرُ حَتَّى يَقْدُمَ الغَائِبُ، لأن المال بظاهر الإقرار لغيره، والثاني: لا، وهو ظاهر نصه في المختصر لأن المال في يده، والظاهر: أنه له فلا يمكن من صرف الخصومة عنه بالإضافة إلى غائب قد يرجع وقد لا يرجع، ويخالف ما إذا أضاف إلى صبي أو مجنون فإن هناك يمكن مخاصمة وليّه، فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ قَضَى بِهَا، وَهُوَ قَضاءٌ عَلَى غَائِبٍ، فَيَحْلِفُ مَعَهَا، وَقِيْلَ: عَلَى حَاضِرٍ، أي فلا يحلف معها، وإن لم تكن بيّنة فله تحليف المدّعى عليه بأنه لا يلزمه تسليمه إليه فإن نكل حلف المدعي وأخذ المال من يده، ثم إذا عاد الغائب وصدق المقر رد المال عليه بلا حجة؛ لأن اليد له باقرار صاحب اليد، ثم يستأنف المدعي الخصومة معه، وهذا كله إذا لم يقم المدعى عليه بينة أن المال للغائب، فإن أقامها؛ نُظِرَ: إن ادعى أنه وكيل من جهة الغائب وأثبت الوكالة فبيّنته على أن المال للغائب مسموعة مرجحة على بيّنة المدعي، فإن لم بثبت الوكالة فأوجه؛ أصحها: لا تسمع بَيِّنَتُهُ لأنه ليس بمالك ولا نائب، وَمَا قُبِلَ إِقرَارُ عَبْدٍ بِهِ كَعُقُوبَةٍ فَالدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الجَوَابُ، وَمَا لَا كَأَرْشٍ، أي وضمان، فَعَلَى السَّيِّدِ، لأن الرقبة التي هي متعلقها حق السيد.

فَصْلٌ: تُغَلَّظُ يَمِيْنُ مُدَّعٍ وَمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيْمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ مَالٌ، أي كدعوى دم ونكاح ونحوهما حتى في وِلَادَةٍ وَرِضَاعٍ وَعُيُوبِ نِسَاءٍ، وليس قبول شهادة النساء فيها منفردات لقلة خطرها، بل لأن الرجال لا يطلعون عليها غالبًا،

(•) في النسختين: لمالكه.

ص: 1854

وَفِي مَالٍ يَبْلُغُ نِصَابَ زَكَاةٍ، أي لا في القليل وهو ما دونه إلاّ أن يرى القاضي التغليظ بجرأة في الحالف فله، وَسَبَقَ بَيَانُ التَّغْلِيْظِ فِي اللَّعَانِ، قاله في الروضة والصواب أنه لا يغلظ بالجمع هنا، وَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ، أي القطع، فِي فِعْلِهِ، أي نفيًا كان أو إثباتًا لأنه يعلم حال نفسه، وَكَذَا فِعْلِ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ إِثْبَاتًا، لسهولة الوقوف عليه، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا فَعَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لأن النفي المطلق يعسر الوقوف على سببه، فلو حلف على الْبَتِّ اعتد به كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره، ويحمل على العلم.

وَلَوِ ادَّعَى دَيْنًا لِمُوَرِّثِهِ فَقَالَ: أَبْرَأَنِي حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْبَرَاءَةِ، لأنَّه حلف على فعل الغير، وَلَوْ قَالَ: جَنَى عَبْدُكَ عَلَيَّ بِمَا يُوْجِبُ كَذَا، فَالأَصَحُّ: حَلِفُهُ عَلَى الْبَتِّ، لأن عبده ماله وفعله كفعل نفسه وكذلك سُمِعَتِ الدَّعْوَى عليه، والثاني: على نفي العلم؛ لأنه حِلْفٌ يتعلق بفعل الغير، قُلْتُ: وَلو قَالَ: جَنَتْ بَهِيْمَتُكَ؛ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ قَطْعًا، وَاللهُ أَعْلَمُ، لأنه لا ذمة لها، والمالك لا يضمن بفعلها وإنما يضمن بتقصيره في حفظها وهذا أمر متعلق بنفس الحالف.

فَرْعٌ: عُلِّقَ الطلاق على شيء من أفعال المرأة بالدخول مثلًا، فادَّعتهُ وأنكر؛ فالقول قوله، فإن طلبت تحليفه على أنه لا يعلم وقوع ذلك، فإنه لا يُحَلَّفُ، ولكن إن ادَّعَتْ وقوع الفرقة حَلَفَ أن الفرقة لم تقع، قاله القفال. كما ذكره الرافعي في آخر كلامه على تعليق العتق (•).

وَيَجُوزُ الْبَتُّ بِظَنٍّ مُؤَكَّدٍ يَعْتَمِدُ خَطَّهُ أَوْ خَطَّ أَبِيْهِ، أي ولا يشترط فيه اليقين أي وكذا يجوز اعتمادا على قرينة كنكول الخصم، وقال صاحب الشامل: لا يُحَلَّفُ على خط نفسه وجزم المصنف في القضاء بأنه يحلف على خط مورثه إذا وثق بخطه وأمانته كما سلف، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْقَاضِي المُسْتَحْلِفُ، لقوله عليه السلام: [الْيَمِيْنُ عَلَى

(•) هذا الفرع في النسخة (1) فقط.

ص: 1855

نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ] (543)، فَلَوْ وَرَّى، يعني الحالف، أَوْ تَأَوَّلَ خِلَافَهَا أَوِ اسْتَثْنَى بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ الْقَاضِي؛ لَمْ يَدْفَعْ إِثْمَ الْيَمِيْنِ الْفَاجِرَةِ، لما قلناه، وخرج بـ (القاضي) ما لو حلف إنسان ابتداءً أو حلفه غير القاضي فإن الاعتبار بنيّة الحالف، وتنفعه التورية ولو حلف القاضي بالطلاق أو العتاق نفعت التورية؛ لأنه ليس له التحليف بهما.

فَصْلٌ: وَمَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِيْنٌ لَوْ أَقَرَّ بمَطْلُوبِهَا لَزِمَهُ فَأَنكَرَ! حُلَّفَ، لقوله عليه الصلاة والسلام:[وَالْيَمِيْنُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ] وقوله (يَمِيْنٌ) كذا هو بخطه وصوابه دَعْوَى، وكذا هو في الشرحين والروضة وَالمُحَرَّرِ، وَلَا يُحَلفُ قاضٍ عَلَى ترْكِهِ الظُّلْمَ، في حكمه، وَلَا شَاهِدٌ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، لارتفاع منصبهما؛ ومسألة القاضي سَلَفَتْ في بابه.

وَلَوْ قَالَ مُدَّعَى عَلَيْهِ: أَنَا صَبِيٌّ لَمْ يُحَلَّفْ وَوُقِفَ حَتَّى يَبْلُغَ، لأنه لو كان كاذبًا لم يمتنع من الإقدام على الحلف فلا فائدة فيها، وَالْيَمِيْنُ تُفِيْدُ قَطْعَ الخُصُومَةِ فِي الْحَالِ لَا بَرَاءَةً؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أمَرَ رَجُلًا بَعْدَمَا حَلَفَ بِالْخُرُوجِ مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ، كأنه عَرَفَ كَذِبَهُ فدلَّ على أن اليمين لا توجب البراءة، وهذا الحديث صَحَّحَ الحاكم إسناده (544)، فلَوْ حَلَّفَهُ ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً؛ حَكَمَ بِهَا، لما قلناه، وكذا لو رُدَّتِ اليمين على المدَّعي فنكل ثم أقام بَيَّنَةً.

(543) رواه مسلم في الصحيح: كتاب الأيمان: باب اليمين على نية المستحلف: الحديث (21/ 1653).

(544)

عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَسَألَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الطَّالِبَ الْبَيَّنَةَ، فلم تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ؛ فَاسْتَحْلَفَ الْمَطْلُوبَ؛ فَحَلَفَ بِالله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وفي لفظ الحاكم؛ فَقَالَ: وَاللهِ مَا لَهُ عِندِي شَيْءٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [بَلْ هُوَ عِندَكَ! إِدْفَعْ إِلَيْهِ حَقَّهُ]. رواه أبو داود في السنن: كتاب الأيمان والنذور: باب فيمن يحلف كاذبًا متعمدًا: الحديث (3275). والنسائي في السنن الكبرى: كتاب القضاء: باب كيف اليمين: الحديث (6006/ 4). والحاكم في المستدرك: كتاب الأحكام: الحديث (7035/ 33) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

ص: 1856

وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: قَدْ حَلَّفَنِي مَرَّةٌ فَلْيَحْلِفْ أَنَّهُ لَمْ يُحَلَّفْنِي مُكَّنَ فِي الأَصَحَّ، لاحتماله، والثاني: المنع، إذ لا يؤمن أن يدعي المدّعي أنه حلَّفه على أنه ما حلَّفه، وهكذا فيدور الأمر ولا ينفصل، وهذا ما نسبه الرافعي إلى ابن القاصّ وتبعه في الروضة وتبعا في ذلك أبا سعيد الهروي، والذي رأيته في أدب القضاء له الجزم بالأول، وهذا الخلاف محله إذا قال: حَلَّفَنِي مرَّةً عند قاضٍ وأطلق، فإن قال: عندك أيها القاضي، فإن حفظ الحاكم ما قاله لم يحلَّفْهُ ومنع المدَّعي مما طلبه، وإن لم يحفظه حلَّفه ولا تنفعه إقامة البيّنة عليه، وعن ابن القاصّ سماعها منه، حكاه الهروي عن النص، قال الرافعي: وحقه الطرد في كل باب، وأفاد ابن الرفعة: أنه طرده.

فَصْلٌ: وَإذَا نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَقُضِيَ لَهُ، وَلَا يَقْضِي لَهُ بِنُكُولِهِ، لأنه عليه الصلاة والسلام [رَدَّ الْيَمِيْنَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ] كما رواه الحاكم وقال: صحيح الإِسناد (545)، وَالنُّكُولُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا نَاكِلٌ، أَوْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ؛ فَيَقُولُ: لَا أَحْلِفُ، لظهوره فيه، فَإِنْ سَكَتَ، أي لا لدهشة ونحوها، حَكَمَ القَاضي بِنُكُولِهِ، كما أن السكوت عن الجواب في الابتداء نازلٌ منزلة الإنكار، وَقَوْلُهُ، يعني القاضي، لِلْمُدَّعِي احْلِفْ؛ حُكْمٌ بِنُكُولِهِ، أي نازل منزلة قوله: حَكَمْتُ بأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَاكِلٌ، وَالْيَمِيْنُ المَرْدُودَةُ فِي قَوْلٍ كَبَيَّنَةٍ، لأن الحجة من اليمين (•)، واليمين وجدت منه، وَفِي الأَظْهَرِ كَإِقْرَارِ المُدَّعَى عَلَيْهِ، لأنه بنكوله يُتَوصّل الحق إلى مستحقه فأشبه اقراره، ووقع في أصل الروضة في مواضع أخر ما يقتضي تصحيح الأول.

فَلَوْ أَقَامَ المُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَهَا بَيَّنَةً بِأَدَاءٍ أوْ إِبْرَاءٍ لَمْ تُسْمَعْ، لكونه مكذبًا للبيّنة بالإقرار، وعلى القول الأول تسمع، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَتَعَلَّلْ بِشَيْءٍ

(545) عن ابن عمر رضي الله عنهما، رواه الحاكم في المستدرك: كتاب الأحكام: الحديث (7057/ 55) وقال: صحيح الإسناد. ولم يوافقه الذهبي. وفي التحفة قال ابن الملقن: وفيه وقفة. قال ابن حجر في تلخيص الحبير: رواه تمام لي فوائده من طريق أخرى عن نافع.

(•) في النسخة (1): لأن الحجة اليمين.

ص: 1857

سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْيَمِيْنِ، لإعراضه، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ خَصْمِهِ، وَإِنْ تَعَلَّلَ بِإِقَامَةِ بَيَّنَةٍ أَوْ مُرَاجَعَةِ حِسَابٍ، أي وكذا سؤال الفقهاء، أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أي فقط؛ لئلا تطول المدافعة، وَقِيْلَ: أَبَدًا، لأن اليمين حقه فله؛ تأخيره إلى أن يشاء كالبينة، وَإِنِ اسْتَمْهَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِيْنَ اسْتُحْلِفَ لِيَنْظُرَ حِسَابَهُ لَمْ يُمْهَلْ، أي إلاّ برضى المدّعي؛ لأنه مقهور محمول على الإقرار أو اليمين بخلاف المدعي فإنه مختار في طلب حقه وتأخيره، وَقِيْلَ: ثَلَاثَةٌ، للحاجة، وَلَوِ اسْتَمْهَلَ فِي ابْتِدَاءِ الْجَوَابِ، أي لينظر في الحساب، أُمْهِلَ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، أي إن شاء.

وَمَنْ طُولِبَ بِزَكَاةٍ فَادَّعَى دَفْعَهَا إِلَى سَاعٍ آخَرَ أَوِ ادَّعَى غَلَطَ خَارِصٍ! وَأَلْزَمْنَاهُ الْيَمِيْنَ؛ فَنَكَلَ وَتَعَذَّرَ ردُّ الْيَمِيْنِ، فَالأَصَحُّ: أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنهُ، لأن مقتضى ملك النِّصَابِ؛ ومُضِيَّ الْحَوْلِ الوجوب، فإذا لم يأت بدافع أخذنا الزكاة، وليس هذا حكمًا بالنكول خلافًا لابن القاصّ، والثاني: لا يطالب بشيء إذا لم تَقُم عليه حجة، وقوله (وَأَلْزَمْنَاهُ الْيَمِيْنَ) يحترز به عما إذا قلنا إنها مستحبَّة في حقه فإنه إذا نكل لا يطالب بشيء، وإن قلنا باللزوم؛ وهو الأصحُّ وانحصر المستحقون في البلد، وقلنا بامتناع النقل فترد أيضًا عليهم، وإلّا فيتعذر الرد إلى الساعي والسلطان فيما يفعل به الخلاف المذكور.

وَلَوِ ادَّعَى وَلِيُّ صَبِيًّ، أي ومجنون، دَيْنًا لَهُ، فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ لَمْ يُحَلَّفِ الْوَلِيُّ، لأن إثبات الحق لغير الحالف بعيد فينظر البلوغ والإفاقة، وَقِيْلَ: يُحَلَّفُ، لأنه المستوفي، وَقِيْلَ: إِنِ ادَّعَى مُبَاشَرَةً سَبَبِهِ حُلَّفَ، قال الرافعي: ولا بأس به، وقد رجحه العبادي وأجاب به السرخسي، لكن الذي مال المذهبيُّون إلى ترجيحه المنع مطلقًا، والوجه الثالث موافق كما صححه في كتاب الصداق فيما إذا اختلف في قَدره زوج ووليُّ صغيرة، فإنه صحح التحالف كما سلف في بابه، وقال الرافعي: هناك أثر ذلك؛ والأظهر من الوجهين: المنع فيما لا يتعلق بإنشاء الولي كدعوى التلف.

فَصْلٌ: ادَّعَيَا عَيْنًا فِيْ يَدِ ثَالِثٍ، أي ولم ينسبها إلى أحدهما لا قبل البيّنة ولا

ص: 1858

بعدها، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً سَقَطَتَا، لتكاذبهما في الشهادة فكأنه لا بيّنة فيصار إلى التحليف، قال الرافعي: وهو منسوب إلى القديم، فالمسألة من المسائل التي يفتى فيها على القديم، قلت: لكن نص عليه في الأُمَّ والبويطي كما أفاده البندنيجي فليس قديمًا صرفًا، وَفِي قَوْلٍ: تُسْتَعْمَلَانِ، صيانة لهما عن الإلغاء بقدر الإمكان فينتزع العين ممن هي في يده؛ لأنه قضية كل واحد من البيّنتين، فَفِي قَوْلٍ: تُقْسَمُ، أي إن قَبِلَتْ القسمة للاتباع في البعير أو الدابة كما صححه الحاكم على شرط الشيخين (546)، وأجاب الأول عنه: بأنه جاء في رواية الحاكم أنه ليس لواحد منهما بينة، وَقَوْلٍ: يُقْرِعُ، أي ويرجح جانب من خرجت قرعته لحديث فيه في مراسيل أبي داود وذكر له البيهقي شاهدًا (547)؛ لكن أجاب الأول عنه بأنه يحتمل أن يكون ذلك الأمر عينًا (•) أو قسمة، وَقَوْلٍ: تُوْقَفُ حَتَّى يَبِيْنَ، أَوْ يَصْطَلِحَا، لأن إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، فكان كالمرأة إذا زوجها وليّان مرتبان ونسي السابق، ولم يصحح

(546) عن سعيد بن أبي بردة، عن أَبيه، عن جده أبي موسى:[أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيْرًا أَوْ دَابَّةً إِلَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ لِواحدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ. فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا]. رواه الحاكم في المستدرك: كتاب الأحكام: الحديث (7031/ 29) وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

(547)

• عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: إِنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَتَاعٍ إِلَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: [اسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِيْنِ، مَا كَانَ أَحَبَّا ذَلِكَ أَوْ كَرِهَا]. وَفِي رِوَايَةِ هُمَامٍ: [إِذَا كَرِهِ الإِثْنَانِ الْيَمِيْنَ أَوْ اسْتحَبَّاهَا فَلْيَسْتَهِمَا عَلَيْهَا]. رواه أبو داود في السنن: كتاب الأقضية: الحديث (3616 و 3617). والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الدعوى والبينات: الحديث (21820).

• عَنْ هُمَامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قالَ: وَقَالَ [إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِيْنَ؛ فَأَسْرَعُواْ، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِيْنِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ]. رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الدعوى والبينات: باب المتداعيين يتنازعان المال: الحديث (21822)، وقال: رواه البخاري في الصحيح. وهو كذلك رواه في الصحيح: كتاب الشهادات: باب إذا تسارع قوم في اليمين: الحديث (2674).

(•) في النسخة (1): عتقًا.

ص: 1859

المصنف شيئًا من هذه الأقوال على قول الاستعمال، نعم؛ قال الإمام تبعًا للقاضي: إن الوقف أعدلهما، وصححه الفارقي وفي البيان عن الرَّبيع أنَّه أصح، وضعف بأنَّ وَقْفَ البيّنة على البيان يُوجب الحكم بالبيان دون البيّنة، أما إذا أقر الثالث الذي في يده العين لأحدهما بعد قيام البينتين، فإن قلنا بالتساقط رجع إليه، وإن قلنا بالاستعمال فهل يرجع إليه؟ فيه وجهان، فإن أقر قبل قيامهما قُبل إقراره وصار المقر له صاحب يد، وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِمَا وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ، لأن بينة كل واحد ترجحت في النصف الذي في يده، وَلَوْ كَانَتْ بِيَدِهِ فَأَقَامَ غَيْرُهُ بِهَا بَيِّنَةً؛ وَهُوَ بَيِّنَةً؛ قُدِّمَ صَاحِبُ الْيَدِ، ترجيحًا لها، كما إذا كان مع أحد الخبرين قياس، ولا يُشترط في سماع بيّنة الداخل إن تبين سبب الملك من شراء أو إرث أو غيرهما كبيّنة الخارج، ولَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إِلَّا بَعْدَ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، لأن البيّنة إنما تقام على خصم.

وَلَوْ أُزِيْلَتْ يَدُهُ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمِلْكِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى مَا قَبْلِ إِزَالَةِ يَدِهِ وَاعْتَذَرَ بغَيْبَةِ شُهُودِهِ سُمِعَتْ وَقُدِّمَتْ، لأنها أزيلت لعدم الحجة وقد ظهرت، وَقِيْلَ: لَا، لأن تلك اليد مقضى بزوالها وبطلان حكمها فلا ينقض القضاء، قال القاضي: وأشكلت علَيَّ هذه المسألة نيفًا وعشرين سنة لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد، وتردد جوابي فيها ثم استقر على أنه لا ينقض، وَلَوْ قَالَ الْخَارِجُ: هُوَ مِلْكِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ، فَقَالَ: بَلْ مِلْكِي وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ قُدِّمَ الْخَارِجُ، لزيادة علم ببيّنته، وفي عكسه القول قول الداخل لأن مع بينته زيادة علم وهو الانتقال، ولو قال كُلٌّ لصاحبه: اشتريته منك وأقام بيّنة وخفي التاريخ فالداخل أولى، وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ لَمْ تُسْمَعْ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ انْتِقَالًا، لأن المقر مؤاخذ بإقراره في المستقبل فيستصحب ما أقر به إلى أن يثبت الانتقال.

وَمَنْ أُخِذَ مِنهُ مَالٌ بِبَيَّنَةٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ لَمْ يُشتَرَطْ ذِكْرُ الاِنْتِقَالِ فِي الأَصَحِّ، كالأجنبي؛ فإنَّه لا خلاف أنَّه لو ادعى عليه أجنبي وأطلق أنَّه يسمع، والثاني: يشترط كما لو أقر، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ زِيَادَةَ عَدَدِ شُهُودِ أحَدِهِمَا لا تُرَجِّحُ، لكمال الحجة

ص: 1860

من الطرفين، والثاني: نعم؛ لأن القلب إلى قولهم أَمْيَلُ، والطريق الثاني: القطع بالقول الأول، وحمل الثاني على حكاية مذهب الغير، ورجحها المصنف في أصل الروضة وهو مخالف لما في الرافعي من ترجيحه طريقة القولين، وَكَذَا لَوْ كَانَ لأَحَدِهِمَا رَجُلَانِ، وَلِلآخَرِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، أي فإنَّه لا يرجح على المذهب لقيام الحجة، وكل منهما حجة بالاتفاق، وقيل قولان كما حكاه في أصل الروضة، ووجه الترجيح زيادة الوثوق بقولهما ولذلك يثبت بقول رجلين ما لا يثبت برحل وامرأتين، فَإِنْ كَانَ لِلآخَرِ شَاهِدٌ وَيمِيْنٌ رُجِّحَ الشَّاهِدَانِ فِي الأَظْهَرِ، لأنهما حجة بالإجماع، والثاني: يتعادلان؛ لأن كل واحد منهما حجة كافية في المال.

وَلَوْ شَهِدَتْ لأَحَدِهِمَا بِمِلْكٍ مِن سَنَةٍ، وَلِلآخَرِ مِنْ أَكْثَرَ، فَالأَظْهَرُ: تَرْجِيْحُ الأَكْثَرِ، لأنها تثبت المال حال المعارضة، وقبلها والأصل في الثابت دوامه، والثاني: لا؛ لأن مناط الشهادة الملك في الحال، وقد استوتا فيه، فأشبه ما إذا كانتا مطلقتين أو مؤرختين بتاريخ واحد، وهذا القول حكاه القاضي عن الجديد، والأول عن القديم، ووقع في الرافعي والروضة في باب اللقيط تصحيح الثاني، وعبَّر الرافعي في الشرح الصغير: بأنه أحد القولين فلعل القلم سبق من أحد إلى أصح، وَلِصَاحِبِهَا الأُجْرَةُ وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ مِنْ يَوْمَئِذٍ، لأنها ملكه، وإن قلنا بالقول الثاني ففيه الخلاف السالف في تعارض البينتين.

وَلَوْ أَطْلَقَتْ بَيِّنَةٌ، وَأَرَّخَتْ بَيِّنَةٌ (•)، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُمَا سوَاءٌ، أي فيتعارضان، وقيل تقدم المؤرخة لأنها تثبت الملك من وقت معين، والأخرى لا تقتصي إلَّا الملك في الحال، ووجه التسوية أن المطلقة كما لا تقتضي الإثبات قبل الحالة الراهنة لا تنفيه أَيضًا، ولعله لو بحث عنها أثبت الملك قبل ذلك الوقت، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِصَاحِبِ مُتَأَخَّرَةِ التَّأْرِيْخِ يَدٌ قُدِّمَ، لتساقط البينتين فتبقى اليد وهي أقوى من الشهادة على الملك السابق، ألا ترى أنها لا تزال بها، وهذا أصح الأوجه الثلاثة كما في الروضة

(•) هكذا في النسختين.

ص: 1861

تبعًا للرافعي؛ لا كما يُفْهِمُهُ إيراده هنا حيث عطفه على المذهب، والثاني: ترجيح السبق مقابلة ترجيح اليد (•)، والثالث: أنهما سواء لتعارض المعنيين، وَأَنَّهَا لَوْ شَهِدَتْ بِمِلْكِهِ أَمْسِ؛ وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْحَالِ؛ لَمْ تُسْمَعْ حَتَّى يَقُولُواْ: وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ، أَوْ وَلَا نَعْلَمُ مُزِيْلًا له، لأنه دعوى الملك السابق لا تسمع فكذا البينة عليه، والثاني: أنها تسمع، لأنها تثبت الملك له سابقًا، والشيء إذا ثبت؛ فالأصل فيه الدوام والاستمرار، هذا أشهر الطريقين، والطريق الثاني: القطع بالأول، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِمِلْكِهِ الآنَ اسْتِصْحَابًا لِمَا سَبَقَ مِن إِرْثٍ وَشِرَاءٍ وَغَيْرِهِمَا، أي وإن كان يجوز زواله؛ لكنا تركنا ذلك للاستصحاب، ولو صرح في شهادته أنَّه يعتمد الاستصحاب فالأصح: أنَّه لا تقبل، كما لا تقبل شهادة الرضاع على امتصاص الثدي وحركة الحلقوم، وَلَوْ شَهِدَتْ بِإِقرَارِهِ أَمْسِ بِالْمِلْكِ لَهُ، اسْتُدِيْمَ، أي حكم الإقرار، وإن لم يصرح الشاهد بالملك في الحال.

وَلَوْ أَقَامَهَا بِمِلْكِ دَابَّةٍ أَوْ شَجَرَةٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ ثَمَرَةً مَوْجُودَةً وَلَا وَلَدًا مُنفَصِلًا، لأنه لا ضرورة إليه، والبيّنة لا توجب ثبوت الملك وإنما تظهره، وَيَسْتَحِقُّ حَمْلًا فِي الأَصَحِّ، تبعًا لها، والثاني: لا، لاحتمال كونه لغير مالك الام بوصية، وَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا فَأَخَذَهُ مِنْهُ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ رَجَعَ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، أي وإن كان مقتضى الأصل الذي ذكرناه أَيضًا عدم الرجوع لاحتمال انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، وتكون المبايعة صحيحة مصادفة محلها، وسببه مسيس الحاجة إليه في عهدة العقود، وَقِيْلَ: لَا، إلَّا إِذَا ادُّعِيَ فِي مِلْكٍ سَابِقٍ عَلَى الشِّرَاءِ، وفاءً بالأصل المذكور، وَلَوِ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا! فَشَهِدُوا لَهُ مَعَ سَبَبِهِ لَمْ يَضُرَّ، لأنه تابع له وليس معقودًا في نفسه، وَإِنْ ذَكَرَ سَبَبًا، وَهُمْ سبَبًا آخَرَ ضَرَّ، لما بينها وبين الدعوى من التناقض.

فَصْلٌ: قَالَ: آجَرْتُكَ هَذَا الْبَيتَ بِعَشْرَةٍ، فَقَالَ: بَلْ جَمِيْعَ الدَّارِ بِالْعَشَرَةِ، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا، لأن العقد واحد؛ وكل كيفية تنافي الأخرى، وَفِي قَوْلٍ:

(•) في النسخة (2): ترجيح السبق ترجيحًا اليد.

ص: 1862

تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ، لاشتمالها على زيادة وهي اكتراء جميع الدار، وَلَوِ ادَّعَيَا شَيْئًا فِي يَدِ ثَالِثٍ، أنكرهما، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَوَزَنَ لَهُ ثَمَنَهُ، فَإنِ اخْتَلَفَ تَأْرِيْخٌ! حُكِمَ لِلأَسْبَقِ، لأنه إذا باع من أحدهما لم يتمكن من البيع من الثاني، وَإِلَّا، أي وإن لم يختلف تاريخ، تَعَارَضَتَا، أي فيسقطان ويسترد الثمن إن لم تتعرض البينة لقبض المبيع، وَلَوْ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: بِعْتُكَهُ بِكَذَا، وَأَقَامَاهُما، فَإنِ اتَّحَدَ تَأْرِيْخُهُمَا تَعَارَضَتَا، لامتناع كونه ملكًا في وقت واحد لهذا وحده ولذاك وحده وكأنه لا بيّنة، وَإِنِ اخْتَلَفَ، أي تاريخهما، لَزِمَهُ الثَّمَنَانِ، لإمكان الجمع، نعم: يشترط فيه زمن فيه يتأتى ذلك، وَكَذَا إِنْ أَطْلَقْتَا أَوْ إِحْدَاهُمَا، أي وأرخت الأخرى، في الأَصَحِّ، لما قلناه من إمكان الجمع، والثاني: أنهما كمتّحدتيْ التأريخ؛ لأن الأصل براءة المشتري فلا يلزمه إلاّ التعيين.

فَصْلٌ: وَلَوْ مَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: مَاتَ عَلَى دِيْنِي، فَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُ كَان نَصْرَانِيًّا صُدِّقَ النَّصْرَانِيُّ، أي مع يمينه لأن الأصل بقاء كفره، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ مُطْلَقَتَيْنِ، أي بأن قالت إحداهما: مات مسلمًا؛ وقالت الأخرى: مات نصرانيًا، قُدِّم، بِبَيَّنَتِهِ، الْمُسْلِمُ، لأن معها زيادة علم وهو انتقاله إلى الإِسلام فقدمت الناقلة على المستصحبة كما تُقدم بينة الجرح على التعديل، وَإِنْ قَيَّدَتْ أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ إِسْلَامٌ وَعَكَسَتْهُ الأُخْرَى تَعَارَضَتَا، لاستحالة موته عليهما فتسقطان وكأنه لا بيّنة، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ دِيْنُهُ وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِيْنِهِ تَعَارَضَتَا، أي سواء أطلقتا أو قيدتا لفظه عند الموت، وَلَوْ مَاتَ نَصْرَانِيٌّ عَنِ ابْنَيْنِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَسْلَمْتُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْمِيْرَاثُ بَيْنَنَا، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: بَل قَبْلَهُ، أي فلا يرثه، صُدِّقَ الْمُسْلِمُ بِيَمِيْنِهِ، أي إذا لم تكن بيِّنَةٌ؛ لأن الأصل بقاؤه على دِينه فيحلف ويشتركان في المال، وَإِنْ أقَامَاهُمَا قُدِّمَ النَّصْرَانِيُّ، لأنها ناقلة والأخرى مستصحبة، فمع الأُولى زيادةُ عِلم، فَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى إِسْلَامِ الاِبْنِ فِي رَمَضَانَ وَقَالَ الْمُسْلِمُ: مَاتَ الأَبُ فِي شَعْبَانَ، وَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: فِي شَوَّالَ

ص: 1863

صُدِّقَ النَّصْرَانِيُّ، لأن الأصل بقاء الحياة، وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى بَيِّنَتِهِ، لأنها ناقلة والأخرى مستصحبة.

وَلَوْ مَاتَ عَنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ وَابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَقَالَ كُلٌّ: مَاتَ عَلَى دِيْنِنَا صُدِّقَ الأبَوَانِ بِالْيَمِيْنِ، لأن الولد محكوم بكفره في الابتداء تبعًا لهما فَيُسْتَصْحَبُ حتَّى يعلم خلافه، وَفِي قَوْلٍ: يُوقَفُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَوْ يَصْطَلِحُواْ، لتساوي الحالين بعد بلوغه، لأن ما قبله هو فيه تبع لا يتحقق إلاّ بعده، ورجحه في الروضة من جهة الدليل.

فَصْلٌ: وَلَوْ شَهِدَتْ أَنَّهُ أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ سَالِمًا، وَأُخْرَى غَانِمًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثُ مَالِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ تَأْرِيْخٌ؟ قُدِّمَ الأَسْبَقُ، لمزيته وَإنِ اتَّحَدَا أُقْرِعَ، لعدم الْمِزْيةِ، وِإنْ أَطْلَقَتَا، أي أو احداهما، قِيْلَ: يُقرَعُ، لاحتمال الْمَعِيَّةِ، وَقِيْلَ: وَفِي قَوْلٍ: يَعْتِقُ مِنْ كُلٍّ نِصْفَهُ، لأنَّا لو أقرعنا لم نأمن أن يخرج الرق على السابق، وللسَّابِقِ حَقُّ الحريَّةَ فيلزم منه ارقاق حُرٍّ وتحريرُ رَقِيْقٍ (•)، قُلْتُ: الْمَذهَبُ يَعْتِقُ مِن كُلٍّ نِصْفَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ، لما قلناه، وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتقِ سَالِمٍ وَهُوَ ثُلُثُهُ، وَوَارِثَانِ حَائِزَانِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَوَصَّى بِعِتْقِ غَانِمٍ وَهُوَ ثُلُثُهُ ثَبَتَ، أي الوصية الثَّانية، لِغَانِمٍ، لأنهما أثبتا للرجوع عنه بدلًا يساويه وارتفعت التهمة عنهما، فَإِنْ كَانَ الْوَارِثَانِ فَاسِقَيْنِ لَمْ يَثْبُتِ الرُّجُوعُ فَيَعْتِقُ سَالِمٌ، أي بشهادة الأجنبيين؛ لأن الثلث يحتمله، وَمِنْ غَانِمٍ ثُلُثُ مَالِهِ بَعْدَ سَالِمٍ، أي وكان سالمًا هلك أو غصب من التركة.

فَصْلٌ: شَرْطُ الْقَائِفِ: مُسْلِمٌ؛ عَدْلٌ، أي لأن الكافر لا يعتمد قوله وكذا الفاسق، مُجَرَّبٌ، لأن غيره لا يُعتمد فيه، وَالأصَحُّ: اشْتِرَاطُ حُرًّ ذَكَرٍ، كما في القاضي، والثاني: لا، كما في الفتوى، لا عَدَدٍ، كالفتوى، والثاني: يشترط كالمُزكّي،

(•) في النسخة (2): رقبة.

ص: 1864

وَلَا كَوْنِهِ مُدْلِجِيًا، لأن الْقِيَافَةَ نوعُ علمٍ؛ فمن علمه عمل بعلمه، والثاني: الاشتراط؛ لأن الصَّحَابَة رجعوا إلى بني مُدلج دون غيرهم، وقد يخص الله تعالى جماعة بنوع من المناصب والفضائل كما خص قريشًا بالإمامة، والأصل في الباب قصة مُجَزِّز الْمُدْلَجِيِّ وهو مشهور في الصحيحين (548)، وفي البَزَّار من حديث أنس رفعه:[أَنَّ للهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ](549)، وروى أبو أُمامة مرفوعًا:[اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ](550)، فَإِذَا تَدَاعَيَا مَجْهُولًا عُرِضَ عَلَيْهِ، أي على القائف لقيطًا كان أو غيره، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي وَطْءٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مُمْكِنًا مِنْهُمَا وَتَنَازَعَاهُ بِأَنْ وَطِئَا امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ أَوْ مُشتَرَكَةً لَهُمَا أَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ وَطَلَّقَ فَوَطِئَهَا آخَرُ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أي بأن نكحها في الْعِدَّةِ جاهلًا بكونها فيها، أَوْ أَمَتَهُ فَبَاعَهَا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَسْتَبْرئْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَنْكُوحَةً فِي

(548) عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهوَ مَسْرُورٌ، فَقالَ:[أي عَائِشَةَ، أَلَمْ تَرَيْ أنَّ مُجزِّزًا الْمُدْلَجِيِّ دَخَلَ فَرَأَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَزَيْدًا عَلَيْهِمَا قَطِيْفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا وَبَدَتْ أقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ] رواه البُخَارِيّ في الصحيح: كتاب المناقب: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (3555)، وفي الفرائض: باب القائف: الحديث (6770). ومسلم في الصحيح: كتاب الرضاع: باب العمل بإلحاق القائف الولد: الحديث (38/ 1459). وأبو داود في السنن: كتاب الطلاق: باب في القافة: الحديث (2267)، وقال: كان أسامة أسود وزيد أبيض.

(549)

رواه الطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن: سورة الحجر: آي (75): مج 8 ج 14 ص 62: الرقم (16062). وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: كتاب الزهد: باب ما جاء في الفراسة: ج 10 ص 268؛ قال الهيثمي: رواه البَزَّار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

(550)

رواه الترمذي في الجامع: كتاب التفسير: ومن سورة الحجر: الحديث (1327) عن أبي سعيد الخُدرِيّ، وقال: هذا حديث غريب، وإنما نعرفه من هذا الوجه، وقد روى عن بعض أهل العلم. والطبري في جامع البيان: النص (16060) وعن ابن عمر رضي الله عنهما: النص (16061)، وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 10 ص 268؛ قال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن. قلتُ: رواه الطبراني في المعجم الكبير عن أبي أمامة: الحديث (7497): ج 8 ص 102. وفي إسناده عن أبي أُمامة نظر.

ص: 1865

الأَصَحِّ، فَإذَا وَلَدَتْ لِمَا بَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعِ سِنِيْنَ مِنْ وَطْأَيْهِمَا وَادَّعَيَاهُ عُرِضَ عَلَيْهِ، لأنه موضع اشتباه، والثاني: يلحق الزوج لقوة الاِفْتِرَاشِ، فَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَ وَطْأَيْهِمَا حَيْضَةٌ؛ فَلِلثَّانِي، لأن الحيض أمارة ظاهرة في حصول البراءة عن الأول فيقطع تعلقه عنه، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الأَوَّلُ زَوْجًا فِي نِكَاحٍ صَحِيْحٍ، أي ويكون الثاني واطئًا بشبهة أو في نكاح فاسدٍ فلا ينقطع تعلق الأول؛ لأن إمكان الوطئ مع الفراش قائمٌ مقامَ نفس الوطئ؛ والإمكان حاصل بعد الحيضة، وإن كان الأول زوجًا في نكاح فاسد ففي انقطاع تعلقه بتَخَلُّلِ الحيضة قولان؛ أظهرهما: الانقطاع أَيضًا، وَسَوَاءٌ فِيهِمَا أَتَّفَقَا إِسْلَامًا وَحُرِّيَّةً أَمْ لَا، أي كما سلف في اللقيط وقد ذكرها هناك أَيضًا.

ص: 1866