الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَم تُذهِب أذْهِبَ، أي بالمعالجة كما سلف لإمكان الاستيفاء من غير حَيْفٍ، وفي وجه صححه البغوي واستحسنه الرافعي: أنه لا يقتص في اللطمة كما لا يقتص في الهاشمة إذا هشمه فذهب ضوؤه؛ لأنه لا قصاص في اللطمة إذا انفردت، وكذا الهاشمة أيضًا.
فَرع: لو ذهب ضوء إحدى العينين فقط، لم يلطم؛ لاحتمال ذهاب ضوئهما، بل يذهب بالمعالجة إن أمكن؛ فإن لم يمكن؛ أخذت الدية لتعذر القِصَاص.
وَالسمعُ كَالبَصَرِ يَجبُ القِصَاصُ فِيهِ بِالسرَايَةِ؛ لأن له محلًا مضبوطًا، وَكَذَا البَطشُ؛ وَالذوْقُ؛ وَالشمَ، فِي الأصَح، لأن لها محالًا مضبوطة، ولأهل الخبرة طرق في إبطالها، والثاني: المنع؛ لأن هذه المعاني لا يمكن القِصَاص فيها.
فَرع: في العقل أيضًا تردد، والأقرب منع القِصَاص فيه؛ لأنه لا يوثق بالمعالجة بما يزيله، وَلَوْ قَطَعَ أُصبُعَا فَتَآكلَ غَيْرها، فَلَا قِصَاصَ فِي المُتَأكُّلِ؛ لعدم تحقق العَمديَّة.
بَابُ كَيفِيةِ القِصَاصِ وَمُسْتَوْفِيهِ وَالاختِلافِ فِيهِ
أي والعفوُ عنهُ، فإنه قد ذكره في آخر الباب، وذكر الاختلاف فيه قبل مستوفى القِصَاص؛ ويجاب أن الواو لا تقتضي ترتيبًا.
لَا تُقطَعُ يَسَارٌ بِيَمِيْنٍ؛ لأن المقصود من القِصَاص المساواة ولا مساواة بين اليمين واليسار، وَلَا شَفَةٌ سُفْلَى بِعُلْيَا؛ لاختلاف المنافع واختلاف تأثير المحال بالجراحات، وَ، لا، عَكْسُهُ، أي لا تقطع يمين بيسار، ولا شفة عليا بسفلى، لما ذكرناه أيضًا من اختلاف المحال والمنافع، كما لا يؤخذ أنف بعين، وَلا أُنْمُلَةٌ بِأخْرَى، وَلَا زائِدٌ بِزَائد فِي مَحَلٍّ آخَرَ، أي لا تُقْطَعُ أُنْمُلَةُ أصبع بأنملة أخرى من تلك الأصابع لما ذكرناه، ولا إصبع زائدة بزائدة أخرى إذا اختلف محلهما؛ بأن كانت زائدة المجني عليه بجنب الخنصر وزائدة الجاني بجنب الإبهام بل تؤخذ الحكومة.
فرع: لا تقطع أصبع بأصبع كالسبابة والوسطى، ذكره الرافعى في المُحَرَّر.
وَلَا يضرٌّ تَفَاوُتُ كِبَر وَطُول، وَقِصَر، وَقُوَّةُ بَطْش فِي أَصلِي، كما لا تعتبر مماثلة النفوس في هذه الأمور، والسبب فيه أن مماثلة النفوس والأطراف لا تكاد تتفق، وَكَذَا زَائِد، أي كالأصبع والسِّنِّ الزائدتين، فِي الأصَحِّ، كما في الأصلية، والثاني: يضر؛ لأنه ليس لها اسم مخصوص حتى يُكتفى بالاتفاق في الاسم، كما يكتفى في اليمين واليسار، فينظر القدر وتراعى الصورة، فعلى هذا إن كانت زائدة الجاني أكبر لم يقتص منه، وإن كانت زائدة المجني عليه أكبر اقتص، وأخذ حكومة قدر النقصان، ويعتَبَرُ قدرُ الْمُوَضحَةِ طولا وَعَرضًا، أي في قصاصها فلا تقابل ضيقة بواسعة، ولا يقنع بضيقة عن واسعة، وَلَا يَضُر تَفَاوُتُ غِلَظِ لَحم وَجلد؛ لأن اسم الموضحة يتعلق بإنهاء الجراحة إلى العظم والتساوي في قدر الغَوصِ (•) قليلًا ما يتفق فيقطع النظر عنه، كما يقطع النظر عن الصغر والكبر في الأطراف.
ولو أَوْضَحَ كُل رَأسِهِ، وَرَأسُ الشاج أصغَرُ استَوعَبْنَاهُ؛ لقوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (161)، وَلَا نُتَمِّمُهُ مِنَ الوَجْهِ وَالقَفا؛ لأنهما غير محل الجناية، بَل يُؤْخَذُ قِسْطُ الباقِي مِنْ أَرشِ المُوَضحَةِ لَوْ وُزِّعَ عَلَى جَمِيْعها؛ لتعيينه طريقًا فلو كان المستوفي بإيضاح جميع رأسه قدر الثلثين أخذ ثلث الأرش، وَإن كَان رَأس الشاج أَكبَرَ أُخِذَ قَدرُ رأسِ الْمَشجُوج فَقَط؛ لحصول المساواة، وَالصحِيحُ أَن الإختِيَارَ فِي مَوْضعِهِ إِلَى الجاني؛ لأن جميع رأسه محل الجناية، والثاني: إلى المجني عليه، وعزى الماوردي تصحيحه، ونقله عن جمهور الأصحاب، والثالث: أنه يبتدئ من حيث ابتدأ الجاني؛ ويذهب في الجهة التي ذهب إليها إلى أن يتم القدر.
وَلَوْ أوْضَحَ نَاصِيَة، وَنَاصِيَتُهُ، يعني الجاني، أصغَرُ تُمِّمَ مِنَ بَاقِي الرأسِ؛ لأن الرأس كله عضو واحد، ولا فرق بين مقدمة ومؤخرة، وَلَوْ زَادَ المُقْتَصُّ فِي
(•) في النسخة (1) العِوَضِ بدل الغَوْصِ.
(161)
المائدة / 45.
مُوَضِّحَةٍ عَلَى حَقِّهِ، لَزِمَهُ قِصَاصُ الزِّيَادَةِ، أي ويكون بعد اندمال الموضحة التي في رأسه، وأطلق المصنف ذلك، ومحله كما قال في الروضة تبعًا للرافعي: ما إذا لم يضطرب الجاني، فإن زاد باضطرابه فلا غُرْمَ، فَإنْ كَانَ خَطأً، أي بأن اضطربت يده، أَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ؛ وَجَبَ أرْشٌ كَامِلٌ؛ لأن حكم الزيادة يخالف حكم الأصل، فالأصل عمد مستحق، والزيادة خطأ وغير مستحقة، وتغاير الحكم كتعدد الجاني، وَقِيْلَ: قِسْطُهُ، أي قسط الزيادة بعد توزيع الأرش عليهما لاتحاد الجارح والجارحة (•)، وهذا كما ذكرنا أنه يحب القسط فيما إذا كان رأس الشاج أصغر؛ وينسب هذا الوجه إلى القفال كما قال الرافعي، وفي تعليق القاضي أنه اختيار الشيخ يعني القفال؛ لكن في النهاية: أنَّه رجع عنه فقال الَّذي استقر عليه جوابه الأول.
وَلَوْ أَوْضَحَهُ جَمْعٌ، أي بأن تحاملوا على آلة وجرُّوها معًا، أَوْضَحَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِثْلَهَا، أي مثل تلك الموضحة كالشركاء في القطع، وَقِيْلَ: قِسْطُهُ، أي يوزع عليهم، ويوضح من كل واحد قدر حصته، لإمكان التجزئة بخلاف القتل. وهذا احتمال للإمام، فأقامه المصنف تبعًا لِلْمُحَرَّرِ وجهًا.
فَصْلٌ: وَلَا تُقْطَعُ صَحِيْحَةٌ بِشَلَّاءَ وَإنْ رَضِيَ الْجَانِي؛ لأن الشلاء مسلوبة المنفعة، فلا يؤخذ بها كاملة، كما لا تؤخذ العين البصيرة بالعمياء بخلاف الأذن الشلَّاء حيث أُخذت بها الأذن الصحيحة في الأصح؛ لأن منفعتها في جمع الصوت أو دفع الهوام باقية، ثم هذا إذا وقف القطع، فإن سرى إلى النفس؛ ففي الطرف الثالث من الروضة تبعًا للرافعي في الكلام على ما إذا مات بجائفة أو كسر عضد، وإن الأكثر على أنَّه يفعل به كفعله، وإن الخلاف يجري فيما إذا قطع يدًا شلاء ويد القاطع صحيحة أو ساعدًا ممن (•) لا كفَّ له، والقاطع سليم؛ هل يستوفي القِصَاص بقطع اليد والساعد؟ ومقتضاه: أن الأكثر على الاستيفاء.
(•) رمز في النسخة (1): والجراحة بدل الجارحة. نقلًا عن نسخة عنده.
(•) في النسخة (2): مِمَّا بدل مِمَّنْ.
فَائِدَةٌ: الشَّلَّاءُ بالمد هي التي بَطَلَ بَطْشُهَا.
فلَوْ فَعَلَ، أي خالف وقطع الصحيحة، لَمْ يَقَعْ قِصَاصًا بَلْ عَلَيْهِ دِيَّتُهَا، فَلَوْ سَرَى فَعَلَيْهِ قِصَاصُ النَّفْسِ، هذا إذا قطع بغير رضى الجاني عوضًا، فإن قطع برضاه؟ فلا قصاص عند السراية! لأنه قطع بالإذن، ثم ننظر: فإن قال الجاني (•): اقطع يدي وأطلَقَ، جعل المجني عليه مستوفيًا لِحَقِّهِ ولم يلزمه شيء، وإن قال: اقطعها عوضًا عن يدك أو قصاصًا، فوجهان؛ أحدهما: وبه أجاب البغوي؛ أن على المجني عليه نصف الدية وعلى الجاني حكومة؛ لأنه لم يبذلها مجانًا، والثاني: لا شيء على المجني عليه، وكأنَّ الجاني أدَّى الجيِّدَ عن الرَّدي وقبضَ المستحقَّ.
وَتُقْطَعُ الشَّلَّاءُ بِالصَّحِيْحَةِ؛ لأنها دون حقِّه، إِلَّا أَن يَقُولَ أهْلُ الْخِبْرَةِ: لَا يَنْقَطِعُ الدَّمُ، أي بل تَنْفَتِحُ أفواه العروق، ولا تنسد بالجسم، لما فيه من استيفاء النفس بالطرف. وللمجني عليه دية يده؛ فإن قال أهل الخبرة: تنقطع، فله قطعها قصاصًا؛ كقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر، وَيَقْنَعُ بِهَا مُسْتَوْفِيْهَا، أي ولا يطلب مع ذلك أرش الشلل، ووجه ذلك بأن الصحيحة والشَّلَّاءَ متساويتان في الجرم، والإختلاف بينهما في الصفة، والصفة المجردة لا تقابل بالمال، ولذلك إذا قُتِلَ الذمِّيُّ بالمسلمِ والعَبْدُ بِالْحُرِّ، لم يجب لفضيلة الإسلام والحرية شيءٌ.
فَرْعٌ: تقطع الشلاء بالشلاء في الأصح إن استويا في الشلل، أو كان شلل يد القاطع أكثر، والشرط أن لا يخاف نزف الدم كما سلف.
وَيُقْطَعُ سَلِيْمٌ بِأَعْسَمَ وَأَعْرَجَ؛ لأنه لا خلل في اليد والرجل، والأعسم بالعين والسين المهملتين وهو من يبس مفصل الرسغ حتَّى يعوَّج الكف أو القدم قاله الجوهري، وَلَا أثَرَ لِخُضْرَةٍ أظْفَارٍ وَسَوَادِهَا، أي وزوال نضارتها فإن هذه الأحوال علة ومرض في الظفر، وَالصَّحِيْحُ قَطْعُ ذَاهِبَةِ الأظْفَارِ بِسَلِيمَتِهَا دُونَ عَكْسِهِ، اعْلَمْ:
(•) في النسخة (1) العبارة كما يأتي: فإن أذن في قطعها فسرى إلى النفس، فلا قصاص في النفس؛ لأنه قطع بالإذن، فالإثم ينظر؛ فإن قال الجاني.
أن مقتضى كلام المصنف هذا على أنَّه وجهٌ لا تقطع ذاهبة الأظفار بسليمتها، وليس ذلك في الرافعي، ولا في الروضة، وليس في عكسه أيضًا وجه منقول، بل فيه احتمال للإمام: أنَّه تقطع السليمة بذاهبة الأظفار؛ وهذا لفظ الرافعي، وأما التي لا أَظْفَارَ لها؟ فالذي ذكره أصحابنا العراقيون وغيرهم: أنَّه لا يقطع بها سليمة الأظفار، وأنها تقطع بالسليمة، وكذا حكاه الإمام عنهم ونسبه إلى النصِّ، لكن عن الشيخ أبي حامد وغيره: أنه يكمل فيها الدية، فقال الإمام: على سبيل الاحتمال؛ القياس جريان القِصَاص وإن عدمت الأظفار لأنها زوائد، ولو لم يجز القِصَاص لما تمت دية اليد، ولا الأصبع الساقطة الظُّفر، ووفَّى البغوي بقياس المنقول؛ فقال: ينقص عن الدية شيء، وجرى الغزالي على ما أبداه الإمام احتمالًا وترك المنقول الظاهر، انتهى. وتبعه على ذلك في الروضة، وعبر في الْمُحَرَّرِ بالظاهر ومراده من الخلاف كيف كان، وَالذِّكَرُ صِحَّةَ وَشَلَلًا كَالْيَدِ، أي الصحيحة مع الشلاء؛ فحكم قطع الذكر الصحيح بالأشل وبالعكس، والأشل بالأشل ما تقدم واضحًا في اليد، وَالأَشَلُّ، أي الذكر الأشل: مُنقَبِضٌ لَا يَنْبَسِطُ أَوْ عَكْسُهُ، أيْ هذه عبارة الجمهور، وقيل: هو الَّذي لا يتقلص في البرد ولا يسترسل في الحر وهو بمعنى الأول، وَلَا أَثرَ لِلإنْتِشارِ وَعَدَمِهِ؛ فَيُقْطَعُ فَحلٌ بِخِصِيٍّ وَعِنِّيْنٍ؛ لأنه لا خلل في نفس العضو، وتعذر الانتشار لضعفٍ في القَلْبِ والدِماغ، لذا قال الرافعي في القلب ولعله في الصلب كما قاله أبو الطيب.
فَائِدَةٌ: الخصيِّ من قطعت أنثياه مع جلدلتهما، وقيل: من سُلَّتْ أُنْثَيَاهُ.
وَأَنْفٌ صَحِيْحٌ بِأخْشَمَ؛ لأن الشم ليس في جرم الأنف، وَالأَخْشَمُ: هو الَّذي لا يشم، وَأُذُنُ سَمِيْعٍ بِأصَمِّ، أي وكذا بالعكس؛ لأن السمع ليس في جرم الأذن، وإنما هي آلة السمع، لَا عَيْنٌ صَحِيْحَةٌ بَحَدَقَةٍ عَمْيَاءَ؛ لأنها أكثر من حقه، وفي العكس تؤخذ إن رضي المجني عليه؛ لأنه دون حقه، وَلَا لِسَانُ نَاطِقٍ بِأَخْرَسَ؛ لأن النطق في جرم اللسان؛ ويجوز العكس برضى المجني عليه.
فَصْلٌ: وَفِي قَلْعِ السِّنِّ قِصَاصٌ؛ للآية (162)، لَا فِي كَسْرِهَا؛ لأن كسر العظام لا يمكن المماثلة فيها، وفي المهذب والحاوي: أن يقتص إن أمكن أن يكسر من الجاني مثله، وهو المنقول عن نصه فِي الأُم، وصور ابن يونس الإمكان بأن يكسر نصفه طولًا.
وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ صَغِيْرٍ لَم يُثْغَرْ فَلَا ضَمَانَ فِي الْحَالِ، أي ولا دية؛ لأنها تعود غالبًا فلم يتحقق إتلافها، وقوله (يُثْغَرْ) هو بضَمُّ أوَّلِهِ وإسكان ثانيه ثم غين معجمة وثاؤه مثلثه ويقال مثناة ومعناه لم تسقط أسنانه التي هي رواضعه، فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا بِأنْ سَقَطَتِ الْبَوَاقِي وَعُدْنَ دُوْنَهَا، وَقَالَ أهلُ الْبَصَرِ: فَسَدَ الْمُنْبَتُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ؛ لأنه قد قلع السن الحاصلة فِي الحال وأفسد المنبت فيقابل بمثله، أما إذا قال أهل البصر: يتوقع نباتها إلى وقت كذا توقعناه، فإن مضت؛ ولم ينبت؛ وجب القِصَاص، وَلَا يُسْتَوْفَى لَهُ فِي صِغَرِهِ، أي بل يؤخر إلى البلوغ فيستوفى، فإن مات الصبي قبل البلوغ اقتص وارثه فِي الحال أو أخذ الأرش، وإن مات قبل حصول اليأس وقبل تبين الحال فلا قصاص، وفي الإرث وجهان.
وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ مَثْغُورٍ فَنَبَتَتْ؛ لَمْ يَسْقُطِ القِصَاصُ فِي الأَظْهَرِ؛ لأن العادة عدم العود فهذه نعمة جديدة، والثاني: يسقط؛ كالصغير إذا عاد سنه، وَلَوْ نَقَصَتْ يَدُهُ أُصْبُعًا فَقَطَعَ كَامِلَةً، قُطِعَ؛ وَعَلَيْهِ أَرْشُ أُصْبُعٍ؛ لأنه قد قطع منه أصبعًا لم يستوف قصاصها، وله أن يأخذ دية اليد ولا يقطع.
وَلَوْ قَطَعَ كَامِلٌ نَاقِصَةً؛ فَإِنْ شَاءَ الْمَقْطُوعُ أَخَذَ دِيَّةَ أصَابِعِهِ الأرْبَعِ؛ وَإِنْ شَاءَ لَقَطَهَا، وليس للمجني عليه قطع اليد الكاملة لما فيه من استيفاء الزيادة، وَالأَصَحُّ: أَنَّ حُكُومَةَ مَنَابِتِهِنَّ تَجِبُ إِنْ لَقَطَ؛ لأن الحكومة من جنس الدية فلا يبعد دخولها
(162) قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة / 45].
فيها، والقِصَاص ليس من جنسها، والثاني: أنها لا تجب والحالة هذه، ويدخل تحت قصاص الأصابع كما يدخل تحت ديتها، فإنه أحد موجبي الجناية وقد قدمت الفارق آنفًا، لَا إِنْ أَخَذَ دِيَتَهُنَّ، أي فإن حكومة منابتهن تدخل فِي الدية، كما أن حكومة جميع الكف تندرج تحت دية الأصابع، والثاني: لا تدخل، وتختص قوة الاستتباع بالكل، وَأَنَّهُ يَجِبُ فِي الْحَالَيْنِ حُكُومَةُ خُمُسِ الْكَفِّ، أي خمس الباقي من الكف، والثاني: أن كل الأصابع تستتبع الكف كما تستتبعها كل الأصابع.
وَلَوْ قَطَعَ كَفًّا بِلَا أَصَابِعَ فَلَا قِصَاصَ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَفُّهُ مِثْلَهَا؛ لفقد المساواة فِي الأُولى ووجوده فِي الثانية.
وَلَوْ قَطَعَ فَاقِدُ الأَصَابِعِ كَامِلَهَا، قَطَعَ كَفَّهُ وَأَخَذَ دِيَّةَ الأَصَابِعِ، ليصل إلى حقه.
وَلَوْ شَلَّتْ أُصْبُعَاهُ فَقَطَعَ يَدًا كَامِلَةً؛ فَإِنْ شَاءَ لَقَطَ الثَّلَاثَ السَّلِيمَةَ وَأَخَذَ دِيَّةَ أُصْبُعَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَقَنِعَ بِهَا؛ لأنا ذكرنا فيما إذا عم الشلل اليد أنَّه إذا قطعها يقنع بها، فإذا كان الشلل فِي بعضها فالقناعة أَولى، وفي الحالة الأولى فِي استتباع الثلاث حكومة منابتها؛ وفي استتباع دِيَةِ الأصبعين حكومة منبتهما الخلافان السابقان.
فَصْلٌ: قَدَّ مَلْفُوفًا، أي فِي ثوب نصفين، وَزَعَمَ مَوْتَهُ؛ صُدِّقَ الْوَلِيُّ بِيَمِيْنهِ فِي الأَظْهَرِ؛ لأن الأصل استمرار الحياة، ووجه مقابله أن الأصل براءة الذمة، ونظير المسألة ما إذا هدم عليه بيتًا وادعى موته والوليَّ حياته.
وَلَوْ قَطَعَ طَرَفًا وَزَعَمَ نَقْصَهُ، أي كشلل فِي اليد والرجل وخرس فِي اللسان وأنكره المجني عليه، فَالْمَذهَبُ: تَصْدِيقُهُ إِنْ أَنْكَرَ أَصْلَ السَّلَامَةِ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ، أي كاليد والرجل واللسان والعين؛ لأن الأصل أنَّه لا قصاص، وأنه لم يفوت ما يدعيه المجني عليه؛ والمجني عليه متمكن من إقامة البينة على السلامة التي يدعيها لظهور العضو، وَإِلَّا فَلَا، أي وإن لم ينكر أصل السلامة؛ بل اتفقا على أنَّه كان سليمًا؛ وادعى الجاني حدوث النقص والشلل؛ فأظهر القولين: إن المصدق المجني عليه؛ لأن
الأصل استمرار السلامة التي كانت، ووجه مقابله: أن الأصل البراءة عن القِصَاص. وإن كان العضو باطنًا كالذكر والأنثيين فقولان؛ سواء أنكر الجاني أصل السلامة أو سلمه وادعى زوالها، أصحُّهُما: تصديق المجني عليه؛ لأن الأعضاء الباطنة لا يطلع عليها، فتعسر إقامة البينة على سلامتها، هذا أظهر الطرق فِي المسألة ووراءه طرق موضحة فِي الأصل، والمراد بالعضو الباطن: ما يعتاد ستره مروءة، وقيل: ما يجب؛ وهو العورة، والظاهر ما سواه.
فَرْعٌ: إذا صدقنا الجاني، احتاج المجني عليه إلى بينة بالسلامة، ثم الأصح: أنَّه يكفي قول الشهود: كان صحيحًا، ولا يشترط تعرضهم لوقت الجناية.
أَوْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَمَاتَ وَزَعَمَ، أي الجاني أنَّه مات، سِرَايَةً، أي فالواجب الدية، وَالْوَلِيُّ انْدِمَالًا مُمْكِنًا أَوْ سَبَبًا، أي فالواجب ديتان، فَالأَصَحُّ تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ، أي بيمينه، وهذا ما قطع به الأكثرون، وعبارة الوجيز: هو خارج على تقابل الأصلين؛ إذ الأصل براءة الذمة من جانب، وعدم التداخل من جانب، والثاني: إن مضت مدة طويلة لا يمكن أن تبقى الجراحة فيها غير مندملة صُدِّقَ الوليُّ بلا يمين، وإلا فيمين، والثالث: إن كان احتمال الاندمال مع إمكانه بعيدًا صدق الجاني بيمينه، وإلا فالولي. وادعى الإمام: اتفاق الأصحاب عليه وليس كما ادعى. واحترز بقوله (انْدِمَالًا مُمْكِنًا) عما إذا لم يمكن الاندمال فِي تلك المدة؛ لقصرها كيوم ويومين، فإن القول قول الجاني بلا يمين، وقيل: بيمين وهو ضعيف، وقوله (أوْ سَبَبًا) أي قال الجاني: مات بالسراية، وقال الولي: بل مات بسبب آخر؛ بأن قال: قتله آخر، ووجه تصديق الجاني احتمال ما يقوله، وأن الأصل براءة الذمة، والوجه الأصح: أن الأصل بقاء الديتين الواجبتين بالجنايتين، والأصل عدم السبب الآخر، وهذه الحالة فيها وجهان فقط، والأُولى: ثلاثة أوجه كما ذكرتها أولًا، وَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ وَزَعَمَ سَبَبًا وَالْوَلِيُّ سِرَايَةً، أي مات به من قَتْلٍ أَو شُرْبِ سَمٍّ مُوْجٍ فلا يلزمه إلا نصف الدية، وقال الوليُّ: بل مات بالسراية، فإن الأصح أن المُصدِّق الولي؛ لأن الأصل أنَّه لم يوجد سبب آخر، ووجه مقابله: أن الأصل براءة الذمة.
وَلَوْ أَوْضَحَ مُوَضِّحَتَيْنِ وَرَفَعَ الْحَاجِزَ، أي بينهما، وَزَعَمَهُ قَبْلَ انْدِمَالِهِ، أي فليس عليه إلا أرش واحدٌ، وقال المجني عليه: بل بعده فعليك أرش ثلاث موضحات، صُدِّقَ، أي الجاني، إِنْ أَمْكَنَ، بأن قصر الزمان، وَإِلَّا حُلِّفَ الْجَرِيْحُ وَثَبَتَ أرْشَانِ، قِيْلَ: وَثَالِثٌ، أي وإن لم يمكن بأن طال الزمان صُدِّق المجني عليه، فإذا حلف؛ ثبت أرشان، وقيل: هل يثبت ثالث؟ فيه وجهان؛ أحدهما: نعم، لأنه ثبت رفع الحاجز باعترافه، وثبت الاندمال بيمين المجني عليه فقد حصلت موضحة ثالثة؛ وأصحهما: لا، ويصدق فيه الجاني؛ لأنه يقول: رفعت الحاجز حتَّى لا يلزمني أرش؛ بل يعود الأوليان إلى واحد، فإن لم يُقبل قوله في الاتحاد؛ فوجب أن لا يقبل فِي الثالث الذي لم يثبت موجبه.
فَصْلٌ: الصَّحِيْحُ ثُبُوتُهُ، يعني القِصَاص، لِكُلِّ وَارِثٍ، أي على فرائض الله تعالى كالدية، والثاني: تستحقه العصبة خاصة؛ لأن القِصَاص لدفع العار، فاختص بهم كولاية النِّكَاح. والثالث: يستحقه الوارثون بالنسب دون السبب لانقطاعه بالموت فلا حاجة إلى التَّشفي، وَيُنْتَظَرُ غَائِبُهُمْ، إلى أن يحضر أو يراجع، وَكَمَالُ صَبِيِّهِمْ وَمَجْنُونِهِمْ؛ لأن القِصَاص للتشفي، فحقه التفويض إلى خيرة المستحق، ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي، وَيُحْبَسُ الْقَاتِلُ، أي فِي الحال المذكور، وَلَا يُخَّلَّى بِكَفِيْلٍ؛ لأنه قد يهرب فيفوت الحق، ويحبسه الحاكم دون الولي، ولا يتوقف على طلب الولي، قاله الماوردي، وَلْيَتَّفِقُواْ عَلَى مُسْتَوْفٍ، أي إذا كان القِصَاص بحضور كاملين؛ لأن فِي اجتماعهم على قتله تعذيبًا له، وَإِلَّا فَقُرْعَةٌ، أي فإن لم يتفقوا على مستوفٍ، فَيُقْرَعُ بينهم؛ لعدم المزية؛ فَمَن خرجت قرعته تولاه بإذن الباقين، يَدْخُلُهَا الْعاجِزُ، أي كالشيخ والمرأة؛ لأنه صاحب حق، وَيَسْتَنِيْبُ، أي من يصلح للاستيفاء، وَقِيْلَ: لَا يَدْخُلُ؛ لأنه ليس أهلًا للاستيفاء. والقرعة إنما تجيء بين المستويين فِي الأهلية، وهذا هو الأصح عند الأكثرين؛ كما ذكره فِي أصل الروضة، وهو وافٍ بما فِي الرافعي؛ فإنه نقله عن تصحيح جماعة، ونقل الأول عن تصحيح البغوي وحده وهو غريب من تصحيح الرافعي له فِي الْمُحَرَّرِ. وقد صحح فِي الشرح الصغير الثاني كما
اقتضاه كلامه فِي الكبير أيضًا، ونص عليه فِي الأم حيث قال فِي باب تشاحِّ الأولياء على القِصَاص: ولا يقرع لامْرَأةٍ ولا ندعها تقتله (•)، لأن الأغلب أنها لا تقدر على قتله إلَّا بتعذيبه، وكذا لو كان فيهم أشل اليمين أو ضعيف أو مريض لا يقدر على قتله إلَّا بتعذيبه أُقرع بين من يقدر على قتله ولا يعذبه بالقتل.
وَلَوْ بَدَرَ أحَدُهُمْ، أي أحد الورثة، فَقَتَلَهُ، أي من غير إذن الباقين، فَالأظْهَرُ لَا قِصَاص؛ لأن له حقًّا فِي قتله فصار شبهة، ولأن من علماء المدينة أو أكثرهم مَنْ ذهب إلى أنَّه يجوز لكل واحد من الورثة الانفراد وإن عفى الباقون، ويقال: إنه رواية عن مالك، والثاني: نعم؛ لأنه استوفى أكثر من حقه كما لو استحق طرفًا فاستوفى نفسًا، وهذا الخلاف فيما إذا قتله عالمًا بالتحريم، فإن جهل فلا قصاص قطعًا، وفيما إذا كان قبل حكم الحاكم بالمنع منه، فإن كان بعده فالصحيح أن عليه القِصَاص لِدَفعِ الشبهة به قاله الماوردي، وَللْبَاقِيْنَ قِسْطُ الدِّيَةِ؛ لفوات القِصَاص بغير اختيارهم، مِنْ تَرِكَتِهِ، أي من تركة الجاني؛ لأن القاتل فيما وراء حقه، لأجنبي ولو قتله أجنبي فأخذ الورثة الدية من تركة الجاني لا من الأجنبي فكذا هنا، وَفِي قَوْلٍ: مِنَ الْمُبَادِرِ، أي وهو الأخ المبادر مثلًا؛ لأنه أتلف ما يستحقه هو وأخوه فلزمه ضمان حق أخيه، كما لو كانت لهما وديعة فأتلفها أحدهما. وفرَّق الأول بأن الوديعة غير مضمونة لو تلفت بآفة سماوية بخلاف نفس الجاني، وَإِنْ بَادَرَ بَعْدَ عَفوِ غَيْرِهِ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ؛ لارتفاع الشبهة، وَقِيْلَ: لَا إِنْ لَمْ يَعْلَمْ. وَيَحْكُمُ قَاضٍ بِهِ؛ لشبهة اختلاف العلماء فيه، أما إذا حكم القاضي به؛ وعلمه؛ فيلزمه القِصَاص قطعًا فإن جهله؛ فإن قلنا: لا قصاص مع العلم، فهنا أولى، وإلا فوجهان، وَلَا يُسْتَوْفَى قِصَاصٌ إِلَّا بإِذْنِ الِإمَامِ، أي أو نائبه لخطره، وذكر صاحب التَنْبِيْه: أنَّه لا يجوز إلَّا بحضرته، قال الشيخ عزُّ الدِّينِ: فإن تعذر إثباته كان له الاستبداد (•) به حيث لا يراه أحد.
(•) فِي النسخة (2): وَقَتْلَهُ بدل تَقْتُلُهُ.
(•) فِي النسخة (1): الاستقلال بدل الاستبداد.
فَرْعٌ: يستثنى السيد فإنه يقيم القِصَاص على عبده على ما اقتضاه تصحيح المصنف تبعًا للرافعي من إقامته عليه حد السرقة والمحاربة.
فَرْعٌ: ذكر الماوردي فِي الأحكام السلطانية أن نظر القاضي يشتمل على عشرة أحكام منها إقامة حدود الله تعالى على مستحقيها وإن لم تطلب إقامة حدود الآدميين إذا طلبها المستحق.
فَإنِ اسْتَقَلَّ، أي باستيفائه، عُزِّرَ، لافتياته، وَيَأْذَنُ لأَهْل فِي نَفْسٍ، ليكمل التشفي، وخرج بالأهل الشيخُ والزَّمِنُ والمرأةُ، فإن الإمام يأمره أن يستنيب، وخالف ما نحن فيه الجلد فِي القذف؛ فإنه لا يفوض إلى المقذوف؛ لأن تفويت النفس مضبوط؛ والجلدات يختلف موقعها والتعزير كحدِّ القذف، لَا فِي طَرَفٍ فِي الأَصَحِّ؛ لأنه لا يُؤْمَنُ أن يردد الحديدة ويزيد فِي الإيلام، والثاني: يأذن له كالنفس لأن إتلاف (•) الطرف مضبوط.
فَرْعٌ: لو قتل ذميُّ ذميًا ثم أسلمَ القاتلُ فيستوفيه الإمامُ فقط بطلب المستحق، لئلا يتسلط الكافرُ على المسلم، وكذا إذا جرح ذميُّ ذميًا معاهدًا ثم أسْلَمَ الجارحُ ثم ماتَ المجروحُ بالسراية، وهذه الصور تخرج بقول المصنف (لأهْلٍ).
فَإِنْ أَذِنَ فِي ضَرْبِ رَقَبَةٍ فَأَصَابَ غيْرَهَا عَمْدًا عُزِّرَ؛ لتعديه (•)، وكذا لو ادّعى الخطأ مما لا يقع الخطأ بمثله بأن ضرب رجله ووسطه، وَلَمْ يَعْزِلْهُ؛ لوجود الأهلية وإن تعدى بفعله كما لو جرحه قبل الارتفاع إلى الحاكم لا يمنع من الاستيفاء، وَلَوْ قَالَ: أَخْطَأْتُ، وَأَمْكَنَ، بأن ضرب كتفه أو رأسه مما يلي الرقبة، عَزَلَهُ؛ لأن حاله تشعر (•) بعجزه وخَوْفِهِ، قال الإمام: وينبغي تخصيص هذا بمن لم تعرف مهارته فِي ضرب الرقاب، وأما الماهر، فينبغي ألا يعزل لخطأ اتفق له، وَلَمْ
(•) فِي النسخة (1) إبانة الطرف بدل إتلاف الطرف.
(•) فِي النسخة (2): لتعذيبه بدل لتعديه.
(•) فِي النسخة (1): لأن خطأه يُشْعِرُ بدل لأن حاله تُشْعِرُ.
يُعَزَّرْ، أي والحالة هذه، وذلك إذا حلف؛ كما قيده فِي الروضة تبعًا للرافعي، وَأُجْرَةُ الْجَلَّادِ، أي المقتص، عَلَى الْجَانِي عَلَى الصَّحِيحِ، أي إذا لم ينصِّب (•) الإمام جلادًا؛ لأن الحق عليه، ويلزمه أجرة الاستيفاء كما يلزم البائع أجرة الكيَّال، والمشتري أجرة الوزن، والثاني: أنها على المقتصِّ؛ والواجب عليه التمكين لا التسليم، كما أن أجرة نقل الطعام المشترى على المشتري والمستوفي؛ وهما كالخلاف فِي أنَّ مؤنة الجداد هل تلزم البائع أم المشتري؟
فَرْعٌ: لو قال الجاني: أنا أقتص من نفسي ولا أؤدي الأجرة! فهل يقبل منه؟ فيه وجهان؛ أصحُّهما: لا؛ لفقد التشفِّي، والثاني: نعم؛ كما فِي قطع السارق، والفرق أن الغرض التنكيل ويحصل بذلك، بخلاف القِصَاص كما سلف.
فَصْلٌ: ويقْتَصُّ عَلَى الْفَوْرِ؛ لأن القِصَاص مُوجب الإتلاف فيتعجل كقيم المتلفات، وَفِي الْحَرَمِ، أي قتلًا وقطعًا؛ لأنه قتل، لو وقع فِي الحرم، لم يوجب ضمانًا، فلم يمنع منه كقتل الحيّة والعقرب.
فَرْعٌ: لو التجأ إلى المسجد أُخرِجَ منه؛ قال الإمام: وكذا غيره من المساجد، قال فِي الروضة: وكذا إلى الكعبة أو مِلْكِ إنسان.
وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ، أي فإن كان مُخطِرًا، وكذا لا يؤخر الجلد فِي القذف بخلاف القطع والجلد فِي حدود الله تعالى لبنائها على المساهلة بخلاف حق الآدمي، وَتُحْبَسُ الْحَامِلُ، أي، فِي قِصَاصِ النَّفْسِ، أوِ الطَّرْفِ حَتْى تُرْضِعَهُ اللَّبَأ وَيَسْتَغْنِي بِغَيرِهَا، أوْ فِطَامِ حَوْلَيْنِ، أما تأخيرها إلى الوضع؛ فهو إجماع فِي النفس، وأما فِي الطرف؛ فلأن فيه إجهاضُ الجنين وهو متلفٌ له، وأما التأخير لإرضاع اللبأ؛ فلأن الولد لا يعيش إلَّا به غالبًا أو محقَّقًا، وَاللَّبَأُ مقصورُ اللبنُ أول النتاج كما سلف فِي النفقات، وأما التأخير للإستغناء بغيرها؛ فلأجل صيانة الولد أيضًا، فإن لم يوجد ذلك الغير ولو بهيمة يحل له تناول شربها فحتى ترضعه حولين كما قال المصنف.
(•) فِي النسخة (1): يرصد.
فَرْعٌ: الجلد في القذف كالقِصَاص، وأما الرجم وسائر حدود الله تعالى فلا يُستوفى، وإن وجدتْ مرضعةً! بل ترضعه إلى أن يوحد كافل بعد انقضاء الإرضاع، والفرق بين الحدود والقِصَاص أنها على المساهلة كما سلف، ووافق القفال في فتاويه في الجلد، وخالف في القطع، وفرق بان الجلد يحتمل التأخير، وبأنه عقوبة في جميع البدن.
فَرْعٌ: لو كان على الحامل رجم، أو غيره من حدود الله تعالى لم تحبس على الصحيح؛ لأنه على التخفيف.
وَالصَّحِيحُ تَصْدِيْقهَا فِي حَمْلِهَا بِغَيرِ مَخِيلَةٍ، لأنها مُؤْتَمَنَةْ على ما في رَحِمِهَا فينتظر ظهور مَخِيْلَةٍ، والثاني: لا تصدَّقُ للتهمة.
فَصلْ: وَمَن قَتَلَ بِمُحَدَّدٍ أَوْ خَنْق أَؤ تجوِيع وَنَحوِهِ، أي كأن رماه من شاهق، اقتصَّ بِهِ، قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. . .} الآية (163)؛ لأن المقصود من القِصَاص التشفّي، وإنما يكمل إذا قُتِلَ القَاتِلُ بِمِثْلِ ما قَتَل، أَوْ بِسِحْر فَبِسَيفٍ؛ لقوله عليه السلام:[حَدُّ السَّاحِرِ ضَربة بِالسَّيف] صحَّحَهُ الحاكمُ مع الغرابة (164)، وَكَذَا خَمْرٌ، أي بأن أوْجَرَهُ به حتى مات، وَلوَاطٌ فِي الأصَح، أي يقتل منه غالبًا، بأن لاط بصغير في الأصح؛ لأن ما قَتَلَ به محرَّمُ الفعلِ فيتعين السيفُ، والثاني: أنه في الأولى يُوْجَرُ مائعًا كَخَلٍّ أو ماء أو شيء مُرٍّ، وفي الثانية: يعمل مثل الذكر من الخشب أو
(164)
رواه الحاكم في المستدرك: كتاب الحدود: الحديث (8073/ 50)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد؛ وإن كان الشيخان تركا حديث إسماعيل بن مسلم، فإنه غريب صحيح. وله شاهد صحيح على شرطهما جميعًا في ضد هذا. ورواه الترمذي في الجامع: كتاب الحدود: باب ما جاء في حدِّ السَّاحر: الحديث (1460). ونقل قول الشافعي رحمه الله؛ قال: إِنمَا يُقتَلُ السَّاحِرُ إِذَا كَانَ يَعْمَل في سِحْرِهِ مَا يبلُغُ بهِ حَدَّ الكُفْرِ؛ فَإذَا عَمِلَ عَمَلا دُون الكُفْرِ فَلَم نَرَ لَهُ قَتْلًا. إنتهى. وإسناده ضعيف والله أعلم.
من الجلد فيقتل به لقربه من فعله، وتكون الخشبة قريبة من آلته كما صرح به الرافعي وغيره، وظاهر كلام الجمهور: أنها لا تتقدر بذلك، بل يعمل خشبة تقتل مثل القاتل، قال المتولي في الثانية: هذا إذا توقع موته بالخشبة، وإلا فبالسيف، نقله الرافعي عن المتولي. واقتصر عليه، وهو في النهاية أيضًا مع إشارة إلى احتمال فيه.
فَرع: لو سقاه بولًا فكالخمر على الأصح في أصل الروضة.
فَرع: لو أَوْجَرَهُ ماءً نجسًا أُوْجِرَ طاهرًا.
وَلَو جُوعَ كَتَجوِيْعِه فَلَمْ يَمُتْ زِيدَ؛ ليكون قتله بالطريق الذي قتل به ولا يبالي بزيادة الإيلام، وَفي قَوْلٍ: السَّيْفُ؛ لأن المماثلة قد حصلت، ولم يبق إلّا تفويت الروح فيجب تفويتها بالأسهل فالأسهل، وَمَنْ عَدَلَ إِلَى سيْفٍ، عن غيره مما ذكر كخنق وتجويع، فَلَهُ؛ لأنه أوحى وأسهل، وَلَو قَطَعَ فَسَرَى، أي إلى النفس، فَلِلْوَليِّ حَز رَقبتِهِ؛ لأنه أسهل على الجاني من القطع ثم الحَزِّ، وَلَهُ القَطْعُ ثُمَّ الحَز، طلبًا للمماثلة، وَإن شاءَ انْتَظَرَ السِّرَايَةَ، أي بعد القطع، وليس للجاني أن يقول: أمهلوني مدة بقاء المجني عليه بعد جنايتي لثبوت حق القِصَاص ناجزًا.
وَلَو مَاتَ بِجَائِفَةٍ أَؤ كَسْرِ عَضُدٍ فَالحَزُّ؛ لأن المماثلة لا تتحقق في هذه الحالة بدليل عدم إيجاب القِصَاص في ذلك عند الاندمال فتعين السيف، وَفِي قَولٍ: كَفِعلِهِ، تحقيقًا للمماثلة، وهذا ما عليه الأكثرون كما في الرافعي؛ فإنه لم ينقل تصحيح الأول إلّا عن البغوي وحده، ونقل تصحيح الثاني عن الجويني وغيره من العراقيين والروياني أيضًا، ووقع في الْمُحَرَّر نسبة الأول إلى ترجيح كثيرين فتبعه المصنف، وكأنه سبق قلم، فإنه قال: فيستوفي القِصَاص بمثل ذلك أو يعدل إلى السيف، فيه قولان رجح كثيرون منهما الثاني يعني: السيف، فسبق القلم من الأول إلى الثاني، ولما رأى المصنف في الروضة ما قدمناه عن الرافعي، قال الأكثرون على الثاني؛ وهو وافٍ بما فيه، وأفهم كلام الرافعي (•) أن محل الخلاف عند الإطلاق، أما إذا قال:
(•) في النسخة (2): الفارقي.
أجيْفُهُ ثم أقتلهُ إن لم يَمُتْ فله ذلك قطعًا؛ قال البغوي: ولو أجافه ثم عفى عنه عُزِّرَ على ما فعل ولم يجبر على قتله، فإن مات بَانَ بطلان العفو. وينتظم من هذا لغز؛ فيقال: رجل مُطْلَقُ التصرف وارث القِصَاص في غير المُحَارَبَةِ ومتى عفى عنه عُزِّرَ؟ فإن لَم يَمُتْ، أي بعد أن فعل به كفعله، لَم تُزَدِ الجَوَائِفُ فِي الأَظْهَرِ؛ لاختلاف تأثير الجوائف باختلاف محالها فهي كقطع الأطراف المختلفة، والثاني: نعم؛ فيكون إزهاق الروح قصاصًا بطريق إزهاقه عدوانًا وهو مخرج من مسألة التجويع والإلقاء في النار ونحوهما.
وَلَوِ اقْتَص مَقْطُوعٌ، أي من قاطعه، ثُم مَاتَ، أي المقطوع الأول، سِرَايَةَ فَلِوَليِّهِ حَزُّ، أي في مقابلة نفس مورثه، وَلَهُ عَفْوٌ بِنِصْفِ دِيَّةٍ، أي واليد المستوفاة مقابلة بالنصف.
وَلَو قُطِعت يَدَاهُ فَاقتَص ثُمَّ مَاتَ، أي المجني عليه بالسراية، فلِوَلِيهِ الحَزُّ، أي من القاطع، فَإن عَفَى فَلَا شَيء لَهُ؛ لأنه استوفى ما يقابل الدية، وهذه صورة يستحق فيها القِصَاص ولا تستحق فيها الدية لو عفى عليها.
وَلَو مَاتَ جَانٍ مِن قَطع قِصَاصِ فَهَدَرٌ، كالقطع في السرقة، وإن مَاتا سِرَايَةَ، أي بعد الاقتصاص في اليدين، مَعَا أوْ سبقَ المَجنِي عَلَيهِ فَقد اقْتَص، أي حصل قصاص اليد باليد وَالسِّرَايَةُ بِالسِّرَايَةِ ولا شيء على الجاني؛ لأن السراية لما كانت كالمباشرة في الجناية فكذلك في الاستيفاء، قال الرافعي: وهذا هو المشهور؛ ونسبه ابن كج إلى أبي علي الطبري، وحكى عن عامة الأصحاب: أن لولي المجني عليه نصف الدية في تركة الجاني؛ لأن سراية الجاني مهدرة وسراية المجني عليه مضمونة، وإِن تَأَخرَ، أي بأن مات الجاني أولا، فَلَهُ نِصفُ الديةِ، أي في تركة الجاني، فِي الأصَح، أي إذا استوفى قدر ديَّة الجاني والمجني عليه، ولا يحصل القِصَاص بما جرى؛ لأن القِصَاص إنما يجب في النفس بالزهوق، فتصير كالتلف في القِصَاص، وهو ممتنع كما لو قال: اقطع يدك حتى إذا قَطَعتَ يدي لا يكون لي عليك شيء، والثاني: لا
شيء له، ويحصل القِصَاص بما جرى؛ لأن الجاني مات بسراية فعل المجني عليه وحصلت المقابلة، وادعى الروياني أن هذا هو الصحيح!
فَصلٌ: وَلَو قَالَ مُستَحِقُّ يَمِينِ: أَخرِجهَا، فَأَخرَجَ يَسَارَهُ وَقَصَدَ إِبَاحَتَهَا فَمُهدَرَة، أي لا قصاص ولا دية، وإن علم القاطع بالحال على الأصح؛ لأن صاحبها بدلها مجانًا، وأما قصاص اليمين فيبقى كما كان، وَإن قَالَ: جَعَلْتُهَا عَنِ اليَمِينِ، وَظَنَنتُ إِجْزَاءَهَا، فَكَذَّبهُ، أي القاطع وقال: عرفت أنها اليسارُ وأنها لا تجزئ عن اليمين، فَالأصَحُّ: لَا قِصَاصَ فِي اليَسَارِ؛ لأنا أقمنا ذلك مقام الإذن في القطع، وهو لو قال لغيره اقطع يدي فقطعها لا قصاص عليه، والثاني: نعم؛ لأنه قطع بلا استحقاق عن علم بالحال، بخلاف مسألة الإذن في القطع؛ لأنه عَلِمَ (•)، وإذنه هنا، إنما هو ليكون عوضًا عن اليمين، فإذا لم يقنع بها فهو كالإذن، وجزم الماوردي: بأنه إذا أخذها القاطع بدلًا عن حقه لا قصاص، وإن أخذها لا بدلًا عنه وجب.
وَتَجِبُ دِيَّةٌ؛ لأنه لم يبدلها مجانًا، وَيَبْقَى قِصَاصُ اليَمِينِ، أي على الوجهين، وَكَذَا لَوْ قَالَ: دُهِشْتُ، فَظَنَنْتُهَا اليَمِينَ، وَقَالَ القَاطِعُ: ظَنَنتهَا اليَمِينَ، أي فلا قصاص في اليسار على الأصح لأن هذا الاشتباه قريب، والثاني: نعم؛ كما لو قتل رجلٌ رجلًا؛ وقال: ظننتهُ قَاتِلَ أبي؛ لكن الفرق تقصير المخرِج هاهنا عنها (•).
فَصْلٌ: مُوجبُ العَمدِ القَوْدُ، وَالديةُ بَدَلٌ عِندَ سُقُوطِهِ؛ لأنه بدل متلف فتعين جنسه كسائر المتلفات، وَفِي قَوْل: أَحَدُهمَا مُبْهَمًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيْل؛ فَهُو بخَيْرِ النظريْنِ، إِمَّا أَنْ يُؤدي وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ] متفق عليه من حديث أبي هريرة (165)، وَعَلَى القَولَينِ لِلوَليِّ عَفْو عَلَى الديةِ بِغَيْرِ رِضَى الجَانِي؛ للحديث
(•) في النسخة (1): عام بدل علم.
(•) في النسخة (1) أضاف: أي عن اليمين. وكأنها زيادة من الناسخ.
(165)
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم: [. . . مِمنْ قُتِلَ فَهُوَ بخَيرِ النظَرَينِ؛ إما أنْ يُعقَلَ؛ وَإِمَّا أن يُقَادَ أهلُ القَتِيلِ]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب العلم: باب كتابة العلم: =
المذكور، وَعَلَى الأول، أي وهو أن الواجب القود عينًا، لَوْ أطْلَقَ الْعَفْوَ، أي فلم يتعرض للدية بنفي ولا إثبات، فَالمَذهَبُ لَا دِيَّةَ؛ لأن القتل لم يوجب الدية على هذا القول، والعفو إسقاط ثابت لا إثبات معدوم، والثاني: يجب، لقوله تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (166) أي اتباع المال وذلك يشعر بوجوب المال بالعفو فعدل إلى بدله كما لو مات الجاني، وأجاب الأول: بحمل الآية على ما إذا عفى على الدية، قال الرافعي: وهذه الطريقة هي أظهرهما، وهي حاكية لقولين أو وجهين ولم يذكر الطريقة الأخرى هنا، وقال في آخر كلامه: وقوله -يعني الوجيز- وإن عفى مطلقًا فقولان، مُعْلَم بالواو لأجل الطريقة القاطعة لم يبيّن هل هي قاطعة بالصحيح أم بمقابله؟ وَلَو عَفَى عَنِ الدِّيَّةِ لَغَا، بناءً على أن الواجب القود المَحضُ، وَلَهُ الْعَفْو بَعْدَهُ عَلَيهَا، لما قلناه، وَلَو عَفَى عَلَى غَيرِ جِنسِ الدِّيَّةِ ثَبَتَ، أي المال وسقط القود، إِن قَبلَ الجاني، وَإلا فَلَا، أي وإن لم يقبل الجاني لم يثبت المال، وَيسقُطُ القَوْدُ فِي الأصَح، لأنه رضي به على العوض ولم يحصل، والثاني: يسقط؛ لأنه رضي به حيث أقدم على الصلح وطلب العوض، فإن قلنا بهذا فهل تثبت الدية؟ قال البغوي: هو كما لو عفى مطلقًا.
فَرْعٌ: لو عفى عن القود على نصف الدية، قال القاضي: هذه معضلة أسهرت الجلة، وقال غيره: هو كعفوه عن القود ونصف الدية فيسقط القود ونصف الدية، وَاعلَم: أن المصنف فرَّعَ هذه الفروع على القول الصحيح: أن الواجب القود عينًا والدية بدل عند سقوطه، وتركَ التفريع على القول المرجوح لطوله، وقد ذكره في الروضة تبعًا للرافعي.
الحديث (112). ولفظ [إِمَّا أنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أنْ يُقِيْدَ]: الحديث (2434)، ولفظ المتن في كتاب الديات: باب من قُتِلَ لَهُ قتِيل: الحديث (6880). ومسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب تحريم مكة وصيدها: الحديث (447/ 1355).
(166)
فَائِدَةٌ: قيل: إنه كان في شرع موسى عليه السلام تحتم القِصَاص جَزْمًا، وفي شرع عيسى عليه السلام أخذ الدية فقط، فخفف الله عن هذه الأمة وخيَّرَها بين الأمرين لما في الإلزام بأحدهما من المشقة.
وَلَيسَ لِمَحْجُورِ فَلَس عَفْوٌ عَن مَالٍ إِن أَوجَبنَا أَحَدَهُمَا، أي أحد الأمرين للتفويت على الغرماء، وَإلا، أي وإن قلنا: الواجب القود عينًا، فإن عَفَى عَلَى الدِّيَّةِ ثَبَتَت، وَإن أَطْلَق فَكَمَا سَبَقَ، أي فيما إذا عفى مطلقًا، فإن قلنا: إنه يوجب الدية ثبتت وإلا فلا، والمذهب عدم الوجوب كما سلف، فَإن عَفَى عَلَى أن لا مَالَ، فالمَذْهَبُ: أَنهُ لا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لأن العفو مع نفي المال لا يقتضي مالًا، فلو كلفنا المفلس أن يُطلق ليثبت المال كان ذلك تكليفًا بأن يكتسب، وليس على المفلس أن يكتسب، وأشار بقوله (فَالمَذْهَبُ) إلى ذكر طريقين، وبيان ذلك أنا إذا قلنا: إن مطلق العفو لا يوجب المال فالمقيد بالنفي أولى، وإلّا فوجهان أصحهما هذا، والثاني: الوجوب؛ لأنه لو أطلق العفو لوجب المال، فالنفي كالاسقاط لما له حكم الوجوب وقد اقتضى كلام المصنف في باب التفليس الجزم بالصحة أيضًا فإنه قال: يصح اقتصاصه وإسقاطه، ومقتضاه: أنه لا فرق في الإسقاط بين أن يكون مجانًا أو على مال.
وَالْمُبَذِّرُ فِي الديةِ كمُفْلِسٍ، أي في حكمه الذي قررناه آنفًا، وَقِيلَ: كَصَبِي، أي فلا يصح عفوه عن المال مجانًا. لأنا؛ وإن قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال، فإذا تصدى له مال لم يَجُز له تركه كما لو وهب له شيء أو أوصي له بشيء فلم يقبل؛ فوليه يقبل عنه. بخلاف المفلس، لا يقبل الغرماء عنه، ولا الحاكم.
وَلَوْ تَصَالَحَا عَلَى القَودِ عَلَى مِائَتَي بَعِيْرٍ لَغَا، إِن أوْجَبنَا أحَدَهُمَا، يعني القِصَاص أو الدية؛ لأنه زيادة على الواجب نازل منزلة الصلح من ألف على ألفين، وَإلا، أي وإن قلنا بالأصح وهو أن الواجب القود عينًا والدية بدل عند سقوطه، فَالأصَحُّ: الصِّحةُ؛ لأنه مال يتعلق باختيار المستحق والتزام الجاني، فلا معنى لتقديره كبدل
الخلع، والثاني: لا؛ لأن الدية هي التي تخلف القِصَاص عند سقوطه فلا يزاد عليها.
فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ رَشِيْدٌ: اقْطَعنِي، فَفَعَلَ، فَهَدَرٌ، أي لا قصاص ولا دية، كما لو أذن في إتلاف ماله، فإنه لا ضمان بإتلافه، فَإن سَرَى، أي القطع، أوْ قَالَ: اقتُلْنِي، فَهَدَر. وَفِي قَولٍ: تجِبُ دِيَّة، هذا الخلاف مبني على أن الدية هل تجب للورثة ابتداء عقب هلاك المقتول أم تجب للمقتول في آخر جزء من حياته؛ ثم تنتقل إليهم؟ إن قلنا بالأول وجبت، ولم يؤثر إذنه وإلّا فلا، وهذا الثاني: أظهر، أعني الانتقال إليهم؛ لأنه تنفذ منها ديونه ووصاياه، ولو كانت للورثة لم يكن لذلك، وهذا كله فِي الدية، أما القِصَاص ففيه طريقان أشهرهما القطع بنفيه، كما جزم به المصنف، وجعل الإذن شبهة دارئة، والثاني: طرد الخلاف فيه، ووجه الوجوب بأن القِصَاص ثبت للورثة ابتداءً.
فَرْعٌ: إذا قلنا: لا دية فالكفارة واجبة على الأصح، ولا تؤثر فيها الإباحة.
وَلَو قُطعَ، عضو إنسان كأصبعه أو يده، فَعَفَى عَن قَوَدِهِ، وَأرشِهِ، فَإن لَم يَسْرِ فَلَا شَيْءَ، أي من قصاص أو ديَّة؛ لأن المستحق أسقط الحق بعد ثبوته فيسقط، وإن سَرَى، أي إلى النفس، فَلَا قِصَاصَ، أي كما لا قصاص في الطرف؛ لأن السراية تولدت من معفوٍ عنه، فصارت شبهة دارئة (•)، وَأما أرْشُ العُضوِ فَإن جَرى لَفْظُ وَصِيًةِ كـ (أَوْصَيْتُ لَهُ بِأرش هَذِهِ الْجِنايَةِ) فَوَصِية لِقاتِل، أي وقد سبق الخلاف فيها في كتاب الوصية، فإن أبطلناها لزمه أرش اليد، وإن صححناها سقط الأرش إن خرج من الثلث وإلّا سقط منه قدر الثلث، أَو لَفظُ إِبرَاءٍ، أي وإن جرى لفظ إبراء أوْ إِسقَاط، أَوْ عَفْوٌ، أي بأن قال: أبرَأتُهُ عن أرش هذه الجناية، أو أسقطته، أو عفوت عنه، سَقَطَ، أي قطعًا؛ لأنه إسقاط حق ناجز، والوصية هي التي تتعلق بحال الموت، وَقِيلَ: وَصِيَّة، بدليل الاعتبار من الثلث فيعود الخلاف في الوصية للقاتل، والطريقة الأولى هي الصحيحة، وهي القطع بعدم مجيء الخلاف، وَتجِبُ
(•) في النسخة (1): دامغة.
الزيادَةُ عَلَيهِ، أي على أرش العضو، إِلَى تمَامِ الدَّيةِ، وَفِي قَوْلٍ: إِن تَعَرَّضَ فِي عَفْوِهِ لِمَا يَحدُثُ مِنْهَا سقَطَت، اعلَم: أن ما تقدم في أرش العضو، وأما الزيادة عليه إلى تمام الدية فهي واجبة إن اقتصر على العفو عن موجب المال، ولم يقل وما يحدث منها، فإن قال وما يحدث! نُظِرَ، إن قاله بلفظ الوصية ففيه الخلاف في الوصية للقاتل، ويجيء في جميع الدية ما ذكرناه في أرش العضو، وإن قال عفوت عنه أو أبرأته عن ضمان ما يحدث أو أسقطته ففي تأثيره فيما يحدث قولان أظهرهما: لا، فيلزمه الضمان، وهما القولان في الإبراء عما لم يجب، وجرى سبب وجوبه، وهذا كله إذا كان الأرش دون الدية، فأما إذا قطع يديه فعفى عن أرش الجناية وما يحدث منها، فإن لم تصحح الوصية وجبت الدية بكمالها، وإن صححناها سقطت بكمالها إن وفّى بها الثلث، سواء صححنا الإبراء عما لم يجب، أو لم نصححه؛ لأن أرش اليدين ديةٌ كاملةٌ فلا يزيد بالسراية شيء، فَلَو سَرَى إِلَى عُضْوِ آخَرَ فاندَمَلَ، أي بأن قطع أصبعه فتآكل باقي الكف منها ثم اندمل، ضَمِنَ دِيةَ السرَايَةِ فِي الأصَحِّ؛ لأنه عفى عن موجب الجناية الحاصلة في الحال فتقتصر عليه، والثاني: المنع؛ لأنه إذا سقطت الجناية بالعفو صارت الجناية غير مضمونة، وإذا كانت الجناية غير مضمونة كانت السراية أيضًا غير مضمونة، كما إذا قال لغيره: اقطع يدي فقطعها وسرى القطع إلى عضو آخر، أما سقوط دية العضو المقطوع بالعفو فلا يختفي، ولا قصاص أيضًا والحالة هذه، ومحل الخلاف الذي ذكره المصنف ما إذا اقتصر العفو عن موجب الجناية، فأما إذا قال: عفوتُ عن هذه الجناية، وما يحدث منها، فيسري قطع الأصبع إلى قطع الكف، فإن لم نوجب ضمان السراية إذا أطلق فهنا أولى، وإن أوجبناه فيخرج هاهنا على الإبراء عما لم يجب، وجرى سبب وجوبه وقد تلخص من كلام المصنف من عند قوله ولو قطع فعفى إلى هنا أن للمسألة ثلاث حالات، أحدها: أن يندمل ولا يسري، وثانيها: أن يسري القطع إلى النفس، وثالثها: أن يسري إلى عضو آخر، وقد أوضحنا ذلك.
فَصلٌ: وَمَنْ لَهُ قِصَاصُ نَفْسٍ بِسِرَايَة طَرَفٍ، أي بأن كان الجاني قد قطع يد
المجني عليه، ومات بالسراية، لَو عَفَى عَنِ النفسِ فَلَا قَطْعَ لَهُ؛ لأن المستحق هو القتل والقطع طريقه وقد عفى عن المستحق له، أَوْ عَنِ الطرَفِ فَلَهُ حَز الرَّقبة فِي الأصَح، لأنه متمكن من العدول إلى حزِّ الرقبة فلعله قصد ذلك، والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه استحق القتل بالقطع الساري وقد تركه.
وَلَو قَطَعَهُ، أي الولي بسبب القطع السارى، ثُمَّ عَفَا عَنِ النَّفْسِ مَجَانًا، فَإن سَرَى القَطْعُ بَان بُطْلَان العَفْوِ، وَإِلا، أي وإن وقف، فَيَصحُّ، العفو ولم يلزمه بقطع اليد شيء، وكذا لو كان قتله بغير القطع وقطع الولي يده متعديًا ثم عفى عنه لا ضمان عليه لأنه قطع يد من يباح له دمه فلا يلزمه قصاص ولا ضمان، كما لو قطع يد مرتد. والعفو إنما يؤثر فيما تبقى لا فيما استوفى، فلا يخفى أن قول المصنف (وَلَوْ قَطَعَهُ ثُمَّ عَفَا. . .) إلى آخره من تمام حكم قوله (وَمَنْ لَهُ قِصَاصُ نَفْسٍ بِسِرَايَةِ طَرَفٍ) فإنه تارة يعفو، وتارة يقطع، فذكر الأول ثم الثاني، وَلَو وَكلَ، أي باستيفاء القِصَاص، ثم عَفَى فاقتص الوَكيلُ جَاهِلًا فَلَا قِصاص عَلَيهِ، لقيام العذر به، أما إذا كان عالمًا به فالقِصَاص واجب قطعًا، وَالأظْهَرُ: وُجُوبُ دِيَّة؛ لأنه تبين أنه قتله بغير حق فتجب دية مغلظة، وقيل: مخففة، والثاني: لا؛ لأنه عفى بعد خروج الأمر من يده فوقع لغوا، وأنها عليه لا على عاقلته؛ لأنه متعد، وإنما سقط القصاص للشبهة فتجب حالةً لا مؤجلة على الأصح من زوائد الروضة، والثاني: أنها على العاقلة لأنه فعلَ (•) جاهلًا بالحال فكان كالمخطئ، وقوله (وأنه تجب عليه) عطف على الأظهر، وصوابه في هذا إبدال الأظهر بالأصح كما فعله في الروضة تبعًا للرافعي، وَالأصحُّ أنَّهُ لَا يَرْجِعُ، أي الوكيل الغارم، بِهَا، أي بالدية، عَلَى العَافِي؛ لأن العافي محسن بالعفو غير مغرّرٍ بخلاف الغاصب إذا قدم الطعام المغصوب إلى الضيف، والثاني: يرجع، والثالث: يرجع الوكيلِ دون العاقلة، وَلَو وجَب قصَاصٌ عَلَيهَا، أي بأن جنت على شخص، فَنَكحَهَا عَلَيْهِ، أي هو أو وارثه، جَازَ؛ لأنه عوض مقصود،
(•) في النسخة (1): قتل.
وَسَقَطَ، أي القِصَاص لملكها قصاص نفسها، فإن فارَقَ قَبلَ الوَطء رَجَعَ بِنِصف الأَرْشِ؛ لأنه المسمى فِي العقد وقد فات، وَفي قَوْل: بِنِصْفِ مَهْرِ مِثلٍ، والخلاف شبيه بما إذا أصدقها عبدًا فظهر حرًا هل ترجع عليه بالمهر أو بقيمة العبد؟