الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مُوجِبَاتِ الدِّيةِ وَالْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةِ
تقدَّمَ الكلامُ على لفظ الدية في الباب قبله، وَالعَاقلَةُ: سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لأنَّهُمْ يَعقِلُونَ الإبِلَ بِفَنَاءِ دَارِ القَتِيْلِ، وَقِيْلَ: لأنَّهُمْ يَمنَعُونَ عَنْهُ، والعَقْلُ: المَنعُ، وَقِيلَ: لإعْطَائِهَا العَقلَ الذِي هُوَ الدِّيَةُ، والكَفارَةُ: مَأخُوذَة مِنَ الكُفْرِ: وَهُوَ السترُ كما تقدّم في بابها.
صَاحَ عَلَى صَبِيٍّ لَا يُمَيزُ، أي وكذا ضعيف التمييز كما قاله الإمام، عَلَى طَرَفِ سَطْحٍ، أي أو بئر أو نهر، فوَقَعَ بِذَلِكَ فَمَاتَ، فَدِيَة مُغَلظَة عَلَى العاقِلَةِ، لأنه يتأثر بالصيحة الشديدة كثيرًا؛ فأُحيل الهلاك عليها. ولم يتعرض الجمهور للارتعاد؛ وتعرض له الإمام؛ والغزالي والرافعي وكأنه ملازم لهذه الحالة، وَفِي قَولٍ: قِصَاصٌ، لأن التأثير بها غالب، وقياس القائل بهذا أن يوجب دية مغلظة على الجاني، وَلَوْ كان، الصبي المصيح عليه، بِأرضٍ، فمات، أو صَاحَ عَلَى بَالِغ بِطَرَفِ سَطْحٍ، فسقط ومات، فَلَا دِيَةَ في الأصَح، لندرة الموت بذلك والحالة هذه، والثاني: تجب؛ أما في الصبي؛ فكما لو سقط من سطح. وأما في البالغ؛ فلأنه مع الغفلة كالصبي، وَشَهْرُ سِلَاحٍ كَصِيَاحٍ، أي وكذا التهديد الشديد، وَمُرَاهِقٌ مُتَيَقظٌ كَبَالِغٍ، أي فلا دية فيه على الأصح كما مضى.
فَرْعٌ: المجنونُ؛ والمعتوهُ؛ والذي يعتريه الوسواسُ؛ والنائمُ؛ والمرأة الضعيفة؛ كالصبي الذي لا يُمَيِّزُ.
وَلَوْ صَاحَ عَلَى صَيدٍ فَاضطَرَبَ صَبِيُّ وَسقَطَ فَدِيَةٌ مُخَففَة عَلَى العاقَلَةِ، لأنه لا يتأثر بها غالبًا كما سلف، وَلَوْ طَلَبَ سُلْطَان مَن ذُكِرَتْ بِسُوءٍ فَأجهَضَتْ، أي ألقَتِ الجنينَ قبلَ تمامه، ضُمِنَ الجَنينُ، لأن عَلِيًا أشَارَ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنهما بِذَلِكَ في هَذِهِ الحَالَةِ وَرَجَعُوا إِلَيهِ فَكَانَ إِجْمَاعًا (192)، وهذا بخلاف ما لو ماتت،
(192) • عن شَهرِ بْنِ حَوْشَبٍ؛ (أن عُمَرَ بنَ الخَطابِ رضي الله عنه؛ صَاحَ بِامْرَأةٍ فَأسقَطَت! فأعْتَقَ =
فإنه لا ضمان على الأصح لندوره.
فَرْعٌ: لو هدد غير الإمام حاملا وأجهضت فزعًا، فَلْيَكُنْ كالإمامِ؛ لأن إِكْرَاهَهُ كَإِكرَاهِهِ.
وَلَوْ وَضَعَ صَبِيًّا في مَسبعَةٍ فَأكَلَهُ سَبُعٌ فَلَا ضَمَان، لأن الوضع ليس بإهلاك، ولم يوجد منه ما يلجئُ السبعَ إليه، بل الغالب أن السبعَ ينفر من الإنسان، وَقِيلَ: إِن لَم يُمكنهُ انْتِقَالٌ ضَمِنَ، لأنه إهلاك عرفًا، فأما إذا أمكنه الانتقال فلم يفعل فلا ضمان قطعًا، وخرج بالصبي البالغ، قال الرافعي: ويشبه أن يقال الحكم منوط بالقوة والضعف لا بالصغر والكبر. قُلْتُ: كلام صاحب المهذب يدل عليه.
وَلَو تبِعَ بِسَيْفٍ هَاربًا مِنْهُ فَرَمَى نَفْسَهُ بِمَاء أو نَارٍ أَوْ مِن سَطحٍ فَلَا ضَمَان، لأنه باشر إهلاك نفسهُ قصدًا، والمباشرة مُقدمَة على السبب، فصار كما لو حفر بئرًا فجاء آخر وردَّى نفسه فيها، فَلَوْ وَقَعَ، أي في المهلك المذكور ونحوه، جَاهِلا لِعَمىً أَوْ ظُلْمَةٍ ضَمِنَ، أي المُتبَع، لأنه لم يقصد إهلاك نفسهُ وقد ألجأهُ المُتبَعُ إلى الهرب المفضي إلى المهلك، وَكَذَا لَوِ انْخَسَفَ به سقف في هَرَبه في الأصَح، لأنه حَمَله على الهرب وألجأه إليه؛ وأنه أفضى إلى المعنى المهلك من غير شعور للمطلوب به؛ فأشبه ما لو وقع في بئر مغطاة، وهذا ما حكى عن نصه في الأم أيضًا، والثاني: لا ضمان، لأن المعنى المهلك لم يشعر به الطالب ولا المطلوب، فأشبه ما إذا عرض سبع فافترسه.
فَرْعٌ: لو ألقى نفسه على السقف من علو فانخسف لثقله، فهو كما لو ألقى نفسه في ماء أو نار.
عُمَرُ رضي الله عنه غُرة). رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الديات: جماع أبواب الديات دون النفس: الأثر (16893). وقال: إسناده منقطع. والأثر (16841).
• أما أثرُ مشورةِ علي لعمر رضي الله عنه؛ رواه ابن حزم في المحلى بالآثار: حكم من أفزعه السلطان فتلف: ج 11 ص 24.
تَنْبِيْهٌ: ما ذكرناه من سقوط الضمان على المتبِع إذا ألقى المطلوب نفسه في ماء أو نار أو من سطح قصدًا، أردنا به العاقل البالغ، أما إذا كان المطلوب صبيًا أو مجنونًا فينبني على أن عَمْدَهما عمدٌ أم خطأٌ؟ إن قلنا: خطأ! ضَمِنَ؛ وإلا فلا.
وَلَوْ سُلِّمَ صَبِي إِلَى سباحٍ لِيُعَلمَهُ فغَرِقَ وَجَبَتْ دِيَتُهُ، لأنه غرق بإهماله؛ ويكون دية شبه العمد؛ كما لو ضرب المعلم الصبي للتأديب فهلك، واحترز بـ (الصبي) عن البالغ؛ فإنه إذا سلم نفسه لتعلم السباحة ففي الوسيط أنه إذا خاض معه اعتمادا على يده فأهمله احتمل أن يجب الضمان، والذي ذكره العراقيون والبغوي: أنه لا ضمان؛ لأنه مستقلُّ.
فَصْلٌ: وَيَضمَنُ بِحَفْرِ بِئْر عُدوَان، لتعديه بذلك، لَا في مِلْكهِ وَمَوَاتٍ، أي للتمليك أو للارتفاق لعدم التعدي، وعلى الموات حُمِلَ الحديث الصحيح [البِئْرُ جُبَارٌ](193)، وَلَوْ حَفَرَ بِدِهلِيزِهِ بِئْرًا وَدَعَى رَجُلًا فَسَقَطَ فَالأظْهَرُ: ضَمَانُهُ، لأنه غَرَّهُ، والثاني: لا، لأنه غير مُلجِئٍ فهو المباشر لإهلاك نفسه باختياره، أو بِملْكِ غَيْرِهِ؛ أَوْ مُشْتَرَكٍ بِلَا إِذنِ فَمَضمُون، لتعديه، فإن كان بالإذن فهو كحفره في ملكه، أَوْ بِطَرِيْقٍ ضَيقٍ يَضُرُّ المَارةَ فَكَذَا، للتعدي أيضًا، أَوْ لَا يَضرُّ وَأَذِن الإِمَامُ فَلَا ضَمَان، وَإِلا، أي وإن لم يأذن، فَإن حَفَرَ لِمَصلَحَتِهِ فَالضمَان، لافتياته على الإمام، أَوْ لِمَصلَحَةٍ عَامة، أي كالحفر للاستقاء، فَلَا في الأَظْهَرِ، لما فيه من المصلحة العامة، وقد تعتبر مراجعة الإمام في مثله، والثاني: نَعَمْ، والجواز مشروط بسلامة العاقبة، وَمَسْجِدٌ كَطَرِيقِ، أي فيأتي في بيانه (•) ما سلف في الحفر في الطريق وقد عرفتَ تفصيلهُ.
(193) رواه البخاري في الصحيح: كتاب الزكاة: باب في الركاز الخمس: الحديث (1499). ومسلم في الصحيح: كتاب الحدود: باب جرح العجماء: الحديث (45/ 1710). وأبو داود في السنن: كتاب الديات: باب العجماء والمعدن: الحديث (4593). والترمذي في الجامع: كتاب الزكاة: باب ما جاء في أن العجماء جرحها جبار: الحديث (642).
(•) في النسخة (1): بنائه.
وَمَا تَوَلَّد مِن جَنَاحٍ، أي وهو الخارج من الخشب، إِلَى شارِع فَمَضمُون؛ أي وإن لم يكن مضرًّا لأنَّ الارتفاقَ بالشارع إنَّما يجوزُ بشرطِ سلامة العاقبة، ولم يفرقوا بين إذن الإمام وعدمه كما في الحفر، واحترز بـ (الشارع) عما إذا كان إلى سكة مُنْسَدَّةٍ؛ فإنَّه إن كان بغير إذن أهلها فمضمون، وإلا فلا.
وَيَحِلُّ إِخرَاجُ الميازيبِ إِلَى شارِع، لما فيه من الحاجة الظاهرة وليكن عاليًا كالجناح، والتالف بهَا مَضْمُون في الجَدِيدِ، كالجناح، والقديم: لا ضمان؛ لأنَّه ضروري كتصريف المياه؛ بخلافه فإنَّه لاتساع المنفعة. والجديد: منع كونه ضروريًّا؛ لأنَّه يمكنه أن يتخذ للسطح بئرًا في داره، فَإن كَان بَعْضُهُ في الجِدَارِ فسَقَطَ الخَارِجُ فَكُلُّ الضَّمَانِ، لأنَّه هلك بما هو مضمون عليه خاصة، وإن سقطَ كُلُّهُ فنصفه فِي الأصَحِّ، لأنَّه هلك بالداخل في ملكه وهو غير مضمون، وبالخارج وهو مضمون فَوُزِّعَ عليهما، والثاني: يجب بقسط الخارج، ويكون التقسيط بالوزن أو بالمساحة فيه تردد، وحكى الماوردي قولًا آخر: أنَّه يضمن جميع الدية، لأنَّ الداخل جذبه الخارج، فإذا سُئِلْتَ عن ضمان كل الدية بالقتل ببعض خشبة، وضمان البعض بالقتل بكلها، فَقُلْ هذه الصورة.
وإن بَنَى جِدَارَهُ مَائِلًا إِلَى شارع فَكَجناح؛ أي فيضمن ما يتولد من سقوطه، وإن بناه مائلًا إلى ملكه، أو مال إليه بعد البناء في ضمان، وكذا إذ بناه مستويًا فسقط من غير تَمَيِّلٍ، ولا استهدام، وتولَّد منه هلاك، أو مُستَوِيًا فمَالَ وسَقطَ، إلى الشارع، فَلَا ضَمَان، لأنَّه ينافي ملكه، والميل لم يحصل بفعله، فأشبهَ ما إذا سقط بلا ميل، وقِيلَ: إِن أمكنَ هَدْمُهُ وَإِصْلَاحُهُ ضَمِنَ، لتقصيره بترك النقص والإصلاح؛ ورجحه الروياني، وَلَوْ سَقَطَ بِالطَّرِيقِ فَعَثَرَ به شخصٌ أَوْ تلِفَ، بِهِ، مَالٌ فَلَا ضَمَان في الأصحِّ، لأن الهلاك حصل بغير فعله، والثاني: نعم، لتقصيره.
فَرعٌ: لا فرق بين أن يطالبه الوالي أو غيره بالنقص، وبين أن لا يطالب.
وَلَوْ طَرَحَ قُمَامَاتٍ؛ أي بضم القاف وهي الكناسة، وَقُشُورَ بَطِّيخ بطريقٍ
فَمَضْمُون عَلَى الصَّحِيْح؛ لأنَّ الارتفاق بالطريق مشروط بسلامة العاقبة كما قدمناه. والثاني: لا، لإطراد العادة بالمسامحة به مع الحاجة، والثالث: إن ألقاهُما في مَتْنِ الطَّريق ضمن، وإلا فلا. واحترز (بِالطَّرِيقِ) عما إذا ألقاها في ملكه أو مواتٍ فزلق بها إنسان فهلك أو تلف بها مال فإنَّه لا ضمان.
فَصْلٌ: ولَوْ تَعَاقَبَ سَبَبَا هَلَاكٍ؛ فعَلَى الأوَّل؛ لأنَّه المهلك؛ إما بنفسه وإما بواسطة الثَّاني فأشبه الترديةُ مع الحفر ثم مَثلَ ذلك بقوله: بِأن حَفَرَ وَوَضَعَ آخَرُ حَجَرًا عُدوَانًا فعُثِرَ بِهِ وَوَقَعَ العاثِرُ بِهَا، فَعَلَى الوَاضع، لأنَّ العاثر بها، هو الذي ألجأهُ إلى الوقوع؛ فكانه أخذه فَرَدَّاهُ، فَعَلَى الوَاضع الضَّمَان، فإن لَم يَتَعَدَّ الوَاضِعُ، أي بأن وضع حجرًا في ملكه، وحفر متعد هناك بئرًا فعثر به رجل ووقع فيها، فَالمَنْقُولُ تضمِيْنُ الْحافِر، لأنَّه المتعدي بخلاف الواضع، قال الرافعي: وينبغي أن يقال: لا يجب الضمان على الحافر، ثم استشهد له بما لو حفر بئرًا عدوانًا، وَوَضَعَ السَّيل أو السَّبعَ أو أجَّرَ حَرْبِيٌّ حجرًا فعثر به إنسان وسقط في البئر فهو هدر على الصَّحيح، وَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا وَآخَرَانِ حَجَرًا فَعُثِرَ بِهِمَا فَالضَّمان أثلَاث، أي وإن تفاوت فعلهم، كما لو مات بجراحة ثلاثة واختلفت الجراحات، وَقِيلَ: نِصْفَانِ، نظرًا إلى أن الهلاك حصل بالحجرين، وَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فعَثَرَ بِهِ رَجُل فَدَحْرَجَهُ فَعَثَرَ بِهِ آخَرُ ضَمِنَهُ المُدَحرِجُ، لأنَّ الحجر إنَّما حصل هناك بفعله، وَلَوْ عَثَرَ بِقَاعِدٍ أَوْ نَائم أوْ وَاقِفِ بِالطرِيْقِ وَمَاتَا أَوْ أَحَدُهُمَا فلَا ضَمَان إنِ اتسَعَ الطَّرِيقُ، لأنَّه غير متعدٍّ، والعاثر كان يمكنه التحرز، وإلَّا، أي وإن ضاق الطَّريق فعثر به الماشي ومات، فَالمَذْهَبُ: إِهْدَارُ قَاعِدٍ وَنَائِمٍ؛ لأن الطَّريق للطروق وهما بالنوم والقعود مقصران، لَا عَاثر بِهِمَا، أي بل على عاقلتهما دية، وَضَمَان وَاقِفٍ، لأنَّ الشخص قد يحتاج إلى الوقوف لكلال أو انتظار رفيق أو سماع كلام فالوقوف من مرافق الطَّريق كالمشي، لَا عَاثِر بِهِ، لأنَّه لا حركة منه، فالهلاك حصل بحركة الماشي، والطريق الثَّاني: وجوب دية كل واحد منهما على عاقلة الآخر مطلقًا، هذا كله إذا لم يوجد من الواقف فعل، فإن وجد؛ بأن انحرف إلى الماشي لما قرب منه فأصابه في انحرافه
وماتا فهما كماشيين اصطدما وسيأتي.
فصل: اصْطَدَمَا بِلَا قَصْدٍ، فَعَلَى عَاقِلَةٍ كُلِّ نِصْفُ دِيَةٍ مُخَفَّفَةِ، لأنَّ كُلِّ واحدٍ هَلَكَ بفعلهِ وفِعْلِ صاحبهِ، فيهدرُ النصفُ؛ ويجب النصفَ كما لو جرحه آخر مع جراحةِ نفسه، وَإِن قَصَدَا، أي الاصطدام، فَنِصْفُهَا مُغَلَّظَة، أي ويكون شبه عمد، لأنَّ الغالبَ أنَّ الاصطدامَ لا يُفضي إلى الموت، فلا يتحقق فيه العمد المحض، وكذلك لا يتعلق بالقصاص إذا مات أحدُهما دون الآخر، أَوْ أحَدُهُمَا، أي قَصَدَ أحدُهما الاصطدام دون الآخر، فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، أي فيجب على قاصد الاصطدام نصفُ ديةٍ مغلظة، وعلى الذي لم يقصد نصفَ دية مخففة، وَالصَّحِيحُ: أنَّ عَلَى كُل كَفَّارتين، كفارة لقتل نفسه، وأخرى لقتل صاحبه، والخلاف مبنيّ على أن الكَفارَةَ هَلْ تَتَجزَّءُ؟ وأنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ هل عليه كفارة؟ وَإن مَاتَا مَعَ مَركُوبَيهِمَا فكَذَلِكَ، أي كما ذكرنا من حكم الدية والكفارة، وَفِي تَرِكَه كُل نِصفُ قِيمَةِ دَابَّةِ الآخَرِ، لاشتراكهما في إتلاف الدابتين، وَصَبيَّانِ أَوْ مَجْنونَانِ ككَامِلَينِ، أي فيما إذا كانا ماشيين أو راكبين كما قررناه، وَقِيلَ: إِن أرْكَبَهُمَا الوَليُّ تَعَلقَ بِهِ الضَّمان، لأنَّ في الاركاب خطرًا، والأصح الأول كما لو ركبا بأنفسهما إذ لا تقصير، قال الإمام: ولو أركبهما إلى حاجة مهمة فلا ضمان قطعًا، وَلَوْ أَركَبَهُمَا أَجنَبِي ضَمِنَهُمَا وَدَابَّتيهِمَا، لتعديه بأركابهما، أَوْ حَامِلَانِ، أي وإن اصطدم حاملان، وَأَسقَطتا فالدِّية كما سبَقَ، أي فيجب نصفها ويهدر نصفها؛ لأنَّ الهلاك منسوب إلى فعلهما، وَعَلَى كُلٍّ أَربعُ كَفَّارَاتِ عَلَى الصَّحيح، كفارة لنفسها؛ وكفارة لجنينها، وثالثةٌ لصاحبتها، ورابعة لجنينها؛ لأنهما اشتركا في إهلاك أربعة أشخاص، هذا إذا أوجبنا الكفارة على قاتل نفسه، وقلنا: الكفارة لا تتجزأ، فإن لم نوجبها على قاتل نفسه؛ وجب ثلاث كفارات، وإن قلنا بالتجزئة، وجب ثلاثة أنصاف كفارة، وهذا هو الوجه الثَّاني المقابل لكلام المصنف.
وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ نِصفُ غُرَّتَي جَنِينَيهِمَا، أي نصف غرة لجنينها، ونصف غرة لجنين الأخرى، لأنَّ المرأة إذا جَنَت على نفسها فألقت جنينها وجبت الغرة على
عاقلتها كما لو جنت على حامل أخرى؛ فإذن لا يهدر من الغرة شيءٌ. وأمَّا الدية فيجب نصفها، ويهدر نصفها كما ذكره قبل، أو عبدان فَهَدَرٌ، أي وإن اصطدم عبدان وماتا فهدر، لأنَّ ضمان جناية العبد تتعلق برقبته سواء أتفقت قيمتهما أو اختلفت، فإن مات أحدُهما وجبَ نصفُ قيمته متعلقًا برقبة الحي.
فَرعٌ: لو اصطدم عبدٌ وحرٌ وماتا، فنصف قيمة العبد في تركة الحر، ويتعلق بذلك النصف نصف دية الحُرِّ، لأنَّ محل تعلقه بالرقبة فإذا فاتت تعلق ببدلها.
أو سَفِينَتَانِ فَكَدَابَّتَينِ، أي وإن اصطدم سفينتان وغرقتا بما فيهما فهما كالدابتين، فإما أن يحصل الاصطدام بفعلهما وإما لا، والملَّاحان كرَاكِبينِ، أي يموتان بالاصطدام، وقد سلف كل ذلك، إِن كَانَتَا لَهُما، فَإن كَان فِيهِمَا مال أجنَبِيّ؛ لزِمَ كلًّا نِصفُ ضَمَانِهِ، وَإِن كَانَتَا لأجنبيّ، لَزمَ كُلَّا نصف قيمتهما، توزيعًا عليهما.
فَائِدَة: سُئل القفال؛ عن رجل ذهب ليقوم، فأخذ غيره بثوبه ليقعد، فتمزق؛ فأجاب: أنَّه لم يَجُرَّه فلا ضمان، وإن جرَّهُ فالنصف عليه والباقي هدر، لأنَّه كان بفعلين.
فَصْلٌ: وَلَوْ أَشرَفَتْ سفِيْنَةٌ على غرقٍ جَازَ طَرحُ مَتَاعِهَا، حفظًا للروح، وَيجِبُ لِرَجَاءِ نَجَاة الرَّاكِبِ، أي إذا خيف الهلاك إبقاءً للنفس، فَإن طَرَحَ مَالَ غيْرِهِ بِلَا إِذْن ضَمِنَهُ، لأنَّه أتلف مال غيره بلا إذن، فأشبه ما لو أكل المضطر طعام الغير، وإلا فَلَا، لوجود الإذن، واحترز بـ (مال الغير) عن ماله وهو واضح، وَلَو قالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ وَعَليَّ ضَمَانُهُ، أَوْ عَلَى أَنّي ضَامِن ضمِنَ، لأنَّه استدعى لإتلاف مال الغير لغرض صحيح فلزمه، كما لو استدعى عتق عبده على ألف؛ وليس هذا على حقيقة الضمان وإن سمي ضمانًا؛ ولكنه بدل مالٍ للتخليص عن الهلاك، فهو كما لو قال: أطلق هذا الأسير ولك علي كذا، فظاهر المذهب كما قال الماوردي: أنَّه يملك المستدعي المُسْتَلقَي قبل الإلقاء، وقيل: يجري عليه حكم الملك، وَلَو اقتصَرَ عَلَى ألقِ، أي لم يقل وعليَّ ضمانه أو على أني ضامن، فَلَا عَلَى المَذْهَب، أي بخلاف
قوله: اقضِ دَيني، فقضاه، فإنَّه يرجع على الأصح، لأنَّه بالقضاء يبرأ قطعًا، والإلقاء قد لا ينفعه، وهذا ما قطع به الأكثرون، والطريق الثَّاني: أنَّه على الخلاف فيما إذا قال: أدِّ دَيني، فأدَّاهُ! هل يرجع عليه؟
فَرعٌ: تعتبر قيمة الملقى قبل هيجان الأمواج؛ فإنَّه لا قيمة للمال في تلك الحال؛ قاله البغوي.
وَإنَّمَا يَضمَنُ مُلْتَمِسٌ لِخَوفِ غَرَقٍ، أي ففي غير الخوف لا ضمان، كما لو قال: اهْدِمْ دَارَكَ، ففعَلَ، وَلَم يَخْتَصَّ نَفعُ الإلْقاءِ بِالمُلقِي، يعني الملقي متاعَ نَفْسِهِ، فَإِنِ اختصَّ! فلا ضمان.
فَصْلٌ: وَلَوْ عَادَ حَجَرُ مَنْجَنِيقِ فَقتلَ أَحَدَ رُمَاتِهِ هُدِرَ قِسْطُهُ وَعَلَى عَاقِلَةِ البَاقِيْنَ البَاقِي، لأنّه مات بفعله وفعلهم فسقط ما قابل فعله وهو غير مضمون عليه، أَوْ غَيْرَهُمْ، أي أو قتل غير رماته، ولَم يَقْصدُوهُ فَخَطأٌ، أي يوجب الدية المخففة على العاقلة، أو قَصَدُوهُ فَعَمدٌ في الأصحِّ إِن غَلَبت الإصَابَةُ، لانطباقه على حد العمد، والثاني: شبه عمد، لأنَّه لا يتحقق قصدٌ معين بالمنجنيق.
فَرْعٌ: لو قصدوا مُبهمًا، فشبه عمد؛ وإلّا فخطأ.
فَائِدَة: المِنْجَنِيقُ بفتح الميم وكسرها يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ، وحكَى مَنْجنُوقٌ بالواو ومَنْجَلِيقٌ باللام.
فَصل: دِيَةُ الْخَطَأ وَشِبهِ العَمدِ تَلْزَمُ الْعاقِلَةَ، بالإجماع كما ادعاه الإمامُ، وقيل: إن شبه العمد لا يلزمها وليس بشيء، وخرج بالخطأ وشبه العمدِ العمدُ، وقد مضت السُنَّةُ بذلك كما قال الزُّهريّ، وَهُمْ عَصَبَتُهُ، أي قرابة وولاءً؛ قال الشَّافعي: لا مخالف أعرفه إن العاقلة العصبة وهم القرابة من قبل الأب، ووجهه في عصبات الولاءِ قوله صلى الله عليه وسلم:[الْوَلَاءُ لُحمَة كَلُحمَةِ النَّسَبِ](194) قال المصنف في نكته على
(194) • رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الولاء: باب من أعتق مملوكًا له: الحديث =
التنبيه: والمولاة المعتقة من العصبات، ولا تعقل؛ قال: فينبغي أن يقال وهم عصبته الذكور، إِلَّا الأصْلَ، أي كالأب والجد، وَالفَرعَ، أي كالابن وابن الابن لأنهم أبعاضه، فكما لا يتحمل الجاني لا تتحمل أبعاضه وقد بَرأ صلى الله عليه وسلم زَوجَ القَاتِلَةِ وَوَلَدَهَا كما رواه أبو داود وابن ماجه (195)، وَقِيلَ: يَعقلُ ابْن هُوَ ابنُ ابن عَمِّهَا، كما يلي أمر نكاحها، والأصح: المنع، لأنَّ البعضية موجودة، ويخالف النكاح؛ لأنَّ المنع كان لعدم الولاية وقد وجدت، ويقَدَّمُ الأقْرَبُ، لأنَّه حق ثبت بالتعصيب فأشبه الإرث، فَإن بَقِيَ شَيْءٌ فَمَنْ يَلِيهِ وَمُدلٍ بِأبَوَينِ، كالإرث، وَالقَدِيمُ: التسوِيَةُ، لأنَّ أخوة الأم لا مدخل لهما في العقل، ولم يبق إلَّا إخوة الأب وهم فيها سواء، ثُمَّ مُعْتِق؛ ثم عَصبَتُهُ؛ ثُمَّ مُعْتِقُهُ؛ ثُمَّ عَصَبَتُهُ، أي إلّا الأصل والفرع، فإن الأصح عدم دخولهما، وَإلا، أي وإن لم يوجد من له نعمة الولاء على الجاني ولا أحد من عصباته، فَمُعتِقُ أَبِي الجَانِي؛ ثُمَّ عَصَبَتُهُ؛ ثُمَّ مُعْتِقُ مُعْتِقِ الأبِ وَعَصَبَتُهُ، وَكَذَا أَبَدا، أي فإن لم يوجد من له نعمة الولاء على الأب تحمل معتق الجد ثم عصباته كذلك إلى حيث ينتهي، وَعَتِيْقُهَا يَعْقِلُهُ عَاقِلَتُهَا، أي إذا أعتقت المرأة مملوكًا، لم تتحمل دية جنايته؛ لأنَّ الذكورةَ شرط في التحمل كما سيأتي، وإنَّما يتحمله من يتحمل دية جنايتها،
= (22047) عن ابن عمر رضي الله عنهما. والحاكم في المستدرك: كتاب الفرائض: الحديث (7990/ 43)، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ الإسناد ولم يخرجاه.
• في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: كتاب الفرائض: باب ما جاء في الولاء: ج 4 ص 231؛ قال الهيثمي: رواه الطّبرانيّ عن عبد الله بن أبي أوفى؛ وفيه عبيد بن القاسم وهو كذاب. ا. هـ قُلْتُ: وهذه الطَّريق غير الأولى.
(195)
عن جابر بن عبد الله؛ أن امرَأتَينِ مِنْ هُذَيلٍ قَتَلَت إِحدَاهُما الأُخْرَى؛ وَلكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا زَوجٌ وَوَلَدٌ. فَجعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم دِيَةَ المَقتولة عَلَى عَاقلة القَاتِلَةِ، وَبَرأ زَوْجَهَا وَولَدَهَا. قالَ: فَقَالَ عَاقِلَةُ المَقتولَةِ: مِيرَاثُهَا لَنَا؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [لَا، مِيْرَاثُهَا لِزَوجهَا وَولدِهَا]. رواه أبو داود في السنن: كتاب الديات: باب دية الجنين: الحديث (4575). وابن ماجه في السنن: كتاب الديات: باب عقل المرأة على عصبتها: الحديث (2648).
كما يزوج عتيقتها من يزوجها، وَمُعْتِقُون كَمُعتِق، أي في تحمل الدية عن العتيق، فإن الولاء يثبت لجميعهم لا لكل منهم فيتحمل كل واحد ما يخصه من نصف دينار وإن كانوا أغنياء وإلّا فربعه، وَكُل شَخْصِ مِن عَصَبَةِ كُل معتق يَحْمِل مَا كَان يَحمِلُهُ ذَلِكَ الْمعتِقُ، أي فإذا كان المعتق واحدًا ومات عن أخوة مثلًا؛ ضرب على كل واحد حصته تامة من نصف دينار أو ربعه، ولا يقال: يوزع عليهم ما كان الميت يحمله، لأنَّ الولاء لا يتوزع عليهم توزعه على الشركاء ولا يرثون الولاء من الميت، بل يرثون به. ولو مات واحد من الشركاء المعتقين أو جميعهم؛ حمل كل واحد من عصباته مثل ما كان يحمله الميت؛ وهي حصته من نصف أو ربع، لأنَّ غايته نزوله منزلة ذلك الشريك المعتق، وَلَا يَعقِلُ عتيقٌ فِي الأَظْهَرِ، إذ لا إرث، والثاني: يعقل، لأنَّ العقل للنصرة، والعتيق أولى بنصرة معتقه، وخالف الإرث، فإنَّه في مقابله أنعام المعتق، فَإن فُقِدَ العاقِلُ أوْ لَم يف، عَقَلَ بَيتُ المَالِ عَنِ المسلِمِ، لأنَّه للمسلمين وهم يرثونه، كالعصبات؛ بخلاف الذّمِّيِّ، فإن ماله ينقل إليهم فيئًا لا إرثًا، فَإن فُقِدَ، أي بيت المال، فَكلهُ عَلَى الجَانِي في الأَظْهَرِ، بناء على أنها تلزم الجاني ابتداء ثم تتحملها العاقلة، والثاني: لا، بناء على أنها تجب عليهم ابتداء، وقوله (الأَظْهَرِ) خالف في الروضة تبعًا للرافعي فَعبَّرَ بالأصح.
فَصْلٌ: وَتُؤَجل عَلَى العاقِلَةِ دِيَةُ نَفْس كَامِلَة، أي وهي دية الرجلِ المسلمِ الحُرِّ، ثلاثَ سِنِيْنَ في كُلِّ سَنَة ثُلُثٌ، أما كونها مؤجلة، فلأن العاقلة تحملها على وجه المواساة، فوجب أن يكون وجوبها مؤجلًا قياسًا على الزكاة، وأمَّا كون الأجل ثلاث سنين فهو إجماع كما حكاه الشَّافعي والترمذي (196)، واختلف الأصحاب في
(196) • في مختصر المزني؛ من الحاوي الكبير: كتاب الديات: باب مَن العاقلة التي تغرم: ج 12 ص 343؛ قال الشَّافعي رضي الله عنه: (وَلَا اخْتِلَافَ بَينَ أحَد عَلِمتُهُ في أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قضَى بِهَا في ثَلَاثِ سنِيْنَ). انتهى.
• والجواب على من اعترض فقال: ما صح عن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الشيء، فكيف يقال هذا؟ أن سياق كلام الشَّافعي لا يشير إلى الرّواية عن الرسول سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وإنَّما =
المعنى الذي لأجله كانت في ثلاث سنين، فقيل: لأنها بدل نفس محترمة، وقيل: لأنها دية كاملة وهو الأصح، وتظهر فائدةُ الخلاف في صور ستأتي على الأثر، وَذِمِّي سَنَةً، لأنها قدر الثُّلث، وَقِيلَ: ثَلَاثًا، لأنها بدل نفس، وَامرَأَةٍ سَنَتَين في الأولَى ثُلُث، أي والباقي في السنة الثَّانية، وَقِيلَ: ثلاثًا، لأنها بدل نفس، وَتحمِلُ العَاقِلَةُ العَبدَ في الأَظْهَرِ، لأنَّه بدل آدمي فأشبه بدل الحر، والثاني: لا، بل هي حالّة على الجاني، لأنَّه مضمون بالقيمة فكان بدله كبدل البهيمة، ففِي كُلِّ سنةِ قَدْرُ ثلُثِ دِيَة، نظرًا إلى القدر فتضرب في ست سنين، وقيلَ: في ثَلَاثٍ، لكونها بدل نفس، ومحل الخلاف ما إذا كانت قيمة العبد قدر ديتين، أما إذا كانت قدر دية حر ضربت في ثلاث سنين قطعًا، وَلَوْ قَتَلَ رَجُلَينِ فَفِي ثلَاثِ، لأنَّ الواحب ديتان مختلفتان، والمستحق مختلف فلا يؤخر حق بعضهم باستحقاق غيره، وهذا كالديون المختلفة إذا اتفق انقضاء آجالها، وَقِيل: سِت، لأنَّ بدل النَّفس الواحدة تضرب في ثلاث سنين فتزاد الأخرى مثلها.
يعبر عن الإجماع، لأن إجماع الصّحابة عند الشَّافعي يكشف عن دليل عرفوه من النَّبيُّ الهادي صلى الله عليه وسلم، فحكى المضمون الذي أجمعوا عليه. ولهذا قال:(لَّا اختلاف بين أحد علمته). ينظر: الأم للشافعي: كتاب جراح العمد: حلول الدِّية: ج 6، ص 112.
• قال الماوردي: فأمَّا تأجيلها في ثلاث سنين فهو روي عن الصّحابة، روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة ثلاث سنين، ولأن العاقلة تتحمل دية الخطأ مواساة، وما كان طريق المواساة كان الأجل فيه معتبرًا.
• عن الرَّبيع بن سليمان أنبأ الشَّافعي أنبأ مسلم عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: تَغْلِيظُ الإبِلِ؛ قَالَ: مِائَة مِنَ الأصْنَافِ كُلِّهَا، ويؤخَذُ في مُضي كل سنة ثَلاثة عَشرَةَ خَلِفَة وَثُلُثُ خَلِفَة، وَعَشرُ جذَاعٍ. وَعَشرُ حِقَاق. رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الديات: باب تنجيم الدية: الأثر (16568). وعن يَحْيَى بن سعيد: (أن السنةَ أن تُنَجَّمَ الديةُ في ثلَاثِ سِنِيْنَ). رواه البيهقي في السنن الكبرى: الأثر (16567).
• أمر أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الديات: باب تنجيم الدية على العاقلة: الأثر (16854). وأثر علي رضي الله عنه الرقم (16855).
فَرْعٌ: لو قتل ثلاثة واحدًا فعلى عاقلة كل واحد ثلث دية مؤجلة عليه في ثلاث سنين؛ وقيل: في سَنَةٍ.
وَالأطْرَافُ، أي وكذا أرش الجرح والحكومة كما صرح به في المُحَرر، في كُلِّ سَنَةٍ قَدْرُ ثلُثِ دِيَةٍ، كدية النفس، وَقِيلَ: كُلها في سنةٍ، أي قَلت أم كثرت، بناءً على أن المرعي في التأجيل ثلاث سنين، كون الواجب بدل النَّفس قاله الرافعي، وَأجَلُ النفْسِ مِنَ الزهُوقِ، أي ابتداء المدة منه، لأنَّه حق مؤجل وجبَ بسبب فكان ابتداؤه من حين وجود السبب كالثمن المؤجل، وَغَيرِهَا مِنَ الجنايَةِ، أي وأجل ما دون النَّفس من وقت الجناية، وظاهر كلامه؛ أنَّه لا فرقَ بين وجود السراية وعدمها، وهو ما صححه في الروضة تبعًا للرافعي فيما إذا لم يَسْرِ؛ واندملت، لأنَّ الوجوب متعلق به. وحكى فيما إذا سرت من عضو إلى عضوٍ، بأن قطع إصبعه؛ فَسَرَتْ إلى كفه ثلاثة أوجه؛ أحدها: ابتداء المدة من سقوط الكف؛ وهو ما أورده البغوي، وثانيها: ابتداؤها من الاندمال، وهو ما أوردهُ الشَّيخ أبو حامد وأصحابه، وثالثها: ابتداء أرش الإِصبع من يوم القطع وأرش الكف من يوم سقوطها، وهو ما اختاره القفال والرويانى والإمام والغزالي، وَمَنْ مَاتَ في بَعْضِ سَنَة سقطَ، أي الذي عليه، ولا يؤخذ من تركته؛ كالزكاة. بخلاف ما إذا مات الذمي في أثناء الحول؛ فإنَّه هل يسقط قسط ما مضى؟ فيه خلاف؛ والفرق أن الجزية كأجرة دار الإِسلام.
فَصْلٌ: وَلَا يَعقِلُ فَقِيْرٌ، أي ولو كان مُعْتملًا، لأنها مواساة، والفقير ليس من أهلها؛ كنفقة القريب؛ وخالف الجزية فإنَّها تلزمه على الأصح، لأنها عوضُ حَقْنِ الدم وسكنى الدار؛ وزكاة الفطر؛ فإنَّها طهرة وليس مواساة، قال ابن الرفعة: ومن هذا يظهر لك أن المراد بالفقير هنا من لا يملك ما يفضل عن كفايته على الدوام؛ لا من لا يملك شيئًا أصلًا، وَرَقِيق، أما غير المكاتب؛ فلأنه لا ملك له، وأمَّا المكاتب؛ فلأنه ليس من أهل المواساة، وصَبِي وَمَجْنُون، لأنَّ مبناهُ على النُّصرةِ؛ ولا نصرة فيهما؛ لا بالعقل؛ ولا بالرأي، بخلاف الزمنِ والشيخ الهرِمِ والمريضِ والبالغ حد الزمانة والأعمى، فإنهم يتحملون على الصَّحيح؛ لأنهم ينصرون بالقول والرأي، وَمُسلِمٌ عَنْ
كافِرِ وَعَكْسُهُ، لأنَّه لا موالاة بينهما فلا توارث ولا مناصرة، وَيعقِلُ يَهُودِي عَن نَصْرَانِي وَعَكسُهُ في الأظْهَرِ، كالإرث، والثاني: لا، لانقطاع الموالاة بينهما.
فَرْع: المرأةُ لا تتحمَّلُ العاقلةَ بالاتفاق لنقصان رأيِها، وكذا الخنثى لاحتمال الأنوثة.
وَعَلَى الغَنِي نِصفُ دِيْنَارِ، لأنَّه أقل ما يواسى به الغني في زكاته فالزيادة عليه إجحاف ولا ضابط لها، وَالمُتَوَسط رُبُع، كما أن نفقة المعسر نصف نفقة الموسر، كُل سَنَةٍ مِنَ الثلَاثِ، لأنها مواساة تتعلق بالحول فتكررت بتكرره، كالزكاة. فجميع ما يلزم الغني في السنين الثلاث دينار ونصف، والمتوسط نصف وربع دينار، وَقِيلَ: هُوَ، يعني المذكور، وَاجِبُ الثْلَاثِ، لأنَّ الأصل عدم الضرب، فلا يخالفه إلَّا في هذا القدر، قال الماوردي: فعلى هذا على المكثر كل سَنَةٍ سُدس دينار، وعلى المقل نصف سدسه، ويعتَبَرَانِ، أي اليسار والتوسط، آخِرَ الحولِ، لأنَّه حق ماليّ يتعلق بالحول مواساة؛ فأشبه الزكاة، فإن كان معسرًا في آخر الحول لم يلزمه شيء من الواجب ذلك الحول، وإن كان موسرًا من قبل أو أيسر بعده لخروجه عن أهلية المواساة وهذا معنى قوله، وَمَن أَعْسَرَ فِيهِ سقَطَ، ولو كان موسرًا آخر الحول لزمه، ولو أعسر بعده فهو دين عليه.
فَائِدَتَانِ: الأُوْلَى؛ قال البغوي: ضابط اليسار والتوسط يرجع فيه إلى العادة فإنَّه يختلف بالبلدان والأزمان، ورأَى الإمام أن الأقرب اعتباره بالزكاة كما اعتبر القدر بها. الثانِيَةُ: قال الرافعي: يشبه أن يكون المرعي في وجوب النصف والربع قدرهما، لا أنَّه يلزم العاقلة بدل الدنانير بأعيانها، لأنَّ الإبل هي الواجبة في الدية، وما يؤخذ يصرف إلى الإبل. وللمستحق أن لا يقبل غيرها؛ يوضحه أن المتولي قال: عليه نصف دينار أو ستة دراهم.
فَصل: مَالُ جِنَايَةِ العَبْدِ، أي بأن كانت خطأ أو عمدًا وعفى على مالٍ، يَتَعَلْقُ بِرَقَبتهِ، لأنَّه لا يمكن إلزام جنايته السيد، لأنَّه لم يَجْنِ، ففيه إضرار به، ولا أن تكون
في ذمة العبد إلى العتق، لأنه إضرار بولي القتيل، فجعل التعلق بالرقبة طريقًا وسطًا، وَلسَيِّدِهِ بَيْعُهُ لَها وَفِدَاؤُهُ، كالمرهون، بِالأقَل مِنْ قِيْمَتِهِ وَأرشها، أي إذا أراد السيد فداءه فداه بذلك، لأنه إن كانت قيمته أقل؟ فليس عليه إلا تسليمه، فإذا لم يسلمه؟ طولب بقيمته، وإن كان الأرش أقل؟ فليس للمجني عليه إلا ذلك، وَفِي القَدِيمِ: بأرشها، بالغًا ما بلغ، لأنه لو سَلَّمَه! ربما بيع بأكثر من قيمته.
فرع: تعتبر القيمة يوم الجناية، وقيل: يوم الفداء.
وَلَا يَتَعلَّقُ، يعني الأرش، بِذِمتِهِ مَعَ رَقبتِهِ فِي الأَظْهرِ، لأنه لو تعلق بالذمة لما تعلق بالرقبة كديون المعاملات التي تثبت في ذمته، والثاني: نعم، كالمال فتكون الرقبة مرهونة، ومحل الخلاف كما قال الإمام: إذا اعترف السيد بالجناية وإلا فينقطع: أن الأرش يتعلق بذمة العبد، وَلَوْ فَدَاهُ ثم جَنَى سلمَهُ لِلبَيع أوْ فَدَاهُ، لما قلناه فيما إذا جنى أول مرة، وَلَو جَنَى ثَانِيًا قَبْلَ الفِدَاء بَاعَهُ فيهِمَا، أي في الجنايتين وَوَزَّعَ الثمن على أرش الجنايتين، أَوْ فَدَاهُ بِالأقَل مِنْ قِيْمَتِهِ وَالأرشَيْنِ، أي على الجديد لما سلف، وَفِي القَدِيمِ: بِالأرشَينِ، لما سلف أيضًا، وَلَوْ أعتَقَهُ أو بَاعَهُ وَصححنَاهُمَا أو قَتَلَهُ فَدَاهُ بِالأقَل، أي وجوبًا وفي قدره طريقان أحدهما طرد القولين المذكورين، وأصحهما القطع بأقل الأمرين لتعذر البيع وبطلان زيادة راغب. وهذا معنى قوله (بِالأقَل)، وَقِيلَ: القَولَانِ، وَلَوْ هَرَبَ، أي العبدُ الجاني، أَو مَاتَ بَرِئ سَيِّدُهُ، إِلَّا إِذَا طلِبَ فَمَنَعَهُ، لتعديه ويصير بذلك مختارًا للفداء، وَلَوْ اخْتَارَ الفِدَاءَ فَالأصَح: أَن لَهُ الرجُوعَ وَتسلِيْمَهُ، لأنه وعدٌ، واليأس لم يحصل من بيعه، والثاني: يلزمه الفداء بذلك، ولا يقبل رجوعه لالتزامه، وأجرى الإمامُ الخلافَ فيما إذا قال: أنا أفديه، وهو أبعد لاحتماله الوعد، وموضع الخلاف ما إذا كان العبد حيًا، فإن مات؟ فلا رجوع له بحال، وَيَفْدِي أمَّ ولَدِهِ بِالأقَلِّ، أي من قيمتها، والأرش لأنها غير قابلة للبيع، والأصح: اعتبار قيمة يوم الجناية، وقيل: يوم الاستيلاد. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ، أي السابقان في القِن، لكن الفرق لائح، وهو أن القِنَّ قابل للبيع، وقد يوجد راغب
بالزيادة؛ والمستولدة غير قابلة للبيع، وَجِنَايَاتها كَوَاحِدة فِي الأَظْهرِ، لأن استيلاده إتلاف، ولم يوجد إلا مرة واحدة، فلم يلزمه إلا فدية واحدة، كما لو جنى العبد جنايات ثم قتله سيده، والثاني: يلزمه لكل جناية فداء، لأنه منع من بيعها عند الجناية الثانية كما في الأولى، والثالث: إن فدى الأولى قَبْلَ جنايتها الثانية، لزمه فداء آخر، وإلا فواحدة، وإذا ألزمناه فداءً واحدًا اشترك فيه المجني عليهما أو عليهم على قدر جناياتهم لتعيينه طريقًا، ثم محل الخلاف فيما إذا كانت الجناية الأولى كالقيمة أو أكثر أو أقل، والباقي من القيمة لا يفي بالجناية الثانية، وأما إذا كان أرش جناية الأولى دون القيمة وفداها به وكان الباقي من قيمتها يفي بالجناية الثانية فداها بأرشها قطعًا، إذا قلنا: الواجب أقَلُّ الأمرين، أما إذا قلنا: إنه يفديها بالأرش لزم السيد الأرش بالغًا ما بلغ.
فَصْلٌ: فِي الجَنِيْنِ غُرة إِنِ انْفصَلَ مَيتًا بِجِنَايَة فِي حَيَاتِها أَوْ مَوتها، لحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين [اقتتَلَت امرَأَتَانِ مِنْ هُذيل، فَرَمَتْ إحدَاهُمَا الأُخْرَى بحَجَرٍ فَقَتَلَتها وَمَا فِي بَطنها فَاختصَمُوا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَن دِيَةَ جَنِينها غرة عَبْدٍ أو وَليدة وَقَضَى بِدِيَةِ المَرأَةِ عَلَى عَاقِلَتها وَوَرثها وَلَدها وَمَنْ مَعَهم. . . الحديث بطوله](197) هذا إذا مات في حياتها، وأما إذا انفصل بعد موتها من الضرب، فلأنه شخص مستقل فلا يدخل في ضمانها، والمقصود بالجناية ما يؤثر في الجنين من ضرب وإيجار دواء ونحوهما، ولو ماتت الأم ولم ينفصل جنين؟ لم يجب على الضارب شيء، وَكَذَا إِن ظَهرَ، ميتًا، بِلَا انفِصَال فِي الأصَح، لتحقق وجوده، والثاني: لا يجب، بل لابد من الانفصال التام ليستقل، وما لم ينفصل يكون كالعضو من الأم، وقياسًا على انقضاء العدة وسائر الأحكام، وَإِلا فَلَا، أي وإن ماتت الأم
(197) رواه البخارى في الصحيح: كتاب الطب: باب الكهانة: الحديث (5758 و 5759 و 5760)، وفي كتاب الفرائض: باب ميراث المرأة والزوج مع الولد: الحديث (6740). ومسلم في الصحيح: كتاب القسامة: باب دية الجنين ووجوب الدية: الحديث (34/ 1681) وما بعده.
ولم ينفصل الولد، ولم يظهر؟ فلا غرة، لأنا لم نتيقن وجود الجنين فلا نوجب شيئًا بالشك، أوْ حيًا، أي وإن انفصل حيًا، وَبَقِيَ زمَانًا بِلَا أَلَمِ ثم مَاتَ فلَا ضَمَان، لأن الظاهر أن موته بسبب آخر، وَإِن مَات حِينَ خَرَجَ أوْ دَامَ ألَمُهُ وَمَاتَ فدِيَةُ نَفسِ، لأنا تيقنا حياته فأشبه سائر الأحياء، وَلَو ألقت جَنِينَيْنِ فَغُرَّتَانِ، لأن الغرة متعلقة باسم الجنين فيتعدد بتعدده، أوْ يَدًا فَغُرة، لأن العلم حصل بوجود الجنين. والغالب على الظن أن يده بانت بالجناية، وَكَذَا لَحم، قَالَ القَوَابِلُ: فِيْهِ صُوْرَة خَفية، أي لا يعرفها إلا أهل الخبرة لوجوده، قِيلَ: أَو لَا، قُلْنَ: لَوْ بَقيَ لَتَصورَ، كما تنقضي به العدة، والمذهب: لا غرة كما لا تصير به أم ولد، وقد سلف إيضاح ذلك في باب العدد، وَهِيَ عَبد أو أَمَةٌ، للحديث السالف أول الفصل، مُميز، أي فلا يقبل من لا تمييز له؛ لأن الغرة الخيار؛ ومن لا تمييز له لا خيار له، لأنه يحتاج إلى مَنْ يكفله، سلِيم مِنْ عَيْبِ مَبِيْع، لأن المعيب ليس من الخيار، نَعَم: لو رضي بقبوله جاز، وَالأصح: قُبولُ كبيرِ لَمْ يَعْجِزْ بِهرَمِ، لأنه إذا لم ينته إلى الهرم، هو من الخيار، وهذا هو المنصوص، والثاني: لا يقبل بعد عشرين، لنقص الثمن حينئذ، ويشتَرَطُ بُلُوغها نصفَ عُشرِ دِيَةٍ، أي وهي خمس من الإبل، رُوي عن عمر وزيد بن ثابت ولا مخالف لهما (198)، فإن فُقِدَت، يعني الغرة، فَخمسَةُ أبعِرَة، لأنها مقدرة بالخمس عند وجودها فعند عدمها يأخذ ما كانت مقدرة به، وَقيلَ: لَا يُشْتَرَطُ، أي أن تبلغ الغرة نصف عشر الدية لإطلاق لفظ العبد والأمة في الخبر، فَلِلْفَقْدِ قِيْمَتُها، أي على هذا الوجه كما لو غصب عبدًا فمات، وَهيَ، يعني الغرة، لِورثةِ الجَنِينِ، أي لو انفصل حيًا ثم مات لأنها دية نفسٍ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الجَانِي، لحديث أبي هريرة السالف أول
(198) قال البيهقي: (ذَهبَ الشَّافِعِي إلَى أنها -العَاقِلةُ- تَحمِلُ كُلمَا كَثُرَ وَقَل؛ لأنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَما حَملَها الأكثَرَ دل عَلَى تَحمِيلها الأيسَرَ، قالَ: وَقضَى رَسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الجَنِينِ بغُرةِ، وَقضَى بِهِ عَلَى العَاِقلةِ، وَذَلِكَ نِصفُ عُشرِ الديةِ. وَقالَ: أفنترُكُ اليَقِيْنَ أن النبِي صلى الله عليه وسلم قَضَى بنصف عُشْر الدِّيَةِ عَلَى العَاقِلَةِ بِظَن). نقله البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الديات: باب ما تحمل العاقلة: الأثر (16848 و 16849 و 16852).
الفصل، وَقِيلَ: إِن تَعمدَ فَعَلَيْهِ، أي على الجاني بناء على أنه يتصور في ذلك العمد المحض، والأصح: أن ذلك لا يتصور، لأنه لا يتحقق وجوده وحياته حتى يقصد.
فرع: إذا فقدت الغرة وقلنا: ينتقل إلى خمس من الإبل غلظنا إن كانت الجناية شبه عمد بأن تؤخذ حُقَّةٌ ونصف، وجذعة ونصف وخَلِفَتان، ولم يتكلموا في التغليظ عند وجود الغرة لكن قال الروياني: ينبغي أن يقال تجب غرة قيمتها نصف عشر الدية المغلظة، قال الرافعي: وهذا حسن.
فَصْلٌ: وَالْجَنينُ الْيَهُودِيُّ أوِ النصرَاني، قِيْلَ: كَمُسلِم، لأنه لا سبيل إلى الإهدار ولا إلى تجزئة الغرة، وَقِيلَ: هدَرٌ، لأنه لا يمكن التسوية بينه وبين الجنين المسلم كما لا يسوى بين المسلم والكافر في الدية، والتجزئة ممتنعة، وَالأَصَح: غُرة كثلُثِ غرةِ مُسْلِم، كما أن دية اليهودي أو النصراني كثلث دية المسلم، وَالرقيقُ عُشْرُ قِيمَةِ أمه، لأن الغرة معتبرة بعِشر ما يضمن به الأم فيما إذا كان الجنين حرًا، فكذا إذا كان رقيقًا يعتبر بأمه فيجب عُشر قيمتها، يَوْمَ الجِنَايَةِ، لأنه وقت الوجوب، وَقِيلَ: الإِجهاضُ، لأن الجناية إذا صارت نفسًا اعتبر بدلها وقت استقرارها كالجناية على العبد إذا أعتق والكافر إذا أسلم، قال الرافعي: وحقيقة الوجه الأول النظر إلى أقصى القيم، لا جرم، قال في الروضة: الأصح المنصوص يعتبر أكثر ما كانت من الجناية إلى الإجهاض، لِسَيدها، أي تكون الغرة لسيد الأمة لأنه المالك، وعبارة المُحَرَّرِ للسيد وهي أحسن، لأن الجنين قد يكون لموصى به والأم لغيره، فَإِن كَانَتْ، يعني الأم، مَقْطُوْعَة، يعني الأطراف، وَالْجَنينُ سَلِيم قُوِّمَتْ سَلِيمَة في الأصَح، كما لو كانت كافرة والجنين مسلمًا يقدر فيها الإسلام وتقوّم مسلمة، والثاني: لا تقدر فيها السلامة، لأن نقصان الأعضاء أمر خَلْقي وفي تقدير خلافهِ بُعد بخلاف صفة الإسلام وغيره.
فرع: لو كان الأمر بالعكس كما إذا كان الجنين مقطوع الأطراف والأم سليمة؛ فهل تُقَدَّرُ هي مقطوعة الأطراف؟ فيه وجهان؛ أصحهما: لا؛ لأن نقصان الجنين قد يكون من أثر الجناية واللائق الاحتياط والتغليظ.
وَتَحْمِلُهُ، أي بدل الجنين، العَاقِلَةُ في الأظهرِ، هذا الخلاف مبني على أن الرقيق هل تحمِلُهُ العاقلة؟ وفيه خلاف سلف في موضعه.
فَصْلٌ: يَجِبُ بِالقَتلِ كَفارَةٌ، لقوله تعالى:{مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (199) وخرج بالقتل الأطراف والجراحات فلا كفارة فيها لعدم الورود فيها، وَإِن كان القَاتِلُ صَبيًا أَوْ مَجْنُونًا، أي بخلاف وقاعهما في رمضان؛ فإنه لا كفارة عليهما به، لعدم التعدي منهما، فالتعدي شرط في وجوب بدل الكفارة فيعتق الولي من مالهما كما يخرج الزكاة والفطرة منه، كذا قاله الرافعي هنا تبعًا للقاضي والبغوي وخالف في كتاب الصداق، وعلَّلَهُ بأنه لو صح لتضمن دخوله في ملكه ثم يعتق عنه، وذلك لا يجوز بخلاف الزكاة والفطرة فإنهما على الفور بخلافها، ولا يصوم الولي عنهما بحال، وَعَبْدًا وَذميًا، كما يتعلق بقتلهما القصاص والضمان، أَوْ ذِميًّا وَعَامِدًا، كالمخطئ وأولى خلافًا لابن المنذر، وَمُخْطِئًا، بالإجماع، وَمُتَسَبِّبًا، لأنه كالمباشرة في الضمان فكذا في الكفارة، بِقَتْلِ مسلِمٍ، أي تجب الكفارة بقتل مسلم، وَلَوْ بِدَارِ حربٍ، لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (199) المعنى على ما نقل عن الشافعي وإن كان من قوم عدوٍّ لكم، وَذِميِّ، لأنه آدمي مضمون، وَجَنِيْنٍ، لما قلنا، قال ابن المنذر: ولا أعلمُ فيه خلافًا بين أهل العلم، وَعَبْدِ نَفْسِهِ، أي وتجب الكفارة على من قتل عبدَ نفسِهِ لحق الله تعالى بخلاف الضمان فإنه إذا وجب وجب للسيد، وَنَفْسِهِ، أي وتجب الكفارة أيضًا على من قتلَ نفسهُ وتُخرج من تركته، لأنه معصوم كغيره ويُحرَّمُ عليه قتل نفسه كما يُحرم على غيره، وَفِي نَفْسِهِ وجهٌ، أي أنها لا تجب عليه إذا فعل ذلك كما أنه لا يجب عليه الضمان، لَا امرَأَةٍ وَصَبِي حربيَّيْنِ، أي وإن كان يحرم قتلهما؛ لأن المنع من قتلهما ليس لحرمتهما ورعاية مصلحتهما، وذلك لا يتعلق به ضمان، وإنما هو لمصلحة المسلمين حتى لا يفوتهم الارتفاق بهم، وَبَاغٍ، لأنه غير مضمون فأشبه الحربي،
(199) النساء / 92.
وَصَائِلٍ، لما قلناه، وَمُقْتص مِنْهُ، أي وجب القصاص على شخص فقتله المستحق، لم تجب على المستحق كفارة ولا تجب أيضًا في قتل المرتد وقاطع الطريق والزاني المحصن.
فرع: الجلادُ إذا جرى على يده قتل غير مستحق، لا كفارة عليه؛ لأنه سيف الإمام وآلة سياسته (200).
فرع: إذا أصاب غيره بالعين واعترف أنه قتله بالعين، فلا قصاص، وإن كانت العين حقًا، لأنه لا يفضي إلى القتل غالبًا، ولا يعد مهلكًا، والفاعل لذلك التأثير هو الله تعالى، ثم قيل: تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية فَتتخَللُ المَسَامَ فيخلق الله
(200) فَائدَة: لَا يُخَلى بَيَّنَ الإِمَامِ وَدَمِ أحدٍ مِنْ غَيْرِ حق:
• قُلْتُ: في هذا القول نظر! وفيه تفصيل؛ على أن يكون الإمام إمام عدل، استقام على منهاج النبوة في سياسة الرعية. ثم أن في الحكم المعين اجتهاد له، ببذل أقصى الجهد في التحري عن حقيقة الدَّم. وإلا فإن حُرْمَةَ دم المسلم عند الله عظيمة، وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ أن النبِى صلى الله عليه وسلم قال:[لَزَوَالُ الدنيَا أهوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتلِ رَجُل مسلِم]. رواه الترمذي في الجامع: ما جاء في تشديد قتل المؤمن: الحديث (1395). فلا تصح الفكرة: بأن يخلى بين الإمام وبين دم فلان مع الله عز وجل، وأن يخطئ الإمام بالعفو خير من أن يخطئ بالعقوبة. ولقد أجمع الصحابة على موقف عبد الرحمن بن أبي بكر حين قال لمعاوية بن أبي سفيان قاطعًا كلامه؛ قال عبدالرحمن:(إِنكَ وَاللهِ لَوَددتَ أنا وكلناكَ في أمرِ ابنكَ إِلَى اللهِ، وَإنا وَالله لَا نَفْعَل؛ وَاللهِ لَتَرُدن هذَا الأمرَ -الخِلَافَة- شُورَى، أوْ لَنَفِرنها عَلَيكَ جَذَعَةَ)[تاريخ ابن خياط: ج 1 ص 252].
• أما إذا كان الإمام إمام جور أو أمير ملك عاض، أي فيه الظلم، فإن سيف الحاكم يتحمل الدية لا محالة، ولأهل المجني عليه مطالبته بالدية أو القود، ولهم العفو، وهو غير مستساغ؛ لأنه سكوت عن حق ورضى بالظلم.
• أما إذا كان الأمير كافرًا، فالجلاد منه، قال الله عز وجل:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقاله الله عز وجل:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23]، وقال الله عز وجل:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]. اقتضى التنويه.
الهلاك عندها ولا دية فيه أيضًا ولا كفارة [وأمَر صلى الله عليه وسلم العَائِنَ أنْ يَتَوَضأ](201) وفسَّرَه مالك: بأن يغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره أي ما يلي جسده من الإزار، وقيل: وِركَهُ، وقيل: مذاكيره، قيل: ويصب على رأس الذي أصيب بالعين، والذي رجحه الماوردي إيجاب ذلك، وبه قال بعض أهل العلم، قيل: وينبغي للسلطان منع من عرف بذلك من مخالطة الناس ويأمره بلزوم بيته ويرزقه ما يكفيه إن كان فقيرًا، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر من مخالطة الناس (202).
(201) • عن أبي أمامةَ سهل بنِ حُنَيْفٍ؛ أنهُ سَمِعَ أباهُ يَقولُ: اغتسَلَ أبي؛ سَهلُ بنُ حنيف؛ بالخَرارِ. فَنَزَعَ جُبة كَانَت عَليهِ. وَعَامِرُ بنُ رَبيعَة يَنْظُرُ. قَال: وكَان سَهْلٌ رَجُلًا أبيضَ حَسَنَ الجلدِ. قَالَ: فقَالَ لهُ عَامِرُ بنُ رَبيعَةَ: مَا رأيتُ كاليومِ وَلَا جِلْدَ عَذْرَاء. قالَ: فَوعَكَ سهلُ بعكانه. واشتد وَعكُه. فأتِيَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخْبرَ؛ أنَّ سَهلا وُعِكَ. وَأنهُ غَير رائح مَعَكَ يا رسولَ اللهِ. فأتَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فأخْبَرَهُ سهل بالذِي كَانَ مِنْ شأن عَامِر. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: [عَلَامَ يقتلُ أحَدُكُم أخَاهُ. ألا بركت. إن العين حَق. توَضأ له] فتَوَضأ لَهُ عَامر. فَرَاحَ سهل معَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليسَ به بأس. رواه الإمام مالك في الموطأ: كتاب العين: باب الوضوء من العبن: الحديث (1) منه: ج 2 ص 938. وظاهره الإرسالُ ولكنه محمول على أن أبا أمامة سمع ذلك من أبيه.
• عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: (كَانَ يؤمَرُ العَائِنُ، فَيتوَضأ، ثم يغتسِل مِنْهُ المَعين). رواه أبو داود في السنن: كتاب الطب: باب ما جاء في العين: الأثر (3880).
(202)
أخرج البخاري في الصحيح: كتاب الطب: باب الجذام: الحديث (5707) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وفر منَ المَجذومِ فرَارَكَ مِنَ الأسَد]. وأخرج مسلم في الصحيح: كتاب السلام: باب اجتناب المجذوم: الحديث (126/ 2231) عن عمرو بن الشريد عن أبيه؛ قال: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيْف رجُل مجذُوم فأرسلَ إِلَيهِ النبِي صلى الله عليه وسلم: [إِنا قد بَايَعناكَ فَارجع]. قال ابن حجر في الفتح: شرح الحديث السابق. أخرج الطبري من طريق معمر عن الزهري: أن عُمَرَ قال لِمعيقيبِ: (اجلِس مِني قيد رمح). وقال: أثر منقطع.
وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الشُّرَكاءِ كَفارَةٌ فِي الأصَحِّ، كالقصاص، والثاني: على الجميع واحدة ككفارة قتل الصيد، وَهِيَ كَظهارِ، أي فيجب عليه أولًا عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين للآية، لَكِن لَا إِطعامَ، أي عند العجز عن الصوم، فِي الأَظْهرِ، وجه القائل بالإطعام القياس على كفارة الظهار، ووجه الأظهر أن الأبدال في الكفارات موقوفة على النص دون القياس ولا يحمل المطلق على المقيد إلا في الأوصاف دون الأصل، كما حمل مطلق اليد في التيمم على تقييدها بالمرافق في الوضوء، ولم يحمل ترك الرأس والرجلين فيه على ذكرهما في الوضوء، فعلى هذا لو مات قبل الصوم أخرج من تركته لكل يوم مُدُّ طعامٍ كفوات صوم رمضان، والقول في صفة الرقبة والصيام والإطعام إن أوجبناه على ما سبق في الكفارات.
فُرُوعٌ نَخْتِمُ بِها الفَصل: مَن أقر بقتل آدمي عمدًا ثم رجع قُبِلَ رجوعُهُ بالنسبة إلى الصوم دون الإعتاق والإطعام؛ لأنهما حقان لآدمي، بخلاف الصوم، قاله والد الروياني احتمالًا لنفسه. ومن مات وعليه كفارة قتل ولم يقدر على العتق، قال الروياني: الظاهر أنه يُطْعَمُ عنهُ، وإن كان الصوم لا بدل له، قال: فإن كان هذا المكفِّر شيخًا هرمًا لم يجز له الإطعام لجواز أن يتمكن من العتق، قال: وقد قيل بخلاف ذلك؛ والأصح الأول، فإن اعتبرنا حال الوجوب أُطْعِمَ لا محالة.