المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ السِّيَّرِ هُوَ جَمْعُ سِيْرَةٍ وَهِيَ الطَّرِيْقَةُ، وَيُقَالُ: إنَّهَا مِنْ سَارَ - عجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج - جـ ٤

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب النفقات

- ‌كتاب الجراح

- ‌بَابُ كَيفِيةِ القِصَاصِ وَمُسْتَوْفِيهِ وَالاختِلافِ فِيهِ

- ‌كِتَابُ الدِّيَّاتِ

- ‌بَابُ مُوجِبَاتِ الدِّيةِ وَالْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةِ

- ‌كتاب دعوى الدم والقسامة

- ‌كِتَابُ البُغَاةِ

- ‌كِتَابُ الرِّدَّةِ

- ‌كِتَابُ الزِّنَا

- ‌كِتَابُ حَدَّ الْقَذْفِ

- ‌كِتَابُ قَطْعِ الْسَّرِقَةِ

- ‌كِتَابُ قَاطِعِ الْطَّرِيقِ

- ‌كِتَابُ الأشْرِبَةِ

- ‌كِتَابُ الصِّيَالِ وضَمَانِ الوُلَاةِ

- ‌كِتَابُ السِّيَّرِ

- ‌كِتَابُ الْجِزْيَةِ

- ‌كِتَابُ الْهُدْنَةِ

- ‌كِتَابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِحِ

- ‌كِتَابُ الأضْحِيَّةِ

- ‌كِتَابُ الأَطْعِمَةِ

- ‌كِتَابُ الْمُسَابَقَةِ والْمُنَاضَلَةِ

- ‌كِتَابُ الأَيْمَانِ

- ‌كِتَابُ النَّذْرِ

- ‌كِتَابُ الْقَضَاءِ

- ‌بَابُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ

- ‌بَابُ الْقِسْمَةِ

- ‌كِتَابُ الشَّهَادَاتِ

- ‌كِتَابُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ

- ‌كِتَابُ الْعِتْقِ

- ‌كِتَابُ التَّدْبِيرِ

- ‌كِتَابُ الْكِتَابَةِ

- ‌كِتَابُ أمَّهَاتِ الأوْلَادِ

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ السِّيَّرِ هُوَ جَمْعُ سِيْرَةٍ وَهِيَ الطَّرِيْقَةُ، وَيُقَالُ: إنَّهَا مِنْ سَارَ

‌كِتَابُ السِّيَّرِ

هُوَ جَمْعُ سِيْرَةٍ وَهِيَ الطَّرِيْقَةُ، وَيُقَالُ: إنَّهَا مِنْ سَارَ يَسِيْرُ، وَتَرْجَمَهُ المُصَنِّفُ بِذَلِكَ، لأَنَّ أَحْكَامَهُ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ سَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَوَاتِهِ، وَالْمَقْصُودُ الْكَلَامُ فِي الْجِهَادِ وَأَحْكَامِهِ، وَالأَصْلُ فِيْهِ الإِجْمَاعُ؛ وَمَا لَا يُعَدُّ مِنَ الآيَاتِ وَالأَخْبَارِ الَّتِي بَعْضُهَا فِي الْبَابِ.

كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضَ كِفَايَةٍ، أما كونه فرضًا فبالإجماع، وأما كونه فرضُ كفايةٍ فَاحْتُجَّ لهُ بقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} إلى قوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (310) ذكرَ فَضْلَ المجاهدين ووعد القاعدين بالحسنى أيضًا، ولو كان القاعدون تاركين للفرض لَمَا وعدَهُم بالخير، وَقِيْلَ: عَيْنٌ، لقوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} إلى قوله تعالى {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (311) ومن قال بهذا

ص: 1677

قال: مَنْ لَمْ يَخْرُجْ من المدينةِ كان يحرُسُها، وحراستُها نَوْعٌ من الجهاد؛ والقائل بالأول قال: الوعيدُ إنما كان في حالِ قلة المسلمين وكثرة المشركين، أو يحمل على من عيّنه النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد؛ فإنه يتعين عليه الإجابة. وقال الماوردي: كان فرض عين على المهاجرين وفرض كفاية على غيرهم، وقال بعض العلماء من غير أصحابنا: كان فرض عين على الأنصار دون غيرهم، لأنهم بايعوا عليه قال شاعرهم:

نَحْنُ الَّذِيْنَ بَايَعُواْ مُحَمَّدًا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِيْنَا أَبَدًا (312)

وَاعْلَمْ: أن الله تعالى لما بعث نبيه عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أمره بالتبليغ والإنذار بلا قتال؛ ومنع منه، وأُمروا بالصبر على أذى الكفار ثم بعد الهجرة أذن الله سبحانه في القتال للمسلمين إذا ابتدأهم الكفار به، ثم أباح القتال ابتداءً، لكن في غير الأشهر الحرم، ثم أمره من غير تقييد بشرط ولا زمان. وهل كان فرض عين أو كفاية؟ فيه الخلاف المذكور.

وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ، إذ لو فرض على الأعيان لتعطلت المعايش وخربت البلاد، إِذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيْهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِيْنَ، لأن هذا شأن فروض الكفايات (313).

وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فِي الدِّيْنِ، أي حتى لا تخلو خطة من خطط الإسلام عن ذلك، والمراد بِالْخِطَّةِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ،

(312) عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيْدٌ يَعْمَلُونَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قَالَ:[اللَّهُمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ] فَقَالُواْ مُجِيْبِيْنَ لَهُ:

نَحْنُ الَّذِيْنَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِيْنَا أَبَدًا

رواه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 205، وفيه:[وَلَا نَفِرُّ؛ وَلَا نَفِرُّ؛ وَلَا نَفِرُّ].

(313)

فَرْضُ الْكِفَايَةِ إِنْ أَقَامَهُ مَنْ فِيْهِمُ الْكفَايَةُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِيْنَ، وَلَا يُرْفَعُ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِيْنَ حَتَّى يُنْجَزَ فِعْلُهُ؛ وَهُوَ مَا عَنَاهُ بِقَوْلهِ:(إِذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيْهِمُ الْكِفَايَةُ).

ص: 1678

وَبِعُلُومِ الشَّرْعِ كَتَفْسِيْرٍ وَحَدِيْثٍ، وَالْفُرُوعِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، لشدة الحاجة إلى ذلك وللإفتاء أيضًا، وَلَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذِهِ، الْعُلُومِ مِنَ اللُّغَةِ وَالْنَّحْوِ وَالتَّصْرِيْفِ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ جَرْحًا وَتَعْدِيْلًا، وقد ذكرتُ هنا في الأصل الاشتغال بالعلوم العقلية وبعلم الطب وبالعقائد وغير ذلك مما هو ضروري فسارع إليه ترشد والله الموفق.

وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، والمراد منه الأمر بواجبات الشرع والنهي عن محرماته، فإن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية.

وَإحْيَاءُ الْكَعْبَةِ كُلَّ سَنَةٍ بِالزِّيَارَةِ، لأن ذلك من شعائر الإسلام، وقوله (بِالزِّيَارَةِ) قد يُفهم أن الحج لا يتعين بل العمرة؛ والصلاة والاعتكاف في المسجد الحرام لذلك كما ذكره الرافعي بحثًا ورده عليه في الروضة، وَدَفْعُ ضَرَرِ الْمُسْلِمِيْنَ، أي وكذا أهل الذمة أي على أهل الثروة، كَكِسْوَةِ عَارٍ؛ وِإطْعَامِ جَائِعٍ؛ إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِزَكَاةٍ، وَبَيْتِ مَالٍ، صيانة للنفوس، وَتَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا، أي على ما يفصله في بابه، وهذا إذا حضر التحمل فإن دُعي له فقيل: تجب الإجابة أيضًا، والأصح: المنع؛ إلَّا أن يكون الداعي قاضيًا أو معذورًا بحبسٍ ونحوه.

فَرْعٌ: إعانة القضاة على استيفاء الحقوق ونحو ذلك من فروض الكفايات، وكذا تَجْهِيْزُ الْمَوْتَى غَسْلًا وَتَكْفِيْنًا وَصَلَاةً وَدَفْنًا ونحو ذلك.

وَالْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ وَمَا تَتِمُّ بِهِ الْمَعَايِشُ، كالبيع والشراء والحراثة والحجامة والكنس، ولا شك أن قيام الدنيا بهذه الأسباب، وقيام الدين موقوف على أمر الدنيا. قال الإمام؛ وجماعاتٌ: والقيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين، أي لأنه ساعٍ في صيانة الأمة عن الأثم بخلاف الثاني.

وَجَوَابُ سَلَامٍ عَلَى جَمَاعَةٍ، لحديث فيه أخرجه أبو داود ولم يضعِّفه (314)،

(314) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: [يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّواْ أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ؛ =

ص: 1679

وَيُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ، لقوله عليه الصلاة والسلام:[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ] رواه أبو داود بإسناد حسن (315)، قال القفال في فتاويه: وابتداء السلام أفضل من الردِّ. وحكى القاضي فيه خلافًا؛ وأحكامُ السَّلام هنا مَبْسُوطَةٌ في الأصل فَرَاجِعْهَا مِنْهُ فَفِيْهِ مُهِمَّاتٌ. لَا عَلَى قَاضِي حَاجَةٍ وَآكِلٍ، وَفِي حَمَّامٍ، وَلَا جَوَابَ عَلَيْهِمْ، لاشتغالهم، واستثنى الإمام من الآكل ما إذا سلَّم بعد الابتلاع وقبل الوضع، وقال: إنه لا يتوجه في هذه الحالة الامتناع، وجزم به المصنف في الأذكار، وبقيت أحوال أخر فراجعها من الأصل، وقد ذكرت هنا فصلًا في تشميت العاطس، وفصلًا آخر في أحكام مهمة يتعين عليك مراجعتها منه والله الهادي.

فَصْلٌ: وَلَا جِهَادَ عَلَى صَبِيٍّ؛ وَمَجْنُونٍ؛ وَامْرَأَةٍ؛ وَمَرِيضٍ، لأنهم ضعفاء، وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ كالمرأة، أي لا يقدر على القتال أو يَشقُّ عليه لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ

} الآية (316)، وَذِي عَرَجٍ بَيِّنِ، للآية المذكورة، وأما العرج اليسير الذي لا يمنع المشي فلا اعتبار به، وَأَقْطَعَ؛ وَأَشَلَّ، لأنه لا يتمكن من الضرب والاتقاء.

فَرْعٌ: لا يجب على من فَقَدَ معظم أصابعه بخلاف فاقد الأَقَلِّ.

تَنْبِيْهٌ: لا يجب على الأعمى أيضًا، وعجبتُ للمصنف إهماله ولا يجب على الذِّمَّيِّ أيضًا.

وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أحَدُهُمْ]. رواه أبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب ما جاء في ردِّ الواحد عن الجماعة: الحديث (5210). وقال: رفعه الحسن بن علي رضي الله عنهما.

(315)

رواه أبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في فضل من بدأ بالسلام: الحديث (5179). والإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 254 عن أبي أمامة.

(316)

الفتح / 17: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} .

ص: 1680

وَعَبْدٍ، لاستغراقه في خدمة سيده، ولو أذن له أيضًا كما صرح به الإمام وقال: إنه الوجه، وَعَادِمِ أُهْبَةِ قِتَالٍ، لقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ

} إلَى قوله: {وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} (317).

وَكُلُّ عُذْرٍ مَنَعَ وُجُوبَ حَجِّ مَنَعَ الْجِهَادَ إِلَّا خَوْفَ طَرِيْقِ مِنْ كُفَّارٍ، لأن الغزو مبني على مصادفة المخاوف، وَكَذَا مِنْ لُصُوصِ الْمُسْلِمِيْنَ عَلَى الصَّحِيْحِ، لأن الخوف محتمل في هذا السفر، وقتال الْمُتَلَصِّصِيْنَ أهَمَّ وَأَوْلَى، والثاني: إنه يمنع الوجوب كما في الحج.

وَالدَّيْنُ الْحَالُّ يُحَرِّمُ سَفَرَ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ، لأن مقصود الجهاد طلب الشهادة ببذل النفس للقتل فيؤدي إلى إسقاط حق ثابت، إِلَّا بِإِذْنِ غَرِيْمِهِ، لإسقاطه حقه، نَعَمْ؛ لو كان معسرًا فليس له منعه على الصحيح، ونقل في الكفاية مقابله عن الأصحاب وهو ظاهر إطلاق المصنف، ولو استناب موسر من يقضي له من مال حاضر فله الخروج أو غائب فلا، والْمُؤَجَّلُ لَا، لأنه الآن مخاطب بفرض الكفاية، والدَّين المؤجَّل لا يتوجه الخطاب به إلَّا بعد حلوله، وَقِيْلَ: يَمْنَعُ سَفَرًا مُخَوِّفًا، أي كجهاد وركوب بحر وبادية مُخْطِرَةٍ صيانة لحق المستحق، اللَّهُمَّ إلَّا أن يقيم كفيلًا بالدين، أما السفر الذي لا يغلب فيه الخطر فلا منع منه قطعًا.

وَيَحْرُمُ جِهَادٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ إِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ، لأنه فرض كفاية وبِرَّهما فرض عين، وللحديث الصحيح فيه، فإن كانا كافرين لم يلزمه استئذانهما لأنهما يمنعانه، والأجداد والجدات كالأبوين عند عدمهما، وكذا مع وجودهما على الأصح لوجوب

ص: 1681

بِرِّهما، والأب الرقيق كالحر على الصحيح. لَا سَفَرَ تَعَلُّمِ فَرْضِ عَيْنٍ، كسفر حج وأَولى؛ لأن الحج على التراخي، وَكَذَا كِفَايَةٍ، أى بأن خرج طالبًا لدرجة الفتوى، وفي الناحية من يستقل بها، فِي الأَصَحِّ، لأن الحجر على المكلف وحبسه بعيد، والثاني: لا بد من الاذن، كما في سفر الغزو لتعين البِر عليه، فَإنْ أَذِنَ أَبَوَاهُ وَالْغَرِيْمُ ثُمَّ رَجَعُواْ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِنْ لَمْ يَحْضُرِ الصَّفَّ، أى ولم يكن خرج بجعلٍ من السلطان؛ لأنه عذر منع الوجوب، وكذا طريانه كالعمى والمرض (318)، أما إذا خرج بجعل منه فلا يرجع؛ قاله الماوردي، ولو خاف على نفسه أو ماله أو خاف انكسار قلوب المسلمين لا يلزمه الانصراف، فَإِنْ شَرَعَ فِي قِتَالٍ حَرُمَ الاِنْصِرَافُ فِي الأظْهَرِ، لأن حق الجهاد سابق، والثاني: لا يحرم؛ رعاية لحق الآدمي الذي بِنَاؤُهُ على الضيق، ولا يجوز على الأول أن يقف موقف طلب الشهادة بل يقف في أواخر الصفوف ويحرس قاله القاضي أبو الطيب، وفي الحاوي: أن محل الخلاف في المتطوع، أما إن خرج بجُعلٍ فإن كان مقامه أصلح لم يرجع، وإن كان رجوعه أصلح لتشاغل المجاهدين به فيرجع.

الثَّانِي: يَدْخُلُون بَلْدَةً لَنَا فَيَلْزَمُ أَهْلَهَا الدَّفْعُ بِالْمُمْكِنِ؛ فَإِنْ أَمْكَنَ تَأَهُّبٌ لِقِتَالٍ وَجَبَ الْمُمْكِنُ حَتَّى عَلَى فَقِيْرٍ، أي بما يقدر عليه، وَوَلَدٍ؛ وَمَدِيْنٍ؛ وَعَبْدٍ بِلَا إِذْنٍ، أي وينحلُّ الْحَجْرُ عنهم في هذه الحالة، لأن في دخولهم دار الإسلام خَطْبٌ عظيم لا سبيل إلى إهماله، فلا بد من الجد في دفعه بما يمكن، وَقِيْلَ: إِنْ حَصَلَتْ مُقَاوَمَةٌ بِأَحْرَارٍ اشْتُرِطَ إِذْنُ سَيِّدِهِ، لأن في الأحرار غِنْيَةً عَنْهُمْ، والأصح الأولُ لِتَقْوَى القلوبُ وتعظُمَ الشوكةُ وتشتَدَّ النكايةُ في الكفار إشفاقًا من هجومهم، وَالنِّسْوَةُ إن لم يكن فيهن قوة دفاع لا يحضُرن، وإن كان! فعلى ما ذكرناه في العبد، ويجوز أن لا تحوج الزوجة إلى أذن الزوج كما لا يحوج العبد إلى إذن السيد، وَإِلَّا، أي وإن لم

(318) أراد ما يطرأ من آفة أو عذر مانع لأداء الفرض، كالعمى مع فقدان العين أو فقدان خاصة الرؤيا والبصر، أو مرض مقعد له عن تكاليف مطلوب الفعل ومقصده فيه.

ص: 1682

يكن تأهب لقتال، فَمَنْ قُصِدَ! دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْمُمْكِنِ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ أُخِذَ قُتِلَ، أي سواء كان حرًا أو عبدًا رجلًا أو امرأة سليمًا أو أعمى وأعرج، ولا تكليف على الصبيان والمجانين، وَإِنْ جَوَّزَ الأسْرَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ، لأن المكافحة والحالة هذه استعجال للقتل، والأسرُ يحتمل الخلاص.

وَمَنْ هُوَ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ مِنْ الْبَلْدَةِ كَأَهْلِهَا، أي حتى إذا لم يكن في أهل البلد كفاية وجب على هؤلاء أن يطيروا إليهم، فإن كان فيهم كفاية فالأصح الوجوب أيضًا لِعِظَم الواقعة، وَمَنْ عَلَى الْمَسَافَةِ يَلْزَمُهُمْ الْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ إِنْ لَمْ يَكْفِ أَهْلُهَا وَمَنْ يَلِيْهِمْ، دفعًا عنهم وإنفاذًا لهم، قِيْلَ: وَإِنْ كَفَواْ، لِعِظَم الواقعة، والأصح: المنع، لأنه يؤدي إلى الإيجاب على جميع الأُمة، وفي ذلك حرج من غير حاجة، وَلَوْ أَسَرُواْ مُسْلِمًا فَالأَصَحُّ: وُجُوبُ النُّهُوضِ إلَيْهِمْ لِخَلَاصِهِ إِنْ تَوَقَّعْنَاهُ، أي ويكون كدخولهم الدار؛ لأَنَّ حُرْمَةَ الإِسْلَامِ كَحُرْمَةِ دَارِ الْمُسْلِمِيْنَ، والاستيلاء على المسلم أعظم من الاستيلاء على الإسلام، والثاني: المنع، لأن تحريك الجنود لواحد يقع في الأسر بعيد ومخالف لما نقل في السير.

فَصْلٌ: يُكْرَهُ غَزْوٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، لأنه على حسب الحاجة، والإمام ونائبه أعرف بها وإنما لم يحرم، لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفس وهو جائز في الجهاد، وفي المرشد أن ذلك لا يجوز.

وَيُسَنُّ، للإمام، إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ وَيَأْخُذَ الْبَيْعَةَ بالثَّبَاتِ، اقْتَدَاءً بِهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ يُبَايِعُهُمْ أَنْ يَثْبُتُواْ لِلْحَرْبِ كما هو مشهور في الصحيح (319)، وَلَهُ الاِسْتِعَانَةُ

(319) • لحديث أنس رضي الله عنه؛ تقدم في الرقم (312).

• عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةً، فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ وَهِيَ سَمُرَةٌ، وَقَالَ:[بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ؛ وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ]. رواه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 355؛ ص 381؛ ص 396 وفيه تفصيل. وفي ص 292 بإيجاز. ومسلم في الصحيح: كتاب الإمارة: باب استحباب =

ص: 1683

بِكُفَّارٍ، اقتداءً به أيضًا كما ذكره الشافعي (320)، تُؤْمَنُ خِيَانَتَهُمْ، وَيَكُونُونَ بِحَيْثُ لَوِ انْضَمَّتْ فِرْقَتَا الْكُفْرِ قَاوَمْنَاهُمْ، وشرط في الروضة شرطًا ثالثًا وهو: أن يعرفَ الإمامُ حُسْنَ رَأْيِهِمْ في المسلمينَ، وشرطَ الماوردي: أن يخالفوا معتقد العدو كاليهود مع النصارى، وَبِعَبِيْدٍ بإِذْنِ السَّادَةِ وَمُرَاهِقِيْنَ أَقْوِيَاءَ، لأنه ينتفع بهم في القتال وسقي الماء ومداواة الجرحى ويستصحب النِّسَاءُ لمثل ذلك، وَلَهُ، يعني الإمام على وجه الاستحباب، بَذْلُ الأُهْبَةِ وَالسِّلَاحِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ مَالِهِ، لينال ثواب الإعانة، [فَمَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا](321) وكذا للآحاد بذل الأهبة من ماله.

= مبايعة الإمام الجيش: الحديث (74067/ 1856). والترمذي في الجامع: كتاب السير: باب ما جاء في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (1594). والنسائي في السنن: كتاب البيعة: البيعة على أن لا نفر: ج 7 ص 140.

• عَنْ مَعْقِلٍ بْنِ يَسَارٍ؛ قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَة؛ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النَّاسَ، وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعُ عَشْرَةَ مِائَةٍ، قَالَ:[لَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ؛ وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ]. رواه مسلم في الصحيح: كتاب الإمارة: باب استحباب مبايعة الإمام: الحديث (76/ 1858). والإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 25.

(320)

رَوَى الشَّافِعِيُّ بِإسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ قَالَ: [اسْتَعَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَرَضَخَ لَهُمْ، وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ]. رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب السير: باب الرضخ لمن يستعان به من أهل الذمة على قتال المشركين: الحديث (18486)، وقال: تفرد به الحسن بن عمارة وهو متروك ولم يبلغنا في هذا حديث صحيح. وفي كتاب السير: باب ما جاء في الاستعانة بالمشركين: الحديث (18378)؛ قال البيهقي: وإنما غزوه بيهود فينقاع فإني لم أجده إلا من حديث الحسن بن عمارة وهو ضعيف.

(321)

مِنْ حَدِيْثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: [مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيْلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيْلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب فضل من جهز غازيًا: الحديث (2843). ومسلم في الصحيح: كتاب الإمارة: باب فضل إعانة الغاري في سبيل الله: الحديث (136/ 1895).

ص: 1684

وَلَا يَصُحُّ اسْتِئْجَارُ مُسْلِمٍ لِجِهَادٍ، لأنه إن لم يكن متعيِّنًا عليه فمتى حَضَرَ الصَّفَّ تعيَّنَ عليه؛ فلا يجوزُ أخذ الأُجرة عن فرض العين، وَيَصُحُّ اسْتِئْجَارُ ذِمِّيٍّ، لأنه لا يقع عنه، وطريقه الإجارة لا الجعالة على الأصح، ويحتمل جهالة العمل لأن مقصوده القتال، لِلإِمَامِ، قِيْلَ: وَلِغَيْرِهِ، كالاذان على الأصح، والأصح: المنع، والفرقُ أنَّ الجهادَ أعظمُ وقعًا ويتعلق بإقامته وتأخيره مصالح يحتاج فيها إلى نظر كامل.

وَيُكْرَهُ لِغَازٍ قَتْلُ قَرِيْبٍ، لأن فيه قطع الرحم المأمور بصلتها، وَمَحْرَمٍ، أي وقتل قريب مَحْرَم، أَشَدَّ، لقوله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (322)، قُلْتُ: إِلَّا أَنْ يَسْمَعَهُ يَسُبُّ اللهَ أَوْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَاللهُ أَعْلَمُ، لما روى البيهقي عن عبد الله بن شَوْذَبٍ (•) قال: جَعَلَ أَبُو أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ يَنْصِبُ الأَلَّ لأَبِي عُبَيْدَةَ يَوْمَ بَدْرٍ؛ وَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيْدُ عَنْهُ فَلَمَّا أكْثَرَ الْجَرَّاحُ قَصَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيْهِ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ

} الآية (323)، وهذا مرسلٌ أو معضلٌ (324).

وَيَحْرُمُ قَتْلُ صَبِيٍّ، للنهي عنه في الصحيحين من حديث ابن عمر (325)،

(322) لقمان / 15.

(•) في النسخة (1): بن مسعود.

(323)

المجادلة / 22: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

(324)

• رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب السير: باب المسلم يتوقى في الحرب قتل أبيه: الحديث (18332)، وقال: هذا منقطع. وفي تلخيص الحبير: كتاب السير: باب كيفية الجهاد: الحديث (33) منه: ج 4 ص 113؛ قال ابن حجر: وهذا معضل، وكان الواقدي ينكره، ويقول:(مات والد أبي عبيدة قبل الإسلام).

• أما الحديث المرسل، وهو مبهم أيضًا، رواه البيهقي في الرقم (18333)، وقال: هذا مرسل جيد.

(325)

عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه أخْبرَهُ أَنَّ امْرَأَةً وُجدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً؛ =

ص: 1685

وَمَجْنُونٍ، قياسًا عليه، وَامْرَأَةٍ، للحديث المذكور، وَخُنْثَى مُشْكِلٍ، إلحاقًا له بالمرأة، وَاعْلَمْ: أَن هؤلاء إذا قاتلوا جاز قتالهم، وقد صرح به في الْمُحَرَّرِ فحذفه المصنف، وَيَحِلُّ قَتْلُ رَاهِبٍ، أي شيخًا كان أو شابًا، وَأَجِيْرٍ؛ وَشَيْخٍ؛ وَأَعْمًى؛ وَزَمِنٍ لَا قِتَالَ فِيْهِمْ وَلَا رَأْيَ في الأَظْهَرِ، لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ

} (326) والثاني: لا يحلُّ؛ لأنهم لا يقاتلون فأشبهوا النساء والصبيان، أما الشيخ وغيره إذا كان له رأيٌ يستعين به الكفار في القتال؛ وكان يُدَبِّرُ لهم أمْرَ الحرب فيجوز قتله قطعًا (327).

فَرْعٌ: يجوز قتلُ السوقة على المذهب، وقيل: على القولين.

فَيُسْتَرَقُّونَ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ، أي وذراريهم، وَأَمْوَالُهُمْ، أي إذا جَوَّزْنَا قَتْلَهُمْ ولهذا أتى المصنف بالفاء ليُنَبِّه على التفريع، فإن قلنا: بالمنع؟ فالمذهب: أنهم يُرَقُّونَ بنفس الأسر كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

= [فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ] وَفِي رِوَايَةٍ: وُجِدَتِ امْرَأةٌ مَقْتُولَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم[فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ]. رواهما البخاري في الصحيح: كتاب الجهاد والسير: باب قتل الصبيان في الحرب: الحديث (3014)، وباب قتل النساء في الحرب: الحديث (3015). ومسلم في الصحيح: كتاب الجهاد: باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب: الحديث (24 و 25/ 1744).

(326)

التوبة / 5. عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [اقْتُلُواْ شُيُوخَ الْمُشْرِكِيْنَ؛ وَاسْتَبْقُواْ شَرْخَهُمْ]. رواه أبو داود في السنن: كتاب الجهاد: باب في قتل النساء: الحديث (2670). والترمذي في الجامع: كتاب السير: باب ما جاء في النُّزُلِ على الحُكْمِ: الحديث (1583)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

(327)

عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: [لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ، فَقُتِلَ دُرَيْدٌ، وَهَزَمَ اللهُ أَصْحَابَهُ]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب المغازي: باب غزاة أوطاس: الحديث (4323). ومسلم في الصحيح: كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أبى موسى: الحديث (165/ 2498).

ص: 1686

فَرْعٌ: لا يُقْتَلُ رَسُولُهُمْ لحديث صحيح فيه (328).

فَصْلٌ: وَيَجُوزُ حِصَارُ الْكُفَّارِ في الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ، أي بكسر القاف لقوله تعالى:{وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} (329) وقد حَاصَرَ الشَّارِعُ عليه السلام أَهْلَ الطَّائِفِ متفق عليه (330)، وَإرْسَالُ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ وَرَمْيُهُمْ بِنَارٍ وَمَنْجَنِيْقٍ، للنص في المنجنيق (331)، والباقي بالقياس؛ لأن أكثر ما في ذلك قتلهم غيلة وسيأتي جوازه،

(328) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالِ بْنِ حَجَرٍ؛ فَقَالَ:[أتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ ] فَقَالَ: نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ رَسُولُ اللهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: [آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، لَوْ كُنْتُ قَاتِلًا وَفْدًا - رَسُولًا - لَقَتَلْتُكُمَا]. رواه أحمد في المسند: ج 1 ص 391 و 404: الرقم (3642 و 3708 و 3761 و 3837 و 3851 و 3755) وإسنادها صحيح.

(329)

التوبة / 5: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

(330)

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: حَاصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَفْتَحْهَا؛ فَقَالَ: [إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ] فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَقفِلُ وَلَمْ تُفْتَحْ؟ قَالَ: [فَاغْدُواْ عَلَى الْقِتَالِ] فَغَدَواْ؟ فَأَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ! قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم[إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ]، فَكَأَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبَهُمْ؛ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري في الصحيح: كتاب التوحيد: باب في المشيئة والإرادة: الحديث (7480)، وفي كتاب المغازي: باب غزوة الطائف: الحديث (4325). ومسلم في الصحيح: كتاب الجهاد: باب غزوة الطائف: الحديث (82/ 1778).

(331)

عَنْ مَكْحُولٍ: (أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ نَصَبَ الْمَنْجَنِيْقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا). رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى: ذكر عدد مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم: غزوة الطائف: ج 2 ص 159. والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب السير: باب قطع الشجر وحرق المنازل: الحديث (18628)، وقال: رواه أبو داود في المراسيل. وذكره الشافعي في القديم. إنتهى. وهو في مراسيل أبي داود: كتاب الجهاد: باب فضل الجهاد: ص 119: الرقم (299). في السيرة النبوية لابن هشام: ذكر غزوة الطائف: الرسول =

ص: 1687

وَتَبْيِيْتُهُمْ في غَفْلَةٍ، للاتباع، فَإِنْ كَان فِيْهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيْرٌ أَوْ تَاجِرٌ جَازَ ذَلِكَ، أى ما ذكرناه من النار والمنجنيق وما في معناهما، عَلَى الْمَذْهَبِ، لئلا يتعطل الجهاد بحبس مسلم فيهم، وَاعْلَمْ: أن مجموع ما في هذه المسألة ثلاث طرق؛ أصحها في أصلِ الروضة: إن لم تكن ضرورة كُرْهٍ تحرُّزًا من إهلاك المسلم، وفي تحريمه قولان: أَظْهَرُهُمَا: لا، لما أسلفناه، وثانيهما: نعم، لأنه قَدْ يُصِيْبَ الْمُسْلِمَ [وَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ مسُلِمٍ] كما ورد في الخبر في النسائي وغيره (332)، وإن كانت ضرورة لخوف ضررهم أو لم يحصل فتح القلعة إلَّا به جاز قطعًا، والثانية: لا، اعتبارًا بالضرورة، بَلْ إِنْ عُلِمَ أَنَّ مَا يَرْمِي بِهِ يُهْلِكُ الْمسْلِمَ لَمْ يَجُزْ؛ وإلَّا فقولان، والثالثة: إن كان عدد المسلمين الذي فيهم مثل المشركين لم يجُز رميهم، وإن كان أقلَّ جاز؛ لأنَّ الغالب أنَّهُ لا يصيب المسلمين.

وَلَوِ الْتَحَمَ حَرْبٌ فَتَتَرَّسُواْ بِنِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ، أي بينهم، جَازَ رَمْيُهُمْ، كيلا يُتخذ ذلك ذريعة إلى منع الجهاد، وَإِنْ دَفَعُواْ بِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَى رَمْيِهِمْ فَالأظْهَرُ تَرْكُهُمْ، لأنه عليه الصلاة والسلام [نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصَّبْيَانِ](333) ونحن في غنية عنهم، والحالة هذه بخلاف الأولى، والثاني: يجوز رميهم كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم.

فَرْعٌ: لو تَتَرسُواْ بهم في القلعة فالراجح في الروضة الجواز.

وَإِنْ تَتَرَّسُواْ بِمُسْلِمِيْنَ فَإِنْ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَى رَمْيِهِمْ تَرَكْنَاهُمْ، صيانة

= أول من رمى بالمنجنيق: ج 4 ص 126. والترمذي في الجامع: كناب الأدب: باب ما جاء في الأخذ من اللحية: في تعلقيه على الحديث (2762).

(332)

الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ رواه الترمذي في الجامع: كتاب الديات: باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن: الحديث (1395)، وقال: هذا أصح من حديث ابن أبي عدي. والنسائي في السنن: كتاب تحريم الدماء: تعظيم الدم: ج 7 ص 82.

(333)

تقدم في الرقم (325).

ص: 1688

للمسلمين، وَإِلَاّ، أي وإن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال، وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكبرت نكايتهم، جَازَ رَمْيُهُمْ فِي الأَصَحِّ، أي على قصد قتال المشركين ويتوقى المسلمين بحسب الإمكان؛ لأن مفسدة الإعراض أكثر من مفسدة الإقدام، ولا يبعد احتمال طائفة للدفع عن بيضة الإسلام، ومراعاة الأمور الكليات وهذا ما نص عليه أيضًا، والثاني: لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلاّ بضرب المسلمين لأن غايته أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يباح بالخوف بدليل صورة الإكراه، قال الرافعي: وأشعَرَ إيرادُ الغزالي أن تخصيص الوجهين بما إذا تترس الكفار بطائفة من المسلمين في صف القتال فإنه أجاب بالمنع فيما إذا تترس الكفار بمسلم، قُلْتُ: وتبعه الحاوي الصغير حيث قال: لا كافر بِمُسْلِمٍ.

فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ الإِنْصِرَافُ عَنِ الصَّفِّ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيْنَا، لقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ

} الآية (334)، وهو أمرٌ بمعنى الخبر؛ وإلَاّ لَوْ وَقَعَ خلافَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وهو محالٌ وقد ثبت أنَّ التولي يوم الزحف من الكبائر، إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ؛ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ يَسْتَنْجِدُ بِهَا، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ

} الآية (335)، وَيَجُوزُ إِلَى فِئَةٍ بَعِيْدَةٍ في الأَصَحِّ، لمطلق الآية، والثاني: يشترط أن يكون فئة قريبة ليتصور الاستنجاد بها في القتال وإتمامه، ثم هذا كله في

(334) الأنفال / 66: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . وَلحَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: [مَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ] رواه الطبراني في المعجم الكبير: الحديث (11151): ج 11 ص 760. وفي مجمع الزوائد: ج 5 ص 328؛ قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

(335)

الأنفال / 16: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .

ص: 1689

حال القدرة، أما من عجز بمرض ونحوه أو لم يبق معه سلاح فله الانصراف بكل حال، ويستحب أن يتولى متحرفًا أو متحيزًا، وَلَا يُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إِلَى بَعِيْدَةٍ الْجَيْشَ فِيْمَا غَنِمَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ، لأن ببعده تفوت نصرته، أما ما غنموه قبل مفارقته فيشارك، كذا نص عليه وبمثله في المتحرف لقتال، وَيُشَارِكُ مُتَحَيِّزٌ إِلَى فَئَةٍ قَرِيْبَةٍ في الأَصَحِّ، لبقاء نصرته، والثاني: لا؛ لأجل مفارقته وفيه بُعد، فَإِنْ زَادُواْ عَلَى مِثْلَيْنِ جَازَ الاِنْصِرَافُ، لقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ

} الآية (336)، إِلَاّ أَنَّهُ يَحْرُمُ انْصِرَافُ مِائَةِ بَطَلٍ عَنْ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدٍ ضُعَفَاءَ في الأَصَحِّ، لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا، وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف، والثاني: المنع؛ لأن اعتبار الأوصاف يُعْسَرُ (•) فاعتبر الحكم بالعدد، ومأخذ الخلاف النظر إلى مجرد اللفظ أو مراعاة المعنى، ويعبر عنه بأنه هل يجوز أن يستنبط من اللفظ العام أو المطلق معنى يخصصه أو يقيده؟ والخلاف جارٍ في العكس وهو فرار مائة من ضعفائنا عن مائة وتسعة وتسعين من أبطالِهِمْ؛ فإن اعتبرنا العدد لم يجز الفرار، وإن اعتبرنا الْمَعْنَى جَازَ.

تَنْبِيْهٌ: قيَّد الغزالي وإمامه جواز الانصراف من الصف بما إذا لم يكن فيه انكسار المسلمين؛ وتبعهما الحاوي الصغير، قال الرافعي: ولم يتعرضْ له المعظم.

فَصْلٌ: وَتَجُوزُ الْمُبَارَزَةُ، للاتباع (337)، فَإِنْ طَلَبَهَا كَافِرٌ اسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ إِلَيْهِ، لأن في ترك الخروج إضعافًا للمسلمين وتقوية للكافرين (338)، وَإِنَّمَا تَحْسُنُ مِمَّنْ

(336) الأنفال / 66: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .

(•) في النسخة (2): يُعْتَبَرُ، بدل يُعْسَرُ.

(337)

عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ قَالَ: (أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَي الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ: وَفِيْهِمْ أُنْزِلَتْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمُ الَّذِيْنَ تَبَارَزُواْ يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ أَوْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ. رواه البخاري في الصحيح: كتاب المغازي: باب قتل أبي جهل: الحديث (3965).

(338)

عَن جَابِرٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: خَرَجَ مَرْحبُ الْيَهُودِيُّ مِنْ حِصْنٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَدْ جَمَعَ سِلَاحَهُ، =

ص: 1690

جَرَّبَ نَفْسَهُ، أي فعرف قوّته وجرأته، فأما الضعيف الذي لا يثق بنفسه فيُكره له المبارزة ابتداءً وإجابة، وَبِإِذْنِ الإِمَامِ، فإن بارز من غير إذنه جاز؛ لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز، ولو قال: وبإذن صاحب الراية كما قال الإمام لكان أَولى.

فَصْلٌ: وَيَجُوزُ إِتْلَافُ بِنَائِهِمْ وَشَجَرِهِمْ لِحَاجَةِ الْقِتَالِ وَالظَّفَرِ بِهِمْ، لأنه عليه السلام[قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيْرِ وَحَرَّقَ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ

} الآية] متفق عليه (339)، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُرْجَ حُصُولَهَا لَنَا، مغايظة لهم وتشديدًا عليهم، فَإِنْ رُجِيَ نُدِبَ التَّرْكُ، حفظًا لها على المسلمين.

وَيَحْرُمُ إِتْلَافُ الْحَيْوَانِ، حرمةً له، إِلَّا مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ لِدَفْعِهِمْ أوْ ظَفَرٍ بِهِمْ، لأنها كالآت للقتال، أَوْ غَنِمْنَاهُ وَخِفْنَا رُجُوعَهُ إِلَيهِمْ وَضَرَرَهُ، دفعًا لهذه المفسدة.

فَصْلٌ: نِسَاءُ الْكُفَّارِ وَصِبْيَانُهُمْ إِذَا أُسِرُواْ رُقُّواْ، أي وكان حكمهم حكم سائر أموال الغنيمة، وقال الماوردي في الأحكام: مَنْ لا كتاب لها إذا امتنعت من الإسلام تقتل عند الشافعي (340).

= فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لِهَذَا الْخَبيْثِ مَرْحَب] فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَة: (أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ! ) فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [قُمْ إِلَيهِ اللَّهُمَّ أَعِنْهُ]. فَضَرَبَ مُحَمَّدٌ سَيْفَهُ بِالدَّرْقَةِ فَوَقَعَ فِيْهَا سَيْفُهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ مَرْحَبُ أنْ يَنْزِعَ سَيْفَهُ فَضَرَبَهُ مُحَمَّدُ فَقَتَلَهُ]. رواه الحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة: الحديث (5843/ 1441)، وقال: صحيح على شرط مسلم.

(339)

رواه البخاري في الصحيح: كتاب المغازي: باب حديث بني النضير: الحديث (4031)، وأطرافه في الرقم (2326) و (3021) مختصرًا؛ و (4032) و (4884). ومسلم في الصحيح: كتاب الجهاد: باب قطع أشجار الكفار وتحريقها: الحديث (29/ 1746).

(340)

في الأحكام السلطانية والولايات الدينية: قسم الفيء والغنيمة: ص 134: قال الماوردي: (وأما السبي، فهم النساء والأطفال، فلا يجوز أن يقتلوا إذا كانوا أهل كتاب لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان ويكونوا سبب مسترقًا يقسمون =

ص: 1691

فَرْعٌ: المجنون كالصبي.

وَكَذَا الْعَبيْدُ، لأنهم من جملة الأموال، وَيجْتَهِدُ الإِمَامُ، أي وكذا أمير الجيش، فِي الأَحْرَارِ الْكَامِلِيْنَ، إذا أُسِروا، وَيَفْعَلُ الأحَظَّ لِلْمُسْلِمِيْنَ مِنْ قَتْلٍ؛ وَمَنٍّ؛ وَفِدَاءٍ بِأَسْرَى أوْ مَالٍ، أي سلاحًا كان أو غيره، وَاسْتِرْقَاقٍ، للاتباع (341)، والمال المفادى به يقسَّم كالغنائم، وفي فتاوى القفال: أنه إذا كان أسراؤنا في أيديهم جاز لنا الفداء بالمال وغيره، بخلاف ما إذا كان أسراؤهم في أيدينا فإنه يجوز لنا المفاداة بالنفس لا بالمال، وهكذا مذهب أبي حنيفة، وغلطَ القاضي صاعدٌ فقال: لا يجوز في الأول المفاداة بالنفس ولا بالمال، فَإِنْ خَفِىَ، على الإمام، الأَحَظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ، لأنه راجع إلى اجتهاده، لا إلى تشهّيه فيؤخر لظهور الصواب، وَقِيْلَ: لَا يَسْتَرِقُّ وَثَنِيٌّ، كما لا يجوز تقريره بالجزية، والأصح: نعم، لأن من جاز أن يمن عليه ويفادى جاز أن يسترق كالكتابي، وَكَذَا عَرَبِيٌّ في قَوْلٍ، لحديث فيه، لكنه واهٍ (342)، لا جرم أن

= مع الغنائم؛ وإن كان النساء من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية وعبدة الأوثان وامتنعن من الإسلام، فعند الشافعي يقتلن وعند أبي حنيفة يسترققن).

(341)

• عَنْ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ؟ قَالَ: فَكَتَبَ [إِنَّمَا كَان ذَلِكَ فِي أوَّلِ الإِسْلَامِ، قَدْ أغَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى سَبِيِّهُمْ - ذَرَارِيَّهُمْ ؤأصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَّةَ]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب العتق: باب من ملك من العرب رقيقًا: الحديث (2541). ومسلم في الصحيح: كتاب الجهاد: باب جواز الإغارة على الكفار: الحديث (1/ 1730).

• عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ قَالَ: [خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبِيَّ الْعَرَبِ]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب العتق: الحديث (2542).

(342)

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: [لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ سِبَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، لَثَبَتَ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ إنَّمَا هُوَ إِسَارٌ وَفِدَاءٌ]. رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب السير: باب من يجري عليه الرقّ: الحديث (18578)، وقال: =

ص: 1692

الأصح استرقاقه كغيره.

فَرْعٌ: الأصحُّ: منع الاسترقاق فيما إذا حاصرنا لهم قلعة فنزل أهلها على حكم حاكم، لأنه ذُلٌّ مؤبَّدٌ.

وَلَوْ أَسْلَمَ أَسِيْرٌ عَصَمَ دَمَهُ، لقوله صلى الله عليه وسلم:[أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُواْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ الله] إلى أن قال: [فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُواْ مِنِّي دِمَاءَهُمْ] الحديث متفق عليه (343)، وَبَقِيَ الْخِيَارُ في الْبَاقِي، لأن المخير بين أشياء إذا سقط بعضها لتعذره لا يسقط الخيار في الباقي، كما لو سقط العتق في الكفارة لتعذره لم يسقط خياره فيما عداه، وَفِي قَوْلٍ: يَتَعَيَّنُ الرِّقُّ، لأنه أسير محرم القتل فأشبه الصبي، وأجاب الأول عن الصبي: بأن الصبي لم يكن مخيرًا فيه في الأصل بخلاف الأسير، فإن اختار الفداء فشرطه أن يكون له فيهم عزٌّ أو عشيرة يسلم بها دينه ونفسه، وِإسْلَامُ كَافِرٍ قَبْلَ ظَفَرٍ بِهِ، يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ، للحديث السالف قريبًا، قال القاضي حسين: وإنما يدفع السيف بكلمتي الشهادة والإقرار بأحكامهما لا بمجرد قولهما وفيه نظر، وَصِغَارَ وَلَدِهِ، أى من السبي ويحكم بإسلامهم تبعًا، أما البالغ العاقل فلا يعصمه إسلام الأب لاستقلاله بالإسلام.

فَرْعٌ: الحَمْلُ كالمنفصل فلا يسترقُّ تبعًا لأُمه.

فَرْعٌ: هل يعصم إسلام الجد ولَدَ ابنه الصغير؛ فيه أوجهٌ، أصحُّها: نعم كالأب، وثالثُها: إن كان الأب ميتًا عُصِمَ؛ وإلاّ فلا.

فَرْعٌ: المجنون من أولاده كالصغير، فلو بلغ عاقلًا ثم جُنَّ عصمه أيضًا على الصحيح.

= هذا إسناد ضعيف لا يحتج بمثله. وينظر: تلخيص الحبير لابن حجر: ج 4 ص 122: الحديث (52) من باب كيفية الجهاد.

(343)

رواه البخاري في الصحيح: كتاب الإيمان: باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} : الحديث (25). ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس: الحديث (32/ 20).

ص: 1693

لَا زَوْجَتَهُ، أي لا يعصم إسلامه زوجته عن السبي، عَلَى الْمَذْهَبِ، لاستقلالها، وهذا ما نصَّ عليه هنا، ونص على أن المسلم إذا أعتق عبدًا كافرًا فالتحق بدار الحرب لا يجوز استرقاقه؛ فاختلف الأصحاب فيهما على طريقين؛ أشهرهما: أن فيهما قولين نقلًا وتخريجًا، أحدهما: لا تسترقُّ زوجته، ولا عتيقه، لئلا يبطل حقه من النكاح والولد، والثاني: يسترقان لاستقلالهما، والطريق الثاني: تقرير النصين، والفرق أن الولاء بعد ما ثبت لا يمكن رفعه وإبطاله وإن تراضيا به، والنكاح ينفسخ ويرتفع بأسباب، وحدوث الرق من تلك الأسباب، والظاهر كما قال الرافعي: ما نص عليه في الصورتين وإن قدر الخلاف، واختار ابن كج في الزوجة المنع والخلاف جار في استرقاق حربية نكحها مسلم وهي في دار الحرب، وفال الرافعي في كلامه على الوجيز الوجهان في استرقاق الحربية ومنكوحة الكافر يجريان على نسق واحد، لكن الغزالي في زوجة من أسلم اقتصر على الأظهر، وخالف في الْمُحَرَّرِ في زوجة المسلم كما سيأتي وتبعه المصنف.

فَإِنِ اسْتُرِقَّتِ انْقَطَعَ نِكَاحُهُ في الْحَالِ، لأنه زال ملكها عن نفسها فيزول ملك الزوج عنها من باب أولى، ولأنها صارت أَمَة كتابية، ولا يجوز إمساك الأَمَة الكتابية للنكاح، وَقِيْلَ: إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا انْتُظِرَتِ الْعِدَّةُ فَلَعَلَّهَا تَعْتِقُ فِيْهَا، كما لو ارتدت بعد الدخول، والأصح: المنعُ؛ لأن حدوث الرق يقطع النكاح فأشبه الرضاع، وَيَجُوزُ إِرْقَاقُ زَوْجَةِ ذِمِّيٍّ، أي إذا كانت حربية؛ وينقطع به نكاحه، وَكَذَا عَتِيْقُهُ في الأصَحِّ، لأن الذمي لو التحق بدار الحرب استرق فعتيقه أولى، والثاني: لا يجوز كاسترقاق معتق المسلم، قال الرافعي: والوجه أن يرتب فيقال: إن جَوَّزْنَا استرقاق عتيق المسلم فهنا أولى وإلاّ فوجهان، لَا عتِيْقُ مُسْلِمٍ وَزَوْجَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ (344)، قد سبق بيان كل ذلك قريبًا، وَإِذَا سُبِيَ زَوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ إِنْ كَانَا حُرَّيْنِ، لأن الرق إذا حدث زال ملكها عن نفسها، فلأن

(344) يريدُ: لَا عتيقُ مسلمٍ وزوجتُهُ الحربيَّةُ.

ص: 1694

تزول العصمة بينها وبين الزوج من باب أولى، وهذا إذا كان الزوج كافرًا، فإن كان مسلمًا؛ فإن قلنا: لا تسترق زوجة المسلم فلا كلام، وإن قلنا: تسترق فالأصح: انفساخه سواء قبل الدخول وبعده ذكره الإمام، قِيْلَ: أَوْ رَقِيْقَيْنِ، لحدوث السبي، ولهذا لو سبيت مستولدة صارت رقيقة (•)، والأصح: المنع إذا لم يحدث رق وإنما انتقل من شخص إلى شخص فأشبه البيع وغيره، والخلاف جارٍ سواء أسلما أم لا، وَإِذَا أُرِقَّ، أي الحربي، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَسْقُطْ، لأن شَغَلَ الذِّمَّةِ قد حصلَ ولم يوجد ما يقتضي السقوط، ولو كان الدَّيْن للسابي ففي سقوطه الوجهان فيمن كان له دين على عبد غيره فملكه، فَيُقْضَى مِنْ مَالِهِ إِنْ غَنِمَ بَعْدَ إِرْقَاقِهِ، أي ويقدم الدَيْن على القسمة كما يقدم على الوصية، وإن زال ملكه بالرق، كما أن دَين المرتد يقضى من ماله وإن حكمنا بزواله، واحترز بقوله (إِنْ غَنِمَ بَعْدَ إِرْقَاقِهِ) عما إذا غُنم قبله فإنه ملك الغانمين ولا يقضى منه الدَيْن كما لو انتقل ملكه بوجه آخر، وإن غُنم مع استرقاقه فالأصح تقديم الغنيمة لتعلقها بالعين فإن لم يوجد له مال ففي ذمته إلى أن يعتق، وهل يحل الدَّيْن المؤجَّل بالرق؟ فيه وجهان مرتبان على الخلاف في الحلول بالإفلاس، وأولى بالحلول لأنه يشبه الموت من حيث أنه يزيل الملك ويقطع النكاح، هذا إذا كان الدَّين لمسلم، فإن كان لذمّي فبمثله أجاب الإمام، وقال: دَين الذمي محترم كعين ماله، وذكر البغوي فيه وجهين، وإن كان لحربي واسترق المدين فالظاهر سقوطُ الدَّيْنِ، وفيه احتمال للإمام.

وَلَوِ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ ثُمَّ أسْلَمَا أَوْ قَبِلَا جِزْيَةً دَامَ الْحَقُّ، كما إذا أسلم الزوجان ولم يقبض المهر المسمَّى بقي استحقاقه، وَلَوْ أُتْلِفَ عَلَيْهِ، أي على الحربي، فَأَسْلَمَا، وكذا لو أسلم المتلف، فَلَا ضَمَانَ في الأَصَحِّ، لأنه لم يلتزم شيئًا والاسلام يجبّ ما قبله، والإتلاف ليس عقدًا يستدام، والثاني: يجب الضمان؛ لأنه لازمٌ عندهم؛ فكأنهم تراضوا عليه.

(•) في النسخة (1): قِنَّةٌ.

ص: 1695

فَصْلٌ: وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَهْرًا غَنِيْمَةٌ، كما تقدم في بابه، وَكَذَا مَا أَخَذَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بِسَرِقَةٍ، أَوْ وُجِدَ كَهَيْئَةِ اللُّقَطَةِ عَلَى الأَصَحِّ، لأن دخوله دار الحرب وتغريره بنفسه يقوم مقام القتال، والثاني: أنه لمن أخذه خاصة؛ لأنه ليس مأخوذًا بقوة الجند ولا بقوة الإسلام حتى يكون فيئًا، ولا بقتال حتى يكون غنيمة، وجزم به الرافعي في الأول في باب زكاة المعدن والركاز، والخلاف في الثانية للإمام وحده، وعامة الأصحاب على أنه غنيمة، ورأيتُ في فتاوى القفال: أنه إذا وَجَدَ لقطة في مال مشرك (•) في دار الحرب، فإن دخل بأمان فلقطة، وإلا فإن علم أنه من مال مشرك، فإن كان دخوله مع العسكر فغنيمة، وإن دخل متلصصًا كان غنيمة له فنخمسها، وإن وُجد في دار الإسلام فإن كان له عهد فكالمسلم وإلا ففيءٌ يعطيه إلى الإمام ليصرفه فيه.

فَرْعٌ: المأخوذ على صورة الاختلاس كالمأخوذ على صورة السرقة.

فَإِنْ أمْكَنَ كَوْنُهُ لِمُسْلِمٍ، أي بأن كان هناك مسلم، وَجَبَ تَعْرِيْفُهُ، أي ثم بعد يعود الخلاف المذكور في أنه غنيمة أم للآخذ، وصِفَةُ التعريف سَنَةٌ كما في المهذب والتهذيب، وحكاه الروياني وأفهم كلامه ترجيحه، وقال الشيخ أبو حامد: يعرف يومًا أو يومين، ويقرب منه قول الإمام يكفي بلوغ الأخبار إلى الأجناد إذا لم يكن هناك مسلم سواهم ولا ينظر إلى احتمال مرور التجار.

فَصْلٌ: وَلِلْغَانِمِيْنَ التَّبَسُّطُ فِي الْغَنِيْمَةِ بِأَخْذِ الْقُوتِ وَمَا يَصْلُحُ بِهِ، أي كزيت وسمن، وَلَحْمٍ وَشَحْمٍ وَكُلُّ طَعَامٍ يُعْتَادُ أَكْلُهُ عُمُومًا، أي وإن لم يأذن الإمام للحاجة الداعية إليه، وهل يجوز أخذ الشحم والدهن لتوقيح الدواب وهو مسحها بالمذاب وهو المغليُّ ولِجَرَبِهَا؟ وجهان: أحدُهما: نعم كعلفها؛ وهذا يوافقه إطلاق المصنف في قوله (وَشَحْمٍ)، وأصحُّهما وهو المنصوص أيضًا: المنع كالمداواة، وَعَلَفُ الدَّوَابِ تِبْنًا وَشَعِيْرًا وَنَحْوَهُمَا، لأنه لا بد من مركوب فهو كالقوت والعلَف هنا بفتح اللام

(•) في النسخة (1): مشترك.

ص: 1696

لأن المراد مَا تأكله، وَذَبْحُ مَأْكُولٍ لِلَحْمِهِ، كتناول الأطعمة ويجب رد جلده إلى المغنم لا ما يؤكل مع اللحم، وَالصَّحِيْحُ: جَوَازُ الْفَاكِهَةِ، لأنه قد يحتاج إلى ذلك، والثاني: لا، لأنه لا يحتاج إليها غالبًا، وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ قِيْمَةُ الْمَذبُوحِ، أي إذا ذبحه لأجل لحمه، كما سلف، كما لا تجب قيمة الطعام المأخوذ، والثاني: يجب، لأن الترخيص ورد في الطعام، والحيوان ليس بطعام، ولهذا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا وهو ضعيف، لأن القيمة لو وجبت لما جاز الذبح وهذا القائل قد أجازه، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمُحْتَاجٍ إِلَى طَعَامٍ وَعَلَفٍ، لإطلاق المرخص في الباب، قال الإمام: إلا أن يضيّق على المحتاجين فللإمام منعه، والثاني: يختصُّ لاستغنائه عن أخذ حق الغير.

فَرْعٌ: ما يأخذه لا يملكه بالأخذ لكن أبيح له الأكل؛ والآخذ كالضيف، ذكره الإمام وغيره، ووقع في الحاوي الصغير: أنه يملكه ولا نعرفه لغيره.

وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْحِيَازَةِ، لأنه معهم كغير الضيف مع الضيف، والثاني: يجوز لمظنة الحاجة وعزة الطعام هناك، قال الرافعي: والأول موافقٌ لما ذكرناه في قسمة الغنائم أن من لَحِقَ الجند في دار الحرب بعد حيازة الغنيمة لا يشاركهم في الغنيمة، وإن لَحِقَ قبل الحيازة، فالأصح أن الجواب كذلك، وَاعْلَمْ: أن قول المصنف (بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْحِيَازَةِ) يوهم أنه لو لحق قبل الحيازة يختلف الحكم، ولا يختلف؛ لأنه لا يشاركه قبل الحيازة ولا بعدها كما قررناه، وَأنَّ مَنْ رَجَعَ إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ وَمَعَهُ بَقِيَّةٌ لَزِمَهُ رَدُّهَا إِلَى الْمَغْنَمِ، لزوال الحاجة، والمأخوذ متعلق بحق الجميع، والثاني: لا، لإباحة الأخذ، والثالث: إن كان قليلًا لا يبالى به لم يرد وإلا فيرد، وهذه الأقوال على المشهور كما نبّه عليه الرافعي خلاف ما جزم به المصنف وهو في ذلك تابع للغزالي، وَمَوْضِعُ التَّبَسُّطِ دَارُهُمْ، لأنه موضع العزة فإن انتهوا إلى عمران دار الإسلام وتمكنوا من الشراء أمسكوا، وَكَذَا مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى عُمْرَانِ الإِسْلَامِ في الأَصَحِّ، لبقاء الحاجة، والثاني: المنع؛ لأن مظنَّة الحاجة دار الحرب فَيُنَاطُ الحكم به، وعكسه لو وجدوا سوقًا في دار الحرب وتمكنوا فيه من الشراء فقد طرد الغزالي فيه الخلاف لانعكاس التوجيهين،

ص: 1697

وقطع الإمام بالجواز وقال لم أر لأحد منعه، ونزّلوا دار الحرب في ذلك منزلة السفر في الترخص.

فَصْلٌ: وَلِغَانِمٍ رَشِيْدٍ وَلَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِفَلَسٍ الإِعْرَاضُ عَنِ الْغَنِيْمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لأنه بمَحْضِ جهاده للآخرة، وخرج بالرشيد الصبي والمجنون والسفيه، واحترز بقوله (قَبْلَ الْقِسْمَةِ) عما بعدها لاستقرار الملك ولا يصح إعراض العبد عن رَضْخِهِ ويصح للسيد؛ لأنه حقه، وَالأصَحُّ: جَوَازُهُ، يعني الإعراض، بَعْدَ فَرْزِ الْخُمُسِ، أي وقيل: قسمة الأخماس الأربعة، لأن بالإقرار لا يتعين حق واحد فواحد، والثاني: المنع؛ لأن حقهم تميز عن الجهات العامة فصار كمالٍ مشترك، وَجَوَازُهُ، أي الإعراضُ، لِجَمِيْعِهمْ، أي ويصرف الجميع إلى مصرف الخمس؛ لأن المعنى المصحح للإعراض يشمل الواحد والجميع عامة، والثاني: لا، لأنّا لو صححنا ذلك لصرفنا نصيبهم إلى مصارف الخمس، وَبُطْلَانُهُ مِنْ ذِي الْقُرْبَى، لأنهم يستحقونه بلا عمل فأشبه الإرث، والثاني: يصح كالغنائم؛ وفرض الحاوي الصغير تبعًا للوجيز المسألة في إعراض جميعهم وليس بجيد، وَسَالِبٍ، لأنه متعين كالوارث، والثاني: يصحُّ كإعراض سائر الغانمين، وَالْمُعْرِضُ كَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ، أي فَيُضَمُّ نصيبهُ إلى المغنم، وَمَنْ مَاتَ فَحَقُّهُ لِوَارِثِهِ، أي إن لم يعرض كسائر الحقوق، وَلَا يُمْلَكُ إِلَاّ بِقِسْمَةٍ، وَلَهُمُ التَّمَلُّكُ، أي اختيار التملك؛ لأنهم لو ملكوا لم يصح إعراضهم كمن احتطب، وَقِيْلَ: يَمْلِكُونَ، أي بالحيازة والاستيلاء التام؛ لأن الاستيلاء على ما ليس بمعصوم من المال سبب الملك، وَقِيْلَ: إِنْ سَلِمَتْ إِلَى الْقِسْمَةِ بَانَ مِلْكُهُمْ، وَإِلَاّ فَلَا، لأن قصد الاستيلاء على المال لا يتحقق إلا بالقسمة، فإذا اقتسموا أثبتنا قصد التملك بالاستيلاء فَتَبَيَّنَ حصولُ الْمِلْكِ، وَيُمْلَكُ الْعَقَارُ بِالاِسْتِيلَاءِ كَالْمَنْقُولِ، بجامع المالية، وَلَوْ كَانَ فِيْهَا كَلْبٌ أَوْ كِلَابٌ تَنْفَعُ، أي للاصطياد والحراسة، وَأرَادَهُ بَعْضُهُمْ، أي بعض الغانمين وأهل الخمس، وَلَمْ يُنَازَعْ أُعْطِيَهُ، وِإلَاّ، أي وإن نُوزِعَ، قُسِّمَتْ إِنْ أَمْكَنَ، أي بأن وجد عدّة كلاب وأمكن قسمتها عددًا، وَإلَاّ أُقْرِعَ، بينهم هذا ما يوجد في كتب العراقيين كما قال الرافعي وناقشه فيه في الكفاية،

ص: 1698

وصرح الجرجاني بأن الكلب لا يدخل في القسمة، وَالصَّحِيْحُ: أَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ فُتِحَ عَنْوَةً؛ لأن عمر رضي الله عنه قسَّمَهُ في جملة الغنائم (345)، وسُمَّي سوادًا لخضرته بالأشجار والزرع على أحد الأقوال، والثاني: أنه فُتِحَ صُلْحًا وأنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رَدَّهُ عليهم بخَرَاجٍ يؤدُّونه كُلِّ سَنَةٍ (346)، وَقُسِّمَ ثُمَّ بَذَلُوهُ وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ، أي وقفه عمر رضي الله عنه كما روي عنه من طرق، وَخَرَاجُهُ أُجْرَةٌ تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِيْنَ، والثاني: أنه باعه من أهله، وَالْخَرَاجُ ثَمَنٌ مُنَجَّمٌ؛ لأنه لم يزل الناس يبيعون أرض السواد ويشترون من غير إنكار (347)، ومن قال بالأول لا يسلم عدم الإنكار بل قد روي الإنكار عن عمر رضي الله عنه (348).

(345) أَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ عَنْ جَرِيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَال: كَانَتْ بَحِيْلَةُ رُبُعَ النَّاسِ، فَقَسَمَ لَهُمْ رُبُعَ السَّوَادِ، فَاشْتَغَلُوهُ ثَلَاثَ أَوْ أَرْبَعَ سِنِيْنَ، أَنَا شَكَكْتُ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ:(لَوْلَا أَنَّي قَاسِمٌ مَسْؤُولٌ لَتَرَكْتُكُمْ عَلَى مَا قُسِمَ لَكُمْ، وَلَكِنْ أرَى أَنْ تَرُدُّواْ عَلَى النَّاسِ). رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب السير: جماع أبواب السير: الأثر (18884).

(346)

• عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: كُنْا رُبُعَ النَّاسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَعْطَانَا عُمَرُ رضي الله عنه رُبُعَ السَّوَادِ، فَأَخَذْنَاهُ ثَلَاث سِنِيْنَ، ثُمَّ وَفَدَ جَرِيْرٌ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ:(أَمَا وَاللهِ لَوْلَا أَنَّي قَاسِمٌ مَسْؤُولٌ لَكُنْتُمْ عَلَى مَا قُسِمَ لَكُمْ، فَأَرَى أَنْ تَرُدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ) فَفَعَلَ؛ فَأَجَازَهُ بِثَمَانِيْنَ دِيْنَارًا. رواه البيهقي في السنن الكبرى: الأثر (18886 - 18887). قالَ ابن حزم: هذا أصح ما جاء عن عمر في ذلك: ينظر: المحلى: ج 7 ص 344.

• عَنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: (لَئِنْ عِشْتُ إِلَى هَذَا الْعَامِ الْمُقْبِلِ، لَا يُفتَحُ لِلنَّاسِ قَرْيَةٌ إِلَاّ قَسَمْتُهَا بَيْنَهُمْ كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ). رواه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 31.

(347)

في هذا تفصيل يطول نقله؛ ينظر: الحاوي الكبير للماوردي: كتاب السير: باب فتح السواد: ج 14 ص 260 - 261.

(348)

نقل الماوردي قال: رُوِىَ عَنْ فَرْقَدِ السَّبْخِيِّ؛ أَنِّهُ قالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ! فقَالَ:(مِمَّنِ اشْتَريْتَهَا؟ ) فَقُلْتُ: مِنْ أرْبَابِهَا، فَقَالَ:(هَؤُلَاءِ أَرْبَابُهَا) يَعْنِي الصَّحَابَةَ! . ينظر: الحاوي الكبير: ج 14 ص 262.

ص: 1699

تَنْبِيْهٌ: في السبب الباعث على استرجاعه منهم خلاف، قيل: لأنه خاف أن يشتغلوا بفلاحته عن الجهاد، وقيل: لئلا ينفردوا بها وذريتهم عن سائر الناس.

وَهُوَ، يعني حدَّ السواد، مِنْ عَبَّادَانَ إِلَى حَدِيْثَةَ الْمَوْصِلِ طُوْلًا، وَمِنَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ عَرْضًا. قُلْتُ: الصَّحِيْحُ: أَنَّ الْبَصْرَةَ وِإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً في حَدِّ السَّوَادِ فَلَيْسَ لَهَا حُكمُهُ إِلَاّ في مَوْضِعٍ غَرْبِيَّ دِجْلَتِهَا وَمَوْضِعٍ شَرْقَيَّهَا؛ لأنها أُحدثت بعد فتحه ووقفه، وَأَنَّ مَا في السَّوَادِ مِنَ الدُّوْرِ وَالْمَسَاكِنِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ، لأن أحدًا لم يمنع شراءها، ولأن وَقْفَهَا يفضي إلى خرابها، والثاني: المنع كالمزارع، وَفُتِحَتْ مَكَّةُ صُلْحًا، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يَقْتُلْ إلَاّ أُناسًا خَصَّهُمْ به ولم يسلب؛ ولا قسَّمَ عقارًا ومنقولًا، ولو فُتحت عُنوة لكان الأمرُ بخلاف ذلك، فَدُورُهَا وَأَرْضُهَا الْمُحْيَاةُ مِلْكٌ يُبَاعُ، لقوله عليه الصلاة والسلام [هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيْلٌ مِنْ رباعٍ](349).

فَرْعٌ: فُتِحَتْ بَلَدُنَا مِصْرُ عِنْوَةً وَكَذَا دِمَشْقُ عَلَى مَا يَتَرَجَّحُ أَيْضًا.

فَصْلٌ: يَصُحُّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ أَمَانُ حَرْبِيًّ وَعَدَدٍ مَحْصُورٍ فَقَطْ، لقوله عليه الصلاة والسلام [إِنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِيْنَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ] الحديث متفق عليه (350)، وخرج بـ (المسلم) الكافر لأنه منهم، وبـ (المكلف) الصبي والمجنون، لأنه عقد فأشبه سائر العقود، وبـ (المختار) المكره كعقده وبـ (المحصور) أمان ناحية وبلدة لتعطل الجهاد، ودَخَلَ في الضابط المذكور العبد وإن كان سيده كافرًا والمرأة والخنثى والفقير والمحجور عليه بالسفه والمريض والفاسق.

(349) رواه البخاري في الصحيح: كتاب الحج: باب توريث دور مكة: الحديث (1588)، وكتاب السير والجهاد: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: أسلموا تسلموا: الحديث (3058). ومسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب النزول بمكة: الحديث (439 و 440/ 1351).

(350)

عن علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه؛ رواه البخاري في الصحيح: كتاب الحرابة والموادعة: باب إثم من عاهد ثم غدر: الحديث (3179). ومسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب فضل المدينة: الحديث (467/ 1370).

ص: 1700

وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ أَسِيْرٍ لِمَنْ هُوَ مَعَهُمْ في الأَصَحِّ؛ لأنه في نفسه ليس آمنًا، والثاني: يصح؛ لأنه مسلم مكلف مختار أَمَّنَ أمانًا ليس فيه إضرار.

وَيَصِحُّ، يعني الأمان، بِكُل لَفْظٍ يُفِيْدُ مَقْصُودَهُ، أي صريحًا كأجَرتُكَ أو كناية كَأَنْتَ عَلَى مَا تُحِبُّ، وَبِكتَابَةٍ، لأثر فيه عن عمر رضي الله عنه (351)، وَرِسَالَةٍ، أي سواء كان الرسول مسلمًا أو كافرًا.

وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ الْكَافِرِ بِالأَمَانِ، أي فإن لم يعلمه فلا أمان له حتى لو بدر مسلم فقتله جاز، فَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَقْبَل في الأَصَحِّ، كغيره من العقود، والثاني: يكفي السكوت لبناء الباب على التوسعة، وَتَكْفِي إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ لِلْقَبُولِ، أي ولو من قادر على النطق لبناء الباب على الإتِّسَاعِ.

وَيجِبُ أَنْ لَا تَزِيْدَ مُدَّتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ مَا لَمْ تَبْلُغْ سَنَةً، لما سيأتي في الهدنة، أما السَّنَةُ فممتنعة قطعًا، ولو زاد على الجائز فتفريق الصفقة، وَلَا يَجُوزُ أمَانٌ يَضُرُّ الْمُسْلِمِيْنَ كَجَاسُوسٍ. أي وكذا طليعة، وَلَيْسَ لِلإِمَامِ نَبْذُ الأَمَانِ إِنْ لَمْ يَخَفْ خِيَانَةً، لأنه لازم من جهة المسلمين؛ فإن خافها نَبَذَهُ كالهدنة، وأَولى، وَلَا يَدْخُلُ في الأَمَانِ مَالُهُ وَأَهْلُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَا مَا مَعَهُ مِنْهُمَا فِي الأَصَحِّ إِلَاّ بِشَرْطٍ، لقصور اللفظ، والثاني: يدخل لاحتياجه إلى ذلك؛ واقتضى كلام الرافعي في أول المسألة الثانية الجزم به.

فَصْلٌ: وَالْمُسْلِمُ بِدَارِ الْحَرْبِ إِنْ أَمْكَنَهُ إِظْهَارُ دِيْنِهِ، أي لقوته وعشيرته، اسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ، إلى دار الإِسلام خوفًا من الميل إليهم؛ ولا تجب لقدرته على

(351) عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ رضي الله عنه؛ (إِذَا حَاصَرْتُمْ قَصْرًا، فَأَرَادُوكُمْ أَنْ يَنْزِلُواْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلَا تَنْزِلُوهُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللهِ فِيْهِمْ، وَلَكِنْ أَنْزِلُهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ، ثُمَّ اقْضُواْ فِيْهِمْ مَا أَحْبَبْتُمْ، وَإِذَا قالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: لَا تَخَفْ! فَقدْ آمَنَهُ، وَإذا قَالَ: مَتْرِسْ فَقَدْ آمَنَهُ، فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُ الأَلْسِنَةَ). رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب السير: جماع أبواب السير: باب كيف الأمان: الأثر (18690).

ص: 1701

إظهار دينه، وَإِلَاّ وَجَبَتْ إِنْ أَطَاقَهَا، لقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ

} الآية (352)، مع قوله عليه الصلاة والسلام:[لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ مَا قُوْتِلَ الْكُفَّارُ] صححه ابن حبان (353)، وَلَوْ قَدَرَ أَسِيْرٌ عَلَى هَرَبِ لَزِمَهُ، إقامةً لِدِيْنِهِ، وَلَوْ أَطْلَقُوهُ بِلَا شَرْطٍ فَلَهُ اغْتِيَالَهُمْ، أي قتلًا وسَبْيًا لأنهم لم يَسْتَأْمِنُوهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ حَرُمَ، عملًا بما التزمه، وكذا لو أطلقوه على أنه في أمان منهم فلم يستأمنوه، فَإِنْ تَبِعَهُ قَوْمٌ فَلْيَدْفَعْهُمْ وَلَوْ بِقَتْلِهِمْ، كما في دفع الصائل، وَلَوْ شَرَطُواْ أَنْ لَا يَخرُجَ مِنْ دَارِهِمْ لَمْ يَجُزِ الْوَفَاءُ، أي بل عليه الخروج؛ لأن في ذلك تركِ إقامةَ الدِّينِ.

فَصْلٌ: وَلَوْ عَاقَدَ الإِمَامُ عِلْجًا يَدُلُّ عَلَى قَلْعَةٍ وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ جَازَ، أي وهي جُعَالَةٌ بجعلٍ مجهول غير مملوك احتمل للحاجة، وسواء كانت الجارية المعينةُ حُرَّةً أو أَمةً؛ لأن الحرَّةَ تُرَقُّ بالأسر، وخرج بقوله (وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ) ما إذا قال الإمام: له جارية مما عندي؛ فإنه لا يصح للجهل بِالْجُعْلِ كسائر الْجُعَالَاتِ؛ ولا تجوز هذه المعاقدة مع مسلم على الأصح عند الإمام، وتبعه الحاوي الصغير؛ لأن فيه نوعٌ من غررٍ فلا يحتمل معه بخلاف العلج، فَإِنْ فُتِحَتْ بِدِلَالَتِهِ أُعْطِيَهَا، أي فلا حق فيها لغيره؛ لأنه استحقَّها بالشرطِ قبلَ الظَّفَرِ، أَوْ بِغَيْرِهَا، أي أو فتحت بغير دلالته، فلَا

(352) النحل / 28: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . قلتُ: الأوجه في الاستدلال بالآية 97 - 99 من سورة النساء، قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} .

(353)

رواه ابن حبان، ينظر الإحسان: باب الهجرة: ذكر خبر يعارض في الظاهر ما وصفنا: الحديث (4846). والنسائي في السنن: كتاب البيعة: ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة: ج 7 ص 146.

ص: 1702

فِي الأَصَحِّ، الخلاف مبني على أن الاستحقاق يثبت بنفس الدلالة أو لا يستحق إلا إذا حصل الفتح بدلالته، فَإِنْ لَمْ تُفْتَحْ! فَلَا شَيْءَ لَهُ، لأنه لما شرط جارية منها صارت جعالته مستحقة بشرطين الدلالة والفتح فلم يستحق بأحدهما؛ بخلاف ما لو كان الجعل من غير القلعة فإنه يستحقه بالدلالة وإن لم تفتح، وَقِيْلَ: إِنْ لَمْ يُعَلِّقِ الْجُعْلَ بِالْفَتْحِ فَلَهُ أُجْرَةَ مِثْلٍ، لوجود الدلالة، والأصح: المنع؛ لأن تسليمها لا يمكن إلا بالفتح، فالشرط مقيد بالفتح حقيقة وإن لم يجز لفظًا، أما إذا علق الجعل بالفتح فلا شيء له قطعًا.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهَا جَارِيَةٌ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ، له لفقد المشروط، أَوْ بَعْدَ الظَّفَرِ وَقَبْلَ التَّسْلِيْمِ وَجَبَ بَدَلٌ، لأنها حصلت في يد الإمام وقبضته؛ فكان الْمُتْلَفُ من ضمانه، أَوْ قَبْلَ ظَفَرٍ فَلَا فِي الأَظْهَرِ، لأنه لم تحصل القدرة عليها فأشبه ما إذا لم تكن، والثاني: نَعَمْ، لأن العقد تعلق بها؛ وهي حاصلة؛ ثم تعذر التسليم، فصار كما إذا قال من ردَّ عبدي فله هذه الجارية، فردَّهُ وقد ماتت الجارية يلزمه بدلها، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فَالْمَذْهَبُ: وُجُوبُ بَدَلٍ، لأن الإسلام مانع، ومنهم من قال: إنه على الخلاف المذكور في الموت، ولم يرجح الرافعي واحدًا من هذين الطريقين، بل قال: الظاهر في صورة الإِسلام وجوب البدل، وإن ثبت الخلاف وهو فيما إذا أسلمت بعد الظفر، أظهرُ منه فيما إذا أسلمَتْ قبلَهُ؛ لأنها إذا أسلمت بعدهُ تكون مملوكةً، وَهُوَ، أي البدلُ المذكور حيث أوجبناهُ هو، أُجْرَةُ مِثْلٍ، وَقِيْلَ: قِيْمَتُهَا، الخلاف على أنَّ الْجُعْلَ مضمون ضمان عقد أو يدٍ كما في الصَّدَاقِ، لكن قال الرافعي: الموجود لعامة الأصحاب هنا قيمة الجارية، قال: ولا يتعذر الفرق على من يحاوله وجزم به الحاوي الصغير وهو منصوص الأُمِّ.

ص: 1703