الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْقَضَاءِ
الْقَضَاءُ: بِالْمَدِّ الْوِلَايَةُ، وَجَمْعُه أَقْضِيَةٌ كَغِطَاءٍ وَأَغْطِيةٍ، وَهُوَ فِي الأَصْلِ: إِحْكَامُ الشَّيْءِ وَفَرَاغُهُ؛ كَمَا قَالَهُ الأَزْهَرِيُّ وَيَكُونُ إِمْضَاءَ الحُكْمِ، وبِمَعْنَى أوْجَبُ وَقَدَّرَ، وبَمِعَنَى الإِتْمَامِ وَالأَدَاءِ. وَالأَصْلُ فِيْهِ مِنَ الكِتَابِ آيَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (499) وَمِنَ السُّنَّةِ أحَادِيْثُ صَحِيْحَة مَشْهُورَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: [إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ] مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ حَدِيْثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (500).
هُوَ فَرْضٌ كِفَايَةٍ، بالإجماع كما قاله الرافعي، فَإِنْ تَعَيَّنَ، أي للقضاء، لَزِمَهُ طَلَبُهُ، أي إن لم يُعْرَضْ عليه؛ لأن به يخرج من واجبه ويلزمه بذل المال في تحصيله إن احتاج إليه، وَإِلَّا، أي وإن لم يتعين عليه، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ، وَكَانَ يَتَوَلَّاهُ فَلِلْمَفْضُولِ الْقَبُولُ، بناء على أن الإِمَامَةَ الْعُظْمَى تنعقدُ للمفضولِ مع وجُود الفاضل وهو الأصحُّ، وَقِيْلَ: لَا، بناء على مقابله، وقوله:(وَكَانَ يَتَوَلَّاهُ) احترز به عما إذا كان الأصلح لا يتولاه؛ فإنه كما لو لم يوجد.
(499) النساء / 58.
(500)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب أجر الحاكم إذا اجتهد: الحديث (7352). ومسلم في الصحيح: كتاب الأقضية: باب بيان أجر الحاكم: الحديث (15/ 1716).
وَيُكْرَهُ طَلَبُهُ، لما فيه من الخطر، وَقِيْلَ: يَحْرُمُ، أي ولا تحرم توليته كما صرح به القاضي؛ لكن استشكله الإمام، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فَلَهُ الْقَبُولُ، أي ولا يلزمه فربما قام به غيره.
وَيُنْدَبُ الطَّلَبُ إِنْ كَانَ خَامِلًا، أي غير مشهور بين الناس، يَرْجُو بِهِ نَشْرَ الْعِلْمِ؛ أَوْ مُحْتَاجًا إِلَى الرِّزْقِ، أي مع الشهرة، وإذا وَلِيَ صَارَ مَكْفِيًّا من بيت المال لينتفع به، وَإِلَّا، أي وإن كان مع الشهرة مكفيًا، فَالأَوْلَى تَرْكُهُ، أي الطلب والقبول لما فيه من الخطر من غير حاجة إلى ارتكابه، قُلْتُ: وَيُكْرَهُ عَلَى الصَّحِيْحِ، وَاللهُ أَعْلَمُ، أي الطلب والقبول إن لم يطلبه؛ وعلى ذلك حُمل امتناع السلف، وهذا ما صَحَّحَهُ الرافعي في شَرْحَيْهِ أيضًا، وَالاِعْتِبَارُ فِي التَّعْيِيْنِ وعَدَمِهِ بِالنَّاحِيَةِ، أي فلا يجب على من يصلح للقضاء طلب القضاء ببلدة أخرى لا صالح بها ولا قبوله إذا ولي.
فَرْعٌ: قال الإِمامُ والغزاليُّ: يجب أن يكون في القرى من القضاة عدد بحيث لا يكون بين القاضيين مسافة العَدْوى وفي هذا التحديد نظر.
فَصْلٌ: وَشَرْطُ الْقَاضِي: مُسْلِمٌ، أي فلا يُوَلَّى كَافِرٌ قال تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (501) وَلَا يُوَلَّى أيضًا عَلَى أهْلِ دِينِهِ. مُكَلَّفٌ، فلا يُوَلَّى صبيٌ ولا مجنونٌ لنقصهما. حُرٌّ، أي فلا يُوَلَّى رقيقٌ لنقصه أيضًا. ذَكَرٌ، أي فلا تُوَلَّى امرأةٌ لنقصها؛ والخنثى الْمُشْكِلُ كَهِيَ. عَدْلٌ، أي فلا يُوَلَّى فاسقٌ لنقصه. سَمِيْعٌ؛ بَصِيْرٌ؛ نَاطِقٌ، لأن الأَصَمَّ بالكلية لا يُفَرَّقُ بين إقرارٍ وإنكارٍ، والأعمى لا يعرف الطالب من المطلوب، والأخرس لا يقدر على انفاذ الأحكام، وفي معنى الأعمى من يرى الأشباحَ ولا يعرف الصُّوَرَ، نَعَمْ؛ لو كان إذا قربت منه عرفها صح كما تصحُّ ولايةُ الأَعْشَى. كَافٍ، أي فلا يُوَلَّى مُغَفَّلٌ ومن اخْتَلَّ نظرُهُ بكبر ونحوه.
مُجْتَهِدٌ، أي فلا يُوَلَّى جَاهِلٌ بالأحكام الشرعية وطُرُقها، المحتاجُ إلى تقليد غيره فيها، ولأنه لا يصلح للفتوى فالقضاء أولى، وَهُوَ، أي المجتهد، أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الْقُرْآنِ
(501) النساء / 141.
وَالسُّنَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَحْكَامِ، أي لا جميعها وآيُ الأحكام كما قيل خَمْسُ مِائَةِ آيةٍ، قال الروياني: وكذا الأخبار التي تتعلق بها الأحكام وفيما ذكره نظرٌ، وَخَاصَّهُ، وَعَامَّهُ، أي والعام الذي أريد به الخصوص وعكسه ومقيده ومطلقه، وَمُجْمَلَهُ، وَمُبَيَّنَهُ، وَنَاسِخَهُ، وَمَنْسُوخَهُ، أي وأسباب النزول كما قال ابن برهان، وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ وَغَيْرَهُ، أي وهو الآحادُ، وَالْمُتَّصِلَ؛ وَالْمُرْسَلَ، وَحَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، لأن بذلك يُتَوَصَّلُ إلى تقرير الأحكام، وَلِسَان الْعَرَبِ لُغَةً وَنَحْوًا، لأن الشرع ورد بالعربية وبهذا يعرف عموم اللفظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده وإجماله وبيانه؛ فيعرف ما لا بد منه من فَهْمِ الكتاب والسُّنَّةِ، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا، أي حتى لا يُخَالِفَ الإجماع باختيار قولِ ثالث، وَالْقِيَاسَ بِأَنْوَاعِهِ، أي جَلِيِّهِ وَخَفِيِّهِ وَصَحِيْحِهِ وَفَاسِدِهِ، ولا يشترط التَّبَحُّرُ في هذه العلوم بل يكفي جُمَلٌ منها، وبقيت تحقيقاتٌ أوضحتُها فى الأصل فَرَاجِعْهَا مِنْهُ.
فَإِنْ تَعَذَّرَ جَمْعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ، أى لخلو الزمان عن المجتهد المستقل، فَوَلَّى سُلْطَانٌ لَهُ شَوْكَةٌ فَاسِقًا أَوْ مُقَلَّدًا نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ، كَيْلَا تَتَعَطَّلَ مصالح الناس، وهذا الحكم تبع فيه المصنَّفُ والرافعيَّ الغزاليَّ وعُدَّ من إفراده، والمنقولُ أنه لا ينفذُ قضاء الفاسق، قال ابن الرفعة: وكلامُ صاحب الكَافِي دَالٌّ عَلَى تَرَدُّدٍ فِيْهِ إذا كان ثَمَّ مَنْ يَصْلُحُ، فإن لم يكن فلا وجهَ إلا تنفيذ حكمه وهو الحقُّ، وَيُنْدَبُ لِلإِمَامِ إِذَا وَلَّى قَاضِيًا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الاِسْتِخْلَافِ، ليكون أسهل عليه وأقضى إلى فصل الخصومات، فَإِنْ نَهَاهُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ، لأنه لم يرضَ بنظر غيره، فإن كان ما فوّضه إليه لا يمكنه القيام به فيقتصر على الممكن ويترك الاستخلاف على الأرجح (•) في الروضة، فَإِنْ أَطْلَقَ، أي التَّوْلِيَةَ اسْتَخْلَفَ فِيْمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لأن العرف يقتضيه، لَا غَيْرِهِ فِي الأَصَحِّ، لأن العُرف لم يقتضيه، والثاني: يستخلف فِي الكُلِّ كالإمام، نَعَمْ؛ لو أمكنه القيام بما تولاه كقضاء بلدة صغيرة فليس له الاستخلاف في الأصح؛
(•) في النسخة (1): في الأصح.
لأن الإمام لم يَرْضَ بنظر غيره.
فَرْعٌ: لو جعل لرجل التزويج والنظر في أمر اليتامى؛ لم يكن له أن يستنيبَ فيه؛ قاله القاضي شُرَيْحٍ في أَدَبِ الْقَضَاءِ له.
وَشَرْطُ الْمُسْتَخْلَفِ كَالْقَاضِي، لأنه نائبه، إِلَّا أَنْ يُسْتَخْلَفَ فِي أَمْرٍ خَاصًّ: كَسَمَاعِ بَيِّنَةٍ فَيَكْفِي عِلْمُهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَيَحْكُمَ، يعني الخليفة، بِاجْتِهَادِهِ أَوِ اجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ، أي بفتح اللام، إِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ خِلَافَهُ، هذا مَبْنِيٌّ على جواز استخلاف من يخالفه فى الحكم وهو المعروف.
فَائِدَةٌ: القضاةُ الثَّلَاثَةُ حَدَثُواْ في سنة أربع وستين وستمائة مع وجود القاضي تاج الدين ابنُ بنتِ الأَعَزِّ واستمرار ولايته ونظره واستقر في ذلك الوقت في الدولة الظاهرية: أن الشافعي ينفرد بأربعة أشياء: الأوقاف؛ والأيتام؛ والنواب؛ وبيت المال، ويشارك الثلاثة في الباقي (502).
فَصْلٌ: وَلَوْ حَكَّمَ، أي بتشديد الكاف، خَصْمَانِ رَجُلًا فِي غَيْرِ حَدَّ اللهِ تعَالَى جَازَ مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، لأنه وقع بجمع من الصحابة ولم ينكر أحدٌ (503)، وخرج بقوله (فِي غَيْرِ حَدًّ للهِ تَعَالَى) حدُّ الله؛ فإنه لا تحكيم فيه؛ إذ ليس لها طالب معين، وقوله (مُطْلَقًا) أي سواء كان هناك قاضٍ أمْ لم يكن، وسواءً المحكم فيه قصاصًا أو نكاحًا أو غيرهما مما سيأتي، وخرج بالأهلية فاقدها؛ فإن حكمه لا ينفذ
(502) يريد بالقضاة الثلاثة، قضاة المذاهب الثلاثة من الحنفية والمالكية والحنابلة فضلاً عن قاضي الشافعية.
(503)
• لأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنهما تدَارَا فِي حَائِطٍ فَتَحَاكَمَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه. رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب آداب القاضي: باب إنصاف الخصمين: الأثر (21049)، وفي باب القاضي لا يحكم لنفسه: الأثر (12096)، وفي باب ما جاء في التحكيم: الأثر (21098).
• وَلأَنَّ عَلِيَّ رضي الله عنه حَكَّمَ فِي الإِمَامَةِ، فَكَانَ التَّحْكِيْمُ فِيْمَا عَدَاهَا أَوْلَى. وَحَكَّمَ أَهْلَ الشُّورَى فِي الْخِلَافَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ. فكَانَ إِجْمَاعًا فِي جَوَازِ التَّحْكِيْمِ.
اتفاقًا، وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ، لأنه تقليد القضاء من مناصب الإمام فلا يثبت للآحاد، وَقِيْلَ: بِشَرْطِ عَدَمِ قَاضٍ فِي الْبَلَدِ، للضرورة؛ فإن كان! فالقولان، وقيل: عكسُهُ محافظة على منصب القاضي، وَقِيْلَ: يَخْتَصُّ بِمَالٍ، لأنه أخفٌّ، دُونَ قِصَاصٍ وَنِكَاحٍ وَنَحْوِهِمَا، أي كَلِعَانٍ وَحَدَّ قَذْفٍ؛ لأنها أمور خطيرةٌ فَتُنَاطُ بنظر القاضي ومنصبه، والأصح: عدم الاختصاص؛ لأَنَّ مَنْ صَحَّ حُكْمُهُ فِي الْمَالِ صَحَّ فِي غَيْرِهِ كَالمُوَلَّى من جهة الإمام، وقوله (وَقيْلَ) في هذين الموضعين هو طريقةٌ؛ فهذا مما أطلق الوجه على اصطلاحه والمراد الطريقة، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ إِلَّا عَلَى رَاضٍ بِهِ؛ فَلَا يَكْفِي رِضَا قَاتِلٍ فِي ضَرْبِ دِيَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ، أي بل لا بد من رِضَى الْعَاقِلَةِ، وَإنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ؛ امْتَنَعَ الْحُكْمُ، حتى لو أقام المدعي شاهدين؛ فقال المدعى عليه: عزلتك؛ لم يكن له أن يحكم، وَلَا يُشْتَرَطُ الرَّضَا بَعْدَ الْحُكْمِ فِي الأَظْهَرِ، كحكم الحاكم، والثاني: يشترط؛ لأن رِضَاهُمَا مُعْتَبَرٌ في الحكم فكذلك في لزومه.
فَصْلٌ: وَلَوْ نَصَبَ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَخَصَّ كُلَاّ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعٍ، أي بأن جعل أحدهما يحكم في الأموال والآخر يحكم في الدماء والفروج، جَازَ، قال ابنُ كَجًّ: وكذا لو وَلَّاهُمَا على أن يحكم كُلٌّ منهما في الواقعة التي يرفعها المتخاصمان إليه، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُخَصَّ فِي الأَصَحَّ، أي بل عمَّم ولايتهما مكانًا وزمانًا وحادثة كنصب الوكيلَين والوصيَّيْنِ، وهذا ما صححه الأكثرون، ورواه الروياني في النص (•)، والثاني: لا يجوز كالإمامة العُظمَى؛ وصححه الإمام والغزالي وابن أبي عُصْرُونَ، ونقل مُجَلَّي في تصحيحه عن الأصحاب، فعلى هذا إن ولاّهما معًا بطلت ولايتهما؛ أو متعاقبين صحَّتْ توليةُ الأول دون الثاني، إِلَاّ أَنْ يَشْرِطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ، أي فإنه لا يجوز؛ لأن الاختلاف يكثر في مواقع الاجتهاد فتتعطل الحكومات.
فَرْعٌ: الحكم المذكور جارٍ فِي أكثر من قاضيين بشرط أن يقل عددهم، فإن كثر لم يصح قطعًا قاله الماوردي والروياني.
(•) في النسخة (1) فقط.
فَصْلٌ: جُنَّ قَاضٍ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ عَمِيَ أَوْ ذَهَبَتْ أَهْلِيَّةُ اجْتِهَادِهِ وَضَبْطِهِ بِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، لأن هذه الأمور تمنعُ ولاية الأب، فالحاكم أَولى، وما جزم به الرافعي والمصنف في الإغماء حكاهُ الروياني وجهًا وَوَهَّاهُ حيث قال: لو أُغْمِيَ على القاضي لم يؤثر في ولايته لأنه مرض، قال: وفيه وجه بعيد؛ أنه ينعزل به وليس بشيء، قُلْتُ: والقول بعدم انعزاله وجه مُحْكَى في الوكالة وفي الحكمين في الشقاق، وقد حكاه الرافعي فيه ولم يحكه في القضاء، والقضاء أقوى من الوكالة وأولى بعدم الانعزال كما قاله الروياني في البحر فَتَنَبَّهْ له، وَكَذَا لَوْ فُسَّقَ فِي الأَصَحَّ، أي بخلاف الإمام الأعظم لما في إبطال ولايته من اضطراب الأمور وحدوث الفتن، والثاني: ينفذ كالإمام الأعظم وقد تقدمت هذه المسألة في الوصايا أيضًا، فَإِنْ زَالَتْ هَذِهِ الأَحْوَالُ لَمْ تَعُدْ وِلَايَتُهُ فِي الأَصَحَّ، أي إلا بالاستئناف لأنه بالانعزال صار على ما كان عليه قبل التولية فاحتاج إلى تجديدها، والثاني: يعود من غير استئناف كما تعود ولاية الأب إذا جُنَّ ثم أفاق، وَلِلإِمَامِ عَزْلُ قَاضٍ ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ، لأنه عين المصلحة، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ، وَهُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْهُ، أي خلل وهناك أفضل منه، لما في ذلك من تحصيل مصلحة زائدة، أَوْ مِثْلُهُ، أي وكذا دونه، وَفِي عَزْلِهِ مَصْلَحَةٌ كَتَسْكِيْنِ فِتْنَةٍ وَإِلَّا فَلَا، أي وإن لم يكن فيه مصلحة فليس له عزله، لَكِنْ يَنْفُذُ الْعَزْلُ فِي الأَصَحَّ، للمصلحة وطاعة السلطان، والثاني: لا؛ لأنه لا خلل في الأول ولا مصلحة في عزله، أما إذا لم يكن ثمَّ من يصلح للقضاء غيره فإنه ليس له عزله، ولو عزله لم ينعزل، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ بُلُوغِهِ خَبَرَ عَزْلِهِ، لعظم الضرر في نقض أقضيته بعد العزل وقبل بلوغ الخبر، والطريق الثاني: حكاية قولين كالوكيل، وَإِذَا كَتَبَ الإِمَامُ إِلَيْهِ: إِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي فَأَنْتَ مَعْزُولٌ فَقَرَأَهُ انْعَزَلَ، لوجود القراءة، وَكَذَا إِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ فِي الأَصَحَّ، لأن الغرض إعلامه بصورة الحال لا قراءته بنفسه، والثاني: لا ينعزل لصورة اللفظ؛ وهو المصحح (•) في نظيره من الطلاق والفرق ظاهر.
وَيَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَانْعِزَالِهِ مَنْ أُذِنَ لَهُ فِي شُغْلٍ مُعَيَّنٍ كَبَيْعِ مَالِ مَيَّتٍ، أي أو
(•) في النسخة (1): وهو الصحيح.
غائب كالوكيل فإنه ينعزل بموت الموكل، وَالأَصَحُّ: انْعِزَالُ نَائِبهِ الْمُطْلَقِ إِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي اسْتِخْلَافٍ، لأن الاستخلاف في هذا لحاجته إلى من يعاونه في العمل وقد زالت بزوال ولايته، أوْ قِيْلَ لَهُ: اسْتَخْلِفْ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ أَطْلَقْ، لظهور غرض المعاونة؛ وبطلانها بطلان ولايته، فَإِنْ قَالَ: اسْتَخْلِفْ عَنَّي فَلَا، لأنه مأذون من جهة الإمام، وكان الأول سفير محض في التولية والوجه، الثاني: ينعزل مطلقًا؛ كما ينعزل الوكيل بموت الموكل، والثالث: لا مطلقًا؛ رعاية لمصلحة الناس، وَلَا يَنْعَزِلُ قَاضٍ بِمَوْتِ الإِمَامِ، أي ولا بانعزاله لشدة الضرر في تعطيل الحوادث، وكذا لا ينعزل الولاة بذلك أيضًا، وَلَا نَاظِرُ يَتيْمٍ وَوَقْفٍ. بِمَوْتِ قاضٍ، أى وكذا بانعزاله؛ لئلا تتعطل أبواب المصالح؛ فَهُمْ كالمتولي من جهة الواقف.
فَصْلٌ: وَلَا يُقْبَل قَوْلُهُ بَعْدَ انْعِزَالِهِ: حَكَمْتُ بكَذَا، لأنه لا يملك إنشاء الحكم يومئذ؛ فكذا إقراره به، فَإِنْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ بِحُكْمِهِ لَم يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيْحِ، لأنه يشهد على فعل نفسه، والثاني: يقبل؛ لأنه لا تجرُّ شهادته نفعًا إلى نفسه ولا تدفع ضررًا، ومحل الخلاف في غير الإقرار، أما إذا شهد أنه أقر في مجلس حكمه فتقبل شهادته قطعًا كما نبّه عليه صاحب المعين اليمني، أوْ بِحُكْمِ جَائِزِ الْحُكْمِ؛ قُبِلَتْ فِي الأَصَحَّ، كما لو شهدت المرضعة برضاع محرّم ولم تذكر فعلها، والثاني: المنع؛ لأنه قد يريد نفسه فيجب البيان ليزول اللبس، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ قَبْلَ عَزْلِهِ: حَكَمْتُ بِكَذَا، لأنه يملك الإنشاء إذن، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلَّ وِلَايَتِهِ فَكَمَعْزُولٍ، لأنه ليس له إنشاء الحكم ثم فلا يقبل إقراره به.
وَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَعْزُولٍ أَنَّهُ أَخَدَ مَالَهُ بِرِشْوَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَبْدَيْنِ مَثَلاً أُحْضِرَ وَفُصِلَت خُصُومَتُهُمَا، لأن هذا الأخذ كالغصب وله أن يوكل ولا يحضر، قال ابن كج: والرشوة عطية بشرط أن يحكم له بغير حق أو يمتنع عن الحكم عليه بحقًّ؛ بخلاف الهدية فإنها عطية مطلقًا.
وَإِنْ قَالَ: حَكَمَ بِعَبْدَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَالًا أُحْضِرَ، أي ليجيب عن دعواه كما لو
طلب إحضار غيره، وَقِيْلَ: لَا حَتَّى يُقِيْمَ بَيَّنَةً بِدَعْوَاهُ، أي يكون له بَيَّنَةٌ؛ لأن الظاهر جريان حكمه على الصواب، وهذا أصح عند البغوي، وقال في الْمُحَرَّرِ: رجحه مرجحون، ولم يذكر غير ذلك، لكنه في الشَّرْحِ قال: إن الأول أصح عند الروياني وغيره؛ فلذلك صححه المصنف هنا، فَإِنْ أُحْضِرَ، أي بعد البَيَّنَةِ أو مِن غيرِ بَيَّنَةٍ، وَأَنْكَرَ صُدَّقَ بِلَا يَمِيْنٍ فِي الأَصَحَّ، صيانة له على التَّحْلِيْفِ والابتذال بالمنازعات الباطلة، قُلْتُ: الأَصَحُّ بِيَمِيْنٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ، كالمودع وسائر الأمناء إذا ادَّعَيْتَ عليهم خيانةً.
ولَوِ ادَّعَى عَلَى قَاضٍ جَوْرٌ فِي حُكْمٍ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ بَيَّنَةٌ، لأنه أمين شرعًا، ولو فتح باب التحليف لتعطل القضاء، وكذا الشاهد إذا ادّعي عليه أنه شهد بالزور وأراد تحليفه كما ذكره المصنف في الدَّعَاوَى، وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحُكْمِهِ، أي كَأَنِ ادَّعَى تلفًا أو غيره، حَكَمَ بَيْنَهُمَا خَلِيفَتُهُ أَوْ غَيْرُهُ، لفصل الخصومة بذلك.
فَصْلٌ: لِيَكْتُبِ الإِمَامُ لِمَنْ يُوَلَّيهِ، للاتباع (504)، وَيُشْهِدُ بِالْكِتَابِ شَاهِدَيْنِ، أي سواء قرُبَ مَحِلُّ الْوِلَايَةِ أَمْ بَعُدَ، يَخْرُجَانِ مَعَهُ إِلَى الْبَلَدِ يُخْبِرَانِ بِالْحَالِ، لأهل العمل، وَتَكْفِي الاِسْتِفَاضَةُ فِي الأَصَحَّ، لأنه لم يؤثَرْ عن الشارع ولا عن الخُلفاء بعده الاشهاد؛ بل كانوا يقنعون بالاشتهار وتكفي الاستفاضة، والثاني: لا يكفي؛
(504) • لِحَدِيْثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدِّهِ [أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتابٍ فِيْهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدَّيَاتُ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَقُرِئَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ]. وهو حديث مشهور رواه أهل السنن وقد تقدم في كتاب الديات: الرقم (189).
• (وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه كِتَابًا لأَنَسٍ رضي الله عنه لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ أَوْ وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ) وَختَمَهُ بِخَاتَمِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:[أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الكَتابَ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب فرض الخمس: باب ما ذكر من روع النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (3106).
لأن العقود لا تثبت بها كالوكالة والإجارة، ومحل الخلاف في البلد القريب؛ ومنهم من أطلقه كما هو ظاهر إيراد المصنف، قال الرافعي: ويشبه أن لا يكون في هذا خلاف، ويكون التعويل على الاستفاضة، لَا مُجَرَّدُ كِتَابٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، لأنه لا يعتمد على الخط، وقيل: وجهان كما حكاه في الروضة، ووجه الاعتماد بُعد الجُرأة في مثل ذلك على الإمام، وَيَبْحَثُ الْقَاضِي عَنْ حَالِ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ وَعُدُولِهِ، أي قبل دخوله ليعاملهم إذا دخل بما يليق بهم؛ فإن تعذر فبعد دخوله.
وَيَدْخُلُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، لأنه عليه الصلاة والسلام دَخَلَ فِيْهِ الْمَدِيْنَةَ (505)؛ فإن فَاتَهُ فالسبت أو الخميس، وَيَنْزِلُ وَسَطَ الْبَلَدِ، لأنه أقرب إلى التسوية فلا يطول الطريق على بعضهم، وَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي أَهْلِ الْحَبْسِ، لأن الحبس عذابٌ، وهذا على سبيل الاستحباب كما صرح به الرافعي في أواخر الأدب، لكن قال الإمام: إنه واجب، فَمَنْ قَالَ: حُبِسْتُ بِحَقًّ أَدَامَهُ، لأنه الحق، أَوْ ظُلْمًا فَعَلَى خَصْمِهِ حُجَّةٌ، أي والقول قول المحبوس بيمينه، فَإِنْ كَانَ، أي خصمه، غائِبًا كَتَبَ إِلَيْهِ لِيَحْضُرَ، لفصل الخصومة بينهما، ثُمَّ فِي الأَوْصِيَاءِ، أي إذا فرغ من النظر في المحبوسين نظر في الأوصياء ومالِ الأطفال؛ لأن الوَصِيَّ يتصرُّفُ في حَقَّ من لا يُمْكِنُهُ المرافعةُ والمطالبةُ كالأطفال وأصحاب الجهات العامة، فَمَنِ ادَّعَى وِصَايَةً سَألَ عَنْهَا، أي فإن أقام بيّنة بثبوتها أقرّه، وَعَن حَالِهِ وَتصَرُّفِهِ، فَمَنْ وَجَدَهُ فَاسِقًا أخَذَ الْمَالَ مِنهُ أَوْ ضَعِيْفًا، أي لكثرة الأموال أو لسبب آخر، عَضَّدَهُ بِمُعِيْنٍ.
تَنْبيْهٌ: ثم بعد الأوصياء يُنْظَرُ في أُمناء القاضي ثم في أَمْرِ الأَوْقَافِ وَالْمُتَوَلَّيْنَ لَهَا، وفي اللُّقَطةِ وَالضُّوَالَّ ويرتب الحكم عليها وَيُقَدَّمُ من ذلك الأَهَمَّ فَالأَهَمَّ.
(505) لِحَدِيْثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي هِجْرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ الْمُسْلِمِيْنَ تلَقَّوا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمرِو بنِ عَوْفٍ [وَذَلِكَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيْعٍ الأوَّلِ]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب مناقب الأنصار: باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة: الحديث (3906).
فَصْلٌ: وَيَتَّخِذُ مُزَكَّيًا، لشدة الحاجة إليه؛ فإنه يعرف حال من تُجْهَلُ عَدَالَتُهُ من الشهود؛ لأنه لا يمكنه البحث بنفسه، وصفته يأتي بيانها في آخر الباب، وَكَاتِبًا، للاتباع (506).
وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُسْلِمًا عَدْلًا، لِيُؤْمَنَ مِنْ خِيَانَتِهِ، عَارِفًا بِكِتَابَةِ مَحَاضِرَ وَسِجِلَّاتٍ، لِيُعْلَمَ صِحَّةُ ما يكتبه من فساده، وَيُسْتَحَبُّ فِقْهٌ، لئلا يؤتى من الجهل، وُوُفُورُ عَقْلٍ، لئلا ينخدع أو يُدَلَّسَ عليه، وَجَوْدَةُ خَطًّ، أي وأن يكون ضابطًا للحروف لِئَلَّا يقعَ الغلطُ والاشتباهُ، وأهمل فيه أمورًا أخرى ذكرتها في الأصل، وَمُتَرْجِمًا، أي ويتخذ أيضًا مترجمًا لأن القاضي قد لا يعرف لسان بعض الخصوم والشهود فلا بد ممن يطلعه عليه، وَشَرْطُهُ عَدَالَةٌ، وَحُرَّيَّةٌ، وَعَدَدٌ، لأنه ينقل إلى القاضي قولًا لا يعرفه فأشبه الشاهد والمُزَكَّي، وَالأَصَحُّ: جَوَازُ أَعْمَى، لأن الترجمة تفسير اللفظ لا يحتاج إلى معاينة وإشارة بخلاف الشَّاهِدُ، والثاني: لا، كما لا يجوز أن يكون شاهدًا، وَاشْتِرَاطُ عَدَدٍ فِي إِسْمَاعِ قَاضٍ بِهِ صَمَمٌ، كالمترجم، والثاني: لا؛ لأن المسمع لو غيَّر لأنكر عليه الخصم والحاضرون بخلاف المترجم، وهذا في إسماع كلام الخصم القاضي، فأما إسماع ما يقوله القاضي وما يقوله الخصم فلا يشترط فيه العدد؛ قاله القفال؛ لأنه اخبار محضٌ.
وَيَتَّخِذُ دِرَّةً لِلتَّأْدِيْبِ، اقتداءً بالفاروق (507)، وَسِجْنًا لأدَاءِ حَقًّ وَلِتَعْزِيْرٍ، اقتداءً به
(506) • عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ قَالَ: أَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كِتَابُ رَجُلٍ! فَقَالَ لِعَبدِ اللهِ بنِ أَرْقَمَ: [أَجِبْ عَنَّي] فَكَتَبَ جَوَابَهُ؛ ثُمَّ قَرَأَهُ عَلَيْهِ؛ فَقالَ: [أَصَبْتَ؛ وَأَحْسَنْتَ؛ اللَّهُمَّ وَفَّقْهُ] فَلَمَّا وُلَّيَ عُمَرُ رضي الله عنه كَانَ يُشَاوِرُهُ. رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب آداب القاضي: باب اتخاذ الكتاب: الحديث (20985).
• عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ: قُلْتُ لِشَقِيْقٍ: مَنْ كَانَ كَاتِبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: (عَبْدُ اللهِ بْنِ أَرْقمَ؛ وَقدْ أتَانَا كِتَابُ أبِي بَكْرٍ رضي الله عنه بِالقادِسِيَّةِ وَفِي أَسْفَلِهِ؛ وَكَتبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَرْقَمَ). رواه البيهقي في السنن الكبرى: الحديث (20986).
(507)
الآثَارُ فِي اسْتِعْمَالِ عُمَرَ الدَّرَّةَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: =
أيضًا (508) وفي أدب القضاء للقاضي شُرَيْحٍ وجهان في تَقْيِيْدِ الْمَحْبُوسِ إذا كان لَجُوجًا.
= • عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:(أرَادَنِي سِيْرِيْنُ عَلَى الْمُكاتَبَةِ؛ فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ؛ فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه؛ فَذَكَر ذَلِكَ لَهُ؛ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ عُمَرُ رضي الله عنه يَعْنِي بالدَّرَّةِ - فَقَالَ: كَاتِبْهُ). رواه البخاري في الصحيح معلقًا من طريق موسى بن أنس أَنَّ سِيْرِيْنَ سَأَلَ أَنَسًا، فَضَرَبهُ بِالدَّرَّةِ ويَتْلُو عُمَرُ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فَكَاتَبَهُ. إنتهى. ينظر منه: كتاب المكاتب: باب المكاتب ونجومه: صدر الباب. والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب المكاتب: باب من قال يجب على الرجل مكاتبة عبده: الأثر (22234).
• علق البخاري في الصحيح: كتاب الديات: باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب: الحديث (6896): (وَأقَادَ عُمَرُ مِنْ ضَرْبَةٍ بِالدَّرَّةِ). وفي شرحه، قال ابن حجر: وصله عبد الرزاق عن مالك عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر، قال: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ بِطَرِيْقِ مَكَّةَ، فَبَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ؛ فَضَرَبَهُ بِالدَّرَّةِ! فَقَالَ:(عَجلْتَ عَلَيَّ؟ ) فَأَعْطَاهُ الْمِخْفَقَةَ، وَقالَ:(اقْتَصَّ) فَأبَى! فَقَالَ: (لَتَفْعَلَنَّ) قَالَ: فَإِنَّي أَغْفِرُهَا.
• نقل الشربيني قال: (قالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَتْ دِرَّةُ عُمَرَ أَهْيَبُ مِنْ سَيْفِ الحَجَّاجِ. قالَ الدميريُّ: وَفِي حِفْظِي مِن شَيْخِنَا أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ نَعْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَنَّهُ مَا ضَرَبَ بِهَا أحَدَا عَلَى ذَنْبٍ وَعَادَ إِلَيْهِ). مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج.
(508)
• ذكر البخاري تعليقًا في الصحيح: كتاب الخصومات: باب الربط والحبس في الحرم: قال: (وَاشْتَرَى نَافِعُ بنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارًا لِلسَّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَلَى إِنْ رَضِيَ عُمَرُ فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائةِ ديْنَارٍ. وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ). قال ابن حجر في الشرح: (وصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي). وقال: (وَكَانَ نَافِعُ عَامِلًا لِعُمَرَ عَلَى مَكَّةَ. فَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِعُمَرَ بَعْدَ أَنْ وَقَّعَ الْعَقْدَ لَهُ).
• قال ابن حجر: (وَأَخْرَجَ عُمَرُ بْنُ شَبَّة فِي - كِتَابِ مَكَّةَ - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ؛ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيّ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ عَلَى مَكَّةَ فَابْتَاعَ دَارًا لِلسَّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ). ينظر الفتح: ج 5 ص 96.
• رواه البيهقي موصولًا في السنن الكبرى: كتاب البيوع: جماع أبواب السلم: باب ما جاء في بيع دور مكة: الأثر (11357 و 11358).
وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ مَجْلِسِهِ فَسِيْحًا، أي واسعًا؛ كيلا يتأذى بضيقه الخصوم، بَارِزًا، أي ظاهرًا ليعرفه من يراه، مَصُونًا مِنْ أَذَى حَرًّ وَبَرْدٍ، أي وريح ودخان وغبار كيلا يتأذى به، لَائِقًا بِالْوَقْتِ، أي فيجلس في الصيف حيث يليقُ به، وكذا في الشتاء وزمن الرياح، زاد على الْمُحَرَّر وأن يكون لائقًا بالقضاء أيضًا، لَا مَسْجِدًا، أي فإنه يكره اتخاذه مجلسًا للحكم صونًا له عن ارتفاع الأصوات وَاللَّغَطِ، وخالف فيه الأئمة الثلاث؛ فقالوا: بعدمها، كما لا يكره الجلوس فيه للفتوى وتَعَلُّمِ القُرْآنِ والعلم؛ وهو وجه عندنا، نَعَمْ: لو اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره المسجد لصلاة وغيرها؛ فلا بأس بفصلها.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي حَالِ غَضَبٍ وَجُوعٍ وَشَبَعٍ مُفْرِطَيْنِ، للنهي عنه (509)، وَكُلُّ حَالٍ يَسُوءُ خُلُقُهُ فِيْهِ، أي كَالْهَمَّ الشديد ونحوه؛ لأنه لا يتوفر على الاجتهاد إذن، وَيُنْدَبُ أَنْ يُشاوِرَ الفُقَهَاءَ، للاتباع، وَأَنْ لَا يَشْتَرِيَ وَيَبِيْعَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ وَكِيْلٌ مَعْرُوفٌ، لِئَلَّا يُحَابِي، والأجارة وسائر المعاملات كالبيع والشراء؛ بل نصَّ في الأُمَّ: أنه لا ينظر في نفقة عياله؛ ولا أمر ضيعته؛ بل يَكِلُهُ إلى غيره تفريغًا لقلبه، فَإِنْ أَهْدَى إِلَيْهِ مَن لَهُ خُصُومَةٌ أَوْ لَمْ يُهْدِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ، أي ولا خصومة له، حَرُمَ قُبُولُهَا، لأنه يدعو إلى الميل إليه وينكسر به قلب خصمه في الصورة الأُولى ولأن الثانية سببها العمل ظاهرًا، فلو قبلها لم يملكها.
فَرْعٌ: هدية من لا خصومة له في غير محل ولايته كهدية من عهد منه الهدية قبل الولاية لقرابة أو صداقةٍ؛ ولا يحرَّم قبولها على الصحيح؛ لأنها ليست حادثة بسبب العمل.
(509) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى ابْنِهِ - وَكَانَ بِسَجِسْتَانَ - بِأنْ لَا تَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانٌ، فَإِنَّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:[لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانٌ]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب الأحكام: باب هل يقضي القاضي: الحديث (7158). ومسلم في الصحيح: كتاب الأقضية: باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان: الحديث (16/ 1717).
وَإِنْ كَانَ يُهْدِي وَلَا خُصُومَةَ جَازَ بِقَدْرِ الْعَادَةِ، لخروج ذلك عن سبب الولاية، وَالأوْلَى أَنْ يُثِيْبَ عَلَيْهَا، أو يضعها في بيت المال وإن زاد المهدي على القدر المعهود صارت هَدِيَّتُهُ كَهَدِيَّةِ من لم تعهد منه الهدية، ثم لا يخفى أن الأَوْلى سد باب القبول حسمًا لمادة التهمة.
فَرْعٌ: نزوله على أهل عمله ضيفًا؛ كقبول هديتهم؛ قاله الماوردي.
فَرْعٌ غَرِيبٌ: هل للقاضي تخصيصُ بعض الرَّعَايَا بإهداء هديَّةٍ إليه؟ فيه وجهان حكاهُما القاضي شُرَيْحٌ في أَدَبِ الْقَضَاءِ.
فَصْلٌ: وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ وَرَقِيْقِهِ وَشَرِيْكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ، للتهمة، وَكَذَا أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ عَلَى الصَّحِيْحِ، كذلك أيضًا، والثاني: لا؛ لأن القاضي أَسِيْرُ الْبَيِّنَةِ.
فَرْعٌ: يجوز أن يحكم عليهم لانتفائها.
وَيَحْكُمُ لَهُ، يعني القاضي، وَلِهَؤُلَاءِ الإِمَامُ أَوْ قَاضٍ آخَرُ، دفعًا للتهمة، وَكَذَا نَائِبُهُ عَلَى الصَّحِيْحِ، لأنه حاكم، وإن كان نائبًا فأشبه سائر الحكام، والثاني: لَا كَهُوَ، وِإذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيهِ أَوِ نَكَلَ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي وَسَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى إِقْرَارِهِ عِنْدَهُ أَوْ يَمِيْنِهِ أَوِ الْحُكْمَ بِمَا ثَبَتَ وَالإِشْهَادَ بِهِ لَزِمَهُ، لأنه قد ينكر من بعد فلا يتمكن القاضي من الحكم عليه، إن قلنا لا يقضي بعلمه، وإن قلنا إنه يقضي؛ فربما ينسى أو يُعْزَلَ فلا يُقْبَلُ قولهُ، أَوْ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا بِمَا جَرَى مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ أَوْ سِجِلًا بِمَا حَكَمَ اسْتُحِبَّ إِجَابَتُهُ، لأن الحقَّ ثبت بالشهود لا بالكتاب، وَقِيْلَ: تَجِبُ، توثيقًا لحقِّه كالاشهاد، ويُسْتَحَبُّ نُسْخَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لَهُ، وَالأُخْرَى تُحْفَظُ فِي دِيْوَانِ الْحُكْمِ، أي وتختم ويكتب على رأسها اسم الخصمين ويضعها في خريطة ونحوها.
فَصْلٌ: وَإذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ بَان خِلَافَ نَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أي إمَّا متواترة أو خبر آحاد، أَوِ الإِجْمَاعَ أوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ نَقَضَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، لأن الاجتهاد
إنما يسوغ إذا لم يخالف ذلك، فإذا خالفه كان مردودًا، لَا خَفِيٍّ، أى إذا ظهر له قياس خفي رجح عنده على ما حكم به ورأى أنه الصواب؛ فليحكم بما حَدَثَ بعد ذلك من أخوات الحادثة بما رآه ثانيًا، ولا يَنْقُضُ ما حكم به أولًا بل يُمْضِيْهِ؛ لأن الظنون المتعادلة لو نُقِضَ بعضُها ببعض لما استمر حُكْمٌ؛ ويشق الأمر على الناس. وقد بَيَّنْتُ القياس الجلي والخفي في الأصل فراجعه منه.
وَالْقَضَاءُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، لأنَّا مأمورون باتباع الظاهر والله يتولى السرائر (510)؛ فإذا حكم بشهادة الشهود بظاهر التعديل وهم كذبة لا يفيد حكمه الحل باطنًا سواء كان الحكم بمال أو نكاح أو غيرهما، وقد وافق الخصم على الأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ، نَعَمْ؛ الانشاءات كالتفريق بين المُتَلَاعِنِيْنَ ونحوه إذ ترتبت على أصلٍ صادقٍ، فإن لم يكن في محل اختلاف المجتهدين نفذ ظاهرًا وباطنًا، وإن كان مختلفًا فيه نفذ ظاهرًا وكذا على الأصح عند جماعة منهم البغوي، وَلَا يَقْضِي بِخِلَافِ عِلْمِهِ بِالإِجْمَاعِ، قُلْتُ: ففيه وجه حكاه الماوردي، وَالأَظْهَرُ: أَنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ، لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو شاهدان أو شاهدٌ ويمين فبالعلم أولى، قال الماوردي ويشترط لنفوذه أن يقول قد علمت أن له عليك ما ادعاه وقد حكمت عليك بعلمي فإن أغفل شيئًا من ذلك لم ينفذ، والثاني: لا للتهمة، والأول أجاب عن معنى التهمة: بأن القاضي لو قال: ثَبَتَ عندي وصَحَّ لَدَيَّ كذا لزم قبوله ولم يبحث عما صح وثبت به؛ والتهمة قائمة.
فَرْعٌ: قال الإمام: اللَّوْثُ إِذَا عَايَنَهُ الْقَاضِي لهُ اعتمادهُ قطعًا.
(510) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَة قَالَ: سَمِعْتُ عُمرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقولُ: (إِنَّ أُنَاسًا كَانُواْ يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ؛ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أعْمَالِكُمْ؛ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سَرِيْرَتِهِ شَيْءٌ؛ وَاللهُ يُحَاسِبُ سَرِيْرَتَهُ. وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إنَّ سَرِيْرَتَهُ حَسَنَةٌ). رواه البخاري في الصحيح: كتاب الشهادات: باب الشهداء العدول: الحديث (2641).
إِلَاّ فِي حُدُودِ اللهِ تَعَالَى، لأنها تُدْرَأُ بالشبهات ويندب سترها ويجوز في المال قطعًا، وكذا في القصاص وحد القذف على الأظهر.
تَنْبِيهَاتٌ: أَحَدُهَا: أشار الإمام إلى أنه لا يقضي بعلمه في الإعْسَارِ. ثَانِيْهَا: طَرَدَ بعضُهم الخلاف في كل شيء حتى في الجرح والتعديل، وهي طريقة في الحاوي وغيره، وظاهر كلام المصنف يشملها، والذي قاله العراقيون أنه يقضي بعلمه في الجرح والتعديل قطعًا. ثَالِثُهَا: عن الاصطخري أنه يتعين القضاء بالعلم في مواضع منها: أَنْ يُقِرَّ عنده بالطلاق الثلاث ثم يَدَّعِي زوجتها أو يدعي أن فلانًا قتل أباه وهو يعلم أنه قتله غيره. رَابِعُهَا: لا يقضي بعلمه فيما إذا قامت بينة على خلافه، جزم به الشاشي في الحلية للتهمة، ولا يقضي بالبينة والحال هذه أيضًا لعلمه بكذبها. خَامِسُهَا: المراد بالعلم الظن المؤكد لا اليقين؛ خلافًا للغزالي والإمام.
فَصْلٌ: وَلَوْ رَأَى وَرَقَةً فِيْهَا حُكْمُهُ أَوْ شَهَادَتُهُ أَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّكَ حَكَمْتَ أَوْ شَهِدْتَ بِهَذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَلَمْ يَشْهَدْ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، لإمكان التزوير ومشابهة الخط رجوعًا إلى اليقين، وَفِيْهِمَا وَجْهٌ فِي وَرَقَةٍ مَصُونَةٍ عِنْدَهُمَا، لتعذر التحريف، والأصح الأول لاحتماله، وَلَهُ الْحَلِفُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ حَقٍّ أَوْ أدَائِهِ اعْتِمَادًا عَلَى خَطٍّ مُوَرِّثِهِ إِذَا وَثِقَ بِخَطِّهِ وَأَمَانَتِهِ، أي بخلاف خطه كما سيأتي في الدعاوى، وَالصَّحِيْحُ: جَوَازُ رِوَايَةِ الْحَدِيْثِ بِخَطٍّ مَحْفُوظٍ عِنْدَهُ، لعمل العلماء به سلفًا وخلفًا، وباب الرواية على التوسعة، والثاني: المنع إلى أن يتذكر كما في الشهادة، ولا يكفيه رؤية السماع بخطه أو خط ثقة.
فَصْلٌ: لِيُسَوِّ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، أي وجوبًا، فِي دُخُولٍ عَلَيْهِ، أي وإن اختلفا حرية ورقًا وشرفًا وغيره؛ فلا يدخل أحدهما قبل الآخر، وَقِيَامٍ لَهُمَا، أي بأن يقوم لهما أو يترك، وَاسْتِمَاعٍ، وَطَلَاقَةِ وَجْهٍ، وَجَوَابٍ، وَسَلَامٍ، وَمَجْلِسٍ، أي وسائر أنواع الإكرام، ولا يخص أحدهما بشيء من ذلك لأنه ينكسر به قلب الآخر ويمنعه من إقامة حجته، وَالأَصَحُّ رَفْعُ مُسْلِمٍ عَلَى ذِمِّيٍّ فِيْهِ، يعني في المجلس إكرامًا له
وفيه قِصَّةٌ في البيهقي حَسَنَةٌ لكن في إسنادها ضعف (511). والثاني: يُسَوِّي بينهما لما سلف؛ ولأنه يسوي بينهما في الإقبال عليهما والاستماع منهما فكذا في المجلس، قال الرافعي: ويمكِنُ أن يكون الوجهان في رفع المجلس جاريين في سائر وجوه الإكرام وقد صرَّحَ بذلك الفورانيُّ قبلَهُ، وَإِذَا جَلَسَا، بين يديه، فَلَهُ أَنْ يَسْكُتَ، لأنهما حضرا للكلام وله، وَأَنْ يَقُولَ: لِيَتَكَلَّمَ الْمُدَّعِي، لأنه ربما هَابَاهُ، فَإِذَا ادَّعَى، أي دعوى صحيحة، طَالَبَ خَصْمَهُ بِالْجَوَابِ، لأن به تنفصل الخصومة، فَإنْ أَقَرَّ فَذَاكَ، وَإنْ أَنْكَرَ فَلَهُ أَن يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ لأجل فصل الخصومة، وَأَنْ يَسْكُتَ، تحرزًا من اعتقاد ميل إلى المدِّعي، فَإِنْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ وَأُرِيْدُ تَحْلِيْفَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، لأنه إن تورع عن اليمين وأَقَرَّ سهل الأمر على المدعي واستغني عن إقامة الْبَيِّنَةِ، وإن حلف! أقام البَيِّنَةَ وَبَانَ كذبه وخيانته فله إذًا في التحليف غرض ظاهر وإن قال: أَوْ لَا بَيِّنَةَ لِي، أي حاضرة ولا غائبة أو قال: كُلُّ بَيِّنَةٍ أقيمُها فهي باطلةٌ أو كاذبةٌ أو بَيِّنَةُ زُورٍ، ثُمَّ أَحْضَرَهَا قُبِلَتْ فِي الأَصَحِّ، لأنه ربما لم يعرف أو نسي ثم عرف وتذكر، والثاني: لا، للمناقضة؛ إلّا أن يذكر لكلامه تأويلًا كَكُنْتُ ناسِيًا أو جاهِلًا، ونسبه الماوردي والروياني إلى الأكثرين.
فَرْعٌ: لو قال: لَا بَيَّنَةَ لِي! واقتصر عليه؛ فقال البغوي: هو كقوله: لا بينة لي حاضرة، وقيل: كقوله لا حاضرة ولا غائبة؛ فيكون فيه الوجهان، وهو ما أورده الغزالي؛ وهو ظاهر إيرادُ المصنِّفِ حيث قال ولا بينة لي لكني قيدته بما سلف تبعًا للرافعي في شرحه؛ فإنه ذكره كذلك؛ وصحَّحَ القبول ولم يصحح في هذه شيئًا.
فَصْلٌ: وَإذَا ازْدَحَمَ خُصُومٌ قُدِّمَ الأَسْبَقُ، لأنهُ الْعَدْلُ، والاعتبار بسبق المدعي دون المدّعي عليه؛ فَإِنْ جُهِلَ، أي السابق، أَوْ جَاؤُواْ مَعًا أُقْرِعَ، لتعيين ذلك طريقًا كالسفر ببعض نسائه، ولو آثر بعضهم بعضًا جاز، ثم هذا إذا أمكن الإقراع فلو
(511) رواها البيهقي في السنن الكبرى: كتاب آداب القاضي: جماع أبواب ما على القاضي: باب إنصاف الخصمين: الأثر (21051). وإسنادها ضعيف.
كثروا كتب أسماءهم وجعلها بين يديه ثم يمد يده ويأخذ رقعة فيقدم صاحبها؛ قاله ابن الصباغ وغيره، وفسَّرَ الروياني الإقراع بهذا. وَيُقَدَّمُ مُسَافِرُونَ مُسْتَوْفِزُونَ، وَنِسْوَةٌ، وَإِنْ تَأَخَّرُواْ، أما في الأُولى: فلدفع الضرر عنهم، وأما في الثانية: فَلأَنَّهُنَّ عَوْرَةٌ، مَا لَمْ يَكْثُرُواْ، دفعًا للضرر عن المقيمين في الأُولى، وعن الرجال في الثانية فَيَتَعَيَّنُ (•) السَّبْقُ والقُرْعَةُ.
فَرْعٌ: المسافرون بعضهم مع بعض كالمقيمين فَيُعْتَبَرُ السَّبْقُ وَالْقُرْعَةُ، وكذا النسوة وما أسلفناه في النساء مع الرجال والمسافر مع المقيمين.
فَرْعٌ: ينبغي أن لا يفرق بين أن يكون المسافر مُدعيًا أو مُدَّعَى عليه؛ قاله الرافعي.
فَرْعٌ: تقديم المسافر والمرأة ليس بمستحق على الصحيح؛ بل هو رخصة يجوز الأخذ به، قال في الروضة: والمختار أنه يستحب لا يقتصر فيه على الإباحة.
وَلَا يُقَدَّمُ سَابِقٌ وَقَارِعٌ إِلَّا بِدَعْوَى، واحدة دفعًا للضرر عن الباقين؛ لئلا يستوعبُ المجلس بدعاويه، ثم يقال له: إن شئتَ فاجلس ليفرغ الجميع ثم يسمع خصومته الثانية إن بقي وقت ولم يَضْجَرْ، وسواء كانت الثانية على المُدَّعَى عليه أوَّلًا أو على غيره على الأصح.
فَرْعٌ: المقدم بالسفر لم يذكر المصنف حكم تقديمه هل يقدم بدعوى واحدة أم بأكثر؟ وفيه احتمالات للرافعي، والأرجح في الروضة: أن دعاويه إن كانت قليلة أو خفيفة لا تضر بالباقين إضرارًا بينًا قُدِّم بجميعها، وإلاّ قُدَّم بواحدة لأنها مأذون فيها وقد يقنع بواحدة ويؤخر الباقي إلى أن يحضر ولتطرد هذه الاحتمالات في التقديم بالأنوثة.
فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ اتِّخَاذُ شُهُودٍ مُعَيَّنِيْنَ، لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُمْ، للتضييق على الناس، وَإِذَا شَهِدَ شُهُودٌ فَعَرَفَ عَدَالَةً أَوْ فِسْقًا عَمِلَ بِعِلْمِهِ، أي ولا حاجة إلى تعديل في
(•) في النسخة (2): فيُعتبر.
الأُولى وإن طلبه الخصم، وبحث في الثانية؛ لأنه يراد لمعرفة العدالة والفسق وهو حاصل، وَإِلَّا، أي وإن لم يعرف عدالة أو فسقًا، وَجَبَ الِاسْتِزْكَاءُ، أي والتعديل سواء طعن الخصم في الشهود أو سكت؛ لأنه حكم بشهادة، فيشترط فيه البحث عن شرطها كما إذا طعن الخصم؛ ثم بَيَّنَ كَيْفِيَّةِ الاستزكاء فقال: بِأَنْ يَكْتُبَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الشَّاهِدُ، أي من اسم وكنية إن اشتهر بها، وولاء إن كان عليه ولاء، واسم أبيه وجدِّهِ وحِلْيَتِهِ وحِرْفَتِهِ وسُوقِهِ ومسجدِهِ لئلا يشتبه بغيره، وإن كان مشهورًا وحصل التمييز ببعض هذه الأوصاف كتبه، وَالْمَشْهُودُ لَهُ وَعَلَيْهِ، أي وبأن يكتب أيضًا اسم المشهود له والمشهود عليه، فقد يكون بينهما ما يمنع شهادته له أو عليه من قرابة أو عداوة، وَكَذَا قَدْرُ الدَّيْنِ عَلَى الصَّحِيْحِ، لأنه قد يغلب على الظن صدق الشاهد في القليل دون الكثير، والثاني: لا يكتبهُ؛ لأن العدالة لا تَتَجَزَّأُ والأولُ يمنعُ هذا، وَيَبْعَثَ بِهِ مُزَكِّيًا، ليعرف حاله، ثُمَّ يُشَافِهُهُ الْمُزَكِّي بِمَا عِنْدَهُ، أي فإن كان جرحًا لم يظهره، وقال للمدعي: زِدْنِي في الشهود، وإن كان تعديلًا عَمِلَ بمقتضاه، وَقِيْلَ: تَكْفِي كِتَابَتُهُ، كما عليه العمل، والأصح: أنه لا بد من المشافهة؛ لأن الخطَّ لا يعتمدُ كما سبق.
وَشَرْطُهُ، أي الْمُزَكِّي، كَشَاهِدٍ مَعَ مَعْرِفَةِ الْجَرْحِ وَالتَّعدِيْلِ، لئلا يجرح العدل ويزكي الفاسق، وَخِبْرَةُ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ لِصُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ، لأن الإنسان يخفي أسباب الفسق غالبًا فلا بد من معرفة باطن حاله، وهذه الأمور تظهر أحوال الشخص ولا يشترط التقادم في المعرفة على الأشبه، وإن كان ظاهر لفظ الشافعي يقتضي اعتباره، وقوله (خِبْرَةُ) هو برفع الهاء وجرها، وَالأصَحُّ: اشْتِرَاطُ لَفْظِ شَهَادَتِهِ، أى فيقول: أشهد أنه عدل، والثاني: لا، وَأَنَّهُ يَكْفِي: هُوَ عَدْلٌ، لأنه اثبت العدالة التي اقتضاها ظاهر اطلاق قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (512) وهذا ما نَصَّ عليه في حَرْمَلِة، وَقِيْلَ: يَزِيْدُ عَلَيَّ وَلِيٌّ، لجواز أن يكون عدلًا في شيء
(512) الطلاق / 2.