الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الرِّدَّةِ
الرِّدَّةُ: هِيَ في اللُّغَةِ، الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (215)، وَقِيْلَ: الإِمْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الرِّدَّةِ عَلَى مَانِعِي الزَّكَاِة في زَمَنِ الصِّدّيقِ رضي الله عنه؛ وَهِيَ فِي الشَّرْعِ مَا سَيَأْتِي في كَلَامِ الْمُصَنفِ؛ وَهِيَ أفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَغْلَظُهَا حُكْمًا، وَالأَصْلُ في الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ. . .} الآية (216)، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:[مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ] رواه البخاري (217).
هِيَ قَطْعُ الإِسْلَامِ بِنِيَّةٍ أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ أَوْ فِعْلٍ سَوَاءٌ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً أَوْ عِنَادًا أَوِ اعْتِقَادًا، فَمَنْ نَفَى الصَّانِعَ أَوِ الرُّسُلَ أَوْ كَذِّبَ رَسُولًا أَوْ حَلَّلَ مُحَرَّمًا بِالإِجْمَاعِ كَالزِّنَا وَعَكْسَهُ، أي حرّم حلالًا بالإجماع كالنكاح، أَوْ نَفَى وُجُوبَ مُجْمَعٍ عَلَيِهِ، أي مَعْلُومٌ مِنَ الدِّيْنِ بِالضَّرُورَةِ كركعة من الصلوات الخمس، أَوْ عَكْسَهُ، أي اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كصلاة سادسة، أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ غَدًا أَوْ تَرَدَّدَ فِيْهِ كَفَرَ، أي وكذا إذا اعتقد قِدَمَ العَالَم أو حدوث الصانع أو نفي ما هو ثابت للقديم بالإجماع ككونه عالمًا قادرًا أو أثبتَ ما هو مَنْفِيٌّ عنه بالإجماع كالألوان
(215) المائدة / 21.
(216)
المائدة / 54.
(217)
الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ رواه البُخَارِي في الصحيح: كتاب الجهاد والسير: باب لا يعذب بعذاب الله: الحديث (3017).
أو أثبت له الاتصال والانفصال قاله المتولي، وَالْفِعْلُ الْمُكَفِّرُ مَا تَعَمَّدَهُ اسْتِهْزَاءً صَرِيحًا بِالدِّيْنِ أَوْ جُحُودًا لَهُ كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ بِقَاذُورَةٍ وَسُجُودٍ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ، أي وكذا السِّحْرُ؛ الذي فيه عبادةُ الشَّمْسِ ونحوها؛ قال البندنيجي: وكذا اعتقاد حِلِّ السِّحْرِ.
ولَا تَصِحُّ رِدَّةُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، لأنه لا تَكلِيْفَ عليهما ولا اعتداد بقولهما وفعلهما واعتقادهما، وَمُكْرَهٍ، أي إذا كان قلبهُ مطمئنٌّ بالإيمان كما نَطَقَ به التنزيل (218)، وَلَوِ ارْتَدَّ فَجُنَّ لَمْ يُقْتَلْ في جُنُونهِ، لأنه ربما عاد إلى الإِسلام لو عقل، وَالْمَذهَبُ: صِحَّةُ رِدَّةِ السَّكرَانِ، كما سبق في طلاقه، وأصح الطريقين حكايته قولين: المنع؛ ومقابله. والثاني: القطع بالصحة، وَإِسْلَامِهِ، أي إذا عاد إليه في حال سُكره معاملة لأقواله معاملة الصاحي.
وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا، إذ الظاهر من العدل أنَّه لا يقدم إلّا عن بصيرة، وَقِيلَ: يَجِبُ التَّفْصِيْلُ، لاختلاف المذاهب في التكفير؛ وَالْحُكْمُ بِالرِّدُّةِ عَظِيْمُ الْوَقْعِ؛ فيحتاطُ له. وهو قوي جدًا، وعليه خَلْقٌ منهم القفال والماوردي والغزالي؛ والأول: هو ما قال الإمام: أنَّه الظاهر فتبعه الرافعي، وقد أوجبوا بيان السبب في الإخبار بتنجيس الماء وكذا في الجرح، فَعَلَى الأوَّلِ، أي وهو الاكتفاء بالإطلاق فيما، لَوْ شَهِدُوا بِرِدَّةِ فَأَنْكَرَ، أي بأن قال: كَذَبَا وما ارْتَدَدْتُ، حُكِمَ بِالشَّهَادَةِ، أي ولا يُغنِيْهِ التكذيبُ، بل يلزمهُ أن يأتي بما يصر به الكافر مُسْلِمًا، وكذا الحكم لو شرطنا التفصيل فَفَصَّلا وكذَّبهما المشهود عليه، فَلَوْ قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا، أي فيما فعلت، وَاقْتَضَتهُ قَرِينَةٌ كَأَسْرِ كُفَّارٍ صُدِّقَ بيَمِيْنِهِ، عملًا بالقرائن الشاهدة لذلك؛ وإنما حُلِّفَ لاحتمال أنَّه كان مختارًا، وَإِلَّا فَلَا، لانتفاء القرائن والحالة هذه، وَلَوْ قَالَا:
(218) قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ. مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل / 105 - 106].
لَفَظَ لَفْظَ كُفْرِ؛ فَادْعَى إكْرَاهًا صُدِّقَ مُطْلَقًا، لأن ليس فيه تكذيب الشاهد، وَلَوْ مَاتَ مَعْرُوفٌ بِالإِسْلَامِ عَنِ ابْنَيْنِ مُسْلِمَينِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ارْتَدَّ فَمَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبَ كُفْرِهِ، أي بأن قال: سَجَدَ لِصَنَمٍ أو تكلمَ بكلامِ كُفْرِ، لَمْ يَرِثْهُ، وَنَصِيْبُهُ فَيْءٌ، لأن المسلمَ لا يرثُ الكافرَ كما تقدم في بابه، وَكَذَا إِن أَطْلَقَ في الأَظْهَرِ، أي فإن بيّن سبب كفره كان فيئًا وإن ذكر ما ليس بكفر صرف إليه، والثاني: يصرف إليه نصيبه، ولا أثر لإقراره، لأنه قد يتوهم ما ليس بكفر كفرًا، والثالث: يجعل فيئًا لإقراره بكفره.
فَصْلٌ: وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ، لأنهما كانا محترمين بالإسلام؛ فربما عرضت لهما شبهة فنسعى في إزالتها وردهما إلى ما كانا، وَفِي قَوْلٍ: تُسْتَحَب كَالْكَافِرِ، الأصلي، وَهيَ في الْحَالِ، أي فَإنْ تَابَ فَذَاكَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ لأَنَّ امْرَأةً يُقَالُ لَهَا أمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم:[بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الإِسْلَامُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ] رواه الدارقطني بإسناد ضعيفٌ (219)، وَفِي قَوْلٍ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لأثر عمر في ذلك رواه الشَّافعيّ (220)، فَإِنْ أَصَرَّا قُتِلَا، للحديث الصحيح السالف:[مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ](221) قال الخفّاف في خصاله: والقتل ثلاثة أقسام واجب؛ ومحظور؛ ومباح. فالأول: كالمرتد ونحوه، والثاني: قَتْلُ مَن لمن يجز قتله، والثالث: الأسير، الإمام يتخير
(219) رواه الدارقطني في السنن: كتاب الحدود والديات: الحديث (122): ج 3 ص 118 - 119، وفيه معمر بن بكار، وفي حديثه وهم. وفي النسخة المطبوعة من سنن الدارقطني اسم المرأة (أم مروان) والصحيح أن اسمها أم رومان.
(220)
أثَرُ عُمَرَ رضي الله عنه؛ قَدِمَ عَليْهِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِيِ مُوسَى؛ فَسَأَلهُ عَنِ النَّاسِ؛ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قالَ:(هَلْ كَانَ فِيْكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ ) فَقَالَ: نعَمْ! رَجُلٌ كَفَرَ بَعْد إِسْلَامِهِ، قالَ:(فَمَا فَعَلتُمْ بِهِ؟ ) قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ. قالَ عُمَر رضي الله عنه: (فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا؛ وَأطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيْفًا، وَاسْتَتبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتوبُ أوْ يُرَاجِعَ أمْرَ الله؛ اللهمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ؛ وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي). رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب المرتد: باب من قال يحبس ثلاثة أيام: الأثر (17361).
(221)
تقدم في الرقم (217).
فيه بين قتله وغيره مما سيأتي في موضعه، وَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّ وَتُرِكَ، لقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (222)، وَقِيلَ: لا يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ إِنِ ارْتَدَّ إِلَى كُفْرٍ خَفِيٍّ كَزَنَادِقَةٍ وَبَاطِنيَّةٍ، لأَنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَ الْخَوْفِ عَيْنُ الزَّنْدَقَةِ.
فَرْعٌ: حكى القاضي حسين في باب إمامة المرأة من كتاب الصلاة: أنَّ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ وَالحَسَنَ وَالحُسَيْنِ هَلْ يُكَفَّرُ أو يُفَسَّقُ؟ فِيْهِ وَجْهَانِ، وَمَنْ لَم نُكَفِّرْهُ مِنْ أَهْلِ الأهْوَاءِ وَالْبِدَع لا يُقْطَعُ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَهَلْ يُقْطَعُ بِدُخُولِهِ إِيَّاهَا؟ فِيْهِ وَجْهَانِ.
فَائِدَةٌ: الزِّنْدِيْقُ: الذي لا ينتحلُ دِينًا على الأقرب، وقيل: هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ وهو ما ذكره في أصل الروضة هنا، والفرائض؛ وصفة الأئمة. والأول ذكره في اللعانِ.
فَصْلٌ: وَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ إِنِ انعَقَدَ قَبْلَهَا، أي قبل الردة، أو بَعْدَهَا وأَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَمُسْلِمٌ، لأنه قد حكم بإسلامه تبعًا والإسلام يعلو، أو مُرْتَدَّانِ فَمُسْلِمٌ، لبقاء علقة الإسلام في الأبوين، وَفِي قَوْلٍ: مُرْتَدٌّ، تبعًا لأبويه، وَفِي قوْلٍ: كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، لتولده بين كافرين، ولم يباشر الردة حتَّى يغلظ عليه. قُلْتُ: الأظْهَرُ مُرْتَدٌّ، لما قلناه، وَنَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ الإتّفَاقَ عَلَى كُفْرِهِ، وَالله أعْلَمْ.
وَفِي زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ مَالِهِ بِهَا، يعني بالردة، أَقْوَالٌ؛ أظْهَرُهَا: إِن هَلَكَ مُرْتَدًّا بَان زَوَالُهُ بِهَا، وَإِن أَسْلَمَ بَان أَنَّهُ لَم يَزُلْ، لأن بطلان أعماله يتوقف على موته مرتدًا فكذا ملكه وكبُضع زوجته، والثاني: يزول مِلْكُهُ بنفس الردَّةِ، وعن الشافعي أنَّه أشبه الأقوال ذكره الرافعي في باب التدبير، والثالث: لا يزول، لأن الكفر لا ينافي الملك كالكافر الأصلي، ووقع في كفاية ابن الرفعة أن النووي اختار هذا، وتبعه القمولي. وزاد أنَّه صححه، ولم أره في كلامه وسيأتي في التدبير؛ أن تدبيره قبل الردة لا يخرَّج على الخلاف، وكذا مستولدته قبلها؛ لأنها لا تقبل النقل، وَعَلَى الأقوَالِ:
(222) الأنفال / 38.
يُقْضَى مِنْهُ دَيْنٌ لَزِمَهُ قَبْلَهَا، لأنها لا تزيد على الموت، وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ، أي وتجعل حاجته إلى النفقة كحاجة الميت إلى التجهيز بعد زوال الملك بالموت، وَالأَصَحُّ: يَلْزَمُهُ غُرْمُ إِتْلَافِهِ فِيْهَا، أي فِي الردة، وَنَفَقَةُ زَوْجَاتٍ وُقِفَ نِكَاحُهُنَّ وَقَرِيبٍ، كما أن من حفر بئرًا عدوانًا ومات وحصل بسببها إتلاف يؤخذ الضمان من تركته وإن زال ملكه بالموت، والثاني: لا يلزمه ذلك، لأنه لا مال له، وهذا الخلاف مفرع على قول زوال الملك كما صَرَّح به فِي الروضة تبعًا للرافعي وإن كان كلامه هنا قد يُوْهِمُ خلافَهُ، وَإِذَا وَقَفْنَا مِلْكَهُ فَتَصَرُّفُهُ إِنِ احْتَمَلَ الْوَقفَ كَعِتْقٍ؛ وَتَدْبِيْرٍ؛ وَوَصِيَّةٍ مَوْقُوفٌ، إِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ وَإلَّا فَلَا، وَبَيْعُهُ؛ وَهِبَتُهُ؛ وَرَهْنُهُ؛ وَكِتَابَتُهُ بَاطِلَةٌ، أي على الجديد، وَفِي الْقَدِيْمِ: مَوْقُوفَةٌ، فإن أسلم حُكِمَ بصحتها وإلَّا فلا، وَعَلَى الأقْوَالِ: يُجْعَلُ مَالُهُ مَعَ عَدْلٍ، وَأَمَتُهُ عِندَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، لأنا وإن قلنا ببقاء ملكه فقد تعلق به حق المسلمين فيحتاط. ويؤجر ماله أي عقارًا كان أو رقيقًا، ويُؤَدِّي مُكَاتَبُهُ النُّجُومَ إِلَى الْقَاضِي.