الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب دعوى الدم والقسامة
أَي وَالشهادَةِ عَلَى الدَّمِ كَذَا تَرجَمَهُ الشَّافِعِي وَالأكثَرُونَ، وَهُوَ مُشتَمِلٌ عَلَى الأُمُورِ الثلاثةِ، وَاسْتَفتحَهُ الرافِعي فِي المُحَرَّرِ بِحَدِيثِ [البينَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمينُ عَلَى المدعَى عَليهِ إِلَّا فِي القَسَامَة](203) وَفِي إِسْنَادِهِ لِين، وَالقَسَامَةُ بِفَتح القَافِ اسْم لِلأيمَانِ؛ وَقِيْلَ: لِلأوْلِيَاءِ، وَأوَّلُ مَنْ قَضَى بِها الوَليدُ بنُ المُغيرَةِ فِي الجَاهِلِيَّة؛ فَأَقَرةُ الشَّارِعُ فِي الإِسْلَامِ.
يُشْتَرَطُ أَن يُفَصِّلَ مَا يَدعِيْهِ مِنْ عَمد وَخَطَإ، أي وكذا شبه عمد، وَانفِرَاد وَشِركةٍ، لاختلاف الأحكام بذلك؛ ويصف كل واحد من ذلك، فَإِن أطْلَقَ، يعني الولي، استَفْصَلَهُ الْقاضِي، أي استحبابًا؛ وقيل: وُجوبًا، وَقيلَ: يُعرِضُ عَنْهُ، أي فلا يستفصله؛ لأنه ضرب من التلقين، ومنع الأول؛ كونه تلقينًا، بل التلقين أن يقولَ له: قُلْ قتل عمدًا أو خطأً، والاستفصال أن يقول له: كيف قتل؟ وَأَن يُعينَ المُدعَى عَلَيهِ، فَلو قَالَ: قَتَلَهُ أحَدُهُم، أو أحد المدعى عليهم، لَا يُحَلِّفُهُمُ القَاضِي فِي الأصَح، للإيهام، كما لو ادّعى دَينًا على أحد رجلين، والثاني: يجيبه القاضي
(203) رواه الدارقطني في السنن: كتاب الأقضية والأحكام: باب في المرأة تُقتل إذا ارتدت: الحديث (52) منه: ج 4 ص 218. والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب القسامة: الحديث (16912). في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر: ج 10 ص 92: الحديث (727/ 21)؛ قال ابن عبد البر: وهذا الحديث وإن كان في إسناده لين؛ فإن الآثار المتواترة في هذا الباب تعضده.
إلى ذلك للحاجة؛ لأن القاتل يخفي القتل، ويعسر على الولي معرفته ولا ضرر عليهم في يمين صادقة، وَيَجرِيَانِ فِي دَعْوَى غَصْبٍ وَسرِقَةٍ وَإتلافٍ، أي وكذا أخذُ ضالة على أحد رجلين أو رجال؛ ولا يجريان في دعوى قرض وبيع وسائر المعاملات على المذهب، لأنها تنشأ باختيار المتعاقدين وشأنها أن يضبط كلَّ واحد منهما صاحبه، وإنمَا تسمَعُ، يعني الدعوى، مِن مكلف ملتزِم، أي فلا تسمع دعوى صبي ومجنون وحربي، عَلَى مِثلِهِ، أي وهو المكلف الملتزم فخرج الصبي والمجنون، ويدخل في المكلف المحجور عليه بالسَفَه والفَلس والرقيق.
وَلَوِ ادَّعَى انفِرَادَهُ بِالقَتلِ ثم ادعَى عَلَى آخَرَ، أي الشركة أو الانفراد، لَمْ تُسْمَع الثانِيةُ، لما فيه من تكذيب الأولى ومناقضتها؛ اللَّهُم إلا أن يصدقه القاضي في دعواه الثانية؛ فالأصح: أن له مؤاخذته، لأن الحق لا يعدوهما، ويحتمل كذبه في الأولي وصدقه في الثانية، وقوله (ثُم ادعَى عَلَى آخَر) هو أعم من قول الحاوي ثم شركة آخر، أو عَمدًا وَوَصَفَهُ بغيَرِهِ، لَم يَبطُل أَصلُ الدعوَى فِي الأظهرِ، لأنه قد يظن الخطأ عمدًا، فعلى هذا يعتمد تفسيره ويمضي حكمه، وقال ابن داؤد: لابد من تجديد الدعوى بالخطأ، والثاني: تبطلُ، لأن في دعوى العمد اعترافًا بأنه ليس بمخطئ فلا يقبل رجوعه عنه.
فَصْلٌ: وَتَثْبتُ القَسَامَةُ فِي القتلِ بِمَحَل لَوثٍ، لما سيأتي، وبه قال مالك وأحمد خلافًا لأبي حنيفة؛ فإنه قال: لا اعتبار باللوث ولا نبدأ بيمين المدعي، وَهُوَ، يعني اللوث، قَرِينَة لِصدقِ المدعِي، مأخوذ من اللوث وهو القوة، وقيل: من الضعف؛ فكأنه حجَّة ضعيفة، بأَن وُجِدَ قَتِيل، أي أو بعضه، فِي مَحلةٍ، أي منفصلة عن البلد الكبير، أَوْ قَرية صَغِيْرَةِ لأعدَائِهِ، لأن قصه عبد الله بن سَهلٍ الآتية هكذا كانت، فَإن أهلَ خيبرَ أعدَاءُ الأنصَارِ، ويشترط أن لا يُساكن العدو غيرهم وإلا فربما قتله غيرهم، واعتبر الشافعي المخالطة كما نقله التميمي في كتابه المسافر وجمهور الأصحاب. أوْ تَفَرَّقَ عَنهُ جمعٌ، أي في دار دخلها عليهم ضيفًا، أو دخلها معهم
لحاجة أو مسجد أو بستان أو طريق أو صحراء أو ازدحم قوم على بئر ثم تفرقوا عن قتيل لقوة الظن هنا أيضًا.
وَلَوْ تَقَابَلَ صَفَّانِ لِقِتَالٍ وَانْكشَفُواْ عَن قَتِيْلٍ، فَإِن الْتَحَمَ قِتَالٌ، أي أو كان يصل سلاح أحد الصفين إلى الآخر، فَلَوْثٌ فِي حَقِّ الصَّفِّ الآخَرِ، لأن الظاهر أن أهل صفّه لا يقتلونه، وإِلا فَفِي حَقِّ صَفَّهِ، أي وإن لم يلتحم قتال، ولا كان يصل سلاح؟ فاللوث في حقِّ أهل صفِّهِ، وَشَهَادَةُ الْعَدْلِ، الواحد، لَوْثٌ، لأن قوله: يغلب على الظن صدقه، سواء تقدمت شهادته على الدعوى أو تأخرت، جزم به في أصل الروضة، والرافعي أبداه بحثًا، وهو رأي الإمام بعد أن نقل عن الأصحاب: أن سبيلها سبيل سائر الشهادات، وَكَذَا عَبيْدٌ أَوْ نِسَاءٌ، لأنه يثير ظَنًا، وَقِيْلَ: يُشْتَرَطُ تَفَرَّقُهُمْ، لاحتمال التواطئ في حالة الاجتماع، والأصح: المنع، واحتمال التواطئ كاحتمال الكذب في شهادة الواحد، وهذا هو الأصح في أصلِ الروضة، والأقوى في الشرحين، وقال في الكبير: الأشهر المنع فيما إذا أتوا مجتمعين، وجعله في الْمُحَرَّرِ وجهًا مرجوحًا، وأفاد في المطلب عن النص: أنه ليس بلوث، ويشترط مع مجيئهم متفرقين، أن لا يمضي زمن يمكن فيه الإتفاق على ما صدر منهم، وهو أن يتفرقوا ثم يخيروا، وقد حكى صاحب البيان فيه وجهين؛ فإن أكثر الأصحاب على اشتراط ذلك وهو ظاهر في المذهب، وَقَوْلُ فَسَقَةٍ وَصبْيَانِ وَكُفَّارٍ لَوْثٌ فِي الأصَحِّ، لأن الغالب أن اتفاق الجماعة الكثيرة على الإخبارِ عن شيء كيف كان لا يكون إلا عن حقيقة، والثاني: لا، لأنه لا عمل على قولهم في الشرع.
فَرْعٌ: من أقسام اللوث لهج ألسِنة الخاص والعام بأن فلانًا قتل فلانًا كما قال البغوي.
وَلَوْ ظَهَرَ لَوْثٌ؛ فَقَالَ أَحَدُ إبْنَيْه: قَتَلَهُ فُلَانٌ، وَكَذَّبَهُ الآخَرُ بَطَلَ اللَّوْثُ، لأن الله تعالى أجرى العادة بحرص القريب على التشفي من قاتل قريبه، وأنه لا يبرئه فعارض هذا اللوث؛ فسقطا، وَفِي قَوْلٍ: لَا، لأن في سائر الدعاوي لا تسقط
بتكذيب أحد الوارثين حق الثاني، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي خمسين يمينًا، ويأخذ حقه من الدية، وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ بِتَكْذِيْبِ فَاسِقٍ، لأن قولَهُ غيرُ معتبرٍ في الشرع، والأصح أنه لا فرق بينهما، فإن قول الفاسق فيما يسقط حقه مقبول لإنتفاء التهمة.
وَلَوْ قَالَ أحَدُهُمَا: قَتَلَهُ زَيْدٌ وَمَجْهُولٌ، وَقَالَ الآخَرُ: قَتَلَهُ عَمرٌو، وَمَجْهُولٌ حَلَفَ كُلٌّ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ، لاحتمال أن الذي أبهم ذكره هو الذي عيّنه الآخر وكذلك بالعكس، وَلَهُ رُبُعُ الدِّيَةِ، لاعترافه بأن الواجب على من عيَّنه نصف الدية وحصته منه النصف، وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اللَّوْثَ فِي حَقِّهِ، فَقَالَ: لَمْ أكُنْ مَعَ الْمُتَفَرِّقِيْنَ عَنْهُ، أي عن القتيل، صُدِّقَ بِيَمِيْنِهِ، لاحتماله؛ وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ.
وَلَوْ ظَهَرَ لَوْثٌ بِأَصْلِ قَتْلٍ دُون عَمْدٍ وَخَطَإٍ فَلا قَسَامَةَ فِي الأَصَحِّ، لأن مطلق القتل لا يفيد مطالبة القاتل، بل لابد من ثبوت العمدية، ولا مطالبة العاقلة، بل لابد أن يثبت كونه خطأ أو شبه عمدٍ، والثاني: نعم، لأنه إذا ظهر القاتل خرج الدم عن كونه باطلًا مهدرًا، وَلَا يُقْسَمُ فِي طَرَفٍ، لأن النص ورد في النفس وهي أعظم من الأطراف، ولهذا اختصَّت بالكفارة، فلا يلحق بها الأطراف، وَإِتْلَافِ مَالٍ، لما ذكرناه وكذا في الجراحات، إِلا فِي عَبْدٍ فِي الأَظْهَرِ، بناءً على الأظهر السابق: أن بدل الْعَمْدِ (•) تحمله العاقلة، ومنهم من قطع به لحرمة النفس كالقصاص، والثاني: لا قَسَامَةَ فيه، بناءً على أن بدله لا تحمله العاقلة فهو ملتحق بالبهيمة.
فَرْعٌ: الْمُدَبِّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ مِثْلُهُ سواءٌ.
فَصْلٌ: وَهِيَ، تعني القسامة، أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي عَلَى قَتْل ادَّعَاهُ خَمْسِيْنَ يَمِيْنًا، لحديث سَهْلٍ بْنِ أبِي حَثْمَةَ في الصحيحين (204) كما ذكرته في الأصل بطوله
(•) في النسخة (1): العبد بدل العمد وهو تصحيف.
(204)
عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ؛ هُوَ وَرِجَالٌ مِن كُبَرَاءِ قَوْمِهِ (أَنَّ عَبْد اللهِ بْنِ سَهْلٍ وَمُحَيْصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أصَابَهُمْ. فَأُخْبِرَ مُحَيْصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيْرٍ -أَوْ عَيْنٍ- فَأَتَى يَهُودَ؛ فَقَالَ: أنْتُمْ وَاللهِ قَتَلتمُوهُ؟ ! قَالُواْ: مَا قَتَلْناهُ وَاللهِ! ثُمُّ أقْبَلَ، حَتَّى =
وهو مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْحَديْثِ الآتِي في بابه [البَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِيْنُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ](205) وقد جاء استثناءُ القَسامة كما تقدَّمَ أوَّلَ الباب؛ ولأن جَنْبِيَّةَ الْمُدَّعي قويت باللوث فتحولت اليمين إليه كما لو أقام شاهدًا في غير الدم، وكيفية اليمين كما في سائر الدعاوى، ويقول في يمينه: لَقَدْ قُتِلَ هَذَا ويشير إليه أو لقد قتل فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَيَرفَعُ نَسَبَهُ إن كان غائبًا منفردًا بقتله ما شاركه فيه غيره، ويذكر أنه عمدًا أو خطأ أو شبه عمدٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُوَالاتُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، لأن الأَيْمَانَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ، والتفريق في الحجج لا يقدح كما إذا شهد الشهود متفرقين، وهذا ما أورده أكثرهم، وقيل: تشترط، لأن للموالاة وقعًا في النفس وأثرًا في الزجر والردع، وهو الأشبه في اللِّعان، ويمكن الفرق بأن اللعان أولى بالاحتياط من حيث أنه تتعلق به العقوبة البدنية، ومن حيث أنه يختلُّ به النسب وتشيع الفاحشة، وَلَوْ
قَدِمَ عَلَى قوْمِهِ؛ فَذَكَرَ لَهُمْ فَأَقْبَل هُوَ وَأخُوهُ حُوَيْصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ. فَذَهَبَ لِيَتَكَلَّمَ -وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ- فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُحَيْصَةَ: [كَبِّرْ كّبِّرْ] يُرِيْدُ السِّنَّ. فَتَكَلَّمَ حُوَيْصَةُ؛ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيْصَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [إِمَّا أنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ؛ وَإِمَّا أنْ يُؤْذِنُواْ بِحَرْبٍ] فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ بهِ. فَكَتَبَ: مَا قَتَلناهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحُوَيْصَةَ وَمُحَيْصَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ: [أتَحلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ ] قَالُواْ: لَا. قَالَ: [أفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ ] قَالُواْ: لَيْسُواْ بِمُسْلِمِيْنَ. فوَدَّاهُ رَسُولُ الله مِن عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتِ الدَّارَ. قَالَ سَهْلٌ: فَرَكَضَتْنِى مِنْهَا نَاقَةٌ). رواه البخاري في الصحيح: كتاب الأحكام: باب كتاب الحاكم إلى عماله: الحديث (7192). ومسلم في الصحيح: كتاب القسامة: باب القسامة: الحديث (1/ 1669). وفي رواية قال: [أتَسْتَحِقُّونَ قَتِيْلَكُمْ -أوْ قَالَ صَاحِبَكُمْ- بأَيْمَان خَمْسِيْنَ مِنْكُمْ؟ ] رواه البخاري في الصحيح: كتاب الأدب: باب إكرام الكبير: الحديث (6142 و 6143). ومسلم في الصحيح: كتاب القسامة: الحديث (1 و 2/ 1669).
(205)
تقدم في الرقم (203). ورواه الترمذي في الجامع الصحيح: كتاب الأحكام: باب ما حاء في أن البينة على المدعي: الحديث (1341)، وقال: في إسناده مقال. وأخرجه البخاري في الصحيح: عن ابْنِ عَبَّاسِ بِلَفظِ [أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ اليَمِيْنَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]: كتاب الرهان: الحديث (2514).
تَخَلَّلَهَا، يعني الأيمان، جُنُونٌ أَو إغْمَاءٌ بَنَى، أي فلا يجب الاستئناف، أما إذا لم يشترط الموالاة فظاهر، وأما إذا اشترطناها فلقيام العذر.
فَرْعٌ: إذا عُزِلَ القاضي أو مات في أثنائها، فالأصح: أنَّ القاضي الثاني يستأنفُ منه الأيمان، وحكى عن نصه في الأُمِّ: أنه يكفيه البناء وصححه الروياني.
وَلَوْ مَاتَ لَمْ يَبْنِ وَارِثُهُ عَلَى الصَّحِيْحِ، لأن الأَيْمَانَ كالْحُجَّةِ الوَاحِدَةِ، ولا يجوز أن يستحق أحد شيئًا بيمين غيره؛ وهذا ما نص عليه في المختصر، والثاني: البناء؛ وهو قول الحضرمي، وَلَوْ كَان لِلْقَتِيْلِ وَرَثَةٌ وُزِّعَتْ بِحَسَبِ الإِرْثِ، لأنَّ الذي يثبت بأيمانهم يقسم عليهم كذلك، وَجُبِرَ الْمُنْكَسِرُ، لأن اليمين الواحدة لا تتبعض، وَفِي قَوْلٍ: يَحْلِفُ كُلٌّ خَمْسِيْنَ، لأن العدد في القسامة كاليمين الواحدة في غيرها، وهذا القول مَبْنيٌّ على أن الديَّةَ تثبتُ للوارثِ ابتداءً، والأول مبنيٌّ على أنها تثبتُ للمقتولِ ابتداءً، وأجاب الأَولُ عما استدل به صاحب هذا القول: بأن اليمين الواحدة لا يمكن قِسْمَتُهَا بخلاف أيمان القسامة، وَلَوْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا حَلَفَ الآخَرُ خَمْسِيْنَ، لأن الديةَ لا تستحق بأقل منها، وَلَوْ غَابَ حَلَفَ الآخَرُ خَمْسِيْنَ وَأَخَذَ حِصَّتَهُ، وَإلا، أي وإن لم يحلف، صَبَرَ لِلْغَائِبِ، فإذا حضر حلف ما يخصه، وَالْمَذهَبُ أَن يَمِيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيهِ بِلَا لَوْثٍ، وَالْمَرْدُودَة عَلَى الْمُدَّعِي أوِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ لَوْثٍ، وَالْيَمِيْنُ مَعَ شَاهِدِ خَمْسُون، أما في الأُولى: وهي ما إذا ادعى القتل بغير لوث، وتوجهت اليمين على المدعى عليه؛ فلأنها يمين مسموعة في دعوى القتل، فتعددت كما إذا كان ثَمَّ لوث، فإن التعدد ليس للوث بل لحرمة الدم، واللَّوْثُ إنما يفيدُ البداءَةَ بالمدَّعي، بدليل أنه لو نكلَ حُلِّفَ المدعى عليه خمسين يمينًا، ومنهم من قطع به ذكره الرافعي في كلامه على الوجيز وأسقطه من الروضة، والطريق الثاني فيها؛ حكاية قولين وجه التغليظ ما قلناه، ووجه مقابله: أنها يمين في جانب المدعى عليه لقطع الخصومة فلا تُغَلَّظ بالعدد كسائر الدعاوي، وأما في الثانية: وهى ما إذا نكل المدعى عليه فردت عليه؛ فلم أرَ فيه حكاية طريقتين أصلًا؛ بل
حكاية قولين، وكذا في الرابعة، ولم يذكر هو في الروضة طريقة قاطعة بذلك، وأما الثالثة: فالأصحُّ القطع فيها بما ذكرهُ لقوله عليه السلام: [فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِيْنَ يَمِيْنًا](206) جعل أيمان المدعى عليهم بعدد أيمان المدعين، والثاني: طرد القولين؛ لأن نكوله يبطل اللوث فكان كلا لوث، وقوله (خَمْسُونَ) هو خبر للمسائل الأربع المذكورة، وقوله (وَالْمَرْدُودَةُ عَلَى الْمُدَّعي) مراده إذا لم يكن ثم لوث؛ فإنه إذا كان فهي له ابتداء.
وَيَجِبُ بِالْقَسَامَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ، أي مخففة في الخطأ ومغلظة في شبه العمد، وَفِي العَمْدِ عَلَى المُقْسَمِ عَلَيهِ، أي ولا قصاص لأنه عليه الصلاة والسلام أطلق أيجاب الدِّيَةِ حيثُ قال:[إِمَّا أن يَدُواْ صَاحِبَكُمْ؛ وِإمَّا أن يُؤْذِنُواْ بِحَرْبٍ] متفق عليه (206)، وَفِي القَدِيْمِ قِصَاصٌ، لقوله صلى الله عليه وسلم:[أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ] أي دم قاتل صاحبكم، متفق عليه (206)، وأجاب الأولُ: بأنا نضمن بسبب قتل صاحبكم.
وَلَوِ ادَّعَى عَمْدًا بِلَوْثٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَحَضَرَ أحَدُهُمْ؛ أقسَمَ عَلَيهِ خَمْسِيْنَ وَأَخَذَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، أي على الجديد والقديم له القصاص منه، فَإِنْ حَضَرَ آخَرُ، أي وأنكر، أقْسَمَ عَلَيهِ خَمْسِيْنَ، لأن الأيمان السابقة لم تتناول الثاني، أما إذا أقرَّ فإنه يُقْتَصُّ منه بإقراره إن كان الفتل عمدًا بشرطه ولا قسامة، وَفِي قَوْلٍ: خَمْسًا وَعِشْرِيْنَ، لأنهما لو كانا حاضرين لأَقْسَمَ القاضي خمسين عليهما جميعًا فحصة الواحد من الخمسين النصف، إنْ لَمْ يَكُن ذَكَرَهُ فى الأَيْمَانِ، وَإِلّاَ فَيَنْبَغِي الإِكْتِفَاءُ بِهَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْقَسَامَةِ فِي غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيهِ وَهُوَ الأَصَحُّ، ووجه الصحة في القَسَامَةِ في الغيبة القياس على البينة، ووجه مقابله ضعف القسامة.
وَمَنِ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الدَّمِ أقْسَمَ، أي فالسيد يقسم في قتل عبده على الأظهر الذي سلف في أول الباب، وَلَوْ مُكَاتَبٌ لِقَتْلِ عَبْدِهِ، لأنه استحق بدله، ويستعين بالقيمة
(206) تقدم في الرقم (204).
على أداء النجوم ولا يقسم سيده؛ بخلاف ما إذا قُتِلَ عبد المأذون له، فإن السيد يُقسم دون المأذون له، لأنه لا حقَّ له فيه بخلاف المكاتب، وَمَنِ ارْتَدَّ فَالأفْضَلُ تَأْخِيْرُ أَقسَامِهِ لِيُسْلِمَ، لأنه لا يتورع في حال ردته عن الأيمان الكاذبة، فَإِنْ أقْسَمَ فِي الرِّدَّةِ صَحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، لأن يمين الكافر صحيحة، والقسامة نوع اكتساب للمال فلا تمتع منه الردة كالاحتطاب والاصطياد ونحوهما، هذا هو الظاهر المشهور كما قاله الرافعى، وقال المزني: لا تصح القسامة ولا يثبت شيء، وحكاه غيره قولًا، ثم قيل أن تصحيحهما مبني على أقوال الملك، فإن قلنا بالبقاء فيصح، أو بالزوال فلا، أو بالتوقف فنعم في الأصح، وهذه طريقة مرجوحة، والأظهر عند الأكثرين إطلاق القول بالصحة وتنزيل الدية منزلة ما يكتسب بعد الردة من احتطاب ونحوه، وَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ لَا قَسَامَةَ فِيْهِ، أي وإن كان هناك لوثٌ إذ (•) تحليف بيت المال غير ممكن؛ لكن ينصب القاضي مَن يدَّعي عليه ويحلِّفُه.
فَصْلٌ: إِنَّمَا يَثْبُتُ مُوجِبُ الْقِصَاصِ بِإِقْرَارٍ أوْ عَدْلَيْنِ، لما سيأتي في بابه، قُلْتُ: ويثبت أيضًا بنكول المدَّعى عليه وبيمين المدَّعِي، وَالْمَالِ بِذَلِكَ أوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ وَيَمِيْنٍ، لما سيأتي في بابه، وقوله (وَالْمَالِ) بالجرِّ عطفًا على القصاص، وَلَوْ عَفَى عَنِ الْقِصَاصِ لِيَقْبَلَ لِلْمَالِ رَجُلٌ وَامْرَأتَانِ لَمْ يُقْبَل فِي الأصَحِّ، مراده إذا عفى مستحقُّ القصاص عن القصاص ليدعي المال ويقبل منه في إثباته رجل وامرأتان لم يقبل منه ذلك في الأصح، لأنها في نفسها موجبة للقصاص لو ثبت، والثاني: يقبل منه، لأنه لا قصاص والقصد المال.
وَلَوْ شَهِدَ هُوَ وَهُمَا، أي رجل وامرأتان، بِهَاشِمَةٍ قَبْلَهَا إِيْضَاحٌ لَمْ يَجِبْ أَرْشُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، كذا نص عليه، ونص فيما لو رمى سهمًا إلى زيد فمرق منه إلى غيره أنه يثبت الخطأ الوارد على الثاني برجل وامرأتين وبشاهد ويمين، وفيهما طريقان: أحدهما: قولان، أحدهما: ثبوت الهشم والجناية على الثاني برجل وامرأتين وبشاهد
(•) في النسخة (1): لأنَّ؛ بدل إذ.
ويمين؛ لأنه لا قصاص فيهما. والثاني: المنع؛ لاشتمال الجناية على ما يوجب القصاص وهى في الموضحة في الصورة الأُولى، وقتل الأول في الثانية. والقصاص لا يثبتُ برجل وامرأتين؛ وأصحهما: تقريرُ النَّصَّيْنِ والفرق أن الهشم المشتمل على الإيضاح جناية واحدة فإذا اشتملت الجناية على ما يوجب القصاص أُحتيط لها، ولم يثبت إلا بحجة كاملة. وفي صورة مروق السهم حصل جنايتان لا تتعلق (•) إحداهما بالأُخرى، وَلْيُصَرِّحِ الشَّاهِدُ بِالْمُدَّعَى، فَلَوْ قَالَ: ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ، لَمْ يَثْبُت حَتَّى يَقُولَ: فَمَاتَ مِنْهُ أَوْ فَقَتَلَهُ، لاحتمال أن يكون مات بسبب آخر لا بجراحته، وَلَوْ قَالَ: ضَرَبَ رَأْسَهُ فَأَدْمَاهُ، أَوْ فَأَسَالَ دَمَهُ، ثَبَتتْ دَامِيَةً، لأنه تصريح بمقصودها، ولو قال: فسال دمه؛ لم يثبت؛ لاحتمال حصول السيلان بغيره.
وَيُشْتَرَطُ لِمُوضِحَةٍ: ضَرَبَهُ فَأَوْضَحَ عَظْمَ رَأْسَهِ، أي ولا يكفي إطلاق الموضحة؛ لأنها من الإيضاح وليست مخصوصة بإيضاح العظم، وَقِيْلَ: يَكْفِي فَأَوْضَحَ رَأْسَهُ، لفهم المقصود بذلك، وَيَجِبُ بَيَانُ مَحَلِّهَا وَقَدْرِهَا، يعني الموضحة، لِيُمْكِنَ الْقِصَاصُ.
فَصْلٌ: وَيَثْبُتُ الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ بإقْرَارٍ بِهِ لَا بِبَيِّنَةٍ، لأن الشَّاهِدَ لا يعلمُ قَصْدَ السَّاحِرِ ولا يشاهدُ تأثيرَ السِّحر إلا أن يقول الساحر: سحرتُه بنوع كذا، فيشهد عدلان أن هذا النوع يقتل غالبًا أو نادرًا فيثبت ما يشهدان به ويتصور معرفة العدلين بذلك فيما إذا كانا ساحرين وقد تابا، أو فَرَّعْنَا على القول بجواز تعلم السحر، والأصح خلافه، وأيضًا الولي إذا ادعى أنه قُتل مورثه بسحره فأنكر ونكل عن اليمين فإن الظاهر أن اليمين ترد على المدعي، فإن قلنا يمين النكول كالبينة فله أن يحلف اعتمادًا على قرينة نكوله أو غيرها، فقد ثبت القتل به لا بالإقرار وهذا غريب إن ثبت الشيء بما هو بمنزلة البينة، وإن لم يثبت بها لتعذر علمها به.
وَلَوْ شَهِدَ لِمُوَرِّثِهِ، أي وكان غير أصل وفرع، بِجُرْحٍ قَبْلَ الانْدِمَالِ لَمْ تُقْبَلْ،
(•) في النسخة (1): لا تبطل.
لأنه لو مات كان الأرش له فكأنه شهد لنفسه، وَبَعْدَهُ يُقْبَلُ، لانتفاء التهمة حينئذ، وَكَذَا بِمَالٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ في الأصَحِّ، أي شهد بمالِ لمورثه في مرض الموت، ووجه عدم القبول التهمة، ووجه مقابله: أن شهادته لا تَجِرُّ لنفسه نفعًا ولا تدفع عنه ضررًا، لأن المال إنما يثبت للمريض ثم يرثه، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ يَحْمِلُونَهُ، أي وهو الخطأ وشبه العمد؛ لأنهم يدفعون عن أنفسهم ضرر التحمل، وتقبل شهادتهم على فسق ببينة العمد وبينة الإقرار بالخطأ، لأن الدية لا تلزمهم فلا تهمة.
وَلَوْ شَهِدَ اثْنَان عَلَى اثْنَيْنِ بقَتْلِهِ فَشَهِدَا عَلَى الأوَّلَيْنِ بِقَتْلِهِ، أي في ذلك المجلس، فَإِنْ صَدَّقَ الْوَلِيُّ الَأوَّلَيْنِ حُكِمَ بِهِمَا، لسلامة شهادتهما عن التهمة وتسقط شهادة الآخرين، لأنهما صارا عَدُوَّيْنِ للأوَّلين؛ لكون الأولين شهدا عليهما بالقتل، ولأنهما يدفعان عن أنفسهما القتل، أَوِ الآخَرَيْنِ أوِ الْجَمِيْعَ أوْ كَذبَ الْجَمِيْعَ بَطَلَتَا، ووجهه في الثالثة ظاهر، وفي الثانية: أنه كَذَّبَ كلًّا منهما بتصديق الأخرى، لأن من شهد بأن القاتل الآخران اقتضت شهادتهما أن لا قاتل غيرهما، وكذلك بالعكس، وفي الأُولى: أنه بتكذيب الأولين سقطت شهادتهما، وشهادة الآخرين مردودة وإن وقعت حسبة، لأنهما صارا عدوي الأولين ومتهمين، إذا علمت ذلك فقدِ اعْتُرِضَ على تصوير المسألة: بأن الشهادة على القتل لا تسمع إلّا بعد تقديم الدعوى، ولابد في الدعوى من تعيين القاتل فكيف يسأل المدعي بعد شهادة الفريقين، وأجيب عنه بوجوه؛ أصحُّها: أن صورتها بأن يدعي القتل على اثنين ويشهد بذلك شاهدان فيبادر المشهود عليهما ويشهدان على الشاهدين بأنهما القاتلان وذلك يورث ريبة للحاكم فيراجع الولي ويسأله احتياطًا.
وَلَوْ أقَرَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِعَفْوِ بَعْضٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ، لأنه لا يتبعض، وَلَوِ اخْتَلَفَ شَاهِدَانِ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ آلَةٍ أو هَيئَةٍ لَغَتْ، للتناقض، وَقِيْلَ: لَوْثٌ، للاتفاق على أصل القتل، والاختلاف في الصفة ربما يكون غلطًا أو نسيانًا، وقوله (وَقِيْلَ: لَوْثٌ) صوابه: وفي قولٍ كما صرح به الرافعي.