المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لا تسألوا عن أشياء - علم التفسير كيف نشأ وتطور حتى انتهى إلى عصرنا الحاضر

[عبد المنعم النمر]

فهرس الكتاب

- ‌[بين يدى الكتاب]

- ‌تمهيد:

- ‌الإسلام والعلوم

- ‌نهضة المسلمين العلمية

- ‌علم التفسير

- ‌استطراد لا بدّ منه:

- ‌هل ترك الرسول تفسيرا كاملا للقرآن

- ‌ابن عباس وما روى عنه

- ‌[ابن عباس والاسرائيليات]

- ‌[يعيب على الأخذ عنهم]

- ‌حديث آخر

- ‌[احتلال اسرائيلى]

- ‌[ليس تفسيره]

- ‌الصحابة وفهمهم للقرآن اعتبارات لا بدّ من مراعاتها

- ‌ولكن أى فهم كان

- ‌بناء العقيدة أولا:

- ‌المنهج الفكرى فى الحياة الجديدة وصلته بفهم القرآن

- ‌لا تسألوا عن أشياء

- ‌فى قلوبهم مرض

- ‌[مثل آخر]

- ‌فى حدود ثقافة الصحابة فهموا القرآن

- ‌المستوى الثقافى

- ‌بعثت إلى أمّة أمّيّة:

- ‌فراغ سدوه بالاسرائيليات:

- ‌الآيات الكونية:

- ‌سؤال عن الأهلة:

- ‌والنتيجة:

- ‌التفسير بعد عصر الرسول

- ‌عصر الصحابة

- ‌ثم بدأت الظروف تتغير:

- ‌قاعدة تحتاج إلى مناقشة:

- ‌يبقى شىء آخر يحتاج لمناقشة

- ‌تفرق الصحابة فى البلاد ومدارس التفسير

- ‌عصر التدوين

- ‌[أصل هذا التقسيم]

- ‌كتب التفسير

- ‌[التفسير بالمأثور]

- ‌[التفسير بالرأى]

- ‌النظرة إلى تفاسير المعتزلة:

- ‌تفاسير الألف الثانى من الهجرة

- ‌ملاحظة عامة:

- ‌[كتب تفسير للفرق الاسلامية]

- ‌ابن جرير الطبرى وتفسيره

- ‌مقدمات سبقته:

- ‌موقف الطبرى وموقفنا من الروايات:

- ‌واجبنا الآن هو التجريد:

- ‌دفاع أو اعتذار:

- ‌ما المراد بالشجرة:

- ‌خطته فى المبهمات:

- ‌شىء لا بدّ من التنبيه عليه:

- ‌الرأى المذموم:

- ‌الإمام فخر الدين الرازى وتفسيره

- ‌العصر الذى عاش فيه وألف كتابه

- ‌رأى علماء عصره وغيرهم فيه ورأيه فيهم:

- ‌هل أتم تفسيره

- ‌هل نقول إنه تفسير علمى:

- ‌النهضة الحديثة للتفسير

- ‌دور السيد رشيد رضا فى هذا التفسير

- ‌[مقدمة الإمام لتفسيره]

- ‌[فى الجزائر]

- ‌[فى الهند]

- ‌[أبو الكلام أزاد]

- ‌«اتجاهه لكتابة تفسير»

- ‌[كيف كان منهجه]

- ‌[فيما بعد الإمام]

- ‌الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر

- ‌[طريقة تدريس التفسير]

- ‌[كتابى للتفسير]

- ‌[تفسير الشيخ طنطاوى جوهرى والتفسيرات العلمية]

- ‌الفخر الرازى والشيخ طنطاوى

- ‌القرآن والعلم

- ‌«القرآن محاولة لفهم عصرى»

- ‌التوراة والإنجيل والقرآن والعلم

- ‌علوم القرآن أو أصول التفسير

- ‌[تجريد التفاسير القديمة]

- ‌وكان رأيى

- ‌ترجمة القرآن أو تفسيره باللغات غير العربية

- ‌فى الهند

- ‌فى أوربا وأمريكا

- ‌مشروعى فى الأوقاف

الفصل: ‌لا تسألوا عن أشياء

‌لا تسألوا عن أشياء

إن المعروف فى تاريخ الأديان والمذاهب حتى الوضعية منها أن الدور الأول فيها يكون الجهد فيه منصرفا الى القواعد العامة، والى إشعال الروح، والى التطبيق العملى

لتعاليمها .. أما التفريعات والتعليلات، أو التماس فلسفة لهذه القواعد وهذه التعاليم، فذلك يكون بعد إرساء القواعد، وتكميل البناء، وغالبا ما يصاحب ذلك شىء من خمود الروح ولو نسيبا عما كانت عليه فى الدور الأول .. دور الحماس وفوران العاطفة ..

لقد وجدنا القرآن الكريم يتعرض لأناس يكثرون من سؤال الرسول ووجدوها فرصة يشبعون فيها نهمهم فى الأسئلة عما فى نفوسهم حتى أدى شغفهم بكثرة الأسئلة إلى أن يسأل واحد منهم رسول الله: اين أبى؟ فيضطر الرسول إلى أن يخبره أنه فى النار، وكان قد مات على الكفر .. ويسأل آخر: من أبى؟ وآخر أين ناقتى؟ وآخر يسأله عن الحج أواجب مرة فى العمر أم فى كل سنة .. إلى غير ذلك، فأنزل الله آية تحسم هذه الحالة، وتحد منها، لأنها لا جدوى منها ولا تتناسب مع الرسول ووقته ومهمته، ولا مع الصحابة وما ينبغى أن ينصرفوا إليه فى حياتهم، فقال

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ 101 قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ 102 (1)

وفى ألفاظ الآيتين وترتيبها المنطقى من قوة الردع والزجر ما تنخلع منها القلوب وتخرس الألسنة «إن تبد لكم تسؤكم. وإن تسألوا عنها حين ينزل

(1) المائدة/ 101، 102.

ص: 54

القرآن تبد لكم. ثم «قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين» .

ردع قوى عن الاسترسال فى توجيه أسئلة للرسول لا داعى لها فوق أنها تشغله، وما كان هذا الردع القوى إلا لأن «الناس» كانوا كما جاء فى حديث أنس رضى الله عنه «سألوا نبى الله صلى الله عليه وسلم حتى أضنوه بالمسألة. وفى حديث آخر يوضح المعنى «فلما أكثروا عليه المسألة غضب». وكان من أثر غضبه عليه الصلاة والسلام أن قال لهم: ذرونى ما تركتكم.

وأجدنى فى حاجة لأن أقف قليلا لأوضح: لم غضب الرسول؟ حتى لا أترك فى ذهن القارئ علامة استفهام كبيرة لا جواب عنها ..

سبب الغضب يمكن أن يبينه هذا الحديث «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال- إن الله قد فرض عليكم الحج. فقال رجل- أفى كل عام؟ فسكت عنه. حتى أعاده ثلاثا. فقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت، ما قمتم بها أو لما استطعتم .. ذرونى ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه.» (1)

فمثل هذا السؤال من الرجل «أفى كل عام؟» لا محل له .. إذ لو كان فى كل عام لبينه الرسول دون حاجة إلى سؤال أحد. ثم كان على الرجل أن يكون فطنا حين لم يرد عليه الرسول، فيسكت هو الآخر، ولا يتمادى فى السؤال، كأنه هو الحريص وحده على البيان .. ومثل هذا الموقف كثيرا ما يدخل صاحبه فى باب التنطع الذى قال عنه الرسول «هلك المتنطعون» ، والاسلام ذوق، وجمال، وإحساس، وجو، لا بد أن يشيع فيه هذا كله.

والذين ما رسوا مهنة الدعوة أو التدريس، هم أكثر الناس إدراكا وفهما لمثل هذا الموقف، فكثيرا ما يجابه المدرس بأسئلة، تنطلق من بعض الطلاب

(1) سنن النسائي ورواه مسلم وغيره بألفاظ مختلفة راجع تفسير الآية فى ابن كثير وفى المنار وغيرهما، وكيف كان غضب الرسول من كثرة الأسئلة فى موضوعات متعددة لا أهمية لها أو تؤدى للتشديد عليهم.

ص: 55

كالرشاش فى (الفاضى والمليان) وقبل الشرح أحيانا، وخارج موضوع المدرس أحيانا، ولو استرسل المدرس مع السائل لتشتت الموضوع، وضاع الوقت، وتبرم الباقون، ولو سكت الطالب (المتسائل) لجاءه الشرح الذى ينبغى له أن يفهمه، ولا يزيد عليه، وخرج هو وزملاؤه بالفائدة المرجوة ..

ثم ماذا ربح السائل: أين أبى؟ «حين قال له: فى النار .. ومعروف أن الذين ماتوا على الكفر مآلهم النار كما قال عمر ملطفا حدة الموقف، ثم هذا الذى سأل: من أبى؟ أكان يضمن- كما قالت له أمه توبخه- أن أمه علقت فيه من غير أبيه فكان يفضحها أمام الجميع ويفضح نفسه؟ جو اندفع إليه الصحابة، ولم يكن لائقا أبدا بهم ولا بالرسول ومهماته ..

فكان لا بد للرسول أن يغضب من هذه الحالة التى تضيع الوقت وتبعد المسلمين عن الطابع الجدى الوقور، الذى يجب أن يكون طابع مجالس الرسول، ومجالس العلم بعامة، وطابع الجد الذى يعيشون فيه،

ومن هذا يتضح جليا سبب الغضب، ويبعد عن الأذهان ما قد يناوشها- من أن الرسول لم يكن يجب أن يسأل عن بيان أمر شرعى، يتصل بتصحيح عقيدة المؤمن وعمله، لأن ذلك يتنافى مع طبيعة الرسالة ومهمة الرسول ..

ولعل الأمر يزداد وضوحا إذا ذكرت هنا آية أخرى فى هذا المقام- ولو أن الاستطراد سيطول- لكن هذه النقطة لا بدّ أن أوضحها تماما .. ولا أترك لها مخلفات فى الأذهان .. هذه الآية من سورة المجادلة تقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 12 (1)

كيف هذا؟

هل مناجاة الرسول ومحادثته تقتضى أن يتصدق المتحدث قبل أن يقدم على مناجاته؟

(1) سورة المجادلة الآية 12.

ص: 56

أليس الرسول مبينا، ومن مهمته أن يتحدث للناس ويستمع إليهم؟

بلى. من مهمته ذلك. ولكن حسن خلقه وسيره على طبيعته السهلة أطمع كل من حوله فى أن يتحدث معه، ويناجيه، وقد ينفرد به، وقد يشغله، وقد يقتحم عليه أوقات راحته، وقد يتحدث معه فى توافه الأمور، فكان تواضعه وحسن خلقه سببا فى إيجاد شىء من عدم الدقة فى فهم مقام الرسول، وما ينبغى أن يكون عليه الحديث معه .. ولما يجب من توفير وقته للمهم من الأمور، أو كما نقول سببا فى «رفع الكلفة» فى الحديث معه، فكان لا بد من وقفة، أو من هزة تنبه الجميع إلى ما يجب أن يكون عليه الحديث مع الرسول، فليس هو مثلهم. إنه رسول .. وإذا كان قد رباه ربه على التواضع، فليس معنى ذلك أن تزيلوا كل حجاب، أو ترفعوا الكلفة بينكم وبينه وتشغلوا كل وقته بأسئلتكم ومحادثاتكم.

إن مقامه عظيم، ومقام المحادثة معه عظيم، يقتضى أن يقدم من يريد الحديث معه صدقة. نعم. لا حجاب، ولا حراس، ولا استئذان ولكن صدقة من مال، أفهمتم مقام الرسول؟ أفهمتم خطورة التحدث معه؟ لا بد أن تتأدبوا. لا بد أن تحتاطوا.

وعرفوا قدر المحادثة مع الرسول ومناجاته وقيمة وقته، وأحجموا .. حتى أقرب الناس إليه وهو على رضى الله عنه، لما أراد أن يحدثه، قدم صدقة قبل أن يتحدث معه، ثم تحدث .. وكان المهم أن يعوا هذا الدرس، ويعلموا أنهم يتحدثون مع رسول الله، ولا بد أن يكون الحديث جديا مناسبا لمقامه.

وقد فهموا هذا ووعوه، ثم أدركتهم رحمة الله سريعا وأعفتهم من هذه الصدقة، لكن بعد أن فهموا وتعلموا، فقال الله لهم أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ 13 (1)

ومنه حفظكم لمقام الرسالة والرسول وتأدبكم فى الحديث معه.

(1) المجادلة/ 13.

ص: 57

وفى معنى هذا أيضا يقول الله «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا «من أواخر سورة النور، وقوله فى أوائل سورة الحجرات «يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، إن الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم، إن الذين ينادونك من وراء الحجرات (كما ينادون أمثالهم) أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم» .

أدب مع النبوة يجب أن تتأدبوا به. فلما غفلوا عنه غضب الرسول وغضب الله له. حتى لا يكون هؤلاء (المتنطعون) سببا فى الإثقال على غيرهم .. كما قال الله «إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ» . وكما قال الرسول:- «لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم» .

ولقد كان هذا الدرس نافعا ومفيدا، بل ذهب إلى نفوس الصحابة إلى أكثر من مداه .. وهذا هو شاهدنا وموضع هدفنا من الآية وأثرها ..

فلقد تخوف الصحابة من السؤال، أى سؤال، وتحرجوا منه، مما يمكن أن نعده رد فعل لما كانوا عليه أولا، قبل أن يغضب الرسول وتنزل الآية .. فقد أداهم الخوف والخشية إلى أن يحجموا عن الأسئلة، خوفا من أن يبدو منهم ما قد يكون محل مؤاخذة فآثروا العافية .. والرواية الآتية تبين لنا إلى حد آثروا العافية وتخوفوا الأسئلة ..

روى مسلم فى صحيحه عن أنس رضى الله عنه قال «كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شىء، وكان يعجبنا أن يجئ الرجل الغافل من أهل البادية (أى الذى لم يبلغه أمر النهى كما بلغنا) فيسأله ونحن نسمع (1)، وأخرج الإمام أحمد فى مسنده عن أبى أمامة قال:- «لما نزلت، يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء» الآية، كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم فأتينا أعرابيا،

(1) عن تفسير المنار ح 7 ص 148 نقلا عن فتح البارى.

ص: 58

فرشوناه برداء وقلنا سل النبى صلى الله عليه وسلم والأعرابى ليس بملتزم بما يلتزمه المقيمون مع الرسول .. والرشوة هنا ليست هى الرشوة المحرّمة طبعا، بل هى تحريض على خير يريدونه ولا يستطيعونه.

وروى مسلم أيضا عن النواسى بن سمعان قال: «أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعنى من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبى صلى الله عليه وسلم» .

فلم يتخذ النواسى صفة المقيم بالمدينة حتى لا ينطبق عليه ما ينطبق على المقيمين مع الرسول من تحشم واحتياط فى الأسئلة، وظل سنة ضيفا، دون أن يأخذ حكم الإقامة،

لتكون له الحرية فى سؤال الرسول عما يريد. لأن الحرج كان خاصا بالمقيمين لا بالوافدين؟؟؟ .. لأنهم يتزودون بالعلم ويرحلون، وتسامح معهم أكثر مما يتسامح مع المقيمين.

وروى أبو يعلى عن البراء «إن كان ليأتى على السنة، أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب، أى قدومهم، ليسألوا فيسمعوا هم الأجوبة عن أسئلة الأعراب فيستفيدوا منها ..

إلى هذا الحد بلغ رد فعل هذا الدرس الذى فهموه من الآية: إحجام عن السؤال مع رغبتهم الشديدة فيه، حتى يحرضوا الأعرابى، ليسأل بدلهم، ويغروه بشيء فى مقابل السؤال، واستماعهم معه للجواب .. مبالغة فى الأدب، مع حرص شديد على الاستفادة ..

ومع أن الآية- كما يفهم من مدلولها- لم تنههم عن السؤال أيا كان موضوعه، بل نهتهم عن أسئلة من نوع خاص، بينته لهم «إن تبد لكم تسؤكم» كما أن الحالة التى نزلت الآية تعالجها كانت مفهومة عندهم، أقول ومع ذلك أحدثت الآية فى نفوسهم رد فعل زائد عن الحد المطلوب فيها.

ولو أنهم- مع هذا المعروف عنهم- لم يغفلوا أول الأمر عما كان يجب عليهم من مراعاة مقام الرسول، والحفاظ على وقته الثمين، الذى يجب صرفه كله للأمور المهمة، لما حصل هذا كله .. ولكنه درس لهم، ولكل من أتى أو يأتى من بعدهم، حتى لا تشغلهم التوافه عن العظائم، ولا يتشددوا فيشدد الله

ص: 59

عليهم، وحتى يوفروا للعلماء ولمن يدبرون لهم الأمور أوقاتهم، وينزلوا الناس منازلهم.

ونعود بعد هذا لنتساءل- هل معنى هذا أنه لم يعد بعد نزول الآية استفسار من الصحابة للرسول عن أمور تهمهم فى دينهم؟

. لا .. إذ لا يمكن أن تزول ظاهرة السؤال والجواب .. ما دام الرسول حيا .. ينزل عليه الوحى بتشريعات جديدة، تحتاج أحيانا- ولدى بعض الناس على الأقل- إلى استفسار وتوضيح ..

فما معنى تهيب هؤلاء، حتى كانوا يستعينون بالوافدين عليهم، أو ينتظرون قدومهم، ليسمعوا أسئلتهم وجواب الرسول عنها؟

الذى أفهمه من جملة النصوص ومن طبيعة الرسالة معا أنه حدث تهيب عام من الأسئلة بعد نزول الآية، لم يمتد إلى الضرورى مما تمس الحاجة إلى السؤال عنه .. ولكنه وضع حدا للسؤال فيما لا تمس الحاجة إليه، ولا تتوقف صحة العقيدة والعمل عليه .. بالإضافة إلى أن بعض الناس رأى من باب الأحوط أن يأخذ نفسه بعدم السؤال عن شىء، خوفا من الوقوع فى الحرج، مكتفيا بما يسمعه من سؤال الوافدين على الرسول، وإجابته لهم، أو ببيان صحابى له، يكون أكثر إدراكا وفهما منه ..

ومما لا شك فيه أن هذا الجو الذى أحدثه نزول هذه الآية كان له تأثيره فيما يتصل الاستفسار عن بعض ما فى القرآن من ألفاظ وموضوعات ذكرنا شيئا منها وتساءلنا- كيف تمر فى عهد الرسول، دون أن يسأل أحد من الصحابة عنها ودون أن يصلنا شىء موثوق به عن معناها وتفسيرها، وكان من الممكن- لو وجد- أن يقطع كل خلاف بين العلماء حول تفسيرها ..

ص: 60