الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا قال علماء البلاغة فى هذا الجواب إنه من الأسلوب الحكيم .. أى الجواب بغير ما سأل عنه السائل، لصرفه عن موضع سؤاله، ايحاء له بأن كلا من سؤاله والجواب الحقيقى عنه غير مناسب، بل المناسب أن يسأل عما كان الجواب فعلا عنه .. وهو فائدة تغير القمر بهذه الأشكال التى نراها .. حتى قال بعض المفسرين فهما لقوله تعالى عقب ذلك مباشرة
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها (1) قالوا: إن ذلك يشبه أن يكون تقريعا لاتجاههم إلى ذلك السؤال، الذى لا يحتملون الاجابة الحقيقة عنه، وكان الأولى أن يقتصدوا فى الأسئلة، ولا يتعرضوا لما هو فوق طاقتهم العلمية .. فمثل هذا السؤال كمن أتى البيوت من ظهورها وقفز من نوافذها وسار إلى الشيء من غير طريقه المناسب له. وليس هذا برا، ولكن البر أو الصواب هو اتقاء مثل هذه الأساليب، فى الأسئلة لعدم مناسبتها لكم ..
هكذا علل بعض المفسرين سر اتصال أجزاء الآية بعضها ببعض، وهو فهم فى الآية على كل حال، يقوم على حالة واقعة، هى عدم معرفتهم بمسائل العلم التى تؤهلهم لادراك الجواب الحقيقى على سؤالهم ..
وهذا مثال من القرآن نفسه يوضح لنا ما نقول عن واقع الصحابة العلمى حين نزول القرآن ..
والنتيجة:
والذى نريد أن نصل إليه من هذا كله:
أن الصحابة لم يكونوا مؤهلين بمعرفة عن تاريخ الرسل وأممهم فوق ما جاء فى القرآن. فكل زيادة فى هذه الناحية، إن ثبت ورودها عن الرسول قبلناها، وإلا أبعدناها
عن تفسير القرآن، اللهم إلا إذا وجدنا حفريات ونقوشا تضيف لنا جديدا عمن تحدث عنهم القرآن ..
كما أن الصحابة لم يكونوا مؤهلين بمعرفة علمية عميقة أو شبه عميقة عن
(1) البقرة/ 189.
الإنسان، ومظاهر الكون أمامهم، ولهذا لم يخوضوا فيها بتفصيل، ولم يتحدثوا عنها، وإنما كانوا يكتفون بالعبرة، يأخذونها من منطوق الآية ومن النظرة البسيطة إلى المظاهر الكونية أمامهم دون تعمق، فإذا جاء عنهم شىء فى ذلك فقد نقلوه من خارج البيئة الاسلامية، اسرائيلية أو غيرها ..
وقد جاء القرآن الكريم يخاطب العرب فى حالتهم تلك، بالأسلوب المناسب لهذه الحالة، فيأخذون منه قدرا يحرك فى نفوسهم الاتعاظ بما يحدثهم عنه، ويخاطب من هم أعلى منهم علما، وأدق نظرا، على درجاتهم المتفاوتة فى العلم ودقة النظر، فيكتسبون العبرة الظاهرة التى استفادها العرب الأميون، ولكنهم يزيدون عليها تأملات جديدة فى الآية على ضوء ما وصلوا إليه من علوم يقينية يجدون فى الآية إشارة لها وتحتملها ألفاظها ..
ومن هنا أرى أن أولى الناس بتفسير الآيات الكونية إنما هم أهل العلم فى الطب والفلك والجيولوجيا وما يشبه ذلك من علوم، على ألا يتحدثوا عن آية إلا باليقينيات من العلم، لا بالفروض والنظريات. أما أرباب النحو والبلاغة فقد فسروها كما تدل عليه ألفاظها مع ما عندهم من علم عن الكون، استفادوه بالنظرة السطحية التى تشبه نظرة الصحابة، مع تفتح جاءهم على مرور الزمن حسب الجو العلمى الذى كانوا يعيشون فيه ..
وأعتقد أننا بهذا الذى أوردناه قد ألقينا ضوءا كاشفا عن حالة تفسير القرآن الكريم فى عصر الرسول، وعن المحصول الذى يمكن أن نخرج به من هذا، وعن العوامل المتعددة، التى جعلته محصولا يسيرا.
ومن يدرى .. لعل فى ذلك جوانب من الخير كثيرة، أهمها: ترك الباب مفتوحا للعقول وعلى مر الزمن لتجتهد فى فهم القرآن على ضوء خبرتها وعلمها، وتبرز لنا من أسرار الكون المكتشفة حديثا، ما أشارت الآيات إليه، ولم يدركه السابقون .. وهو خير يزيد المؤمنين إيمانا ويقينا ..
ومن أراد أن يرجع إلى ما تركه الرسول صلى الله عليه من تفسير قليل.
فليرجع إلى أمهات كتب الحديث. باب التفسير ليقف على هذه الحصيلة القليلة، بجانب ما غصت به كتب التفسير بأجزائها ومجلداتها.