الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك بخلاف ما عداه مما لم يرد فيه بيان نبوى، ولا تدعو الحاجة للخوض فيه فإنهم تورعوا عن الكلام فيه محافظة على النهج الذى ساروا عليه أيام الرسول .. وقد روى أن أبا بكر سئل عن معنى آية من القرآن فقال: أى سماء تظلنى وأرض تقلنى، إذا قلت فى القرآن برأيى، أو بما لا أعلم. وقد سبق أن ذكرنا أن عمر رضى الله عنه ضرب واحدا من المسلمين ضربا موجعا حتى كاد يؤدي بحياته وهو عبد الله بن صبيغ- لأنه كان يكثر من السؤال عن معنى- المرسلات والعاصفات والصافات، ولم يتركه حتى تاب ورجع عن هذا المسلك.
ومع هذا روى أن أبا بكر أجاب لما سئل عن معنى (الكلالة) الواردة فى موضعين من سورة النساء، وأن عمر أيضا سأل عن معانى بعض الكلمات التى كانت خافية عليه كما سبق مثل (تخوف) فى قوله تعالى:«أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» فى سورة النحل.
وهذا يدلنا على أن الكلام السابق لأبى بكر (أى سماء تظلنى) الخ .. كان خاصا بناحية فى القرآن، وهى التى تتصل بالمتشابه أو بالمطوى من حوادث القصص، لأنه تحرج-
جريا على النهج الرسولى- من الكلام فى هذه الناحية.
ولم يتحرج من تفسير معنى الكلالة الواردة فى آيتين من آيات المواريث، لأن ذلك يتصل ببيان ألفاظ أحكام عرفوها، ولا بد لهم أن يبينوها .. أما تحرجه فيما تحرج عن الكلام فيه، فلأنه يحتاج إلى نقل صحيح، ولم يكن هذا النقل متوفرا لديه، فعدّ الكلام فيه حينئذ من أبواب الكلام بالرأى .. وهو لا يريد أن بخوض هذا المجال، تورعا منه، وتشبثا بالمنقول.
وكان سلوك أبى بكر هو السمت الغالب على الصحابة فى عهده وعهد عمر تقريبا .. وامتد بعدهما ولكن عند الورعين الذين ألزموا أنفسهم حسن الاتباع
ثم بدأت الظروف تتغير:
فلو كان الاسلام ظل قاصرا على البيئة التى تركه الرسول فيها، لكان من الممكن أن يظل النهج الرسولى سائدا مسيطرا على الناس مدة طويلة
ولكن ذلك لم يكن، فقد اتسعت رقعة الاسلام، ودخله أناس يحملون
ثقافات وأفكارا، ونفسيات مختلفة، واختلطوا بالصحابة فى المدينة، أو ذهب الصحابة إلى بلادهم، ولم يكونوا جميعا عربا، يفهمون العربية والقرآن بسليقتهم كالعرب، فاحتاجوا إلى بيان معنى ما يسمعون أو يقرءون، ولم يكونوا ملتزمين بالنهج الذى سار عليه الصحابة مع رسول الله ازاء القرآن وكان من الضرورى الاجابة عما يسألون أو يثيرون من شبهات، أو يطلبون من بيانات ..
وكان من هؤلاء الداخلين فى الاسلام جماعة لا زال ماضيهم يشدهم إليه، فلم يكونوا مخلصين للدين الجديد، فأخذوا يثيرون الشكوك، ويزرعون الألغام فى طريق المسلمين المخلصين، حول القرآن والتعاليم الاسلامية بعامة ..
وكان بجوار هؤلاء نبت جديد فى البلاد العربية، أو بتعبير العصر، جيل جديد، لا شك أنهم كانوا أكثر تطلعا من الجيل السابق عليهم، وأكثر جرأة وتطلبا لفهم ما يغلق عليهم فهمه من القرآن الكريم.
كما أن الأحداث العنيفة التى أثارها النزاع حول الحكم فى وقت مبكر بعد وفاة الرسول، قد شغلت المسلمين بها، وأضعفت فيهم المثالية التى كانت سائدة من قبل، وأوجدت عند كل فريق رغبة فى التماس الحجة له من القرآن
وكان الموقف يقتضى الاقتصار على فهم الآيات بمقتضى أسلوبها العربى المفهوم لدى الصحابة أو تابعيهم من العرب، مع الاستعانة فى بعض الأحيان بما يكون قد روى عن الرسول .. ثم التوقف عن الخوض فيما لا يمكن الخوض فيه .. كآية متشابهة. أو حادثة مطوية فى قصة. أو ظاهرة كونية. كالرعد والبرق مثلا ..
وهذا بالفعل ما تمسك به الورعون من الصحابة وتابعيهم الذين التزموا النهج الأول. فكانوا يقلون من تفسير القرآن، ويتحرجون من الجرأة على الكلام فيه كأبى بكر، ويفوضون ما لم يعلموا رواية فيه عن الرسول، أو لم يكن ظاهرا واضحا عندهم، إلى علم الله .. معتبرين السؤال عنه بدعة، يجب على الانسان المؤمن البعد عنها. وهذا ما يبدو واضحا مما نعرفه من قول الامام مالك رضى الله عنه، لمن سأله عن معنى الاستواء، فى قوله:«الرحمن على العرش استوى» فقال الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.
كان هذا الجواب يمثل مسلك المتحفظين الذين يتهيبون ابداء رأيهم الخاص فى تفسير القرآن، ولا سيما الأمور المشتبهة فيه .. ولكن لم يكن من الممكن فرض هذا المسلك على المجتمع الاسلامى كله، مع الظروف التى طرأت عليه، وسبق أن أشرنا إليها، والتى ولدت تيارا جديدا فى هذا المجتمع، يفرض على العلماء فيه، أن يتحدثوا عما يثار من أسئلة، وعما تتطلع إليه النفوس من توضيح ما يشكل فهمه عليهم من القرآن، والرد على بعض الشبه التى يثيرها المسلمون وغيرهم ممن اختلطوا بهم. حتى لا تظل هذه الشبه وهذه التساؤلات قائمة، تفعل فعل عوامل التعرية فى النفوس.
وهنا نجد الكثيرين ينشطون لسد هذه الثغرات، وازالة هذه الشبهات، وارضاء هذه التطلعات ولكنهم يسلكون الطريق الذى يكون أكثر تأثيرا على المجتمع أو الجمهور فيه، وهو طريق الرواية .. عن الرسول أو عن الصحابة ..
فإذا لم يجدوا .. نسبوا إلى الرسول أو الصحابة أقوالا .. وجد أن أكثرها غير صحيح النسبة بعد غربلته.
وكثيرا ما كانت هذه الأقوال مستمدة من الإسرائيليين الذين أسلموا، ولجأ إليهم بعض الصحابة أو التابعين ولا سيما فى قصص الأنبياء والأمم السابقة- باعتبار هؤلاء الإسرائيليين أصحاب ثقافة قديمة، وعندهم كتب تحدثت عن هؤلاء الأنبياء .. ويمكنهم ايضاح بعض ما طواه القرآن من أحداث السابقين.
وكان بعض هؤلاء الإسرائيليين المسلمين يتمتعون بثقة الصحابة والتابعين دينيا كما ذكرنا. وكانوا حين يسألون لا يمسكون عن الإجابة، بل يتحدثون بما يعرفون من قبل عن هذه القصص .. والسائلون يأخذون منهم الجواب ويتحدثون عن قصص القرآن .. والآخرون ينقلون عنهم، وهكذا حتى يصبح كلام هؤلاء الإسرائيليين رواية رواها فلان عن فلان .. وتلتصق بتفسير القرآن، وتصبح جزءا مهما من هذا التفسير ..
وهكذا .. أصبح من المتيسر لدى المتحدثين فى تفسير القرآن أن يجدوا لدى كل آية روايات تفسرها .. مع أن الرسول لم يترك إلا القليل جدا من تفسير القرآن ..
وكان المتبع فى ذلك الوقت الحرص على الرواية، وذكر الأشخاص الذين اضطلعوا بها، تحرجا من التفسير بالرأى الذى لم يكن ينظر إليه نظرة سليمة فى ذلك الوقت، مما اتاح فيما بعد للنقاد البصيرين بالرجال أن يتتبعوا الرواة وينقدوهم، ويرفضوا ما يجدون فيه سببا للرفض ..
كما نجد فى تفسير الطبرى وأمثاله من سرد الروايات ولكن لم يكر عليها بالنقد، فترك القراء فى دوامة، ولا سيما من لم تكن عندهم خبرة بالرجال الذين رووا هذه الروايات، وهم الكثرة الغالبة جدا من القراء .. وهذه التفسيرات- فى رأيى- هى التى وضعت حجر الأساس فى نشر الروايات الإسرائيلية والمدسوسة الموضوعة وترويجها فى الأجيال المتعاقبة .. ولا يشفع لهم أنهم ذكروا سند الروايات. فليس كل قارئ لها عليما بأحوال رواتها .. أو غيورا على القرآن والاسلام، يحرص على تنقيتها من الدخيل فيها .. وقد فتح هؤلاء بابا واسعا لمن أتى بعدهم فى الاعتماد على ما تقول هذه الروايات، دون ذكر السند وكأنه قضية مسلمة ولا سيما فى التفاسير الصغيرة، فرأينا الكثيرين ممن اشتغلوا بالتفسير يتوسعون فى سرد هذه الأقوال الإسرائيلية منها وغير الإسرائيلية. وزاد الطين بلّة أن الأحاديث الموضوعة راجت وكثرت، حتى كادت تطغى على الأصيلة، «فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق» وشارك بعض المسلمين المخلصين مشاركة فعالة فى هذا الوضع- وبحسن النية مع الأسف- ليشدوا الناس إلى القرآن، كالأحاديث التى تذكر مع كل سورة لبيان فضلها وثواب قارئها، ترغيبا فى قراءة القرآن لأن الناس فى ذلك الوقت كانوا قد عنوا بالجدل والعلوم الأخرى- كما يقول وضاعو هذه الروايات- وانصرفوا عن العناية بالقرآن.
ولست أريد أن أشغل القارئ هنا بنقل النصوص الدالة على ذلك كله من الكتب التى عنيت بهذه المسائل لأن هذه القضايا أصبحت معروفة مسلما بها لدى المشتغلين بالتفسير (1)
(1) وأهم الكتب الحديثة التى تناولت هذا الموضوع- فى رأيى- هو كتاب التفسير والمفسرون للشيخ المرحوم الدكتور محمد حسين الذهبى والبحث الذى قدمه لمجمع البحوث عن الإسرائيليات فى-