الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى قلوبهم مرض
ومع ذلك لم تكن هذه الآية هى كل ما فى الموضوع، بل كان هناك غيرها، يشاركها فى تأثيرها.
وأعنى بها قوله تعالى
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ 7 (1)
وقد كان سبب نزول الآية نقاشا دار بين النبى عليه الصلاة والسلام، وبين وقد نصارى نجران، فى شأن عيسى عليه السلام، كانت نتيجته إفحامهم، فلجئوا إلى الجدال والمراء فقالوا: ألست تقول إنه من روح الله وكلمته؟ قال:
بلى، قالوا: هذا حسبنا .. فنزلت الآية تندد بهم لوقوفهم- خدمة لهواهم- عند ما ورد فى القرآن من أنه روح الله وكلمته، غير ناظرين إلى الآيات الأخرى المحكمة التى تبين حقيقة عيسى عليه السلام، مثل قوله:«إن هو إلا عبد أنعمنا عليه» فى سورة الزخرف المكية، وغير ذلك من الآيات التى تبين حقيقة ولادته وبشريته مثل «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ .. » (2).
ونلاحظ أن الآية توجه حملتها على الذين يعمدون إلى الألفاظ المتشابهة ..
مثل هؤلاء .. فيؤولونها حسب هواهم، بقصد إثارة الفتنة .. وابعاد الناس
(1) أوائل سورة عمران.
(2)
سورة مريم الآية 30.
عن الحق .. «فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» على حسب هواهم، مع أن هناك آيات أخرى تحول بينهم وبين اتباع الهوى ..
ولكنهم يتعامون عنها، ويهملونها، انتصارا لرأيهم، وتلبيسا على العوام، وجذبا لهم
…
وفى مقابل ذم هؤلاء الذين يتعامون عن الحقائق، ويثيرون الفتن، ذكر الله طائفة أخرى لا تذهب مذهب الأولين فى إثارة الفتن بالمتشابه بل تؤمن به إيمانها بالمحكم، باعتبار أنهما صادران عن الله سبحانه، وسماهم الراسخين فى العلم، أى الراسخين فى علمهم بالله جل جلاله، وبالتالى فى إيمانهم به. فقال تعقيبا على الأولين وبيانا لموقف الآخرين (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ). ربنا (أى يدعو الراسخون المؤمنون ربهم قائلين) لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، لفرط إيمانهم واعتصامهم بربهم.
وبذلك وضح موقف فريقين من الناس: فريق يعمد للمتشابه ليؤوله تأويلات فاسدة يقصد منها إثارة الفتن، وفريق يؤمن به كما يؤمن بالمحكم من الآيات.، والفريق الأول مذموم.، والفريق الثانى ممدوح.
ويؤكد هذا حديث روته السيدة عائشة رضى الله عنها تقول فيه: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم.
ومع أن الآية والحديث- كما رأيت- يذمان الذين يتبعون المتشابه، ويؤولونه تأويلا يثير الشبه والفتن، ولا يتناولان الذين يسألون عن المتشابه سؤالا بريئا بقصد الفهم، أو الذين يذكرونه، ويردونه إلى المحكم، ويفهمونه على ضوئه، أقول مع هذا أصبح السؤال عن المتشابه أو الحديث عنه مثيرا لعلامة استفهام حول صاحبه، أو واضعا له موضع الريبة فى إيمانه، حتى تتبين حقيقته
…
ولذا كان من الطبيعى أن يتحاشى المخلصون الصادقون هذه الريبة، ويبتعدوا ما أمكن عن الكلام حول المتشابه ويكتفوا بالفهم الإجمالى، رادين كل
ما يسمعونه أو يقرءونه منه، إلى إيمانهم العميق بالله جل جلاله. وتسليمهم المطلق بكل ما ورد فى القرآن، ولو لم يفهموا حقيقة المراد منه، حتى يكونوا ممن مدحهم الله.
فمثلا الآيات التى تتحدث عن مشيئة الله ومشيئة العباد. وعن قضاء الله وأفعال العباد. فيها آيات ترد كل شىء إلى الله «وما تشاءون إلا أن يشاء الله» ..
وآيات تضيف العمل إلى الإنسان «كل امرئ بما كسب رهين» فكيف نوفق بين مشيئة الله، وقضائه وقدره بالنسبة لعباده، وبين محاسبة العبد على ما يفعل؟
هذه القضية التى شغلت الناس قبل الإسلام وبعده، وإلى الآن، وإلى ما شاء الله من أزمان وأجيال ..
وفى غمرة الاختلاف حول هذه القضية نتمنى- حسب تفكيرنا- أن لو أثار الصحابة هذه القضية ليجدوا لهم ولنا حلها من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكنا لم نرث هذا البيان، ولو كان .. لورثناه ..
وبالإضافة إلى هذا نجد توجيها من الرسول فى هذا: «إذا ذكر القدر أو القضاء فأمسكوا» (1) أى ولا تخوضوا فى البحث عنه .. ولذلك كان الخلفاء بعد الرسول يطاردون كل من يثير كلاما حول القدر، بعد اتساع رقعة الإسلام.
وعن صفات الله، وما ورد عنها فى القرآن من الوجه، واليد والعين والسمع والبصر .. الخ- مما يدل على المشابهة، ويفيد فى ظاهره التجسيم، وهو محال، بنص الآية الأخرى «ليس كمثله شىء» فماذا تفيد- إذن- وما المراد بها؟.
كان الكلام فى هذه الناحية والاسترسال فيه مما حظره الرسول، فوق أنه يثير شبها حول صاحبه .. ولذا لم نجد من يسأل عن حقيقة الوجه واليد .. الخ ..
بل آمنوا بها كما وردت مع إيمانهم بأنه ليس كمثله شىء
…
يقول العالم المحقق شاه ولى الله الدهلوى فى كتابه (حجة الله البالغة) ص 134 ج 1 بعد أن تكلم عن هذه الصفات: (والحق فى هذا المقام أن النبى صلى
(1) رواه الطبرانى من حديث ابن مسعود بإسناد حسن.
الله عليه وسلم لم يتكلم فيه بشيء، بل حجر (أى منع) أمته عن التكلم فيه، والبحث عنه، فليس لأحد أن يقدم على ما حجره).
وقد روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب رجلا يقال له (صبيغ)، لأنه كان يسأل عن متشابه القرآن، وما زال به حتى تاب ..
يقول الإمام الشاطبى فى كتابه (الموافقات) الجزء الثانى ص 87 فى فصل عقده لبيان أن الاعتناء بالمعانى المبثوثة فى الخطاب هو المقصود الأعظم:
(ومن المشهور تأديبه لصبيغ حين كان يكثر السؤال عن (المرسلات) و (العاصفات) ونحوهما).
وجاء فى مسند الدارمى ما يوضح ذلك حيث قال: «أخبرنا عبد الله بن صالح حدثنى الليث أخبرنى ابن عجلان عن نافع مولى عبد الله، أن صبيغا (بالصاد المهملة) العراقى، جعل يسأل عن أشياء فى القرآن، فى أجناد المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال: أين الرجل؟ فقال: فى الرحل: فقال عمر: أبصر أن يكون ذهب، فتصيبك منى به العقوبة الموجعة. فأتاه، فقال عمر: تسأل محدثة؟ فأرسل إلى رطائب من جريد (أى لإحضارها)، فضربه بها، حتى ترك ظهره دبرة (1). ثم تركه حتى برأ، ثم عاد إليه، ثم تركه، حتى برأ، فدعا به ليعود إليه، قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلى فاقتلنى قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداوينى فقد- والله- برأت. فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبى موسى الأشعرى أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل. فكتب أبو موسى الأشعرى إلى عمر أنه قد حسنت توبته.
فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته. وهذا كله لأنه أثار فى الناس أسئلة لم يعهدوها، وليس من المناسب إثارتها ..
وفى رواية: فأتى بعراجين النخل فقال من أنت؟ قال عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه وقال: أنا عبد الله عمر .. فجعل
(1) بها قروح كما يفعل رحل الدابة بها من القروح.
له ضربا حتى دمى رأسه. فقال: يا أمير المؤمنين حسبك. قد ذهب الذى أجد فى رأسى
…
وهذه الرواية وتلك لهما دلالتهما فى موضوعنا .. ولا سيما فى قول عمر للرجل يؤنبه: تسأل محدثة؟ أى أتثير بين الناس أمرا جديدا لم يتعودوه قبل ذلك؟ وهو السؤال عن معنى قوله تعالى «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» .. ونحوهما.
مما يدل على أن مثل هذه الأسئلة لم يكن من المعتاد أن يسألها الصحابة فى زمن الرسول، وحتى عهد عمر .. بل كانوا يعتبرونها تكلفا يثير الشبهة
…
وفى الاهتمام بإرسال الرجل من مصر الى المدينة، وضرب عمر له، ثم فى أمره لأبى موسى بعزله عن المسلمين، ما يعطينا دلالة قوية على سوء النظرة فى ذلك الوقت، إلى كل من يثير مثل هذه الأسئلة .. ودلالة على مقدار حرص عمر وولاته، على تجنيب المسلمين الاشتغال بمعانى المرسلات والعاصفات ونحوهما، مما يعدونه متشابها، محافظة على النهج الذى كان فى عهد الرسول وخليفته أبى بكر، ولذلك أنكر عليه مسلكه وقال له: أتسأل محدثة؟ لأنه يحدث فى الوسط الإسلامى ما لم يتعوده .. ولهذا أيضا نجد الإمام مالك يقول فى الرد على من يسأله عن معنى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)، الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.
وحينئذ لا بد أن يرد على ذهن القارئ سؤال: كيف إذن كانوا يفهمون مثل هذا؟
وجواب هذا .. أنهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالى، وما يفيده السياق فى مثل هذه الأمور وغيرها، مما لا يتعلق بها حكم تكليفى محدد. فمثلا .. القسم بالمرسلات وما بعدها من العاصفات والناشرات والفارقات .. يفهمون أنها أشياء عظيمة، يقسم الله بها على أمر مهم، وهو: البعث .. لا يهمهم المراد بالعاصفات. كما عنى بها من بعدهم وقالوا: الرياح، أو الملائكة، ولم يتفقوا على رأى، لأنهم يجتهدون فى بيان المراد، ولكل اجتهاده. فكان الصحابة لا يخوضون فى بيان المراد تحديدا، بل يرون أن ذلك تكلف لا يصح الاشتغال به، ما دام المعنى الكلى مفهوما، وليس هناك ما يوجب فهم المراد بالمفردات ..