الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[أصل هذا التقسيم]
وأصل هذا التقسيم أو هذا الاصطلاح- الذى يقتضى إلقاء ضوء عليه، أصله قديم منذ عهد الصحابة الذين كانوا يتحرجون أن يتكلموا فى تفسير آية إلا إذا كانوا قد سمعوا عن الرسول شيئا فيها .. حتى لما سئل أبو بكر رضى الله عنه فى معنى آية لم يكن يروى عنها شيئا امتنع وقال عبارته المشهورة «أى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى لو قلت فى القرآن برأيى» .
فاتخذ الناس من هذا الكلام دليلا على وجوب الاعتماد على التفسير المأثور، بحيث لا يتكلم أحد فى التفسير إلا برواية رويت .. وكان هذا سببا فى بدء حياة التفسير، اعتمادا على الرواية، وجمعوا فيها الغث والثمين. كما عرفنا، وكانت مزرعة، نما فيها الكثير من الاسرائيليات، والخرافات حول تفسير القرآن، وذلك لأن الأحاديث لم تغط تفسير القرآن، فلجئوا لأقوال الصحابة وغيرهم، ولروايات أخرى يفسرون بها.
بينما نظر آخرون إلى قول أبى بكر، نظرة غير هذه النظرة، وقالوا لا يعنى كلامه هذا أن نهمل عقولنا ومعارفنا فى تفسير الآيات، من حيث اللغة، والمعنى الظاهر السافر ونخرج برأى حسب ما تؤديه الكلمات العربية، والأسلوب العربى، والله يقول «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» فالموضوعات التى تحتاج إلى رواية، وهى التى لا يمكن للعقل أن يحكم فيها .. نرجعها للرواية .. ونقف عندها ..
لكن الآيات السافرة الظاهرة، التى تحكى قصة، أو تقول حكما، أو تحث على نظر فى الكون .. الخ. مما لا يحتاج فهمها إلى رواية؛ نتولى فهمها بعقولنا، ومعارفنا فى اللغة أو الأحكام، أو الكون .. بحيث لا نخرج عن قرآن صريح، أو حديث صحيح، هذا إذا لم يدفعنا فضولنا لمعرفة ما تركه القرآن من تفاصيل، بل قال بعضهم: إن النص إذا تعارض مع العقل، أوّلنا النص لما يوافق العقل، والله يقول «أفلا يتدبرون القرآن .. » وتفاسير هؤلاء سموها «التفاسير بالرأى»
ومثل هذا حدث فى الفقه أيضا حيث ظهرت مدرستان فقهيتان: مدرسة الحديث. ومدرسة الرأى، واشتهر عن مالك رضى الله عنه أنه من مؤسسى المدرسة الأولى فى المدينة، وعن أبى حنيفة أنه مؤسس المدرسة الثانية فى العراق.
وحدث أيضا فى علم الكلام حيث انقسم المتكلمون فى علم التوحيد أو فى صفات الله .. إلى سلف: يحجمون عن التأويل فى مثل يد الله، وعينه، ووجهه، واستوائه مما ورد فى القرآن، ويقولون: له يد .. لا كأيدينا .. ولا نقول أكثر من ذلك، وإلى خلف: رأوا أن مثل هذا الموقف لا يشبع نهم عالم، ولا يردّ شبهة متمرد، فلجئوا إلى التأويل بأن اليد معناها القدرة، ليسكتوا هؤلاء المتمردين .. معتمدين على الاستعمالات المجازية فى كلمة اليد فى الأسلوب العربى ..
ولا نعتقد أن أحدا منهم جاوز الهدف فى أيامه فى خدمة الاسلام، ولكن كان لكل منهم طريقة فى أداء هذه الخدمة حسبما رأى، على أن الذين اتجهوا إلى الاعتماد فى التفسير على الرأى لم يهملوا الأحاديث الصحيحة، بل ذكروها أيضا، وجالوا فى دائرتها، علما بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله، ولم ترو أحاديث صحيحة يمكن بها تفسيره كله .. فالحاجة تدعونا- إذن- إلى الاعتماد على العقل والرأى فى التفسير.
على أن الذين عابوا التفسير بالرأى لم يعيبوه إلا لبعض سقطات من بعض الذين تركوا الحديث، واعتمدوا على عقولهم وعلى وجه من وجوه اللغة، غير ناظرين لما روى من حديث صحيح، ولا إلى الوجه الآخر فى اللغة، ولا إلى جو الآية .. بل نجدهم- أعنى أصحاب التفسير المأثور- أعملوا عقولهم فى التفسير، فإن أبا بكر رضى الله عنه، لم يكن يعنى إلغاء عقله نهائيا أمام القرآن والتوقف النهائى عن فهمه، إذا لم يرد فيه حديث، بل كان وقوفه أمام أمر يحتاج إلى رواية .. بدليل أنه وعمر وابن عباس وباقى الصحابة، كانوا يرجعون فى الفهم إلى لغة العرب واستعمالاتهم، وقد سأل عمر عن معنى «الأب» ، وعن معنى «تخوف» ، وكان ابن عباس يفسر القرآن بما عرفه من كلام العرب
وشعرهم، وأبو بكر كان متورعا وقافا عند ما يؤثر عن الرسول حتى أنه عارض فى كتابة القرآن أولا، ثم اقتنع بكتابته .. فالخلاف الذى نشأ قديما بين المدرستين، كان خلافا بين زمنين، أو فى الحقيقة- إن شئنا الدقة- لم يكن خلافا جوهريا، بقدر ما هو خلاف شكلى، بدليل أننا يمكننا- بل رأينا مفسرين- أمكنهم الجمع بين الطريقتين أو بين الحسنيين .. وأما الأحاديث التى رويت فى النهى عن التفسير بالرأى فمطعون فيها وإن كان السابقون قد أخذوا بها، لكن الظاهر والمفهوم بداهة، أن المراد بالرأى الوارد ذمه فى الحديث لو اعتمدناه، إنما هو الهوى الذى لا يعتمد على أساس، والذى يخرج القرآن عن معناه الأصيل وعن هدفه .. كما يحصل من تأويلات فاسدة، أو بعيدة كل البعد، يلجأ إليها أصحاب الهوى لخدمة أغراضهم، أو أغراض الذين يتزلفون إليهم ..
أما القول بالرأى: فى حدود اللغة والقواعد العامة، والنصوص الأخرى، فلا يمكن أن يكون محل تهديد من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا لو كان محل هذا التهديد من الرسول، لعنى صلى الله عليه وسلم بتفسير كل آية وكل كلمة، حتى لا يترك مجالا لرأى من الآراء، والرسول لم يؤثر عنه ذلك ..
وكيف وقد أمرنا الله بتدبره فى قوله تعالى «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» (1)
وقوله تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 24 (2)
وقوله إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 3 (3)
وقوله فى ختام آيات كثيرة تعرض مظاهر خلق الله:
«إن فى ذلك لآيات للمؤمنين، أو لقوم يتفكرون، أو يتذكرون ..
(1) ص/ 29.
(2)
محمد/ 24.
(3)
الزخرف/ 2.
وهذه كلها تأمر بالتدبر والفهم لما يعرضه القرآن، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالبحث العقلى دون انتظار لحديث يروى، وأين هذه الأحاديث؟
إن هذا الاتجاه وهذا التوقف فى تفسير الآية على حديث من الرسول، فى أمور غير غيبية، لا يمكن أن يكون الباعث عليه إلا مجرد الورع والخوف من الوقوع فى قول خطأ، يتحمل مسئوليته ومسئولية من يقتدى به طول الزمن ..
وإلا فلا يجوز أبدا أن يكون منهجا لفهم القرآن، وإلا كنا قد حسبناه فى قمقم، وحجزنا هديه عن الناس ومنعنا تدبره، ومعرفة ما يشير إليه من أسرار.
. فيها الهدى للناس، ولا يمكن أن نقول فى تفسير كتفسير الإمام الطبرى ورأيه فى الآية، إن الطبرى لم يستعمل رأيه فى فهم الآية ونحمد الله على أن هذا الرأى لم يسيطر على علماء المسلمين جميعهم، بل قام أفذاذ العلماء برده والتخلص منه، وأقبلوا على تفسير القرآن بما منحهم الله من عقل وفهم ورأى، ولم يغفلوا مع ذلك ما ورد من روايات صحيحة، وكانوا حائزين لكل الشروط، أو متسلحين بكل الأسلحة التى يجب أن يتسلح بها كل من يريد التفسير: من علوم اللغة والبلاغة، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وأصول الفقه وما ورد من أحاديث صحيحة، ولا سيما فى آيات الأحكام، وآيات الغيب، ومن أسباب النزول، مع ذوق يعينه على استشفاف المعانى. ومع تجنب شد الآيات وليّها نحو رأيه ومذهبه وهواه ..
فترك هؤلاء العلماء لنا كثيرا من التفاسير التى عرضوا فيها آراءهم وفهومهم للقرآن، وما يتصل به من علوم ومعارف، مع اسهاب، أو توسط، أو اختصار، فكان لنا من ذلك كله ذخيرة ضخمة، ووردا يقصده كل طالب علم .. وما يزال القرآن مقصد العقول والهمم، يتناولونه بالتفسير من خلال ما وهبهم الله من فهم له وتدبر لآياته .. ليس هناك ما يصد عن هذا المورد العذب، إلا سوء الفهم أو سوء القصد، أو تحميل للألفاظ ما لا تحتمله، وخروج بها عن الظاهر إلى معان باطنية بعيدة، وجعلها رموزا لأشياء يعرفونها هم .. كما حصل من كثير من الباطنية والمغرقين من الصوفية، وكما
يحصل الآن من بعض الذين تعرضوا للتفسير، وقد كان هذا المورد أو النهر الخضم العظيم، مجالا واسعا لكل من أنس القدرة على العوم فيه، بما تيسر له من علم وأدوات، فبعضهم خاضه بما أتقنه من علوم العربية، وبعضهم أضاف إلى ما عرفه من علوم الدين، ما علمه من علوم الكون كالرازى، وبعضهم ركز فيه على الجانب الذى يتقنه، فجعله معرضا لعلم الفقه والأحكام .. وهكذا.
«والأخباري ليس له شغل إلا القصص واستيعابها، والأخبار عمن سلف سواء كانت صحيحة، أم باطلة كالثعلبى»
«والمستبدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد»
«والملحد لا تسأل عن كفره وإلحاده فى آيات الله»
ويعتبر هذا ملخصا لنظرة السيوطى إلى التفاسير التى ظهرت واطلع عليها فى أيامه (1849 - 911 هـ)
(1) فى كتاب الاتقان الباب الثمانون ص 190 ج 2 طبعة حجازى.