الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل ترك الرسول تفسيرا كاملا للقرآن
؟
لعل البعض يفهم من قوله تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» أن الرسول صلى الله عليه وسلم تولى تفسير كل آية من القرآن لصحابته رضوان الله عليهم .. ولكن هذا فهم مبالغ فيه وغير دقيق، إذ أن قوله تعالى:
«لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» يعنى تبين ما يحتاج منه إلى بيان ..
وقد أنزل الله القرآن على رسوله بلغة قومه «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» وكان العرب فى ذروة البلاغة وهم أرباب الفصاحة، وقد نزل القرآن يخاطبهم جميعا. ويحثهم لما يدعوهم إليه، ومن الطبيعى ألا يكون غامضا عليهم فكانوا أقرب الناس إلى فهمه وإدراك معانيه وتقدير بلاغته، حتى وجدنا أعتى الناس عداوة للرسول، ينقلب- بمجرد سماعه- إلى مسلم تابع له، وأيضا أشد الناس إخلاصا ودفاعا عنه، ووجدنا آخرين يتزعمون معارضته، وإيقاع الأذى به وبدعوته، ومع ذلك تأسرهم بلاغة القرآن ومعانيه، ويتسارقون ويتسربون ليلا، للاستماع إلى الرسول صلى عليه وسلم وهو يقرؤه بصوت مسموع، إشباعا للذة الاستماع إليه، مع كراهتهم له.
ولو لم يفهموه ويحسوا بلاغته، ما سحرهم بيانه، وما جذبهم لهذه المخاطرة التى خاطروا فيها بأنفسهم وبمراكزهم وزعامتهم وسط معسكر الكافرين بالرسول، لو انكشف أمرهم .. وقلنا كانوا أقرب الناس إلى فهمه، لأنهم لم يكونوا جميعا على مستوى واحد من الفهم له وإدراك معانيه إذ من الطبيعى أن تكون أفهامهم متفاوتة، حتى لما يسمعون من كلامهم .. وذكرت لنا الروايات الصحيحة، أن بعضهم، ومنهم مقربون إلى رسول الله كان يتوقف فى فهم بعض ألفاظ وردت فيه، وإن كان يفهم المعنى الإجمالى للآية والسورة. والغرض من سياقها .. فوجدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه، مع مكانته يسأله رجل عن معنى «الأب»
بتشديد الباء فى قوله تعالى «وَفاكِهَةً وَأَبًّا» فيقول: نهينا عن التكلف والتعمق (1)» وفى رواية أخرى .. أنه كان يقرأ الآية فتساءل عن معنى «الأب» كما روى (2) أيضا أنه كان يقرأ «أو يأخذهم على تخوف» وهو على المنبر، فتساءل عن معنى «تخوف» فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا هو التنقص، ونحن الآن مع تباعد القرون بيننا وبينهم، لا نجد القرآن غامضا علينا إلا النادر منه الذى يحتاج إلى وقفة معه حتى العامى منا يدرك الكثير من معانى الآيات، ويخشع قلبه لما يسمعه ..
وفى ذلك يروى ابن جرير الطبرى عن ابن عباس رضى الله عنهما قوله:
«التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله» كوقت قيام الساعة.
فالوجهان الأولان ظاهران لا يحتاجان إلى عناء فى فهمهما، والثالث هو مدار البحث والأسئلة، والرابع يسكت عنه لأنه مما استأثر الله بعلمه ..
ومما لا شك فيه أن الصحابة كانوا أحيانا يتوجهون إلى الرسول لفهم بعض الآيات، أو يتولى الرسول شرحها دون سؤال ويتلقى الصحابة الشرح والجواب ..
مما عنيت كتب الحديث بذكره.
ولكن إلى أى مدى نثق فى صحة ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من تفسير لبعض هذه المواضع من القرآن الكريم؟ ذلك أمر تكفلت به كتب السنة الموثوق بها، ولست أعنى بذلك كل كتب السنة المتداولة، لأن بعضها روى فى هذا الباب روايات لا يمكن أن تقبل عقلا .. فمثلا:
أخرج الحاكم عن أنس رضى الله عنه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القنطار فى قوله تعالى:
«وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ» (3) فقال: القنطار ألف أوقية «بينما روى الإمام احمد
(1) فجر للمرحوم أحمد أمين ص 281.
(2)
المصدر السابق عن كتاب الموافقات للشاطبى.
(3)
من قوله تعالى «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» الآية 14 سورة آل عمران.
فى مسنده وابن ماجة عن أبى هريرة رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القنطار اثنا عشر ألف أوقية»
ولو اعتبرنا ما فى الروايتين صحيحا، لكانت النتيجة أن الرسول قال مرة:
القنطار ألف أوقية، ومرة اثنا عشر ألف أوقية، والزمن واحد أو متقارب جدا، لا يحتمل تغيير وزن القنطار، فلا يعقل أن يصدر عن الرسول مثل هذا التناقض الواضح، ومع ذلك فهما روايتان، رواهما الحاكم، والإمام أحمد ..
فلو قبلنا مثل هذه الروايات معصوبى الأعين، مغلقى العقول باعتبار أنها وردت فى بعض كتب السنة لأسأنا إساءة واضحة إلى رسول الله.
ولذلك فإن مما نحمد الله عليه أن نجد من المفسرين مثل الحافظ ابن كثير وتفسيره لهذه الآية يقف وقفة متأنية ناقدة ويقول: «لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فى تحديد القنطار وما ورد من ذلك فموقوف على الصحابة» .
وليقل لنا الصحابة ما يشاءون حسب علمهم عن أمورهم، فقد تكون صحيحة، وقد تكون غير صحيحة، ولسنا ملزمين بأن نأخذ ما يروى عنهم كما هو- فكل يؤخذ منه ويردّ عليه، ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد إذن من التحوط فى قبول بعض الأحاديث الخاصة بتفسير القرآن، المروية فى بعض كتب الحديث عن الرسول بحيث لا نقبل منها إلا المقطوع بصحته فى كتب السنة، ذات الدرجة الأولى فى التوثيق، وإذا كان هذا بالنسبة لما يروى عن رسول الله فى تفسير القرآن فإن ما يروى عن الصحابة والتابعين يجب أن نقف موقف التحرز والتحوط منه، وما علينا من شىء إذا لم نقبل ما روى عن أحد منهم، وقلنا بغيره.