الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخبطون فى مثل هذه الأمور خبط عشواء، ويضيعون أوقاتهم فيما لا يفيد. وهذا من أجود التفاسير وأنقاها ..
ومع ذلك تجده يذكر الروايات المتعددة حول هذه الأشياء التى ينكر الجرى وراءها!!
وإننى أعتقد أن هذه الروايات كانت رائجة فى أيامه، فذكرها ليكر عليها بخطته، ويبين أنه لا فائدة من الاشتغال بها .. لكنها بذلك اكتسبت البقاء عبر القرون، تطغى على التفكير، وتحتل مكانا لها فيه. بل تأخذ صفة الصدارة وتطرد الفكر السليم. فما تسأل إنسانا الآن عن نوع هذه الشجرة، إلا قال لك قولا مما نقله الطبرى واستهجنه، وقليل من العلماء من يقف عند خطة الطبرى ويقتدى به فيها، لأن الفضول كثيرا ما يؤدي بأصحاب العقول ..
وجاء الخطر الأكبر من أن بعض من جاء بعد الطبرى من المفسرين، ربما اقتصر على ذكر نوع الشجرة، كأن ذلك أمر ثابت، يقرؤه الطالب المبتدئ فى الأزهر أو غيره، ويقرؤه أنصاف العوام، فيأخذونه قضية مسلمة. ترتسم فى عقولهم من الصغر، لتستمر غالبة على تفكيرهم فى الكبر!! واسأل من شئت من العلماء الآن عن نوع الشجرة، تجد منه الجواب سريعا بتحديدها .. فإذا قلت له: من أين لك هذا؟ قال: كتب التفسير التى درسناها، دون التأكد من صحة ما ذكرته هذه الكتب عن طريق حديث صحيح .. وهكذا جاء الخطر على العقول.
شىء لا بدّ من التنبيه عليه:
لقد لاحظت فى تفسير الطبرى وفيما اشتهر عنه بين العلماء أشياء لا بد من الوقوف عندها لتمحيصها .. وقد يدعو تتبعها إلى الإطالة فلذلك اكتفى بواحدة منها ..
فالعلماء والدارسون يضعون هذا التفسير على قمة التفسير بالمأثور، وكثير منهم يرد سبب هذه التسمية إلى عناية الطبرى بالروايات الكثيرة التى تشغل الحيز الأكبر منه.
ولكن بقليل من التتبع لآراء الطبرى وتفسيره الخاص به، نجد أنه لم يلتزم بهذه الروايات عند ما أخذ يبدى رأيه فى تفسير الآية، يذكر أولا معنى الكلمات عند العرب، ثم اعرابها مع ذكر الشواهد على ذلك من شعر أو نثر، ثم يذكر الروايات الواردة فى تفسير الآية، صحيحة وغير صحيحة، ثم يكر على هذه الروايات أحيانا بالنقد أو النقض، ثم يأخذ فى بيان رأيه فى تفسير الآية، غير ملتزم بما ذكره، إلا إذا كان صحيحا ثابتا، ويبدى رأيه فيما يؤخذ منها من أحكام، غير متقيد غالبا برأى امام فقيه معين، مع أنه كان شافعيا، حتى قيل عنه إنه كان صاحب مذهب فقهى خاص به، اندرس لعدم شيوع تلاميذ له ينتصرون لآرائه، ويجادل مع ذلك المتكلمين من أصحاب المذاهب الكلامية، ملتزما خطة السلف مدافعا عنها.
ومعنى ذلك كله .. أن الرجل كان له رأى واتجاه بارزان، وتفسيره الخاص به الذى يبدؤه بقوله: «قال أبو جعفر .. أو يقول: والرأى عندنا، أو التأويل عندنا أو مثل ذلك. ويبين هذا الاتجاه الاستقلالى بوضوح ..
فهو لم يكن- اذن- أسير الروايات الكثيرة التى ذكرها، ولا أسير أقوال العلماء الذين سبقوه، لأنه أحيانا يرد عليهم وينقض قولهم .. فهو مفكر مستقل، له رأيه فى معنى الآية، وفيما يستنبط منها من أحكام، وآراؤه فى غاية الاتزان العقلى، ولا سيما عند ما يتناول بعض الأشياء التى كثر الجدل فيها، كالأشياء التى ذكرناها وكالمتشابهات مثل اليد والعين الخ ..
والطبرى بهذا يوضع فى مقدمة أهل الرأى فى التفسير، إذا فهمنا الرأى على أنه الذى ينتهى إليه الانسان بعد دراسة عميقة متجردة من الأهواء، التى تعصف بعقول العلماء، وتحملهم على لي عنق الكلمات القرآنية لتوافق أهواءهم أو مذاهبهم ..
فالذين يفهمون إذن أن تفسير الطبرى من التفسير بالمأثور، بسبب كثرة الروايات الواردة فيه، غير دقيقين فى الفهم، لأنه لم يتقيد بهذه الروايات ولم يكن أسيرا لها
…