الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي تربط بين ظاهرتين أو أكثر، فإن علماء اللغة لم يستخدموها لهذه الأغراض إلّا في حالات قليلة، وذلك أنه قد تبين لهم أن الطرق الثلاثة الأخيرة ليست مطردة في الظواهر اللغوية1، فاقتصروا على استخدام الطريقة الأولى وهي:"طريقة التلازم في الوقوع". فعند محاولتهم الوقوف -عن طريق الاستنباط- على العلاقة بين ظاهرتين لغويتين، أو ظاهرة لغوية من جهة وظاهرة اجتماعية أو نفسية أو فيزيولوجية
…
من جهة أخرى، لا ينظرون إلّا إلى مبلغ التلازم في وقوعهما، فيستقرئون الحالات التي تبدو فيها كلتا الظاهرتين، فإذا تبين لهم أنه في كل حالة تبدو فيها إحداهما تظهر الأخرى، حكموا على اللاحقة منهما بأنها نتيجة للسابقة.
1 يرجع هذا إلى أسباب كثيرة لا يتسع المقام لتفصيلها.
10-
تاريخ البحوث اللغوية:
عرضنا في الفقرات السابقة لعلم اللغة في وضعه الأخير، وسنتكلم بإيجاز في هذه الفقرة عن المراحل التي اجتازتها البحوث اللغوية حتى وصلت إلى هذا الوضع، مقسمين موضوعنا قسمين: أحدهما: خاص بتاريخ هذه البحوث في الغرب، وثانيهما: خاصٌّ بتاريخها في اللغة العربية.
تاريخ البحوث اللغوية في الغرب:
ظلت البحوث اللغوية عند أمم أوروبا، حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي محصورة في دائرة ضيقة لا تعدو كثيرًا مسائل علوم البنية والتنظيم والأسلوب -المورفولوجيا والسنتيكس والستيليستيك- في أشكالها التعليمية1.
1 انظر صفحات 8-10.
فلم يكن معظم العلماء ليعرضوا لغير هذه البحوث الثلاثة إلّا استطرادًا، وفي صورة ناقصة، وبطريقة تبعد كثيرًا عن مناهج البحث العلمي؛ فمن ذلك: بعض نظرات في أصوات اللغة -الفونيتيك- وردت في مؤلف لكورديموا Cordemoy ظهر في سنة 1668، وبعض ملاحظات وتجارب على الصوت، قامت بها المدارس المنشأة في القرن الثامن لتعليم الصم البكم، وبعض آراء لسانت أوجيستان Saint Augustin بصدد تطور اللغة، وبعض آراء في أصول الكلمات الفرنسية والإيطالية والأسبانية -ايتيمولوجيا-1 لكلود فوشيه Claud Fauchet وبيريون Joachen Perion وهنري إتيان Henre Estienne وميناج Menage -الذي ألف سنة 1650 معجمًا في أصول الكلمات الفرنسية، أودان Oudin وابنه، وبعض بحوث لغوية عامة خاصة قامت بها "الأكاديميات"، "المجامع اللغوية" التي أنشئت في صدر العصور الحديثة؛ كالأكاديمية الفرنسية، والأكاديمية الأسبانية، وأكاديمية فلورنسا -أكاديمية كروسكا Crusca، وغيرها، وقام بها مؤلفو المعجمات الكبيرة ودوائر المعارف في هذا العصر.
وثَمَّ مظهر آخر لضيق البحوث اللغوية في هذه المرحلة، وذلك أنها كانت مقصورة على اللغتين الإغريقية واللاتينية، وبعض اللغات الأوربية الفصحى، فلم يكن للهجات الشعبية ولا لغير اللغات الأوربية في هذه المرحلة الطويلة حظ يعتد به من الدراسة2.
وفي أواخر القرن الثامن عشر حدث بهذا الصدد نهضة كبيرة يرجع معظم الفضل فيها إلى كشف اللغة السنسكريتية Sanscrit وحل رموزها، فقد أزاح هذا الكشف الستار عما بين اللغات الهندية والإيرانية من
1 انظرمعنى هذه الكلمة بصفحة 11 رقم 5.
2 بل إن هذه اللهجات كانت محاربة، ومعدودة من مصادر الخطر على الأدب، وقد بلغ العداء لهذه اللغات مبلغًا كبيرًا في فرنسا، حتى لقد عهدت الجمعية الوطنية Convention Nationale التي تمخضت عنها الثورة الفرنسية إلى الأب جريجوار -أحد أعضائها- عام 1794 أن يقدم تقريرًا عما ينبغي اتخاذه للقضاء على اللهجات الشعبية الفرنسية، وتعميم اللغة الفصحى.
جهة، واللغات الإغريقية واللاتينية والجرمانية من جهة أخرى؛ من تشابه وصلات قرابة وروابط وثيقة، ومهد السبيل لإنشاء علوم القواعد التاريخية والمقارنة1، ووسَّع بذلك نطاق الدراسات اللغوية.
وكان من أشهر من افتتح هذه السبيل العلامة الألماني شليجيل Schlegel، فقد نبَّه أذهان العلماء إلى صلات التشابه الكثيرة التي تربط اللغات الأوربية والهندية الآرية بعضها ببعض؛ تلك اللغات التي رجعها العلماء من بعده إلى فصيلة واحدة سموها:"الفصيلة الهندية _ الأوربية" كما سيأتي بيان ذلك2.
ومن ذلك الحين أخذ العلماء يدرسون هذه الفصيلة دراسة علمية عميقة، ويكشفون عما بين أفرادها من تشابه في أصول الكلمات، وفي قواعد الصرف والاشتقاق والتنظيم، فبلغوا بعلم "القواعد المقارن" شأوًا راقيًا. وكان من أنبه أفراد هذه الحلية ذكرًا وأجلهم أثرًا في هذه النهضة عالمان ألمانيان هما: بوب3 Franz Bopp، وجريم4 Jacques Louis Crimm.
وقد مهدت بحوث "علم القواعد المقارن" السبيل إلى بحوث "علم القواعد التاريخي"؛ فانتقل العلماء من الموازنة بين اللغات الهندية الأوربية إلى الموازنة بين مظاهر كل لغة منها في مراحلها المختلفة، ومن البحث في تفرع هذه اللغات بعضها من بعض، وتفرعها عن أصل واحد، إلى البحث في الطريقة التي تسلكها كل لغة منها على حدتها في تطورها وارتقائها من جميع نواحيها، وبخاصة من ناحية قواعدها، وكان مِن أشهر مَن افتتح هذا السبيل جاك لويس جريم
1 انظر صفحات 8، 9، 10.
2 انظر الفصل الثاني من الباب الثاني.
3 ولد بماينس Mayence عام 1791، وتوفي عام 1867، ومن أشهر مؤلفاته كتاب "القواعد المقارنة الهندية - الأوربية".
4 هو أول من كتب في الفيلوجيا الجرمانية، ولد عام 1785، وتوفي عام 1863.
السابق ذكره، ودييز1 Friedrich، وبراشيه2 Auguste Brachet، وقد استمدت هذه الدراسات اللغوية بعض موادها من بحوث في آداب اللغات الأوربية بالعصور الوسطى، قام بها قبيل ذلك العصر وفي أثنائه جماعة من مؤرخي الأدب، ومن أشهرهم: بولان باريس3 Paulan Paris، وربنو آر4 Francois Reynouar.
ثم انتقل البحث من هذه الدائرة المقصورة على اللغات الهندية -الأوربية إلى دائرة عامة ترمي إلى كشف القوانين التي تخضع لها كل لغة إنسانية في تطورها وارتقائها؛ من حيث أصواتها وقواعد تصريفها.. وما إلى ذلك، وق افتتح هذه الحلبة العلامة الألماني ماكس مولر5 Max Muller، وتبعه كثيرون، من أشهرهم: العلامة الإنجليزي سيس6 Archibald-Henry Sayce.
1 فردريك دييز من أشهر علماء الفيلولوجيا الألمان، ولد عام 1794، وتوفي عام 1879، ومن أشهر مؤلفاته "معجم في أصول مفردات اللغات الرومانية" و"قواعد اللغات الرومانية" و"اللغات الرومانية Langues Romanes هي اللغات المتفرعة من اللاتينية".
2 ولد بتور من أعمال فرنسا سنة 1844، وتوفي بها سنة 1898، وكان أستاذًا للفيلولوجيا بمعهد الدراسات العليا بفرنسا، ومن أشهر مؤلفاته:"بحث في القواعد التاريخية للغة الفرنسية"، "معجم في أصول كلمات اللغة الفرنسية".
3 ولد عام 1800، وتوفي عام 1881، وله مؤلفات قيمة في آداب اللغة الفرنسية بالعصور الوسطى.
4 ولد عام 1761، وتوفي عام 1836، وله بحوث قيمة في آداب اللغة الفرنسية بالعصور الوسطى.
5 ولد ببلدة ديسو Dessau من أعمال المانيا عام 1823، وتوفي بأكسفورد عام 1900، وهو ابن الشاعر غليوم مولر، تخرج من جامعتي لببزج وبرلين، ثم رحل إلى باريس حيث حضر دروس الأستاد برنوف Burnouf في اللغة السنسيكريتية، ثم ذهب إلى إنجلترا واستقر بأكسفورد؛ حيث عُيِّنَ أستاذًا بجامعاتها للآدب واللغات الحديثة، ثم أستاذًا للقواعد المقارنة، ومن أشهر مؤلفاته "دروس في علم اللغة" ظهر عام 1861، و"دروس حديثة في علم اللغة" ظهر عام 1864، وكان لهذين الكتابين شأن كبير في القرن السابق، وله كذلك مؤلفات كثيرة في الأديان وتاريخها.
6 ولد ببلدة شيريهمتون SHIRIHEMPTON، بجوار مدينة بريستول Pristol عام 1846، وقد خلف ماكس مولر في تدريس القواعد المقارنة بجامعة أكسفورد، وله نظريات ومؤلفات كثيرة في هذا العلم من أشهرها:"أصول الفيلولوجيا المقارنة" و"مقدمة في علم اللغة"، وقد كان كذلك من شهيري المستشرقين، وله عدة مؤلفات في كثير من اللغات السامية، وبخاصة اللغة الآشورية القديمة.
وقد كان لزامًا أن يصل العلماء في تعقبهم لأصول اللغات ومراحل ارتقائها إلى أقدم مرحلة للتعبير الإنساني، وأن يحاولوا الكشف عن منشأ اللغة في الفصيلة الإنسانية، وعن الأسس الأولى التي قام عليها التخاطب بالأصوات ذات الدلالات الوضعية، وقد استأثرت هذه المشكلة بقسط كبير من نشاطهم في منتصف القرن التاسع عشر، وانقسموا بصددها إلى فرق كثيرة -سيأتي الكلام عنها في الباب الأول من هذا الكتاب، ومن أشهر من عرض لهذا الموضوع: الفيكونت دوبونالد1 Viconte de Bonald وماكس مولر، وسيس، ورينان2 Renan.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، ظهر عند المشتغلين بالبحوث اللغوية اتجاهان هامَّان، كان لكل منهما أثر كبير في النهوض بهذا العلم.
الاتجاه الأول: يتمثل في جعل البحوث اللغوية بحوثًا علمية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، وذلك بإخضاعها لمناهج البحث العلمي، وتوجيهها إلى الأغراض نفسها التي ترمي إليها العلوم، وجعل غايتها الأساسية الوصول إلى كشف القوانين الخاضعة لها الظواهر اللغوية 3
1 اسمه لويس جبرائيل امبرواز Loues-Gabriel-Ambroise، ولد في مدينة ميو Millau من أعمال فرنسا عام 1754، وتوفي بها عام 1840، وله مؤلفات كثيرة في السياسة والفلسفة، وكان من أشهر المتعصبين لنظام الحكومة الملكية الخاضعة للنفوذ الديني الكاثوليكي.
2 آرنست رينان Ernest Renan، من أشهر المؤرخين والفلاسفة وعلماء اللغة الفرنسيين في القرن التاسع عشر، ولد ببلدة تريجييه Treguier عام 1823، وتوفي بباريس عام 1890، درس اللاهوت واللغات الشرقية والعلوم، ومختلف فروع الفلسفة والآداب، وتولى تدريس اللاهوت واللغة العبرية والتاريخ والفلسفة في كثير من المعاهد، وعُيِّنَ عضوًا بالأكاديمية الفرنسية، ومديرًا للكوليج دوفرانس College de France، وله نحو خمسين مؤلفًا كبيرًا في التاريخ العام، وتاريخ الديانات، وفي اللغات والأخلاق والفلسفة واللاهوت والسياسة وغيرها، وقد كان لمؤلفاته أكبر أثر في الثقافة الفرنسية في القرن التاسع عشر، ومن أشهر كتبه في المؤلفات:"تاريخ اللغات السامية" و"نشأة اللغة".
3 انظر صفحات 17-23.
وتخليصها من جميع المسائل الفلسفية التي لا يتفق منهج البحث فيها مع ما ينبغي أن تكون عليه مناهج البحث فثي العلوم، والتي لا يمكن الوصول فيها إلّا إلى فروض وآراء ظنية لا تسمو إلى درجة اليقين، ولا يطمئن إلى مثلها التحقيق العلمي.
وقد كان لهذا الاتجاه آثار جليلة في مختلف فروع هذا العلم؛ فبفضله وضحت حدود كل فرع منها ومناهجه، وهذبت أساليبه وطرق دراسته، واجتذب إليه عددًا كبيرًا من أعلام الباحثين، فكثر الإنتاج ورقي نوعه، وكان من آثاره كذلك أن انصرف العلماء عن البحث في موضوع نشأة اللغة، وتركوا دراسته للفلاسفة والميتافيزيقيين -الباحثين فيما وراء الطبيعة1.
ويرجع الفض في توكيد هذا الاتجاه إلى مدرسة ألمانية الأصل، أطلق على أفرادها اسم:"المحدثين من علماء القواعد" Neo-Grammairiens، فقد ذهبت هذه المدرسة إلى جبرية الظواهر اللغوية، فقررت أن هذه الظواهر لا تسير وفقًا لإرادة الأفراد، أو تبعًا للأهواء والمصادفات، وإنما تسير وفقًا لقوانين لا يستطيع الفرد إلى تعويقها أو تغييرها سبيلًا، ولا تقل في ثباتها وصرامتها واطرادها وعدم قابليتها للتخلف عن النواميس الخاضعة لها ظواهر الفلك والطبيعة2، وأن واجب الباحث في هذه الظواهر ينبغي أن ينحصر في تحليلها لكشف القوانين الخاضعة لها، ومن أشهر أفراد هذه الدراسة: ليسكين Leskien، وبروجمان Brugmann، وأستوف Ostof، وهرمان بول Hermann Paul، ودلبروك Belbruck.
وقد لقي مذهبهم هذا في مبدأ أمره مقاومة كبيرة من طوائف كثيرة، وبخاصة من ثلاث طوائف:
1 انظر صفحة 6.
2 انظر توضيح ذلك بصفحات 20-23.
إحداها: "المدرسة الإيطالية" التي كان العلامة أسكولي Ascoli من أبرز أعضائها، فقد ذهبت هذه المدرسة في تعليل كثير من الظواهر اللغوية مذهبًا يختلف عن آراء المحدثين من علماء القواعد، ولا يتفق في بعض مظاهره مع القول بجبرية الظواهر اللغوية.
وثانيتها: "المدرسة الإنجليزية" التي كان الأستاذان سيس Sayce وسويت Sweet الإنجليزيان، والعلامة جيسبرسن Jespersen الدانيمركي من أظهر ممثليها، فقد أنكرت هذه المدرسة جبرية الظواهر اللغوية، وذهبت إلى أن جميع هذه الظواهر بما في ذلك التطورات الصوتية نفسها، ترجع أهم أسبابها إلى أمور يقوم بها الأفراد، وتنتشر عن طريق التقليد1، ولعل هذه المدرسة قد تأثرت فيما ذهبت إليه بنظرية العلامة الفرنسي جبرائيل تارد Tarde، الذي يذهب إلى أن جميع الظواهر الاجتماعية فردية المنشأة وتصبح اجتماعية عن طريق التقليد2.
وثالثتها: طائفة يمثلها العلامة الفرنسي بريال Breal، فقد سلمت هذ الطائفة، مع شيء من التحفظ، بمذهب الجبرية فيما يتعلق بظواهر الصوت "موضوع الفونيتيك"، ولكنها خالفت هذا المذهب فيما يتعلق بظواهر الدلالة "موضوع السيمنتيك"، فذهبت إلى أن كل التغيرات التي تحدث في مدلولات اللغة عبارة عن إصلاحات مقصودة أو شبه مقصودة، تعتمد على جهود يقوم به الناطقون بهذه اللغة، وتسير بها دائمًا إلى حيث الكمال، وأن من أهم هذه الجهود
1 انظر كتاب الأستاد سيس Sayce "أصول الفيلولوجيا المقارنة" Principles of Comparative philology، وكتابي سويت Sweet "تاريخ أصوات اللغة الإنجليزية History of English Sounds و"الدراسة العملية للغة" The Practical Study of Languge، وكتابي جيسبرسن Jespersen: "تطور اللغة" The Progress of Language و"الغة طبيعتها وتطورها ومنشئوها".
Language Its nature devlopment and origen.
2 انظر كتابه "قوانين التقليد" Lois de l lmitation.
ما يبذله الأدباء والكُتَّاب في كل عصر للنهوض باللغة1.
والاتجاه الثاني: يتمثل في التخصص في دراسة فرع واحد أو بعض مسائل من فرع من بحوث اللغة، ولذلك انصرف المحدثون من علماء اللغة عما كان يحاوله القدامى من معالجة جميع المسائل، وآثر كلٌّ منهم التفرع لناحية من البحوث اللغوية، وكان لهذا الاتجاه فضل كبير في النهوض بمختلف شعب هذا العلم.
ومن بين هذه الشعب، خمس شعب اتسع نطاق البحث فيها اتساعًا كبيرًا في هذا العصر، وتخصص في دراستها كثير من العلماء، واستأثرت بقسطٍ وافر من نشاطهم، فوصلت إلى شأو عظيم في النضج والكمال بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا في المراحل السابقة، وهي: الفونيتيك" Phonetique، أو دراسة اللهجات العامية3، و"السيكولوجيا اللغوية" Psychologie Linguistique، أو علم النفس اللغوي، وهو دراسة العلاقة بين الظواهر اللغوية والظواهر النفسية بمختلف أنواعها، وبيان أثر كل منها في الآخر4، "والسيمنتيك" Semantique، أو دراسة اللغة من ناحية الدلالة5، و"السوسيولوجيا اللغوية" Sociologie Linguistique، أو علم الاجتماع اللغوي، وهو دراسة العلاقة بين اللغة والظواهر الاجتماعية، وبيان أثر المجتمع ونظمه وتاريخه وتركيبه وبنيته
…
في مختلف الظواهر اللغوية6.
1 انظر كتاب الأستاذ بريال "بحث في السيمنتيك"، وبريال هو أول من سَمَّى هذه الشعبة باسم:"السيمنتيك"، وسننقد هذه النظريات جميعها في مواطنها.
2 انظر صفحات 7 رقم3، 23 رقم 5، آخر 38-42، وسنقف فصلًا خاصًّا على دراسة هذه الشعبة "الفصل الخامس من الباب الثاني".
3 انظر صفحات 7 رقم 2، وآخر 47، وأول 48، وسنعرض لهذا الموضوع بتفصيل في الفصل الخاص بتفرع اللغة "الفصل الأول من الباب الثاني".
4 انظر ص13 رقم7، 14، 31.
5 انظر آخر 7-11، 23، 47.
6 انظر صفحات 12 رقم 6، 13، 26، 28.
1-
أما شعبة "الفونيتيك"، فيرجع الفضل في النهوض بها إلى طائفة كبيرة من العلماء في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وخاصة مدرسة "المحدثين من علماء القواعد Neo-Grammairiens، التي سبقت الإشارة إليها1. فقد وجد أعضاء هذه المدرسة في مسائل "الفونيتيك"، ما يؤيد مذهبهم في "جبرية الظواهر اللغوية2"، فخصّوا هذه الشعبة بعنايتهم، ووجهوا نحوها قسطًا كبيرًا من جهودهم، فبلغوا بها شأوًا راقيًا، وكشفوا عن الأسباب الصحيحة التي يرجع إليها تطور الأصوات اللغوية، ومن أشهر المبرزين في هذه الحلبة من أعضاء هذه المدرسة وغيرهم:
ليسكين Leskien، وبروجمان Brugmann، وأستوف Ostoff، وهرمان -بول Hermann-Paul. وأربعتهم من أقدم الأعضاء الألمان لمدرسة "المحدثين من علماء القواعد"، وإلى رابعهم يرجع النصيب الأكبر من الفضل في توجيه الأنظار إلى أثر التغيرات الجسمية الخاصة بأعضاء النطق في تطور اللغة من ناحيتها الصوتية، وقد مهَّد بذلك السبيل إلى علم الفونيتيك التجريبي، الذي أشرنا إليه فيما سبق3.
وحاستون باريس Caston Paris، وهو أول فرنسي فكَّر في إنشاء معمل للتجارب المتعلقة بدراسة الأصوات، وقد أنشأه بالكوليج دو فرانس College de France، وإلى جهوده العظيمة في دراسة تطور الأصوات في اللغات الرومانية -وهي اللغات المتفرعة من اللاتينية- يرجع أكبر قسط من الفضل في النهوض بهذه الشعبة، وفي تأييد نظرية "المحدثين من علماء القواعد".
وبول باسي Paul Passy، الذي تُعَدُّ بحوثه في التطورات الصوتية وعواملها من أجل ما ألف في هذه الشعبة4.
1 انظر صفحات 57 وتوابعها.
2 انظر صفحات 20-23، 57، 58.
3 انظر صفحات 42-45.
4 من أشهر مؤلفاته في ذلك بحث في "دراسة التطورات الصوتية في اللغة" Etudes sur les changements Phonetiques، وقد ظهر هذا الكتاب عام 1890.
وروسلو Rousselot، وهو أول من استخدم الآلات في دراسة الصوت، وأنشأ بذلك الشعبة الشهيرة التي سماها:"الفونيتيك التجريبي"1، ويرجع الفضل في توجيه روسلو هذا الاتجاه الجديد إلى الأساتذة ماري Marey، وهرمان بول Hermann Paul، وجاستون باريس Gaston Paris، كما سبقت الإشارة إلى ذلك2.
2-
وأما الدياليكتولوجيا، أو دراسة اللهجات الشعبية واللغات العامية، فقد كان مهملًا كل الإهمال قبل أواخر القرن التاسع عشر لأسباب كثيرة؛ منها أن العلماء كانوا يحاربون اللغات العامية، ويرون فيها مصدر خطر على الأدب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك3، ومنها أنهم وجدوا في اللغات الفصيحة وفي اللغات القديمة مجالًا واسعًا للبحث استأثر بكل نشاطهم، ومنها أن دراسة اللغات الشعبية والعامية كانت تتطلب الأسفار والرحلات والاختلاط بسكان الريف، وعلماء اللغة في ذلك العصر كانوا يؤثرون الدراسة الهادئة في المكاتب والتنقيب في بطون المؤلفات.
ولم تبد العناية بهذه الشعبة إلّا منذ عهد قريب، ولكنها خطَّت في هذا الأمد الوجيز خطوات واسعة حتى كادت تلحق الفروع الأخرى بل سبقت بعضها، ويرجع الفضل في النهوض بها إلى طائفة من أعلام الباحثين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ من أشهرهم:
"جاستون باريس": الذي سبقت الإشارة إليه بين المبرزين من علماء الفونيتيك، وهو أول فرنسيّ نادى بوجوب دراسة اللهجات الشعبية واللغات العامية، وقد أنشأ بمعهد الدراسات العالية بفرنسا
1 انظر صفحات 42-45.
2 انظر صفحتي 45، 60، هذا، ومن أشهر مؤلفات روسلو كتابه في "التغييرات الصوتية في اللغة" Les Modifications Phonetiques du Langage، الذي كان له أكبر أثر في النهوض بهذه الشعبة.
3 انظر صفحة 53 والتعليق الثاني من تعليقاتها.
Ecole Pratique des Hautes Etudes قسمًا خاصًّا لهذه الشعبة، وإليه يرجع الفضل في تمهيد الطريق لدراسة كثير من اللغات الشعبية الفرنسية.
والإيطاليان "كورنو" و"أسكولي" Cornu et Ascoli، اللذان تعد مؤلفاتهما في هذه الشعبة من أجَلِّ البحوث.
والأساتذة الفرنسيون: "تورتولون" Tourtoulon، و"برنجييه" Bringuiet، و"أنطوان توماس" Antoine Tomas، و"ألبرت دوزا" Albert Dauzat، الذين كان لجهودهم المشكورة في دراسة اللغات الشعبية الأوربية، وبخاصة اللغات الرومانية -وهي المتفرقة من اللاتينية- واللهجات الفرنسية، أثر كبير في النهوض بهذه الشعبة1.
وأشهر من هؤلاء جميعًا عالمان اقتسما بينهما دراسة "الدياليكتولوجيا"؛ فعني أحدهما بناحيتها الصوتية "الفونيتيكة"، وهو الأب روسلو، الذي سبقت الإشارة إليه أكثر من مرة، وعني الآخر بناحيتها الدلالية "السيمنتيكية"، وهو العلامة جيليرون Gillieron.
ثم انتشر الاشتغال بهذه الشعبة بين جميع علماء "الفونيتيك" وجميع علماء "السيمنتيك"، وذلك لما تبين لهم من أهمتيها في دراستهم، وقد أصبح الآن من المتعذر أن يدرس أيّ موضوع لغوي بدون الاستعانة بهذه الشعبة.
3-
وأما علم النفس اللغوي Psychologie Lingistique، فقد تضافر على النهوض به عوامل كثيرة، من أهمها اتساع البحوث المتعلقة بكسب الطفل للغة، وارتقاء الدراسات الخاصة بأمراض اللغة "الأفازيا Aphasie".
1 من أشهر مؤلفات "أنطوان توماس": بحث في الفيلولوجيا الفرنسية Essais de philologie Francaise "وبحوث في الإيتيمولوجيا""أصول الكلمات" الفرنسية Melanges Etymols Framcaise، ظهر أو لهما عام 1897، وثانيهما عام 1902، ومن أشهر مؤلفات العلامة "دوزا" في هذه الشعبة كتابه "اللغات العامية أو الريفية، Les Patois وكتابه "دراسات لغوية للهجات أوفيرني السفلى" في أربعة أجزاء Etudes linguistiques sur la Basse-Auvergne، أما الأستاذان "تورتولون" و"برنجييه" فقد قضيا شطرًا كبيرًا من حياتهما في دراسة بعض اللهجات الفرنسية.
فقد كثرت الإصابات بهذه الأمراض في أثناء الحرب العالمية الأولى بين الجنود وغيرهم، فأتاح هذا فرصًا واسعة للبحوث والتجارب في هذه السبيل، وقد ظهر للعلماء على ضوء هذه الدراسات قوة الصلة التي تربط مظاهر اللغة بمختلف المظاهر العقلية، وتبين لهم أن كل دراسة لغوية لا تقوم على دراسة القوى النفسية، وكل دراسة نفسية لا تقوم على دراسة اللغة تكون ناقصة مبتورة، قليلة الجدوى، فاسدة النتائج؛ فعكف علماء النفس وعلماء اللغة على دراسة "علم النفس اللغوي"، وجعله كل فريق منهم شعبة مستقلة من بحوث علمه، وتوفر على دراسته عدد كبير من أعلامهم؛ فبلغوا به شأوًا راقيًا في النضج والكمال، ومن أشهر من برز فيه الأساتذة: ريبو1 Ribo، وبالي2 Bally، وبولان3 Paulgan، وبوردون4 Bourdon، وبرونو5 Brunot، وجويوم6 Guillaume، وفان جينيكين7 Van Ginnken، وباولو فيتش8 Pavlovitch، وبياجيه9 piaget، وسان -بول10 Saint-Paule، وسيجلاس Segla11، والعلامة فرديك جارلاندا12 Frederic Garlanda، وأستاذي المأسوف عليه العلامة هنري دولاكروا Henri Delacroix، عميد كلية الآداب بجامعة السربون، وأستاذ علم النفس بها سابقًا؛ فقد وقف قسطًا كبيرًا من جهوده
1 انظر على الأخص الفصل الثاني من كتابه تطور المعاني الكلية Evolutin des ldees Gebnerales، وكتابه "أمراض الذاكرة" Les Maladies de la Memoire.
2 انظر على الأخص كتابيه بالفرنسية: اللغة والحياة" و"بحث في علم الأسلوب"
3 انظر على الأخص كتابه بالفرنسية: "الوطنية المزدوجة للغة".Double Fonction du Langage
4 انظر كتابه بالفرنسية: "التعبير الطبيعي عن الانفعال واتجاهات اللغة.
5 من أشهر مؤلفاته بهذا الصدرد كتابه بالفرنسية: "اللغة والتفكير".
6 انظر كتابه بالفرنسية: "التقليد عند الطفل"، وعلى الأخص القسم الثاني الذي وقفه على التقليد في اللغة.
7 انظر كتابه بالفرنسية: أصول علم اللغة النفسي".
8 انظر كتابه بالفرنسية: "لغة الطفل".
9 انظر كتابه بالفرنسية: "التفكير واللغة عند الطفل".
10 انظر كتابه بالفرنسية: "الكلام النفسي".
11 انظر كتابه بالفرنسية: "أمراض اللغة".
12 انظر كتابه بالإيطالية: "فلسفة اللغة".
العلمية على هذه الشعبة، وقام فيها ببحوث قيّمة، ألقى بعضها علينا في جامعة السربون، ونشر بعضها في كثير من المجلات النفسية والفلسفية، وضمن كثيرًا منها كتابه الشهير:"اللغة والتفكير"1 Le Lengage et La Pensee.
4-
وأما "السيمنتيك" أي: "دراسة اللغة من ناحية الدلالة" فقد كان لنهضة الشعب الثلاث السابقة أثر كبير في الارتقاء به من ناحيتي الطريقة والمادة، فقد تهذبت طريقته تحت تأثير "الفونيتيك"، واتسعت مادته وكثر إنتاجه بفضل دراسات "الدياليكتولوجيا""علم اللهجات" و"علم النفس اللغوي".
وذلك أن علماءه قد أعجبوا بالاتجاه العلمي الذي نحا إليه زملاؤهم علماء "الفونيتيك"، والذي أشرنا إليه فيما سبق2، فأخذوا يسيرون على غرارهم، ويختطون لأنفسهم في علاج مسائل الدلالة خططًا جديدةً أدنى إلى الكمال، وأقرب إلى مناهج البحث العلمي، فأهملوا جميع الطرق التي يسيطر عليها النظر الفلسفي ولا تؤدي إلى نتائج يقينية، واستخدموا زيادة على طريق الملاحظة التي كان يقتصر عليها كثير من القدامى، طرقًا حديثة أخرى؛ كطريقة التجارب وقياس الغابر على الحاضر، والموازنة، والاستنباط3، واتخذوا في جميع هذه الطرق من وسائل الحيطة ما يكفل عصمتها من الزلل، ويبعد بها عن مظانِّ الانحراف؛ فأتيح بذلك لمناهج البحث السيمنتيكي ما أتيح لمناهج البحث الفونيتيكي من وسائل الرقي والتهذيب.
وكما ارتقت طريقة الدراسة في هذه الشعبة، اتسعت مادتها وكثر إنتاجها، وكان ذلك بفضل بحوث "الدياليكتولوجيا" -دراسة اللهجات العامية، وبحوث "علم النفس اللغوي"، فقد قدمت "الدياليكتولوجيا" مادة وفيرة لعلماء السيمنتيك، وكشفت لهم عن
1 انظر كذلك ما كتبه في الجزء الثاني من كتاب علم النفس.
Traite de Psychologie Par Dumas et collabolateurs.
2 انظر صفحات 56-59.
3 انظر صفحات 45-52.
آفاق واسعة كانت مجهولة من قبل، وحلّت لهم كثيرًا من المشكلات التي استعصى حلها عن القدامى منهم، وقد تبين لهم على ضوء "علم النفس اللغوي" أن أهم العوامل التي تتأثر بها اللغة من ناحية الدلالة ترجع إلى أمور نفسية، وأن كشف القوانين الخاضعة لها ظواهر شعبتهم يتوقف على الإلمام بمختلف العلاقات التي تربط الظواهر اللغوية بظواهر علم النفس، فاتجهوا إلى هذا العلم يستمدون منه المعونة من جهة، ويعملون على تهذيبه وتكملته وربط مسائله ببحوث شعبتهم من جهة أخرى، فأفاد من جهوهم أيَّمَا فائدة، وأصابت شعبتهم بفضله حظًّا كبيرًا من النهوض والكمال.
هذا، ومن أظهر علماء السيمنتيك أثرًا في هذه النهضة: من الإنجليز: العلامة "وتنى"1 Withney، ومن الفرنسيين:"دار مستيتير" Arsene Darmesteter2 ، و"بريال"3 Michel Breal، وألبير دوزا1 Albert Dauzat، ومن الإيطاليين:"كروس" Croce، ومن الألمان: فونت Wundt، وثام Thumb، ومارب Marbe.
5-
وأما "علم الاجتماع اللغوي" Sociologie Linguistique، فقد تضافر على النهوض به "أعضاء المدرسة الاجتماعية الفرنسية Ecoles Sociologiques Francaise، التي أنشأها العلامة دوركايم Durkheim، في أوائل القرن الحاضر5، وطائفة من أئمة علماء
1 من أشهر مؤلفاته: "حياة اللغة" ظهر عام 1875، و"اللغة ودراستها" ظهر سنة 1867.
2 من أشهر مؤلفاته: "حياة الكلمات" La Vie die des mots
3 سبقت الإشارة إلى العلامة بريال وكتبه ومذهبه في السيمنتيك بآخر صفحة 58 وأول 59.
4 سبقت الإشارة إلى العلامة دوزا في صفحة 62 وتعليقها، ومن أشهر مؤلفاته التي عرض فيها للسيمنتيك كتاباه:"فلسفة اللغة" و"حياة اللغة".
5 من أشهر أعضاء هذه المدرسة الأساتذة: ليفي برول Levy Bruhl، وموس Mauss، وبوجليه Bougle، وفوكونيه Fauconnet، أستاذ الاجتماع بالسربون سابقًا، وهلفاكس Halbwachs، ودافي Davy، وقد كان لي شرف التلمذة على الأربعة الأول من هؤلاء بجامعة السربون وبالكوليج دوفرانس، وشرف الاشتراك مع المرحوم فوكونيه في طائفة من البحوث الاجتماعية، وبعض مؤلفاتي باللغة الفرنسية مصدَّر بمقدمة منه.
اللغة انضمت إلى هذه الدراسة واعتنقت مذهبها، ومن أشهرهم: الأساتذة دوسوسور De Saussure، ومييه Meillet، وفندريس Vendryes.
وترمي هذه البحوث كما تقدّم1 إلى بيان العلاقة بين اللغة والحياة الاجتماعية، وأثر المجتمع وحضارته ونظمه وتاريخه وتركيبه وبنيته في مختلف الظواهر اللغوية.
وإلى هذه الشعبة تحتاج جميع الشعب الأخرى من علم اللغة، وذلك أن نشأة اللغة الإنسانية والأدوار التي اجتازتها، وحياة كل لغة، وما يطرأ عليها من غنًى وفقر، وقوة وضعف، وسعة وضيق، وانقسامها إلى فنون وإلى لهجات، وما تقوم به من صراع مع غيرها، وما ينجم عن هذا الصراع، والتطورات التي تحدث في أصواتها ومعانيها وأساليبها وقواعدها
…
كل أولئك وما إليه ترجع أهم عوامله إلى ظواهر اجتماعية؛ فموضوعات البحوث التي نحن بصددها تمتزج بجميع فروع علم اللغة وتفسر ظواهرها.
غير أن علماء الاجتماع الذين أشرنا إليهم، ومن نهج نهجهم، قد أخذوا على قدامى الباحثين من علماء اللغة، وعلى أعضاء مدرسة "المحدثين من علماء القواعد"2 تقصيرهم في بيان العلاقة بين الظواهر اللغوية والظواهر الاجتماعية، وانحرافهم أحيانًا عن جادة الصواب في هذه السبيل، وتفسيره لكثير من ظواهر اللغة، وخاصة الظواهر الصوتية تفسيرًا خاطئًا يبعد بها عن المجتمع وشئونه، فعملوا على سد هذا النقص وإصلاح هذه الأخطاء، فأنشئوا فرعًا خاصًّا سموه:"علم الاجتماع اللغوي"، أو "السوسيولوجيا اللغوية" Sociologie Linguistique، توفروا فيه على كشف العلاقات التي تربط بين الظواهر اللغوية ومختلف الظواهر الاجتماعية؛ فنهضوا بالدراسات اللغوية نهضة مشكورة، وقد زادهم قوة انضمام عدد كبير من أئمة علماء اللغة إليهم
1 انظر صفحة 12 رقم 6، وصفحة 13.
2 انظر الفقرة الأخيرة من صفحة 57 وتوابعها.
"كفرديناند دوسوسور" Ferdivnand De Saussure، الذي وقف قسطًا كبيرًا من جهوده العلمية على هذه البحوث1، والأستاذ فندريس Vendryes، الذي نشر رسائل قيمة في هذا الفرع في كثير من المجلات العلمية، وعرج في مؤلفاته على كثير من مسائله2، والعلامة "مييه" Meillet، الذي تعد مؤلفاته من أهم مراجع علم اللغة في العصر الحاضر، ومن أوسعها نطاقًا، وأدقها بحثًا3، وقد جرت العاة أن يطلق على هذه الطائفة من اللغويين اسم:"علماء اللغة المحدثين" Neo-Linguistes.
وقد أوغل بعض أفراد هذه الطائفة، كالعلامة دوسوسور، في الانتصار لنظريتهم، حتى كاد ينكر أن لغير العوامل الاجتماعية أثرًا في شئون اللغة، فانبرى للرد عليهم طائفة من الباحثين في "علم النفس اللغوي"، على رأسها المأسوف عليه دولاكروا4 Delacroix.
1 جمع تلاميذ العلامة دوسوسور بعد وفاته طائفة من بحوثه القيمة في كتاب سموه "دروس في علم اللغة" Cours de Linguistique Generale، طبع بلوزان عام 1916.
2 من أشهر مؤلفاته: "اللغة" Le Langage و"مقتطفات من بحوث مييه" Melange Meillet، ومن رسائله: بحث نشر بصحيفة علم النفس Journal de Psychologie، عنوانه:"اللغات وصفاتها الاجتماعية ومذهب دوسوسور".
3 العلامة مييه من تلاميذ فرديناند دوسوسور، وهو أستاذ في الكوليج دوفرانس، ومدير معهد الدراسات العليا بباريس، ورئيس "جمعية علم اللغة" بباريس، وهو من أكثر علماء اللغة مؤلفات وأوسعهم إنتاجًا، وقد كتب أكثر من عشرين مجلدًا ضخمًا في مختلف بحوث هذا العلم، منها:"علم اللغة التاريخي، وعلم اللغة العام" و"اللغات الهندية-الأوربية"، و"اتاريخ اللغة اليونانية"، و"الصفات العامة للغات الجرمانية"، و"اللغات في أوربا الحديثة"، و"لغات العالم"، وهذا الكتاب كان بالاشتراك مع الأستاذ مرسل كوهين Marcel Cohen وآخرين، وقد اشترك مع العلامة دوركايم Durkheim وأعضاء المدرسة الاجتماعية الفرنسية في إصدار "التقويم الاجتماعي Annee Sociologique، الذي يعد أهم مجلة أوربية في علم الاجتماع في العصر الحاضر.
وللأستاذ مييه في معظم أجزاء هذا التقويم بحوث قيمة في علم اللغة، من أهمها بحث ظهر في المجلد التاسع عام 1906، تحت عنوان:"كيف تتغير معاني الكلمات".
4 انظر الفصل الثاني من الكتاب الأول من مؤلفه "اللغة والفكر"؛ فقد وقف هذا الفصل جميعه على نقد نظرية دوسوسور.
وطائفة من "علماء اللغة"، على رأسها العلامة دوزا1 Dauzat، فعادت هذه المناقشات على علم اللغة بأحسن النتائج وأطيب الثمرات2.
تاريخ البحوث اللغوية في الثقافة العربية:
ترجع أهم البحوث اللغوية في الثقافة العربية إلى الفروع الآتية:
1-
النحو والصرف: أما النحو فكان الغرض الأساسي منه في مبدأ الأمر ضبط القواعد التي يسير عليها إعراب المفردات؛ ليسهل تعلمها وتعليمها، واحتذاؤها في الحديث والكتابة، ولتعصم الناس من اللحن الذي أخذ يتفشى منذ صدر الإسلام، من جرّاء تطور اللغة واختلاط العرب بالعجم، ثم أخذ نطاق هذ العلم يتسع قليلًا قليلًا، وأخذ علماؤه يعرضون لكثير من الموضوعات المتصلة بأجزاء الجملة وترتيبها، وأثر كل جزء منها في الآخر، وعلاقة هذه الأجزاء بعضها ببعض، وطريقة ربطها، وأنواع الجمل، وعلاقة الجمل التي تتألف منها العبارة بعضها ببعض، وأقسام الكلمة، وأنواع كل قسم منها، ووظيفته في الدلالة، حتى شمل جميع البحوث التي يطلق الفرنجة على مثلها اسم "السنتكس التعليمي"، أي:"علم التنظيم التعليمي"3.
وأما الصرف فموضوعه ضبط القواعد المتصلة بأوزان الكلمات العربية واشتقاقها وتصريفها، وتغير أبنيتها بتغير المعنى، وما يتصل بذلك من البحوث التي يطلق الفرنجة على مثلها اسم "المورفولوجيا التعليمية"، أي: "علم البنية التعليمي4.
وقد كانت العناية في المبدأ مقصورة على البحوث النحوية، وظل الأمر كذلك حتى أواخر القرن الأول الهجري، ثم أخذ العلماء يعالجون
1 انظر صفحات 182-195 من كتابه "فلسفة اللغة".
2 سنعالج هذا الموضوع من جميع وجوهه في الفصل الرابع من الباب الثاني.
3 انظر صفحة 9 رقم جـ، وصفحة 10.
4 انظر صفحة 8 رقم ب، وص9.
بعض مسائل الصرف استطرادًا، وفي خلال دراستهم لمسائل النحو، ثم أخذت مسائل الصرف تنفصل شيئًا فشيئًا عن مسائل النحو، وتدرس على حدة، حتى تَكَوَّنَ منها علم متميز، غير أن هذا العلم لم يستقل تمام الاستقلال عن النحو، فلا تزال طائفة كبيرة من مسائله ممتزجة بالنحو، ولم ينفك الباحثون إلى عهد قريب ينظرون إلى الشعبتين نظرتهم إلى علم واحد، ويعالجون مسائلهما في مؤلفات واحدة1.
ويرجع الفضل في النهوض بهاتين الشعبتين إلى عدد كبير من أعلام الباحثين بالبصرة والكوفة وبغداد ومصر وغيرها في العصرين الأموي والعباسي، ومن أشهرهم: أبو الأسود الدؤلي -واضع النحو بإرشاد الإمام علي بن أبي طالب، وعنبسة الفيل، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وميمون الأقرن، وعبد الله ابن إسحاق الحضرمي، والأخفش الأكبر، وأبو عمرو بن العلاء، وجميع هؤلاء من قدامى الباحثين من البصريين، ولم يصل إلينا شيء يعتد به من مؤلفاتهم، وعيسى بن عمر الثقفي، وكان على رأس جماعة يرجع إليه الفضل في نقل هذا العلم إلى الكوفة، ويقال: إنه ألف في نحو البصريين أكثر من سبعين مجلدًا منها كتابا "الجامع" و"الإكمال"، ولكن لم يصل إلينا شيء يعتد به من مؤلفاته، وأبو جعفر الرؤاسي، صاحب كتاب "الفيصل" في نحو الكوفيين، وأبو مسلم معاذ الهراء، وكلاهما من قدامى الباحثين من الكوفيين، والخليل بن أحمد الذي يرجع إلى جهوده القيمة، ومؤلفاته الجليلة، وعبقريته النادرة، أكبر قسط من الفضل في النهوض بهاتين الشعبتين وغيرهما من شعب البحوث اللسانية، وأعضاء مدرسة المحدثين من البصريين الذي كان على رأسهم سيبويه -أشهر أئمة النحو وصاحب "الكتاب"، الذي صار إمامًا لكل الباحثين من بعده، ثم الأخفش الأوسط -شارح "كتاب" سيبويه.
1 ولكن جرت عادة معظمهم أن يفرد لكل منهما أبوابًا على حدة.
ثم أبو علي الفارسي، وأبو القاسم الزجاج، وقد كتب كلاهما كتبًا مختصرة للمتعلمين يحذو فيها حذو سيبويه، ثم المازني والسجستاني ثم المبرد، ومدرسة المحدثين من الكوفيين الذين كان على رأسهم الكسائي ثم الفراء، صاحب كتاب "الحدود"، ثم ابن السكيت وابن سلام، ثم ثعلب، وقد حدث بين هذه المدرسة ومدرسة المحدثين من البصريين خلاف في طائفة كبيرة من المسائل، وفي إعراب كثير من آي القرآن، ونشأت بينهما مساجلات طريفة، فاضت بها كتب الأخبار، وابن خالويه صاحب "كتاب ليس" و"رسالة في إعراب ثلاثين سورة من القرآن"، وابن جني "صاحب كتب "سر الصناعة" في النحو، و"شرح تصريف المازني" و"اللمع" في النحو، و"المحتسب" في إعراب الشواذ، و"علل التثنية".. وغيرها، وجماعة المتأخرين الذين جاءوا بمذهبهم في الاختصار والاستيعاب لجميع أبواب العلم، فوضعوا أهم كتب النحو والصرف، وأكملها وأدقها وأكثرها تهذيبًا وتنقيحًا، ومن أشهرهم: الزمخشري "صاحب "المفصل" في النحو، وابن الحاجب "صاحب "الكافية" و"الشافية" في النحو والصرف، وابن معطي "صاحب ألفية في النحو"، وابن مالك "صاحب كتاب "التسهيل" و"الكافية الشافية" و"الألفية" الشهيرة"، وعز الدين الزنجاني، صاحب كتاب "تصريف العزى"، والسكاكي "صاحب كتاب "مفتاح العلوم" في النحو والصرف والبلاغة والعروض، وابن هشام، صاحب كتب "القطر" و"التوضيح" و"الشذور" و"المغني"
…
وغيرها، وهو أكثر المتأخرين مؤلفات وأدقهم بحثًا1.
3-
علوم البلاغة، التي تشمل ثلاثة بحوث: المعاني، وموضوعه: بيان ما ينبغي أن يكون عليه الأسلوب العربي ليطابق مقتضى الحال
1 وقد شهد بذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته؛ إذ يقول بصدد كتابه المغني: "استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة، وتكلم عن الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المنكر في أكثر أبوابها، وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها
…
فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلوّ قدره في هذه الصناعة، ووفور بضاعته منها
…
وقوة ملكته واطلاعه".
وليعبر عن المراد أبلغ، والبيان، وموضوعه: شرح المناهج التي يسلكها الأسلوب العربي في استخدام التشبيه والمجاز والكناية، والبديع، وموضوعه: دراسة المحسنات المعنوية واللفظية التي يحتملها الأسلوب العربي؛ فموضوعات البحوث الثلاثة ترجع إلى ما يسميه المحدثون من علماء الفرنجة "الستيليستيك التعليمي"1 أي "علم الأسلوب التعليمي".
وقد كتب المتقدمون بعض بحوث في هذه العلوم؛ فمن ذلك "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، و"إعجاز القرآن" للجاحظ، و"البديع" لابن المعتز2، وبعض آراء للمبرد في الأغراض البلاغية لتوكيد الكلام، وبعض بحوث لقدامة بن جعفر، عَقَّبَ بها على بديع ابن المعتز، وحاول فيها تكملته، ولكن أول من تصدى لاستيعاب هذه البحوث الثلاثة في مؤلف مستقل، هو أبو هلال العسكري في كتابه "الصناعتين"، ثم جاء من بعده عبد القاهر الجرجاني فميز بحوث المعاني من بحوث البيان، وردَّ مسائل كل منهما إلى قواعد مضبوطة سهلة المأخذ، فكان بذلك المنشئ الحقيقي لهذين العلمين3، ثم خلف من بعده خلف من الأعاجم كتبوا في هذه العلوم بأساليب ركيكة أساءت إلى البلاغة أكثر مما أحسنت إليها، ومن هؤلاء السكاكي الذي وقف قسمًا كبيرًا من كتابه "مفتاح العلوم" على المعاني والبيان البديع، والخطيب القزويني الذي لخص هذا القسم في كتابه "تلخيص المفتاح".
3-
علوم القراءات، وموضوعها: بيان الوجوه التي قرئت بها آي الذكر الحكيم، وقد ظلت موضوعات هذه البحوث يأخذها الناس عن القراء عن طريق التلقين، حتى جاء العصر العباسي، فعكف العلماء
1 انظر صفحتي 10 رقم د، و11.
2 جمع ابن المعتز نحو سبعة عشر نوعًا من المحسنات سماها: البديع، ولم تكن جميعها في الواقع من المحسنات البديعية، بل كان من بينها بعض مسائل البيان؛ كالاستعارة والكناية.
3 كتب عبد القاهر كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، وقد وقف معظم فصول الأول على المعاني، ومعظم فصول الثاني على البيان.
على تدوينها، وضبط قواعدها، ونقد أسانيدها، فقطعوا بها شوطًا كبيرًا في سبيل الكمال، وأهمية هذه البحوث من الناحية اللغوية ترجع إلى الأمرين الآتيين:
أولًا: أنها توقفنا على كثير من نواحي اللهجات العربية في صدر الإسلام، وذلك أن اختلاف القراءات يرجع بعض أسبابه إلى اختلاف العرب في لهجاتها، وإلى أن الرسول عليه السلام كان يقرأ القرآن لكل قبيلة، بوحي من الله تعالى، بالطريقة التي تتفق مع لهجتها.
ثانيًا: أن معظم المؤلفات في القراءات قد اشتملت على بحوث دقيقة قيمة في أصوات اللغة العربية وطبيعتها وصفاتها وأنواعها ومخارجها، والمد وأحكامه ومدته، والغن وضروبه، وتأثر أصوات الكلمة أو الكلمات المتجاورة بعضها ببعض، وما إلى ذلك من مسائل "الفونيتيك"1 الخاصة باللغة العربية1.
4-
أدب اللغة وتاريخ الأدب والنقد الأدبي، نهضت هذه الفروع نهضة كبيرة في العصر العباسي، ولم تنفك منذ ذلك العهد إلى الآن، موضع عناية الباحثين من العرب وغيرهم، حتى أصبحت المكتبة العربية من أغنى مكتبات العالم في هذه الناحية، وأصبحت مراجع هذه الفروع من أكبر المراجع عددًا، وأوسعها نطاقًا، وأجلها قيمة3.
5-
متن اللغة، وتنقسم مؤلفاته ثلاثة أقسام:
أ- معجمات ترمي إلى شرح المفردات، فترتب الكلمات ترتيبًا خاصًّا ليسهِّلَ على مَن يريد الوقوف على معنى أي كلمة الرجوع إليها
1 انظر معنى هذه الكلمة بصفحة 7، رقم 3.
2 انظر تفصيل الكلام في موضوع القراءات بكتابنا "فقه اللغة" الطبعة السابعة بصفحتي 122، 123.
3 لضعف العلاقة التي تربط هذه البحوث بموضوعنا لم نر كبير حاجة للكلام عن تاريخها وأشهر المؤلفين فيها كما فعلنا في الفروع السابقة.
في موطنها، وأول من عمل على تدوين معجم شامل من هذا القبيل هو الخليل بن أحمد؛ فقد وضع كتابه "العين"، ورتب كلماته حسب ترتيبها في مخارج أول حروفها، متبدئًا بأقصى الحلق -ولذلك بدأه بحرف العين الذي سمي الكتاب باسمه- ومنتهيًا بالشفتين، غير أنه يظهر أن المنون قد عاجلته قبل إتمامه، فأكمله جماعة بعد وفاته بأكثر من نصف قرن، وظهر بعد ذلك معجم "الجمهرة" لابن دريد، وقد جمع مواده من كتاب العين ومن كتب أخرى للأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما، ورتَّبَ مفرداته حسب ترتيب حروف الهجاء من الهمزة إلى الياء، وألَّف الأزهريّ أبو منصور محمد بن أحمد معجمه "التهذيب"، على ترتيب الخليل لكتابه العين في عشر مجلدات، وألف الصاحب بن عباد معجمه "المحيط" في سبعة مجلدات، وأحمد بن فارس "المجمل"، والجوهري "الصحاح" الذي جمع فيه أربعين ألف مادة، والفيروزابادي "القاموس المحيط"، والزمخشري "أساس البلاغة"، والصغاني "تكملة الصحاح" و"العباب"، ثم جمعها في كتاب واحد سماه "مجمع البحرين"، وابن منظور المصري "لسان العرب" الذي ضمنه معظم ما كتب قبله في هذا الباب، والمقري "المصباح المنير"، والرازي "مختار الصحاح" الذي اختصر فيه صحاح الجوهري
…
وغير ذلك كثير1.
وهذا النوع من المعجمات قليل الفائدة للباحث في علم اللغة، وذلك أن مؤلفيها قد وجهوا كل عنايتهم إلى ذكر معاني الكلمات، والاستشهاد أحيانًا بالقرآن والحديث والمأثور من كلام العرب، ولكنهم أغفلوا إغفالًا تامًّا تعقب معاني كل كلمة في مراحل حياتها، وشرح تطورها في مختلف العصور، وبيان الأصول التي انحدرت منها،.. وما إلى ذلك من مسائل "الليكسيولوجيا" والإيتيمولوجيا"2
1 انظر تفصيل الكلام في هذا النوع من المعجمات بكتابنا "فقه اللغة" الطبعة السابعة صفحات 282-294.
2 انظر صفحة 8، رقم أ، وصفحة 11، رقم5.
التي تشغل الآن أكبر حيز في المعجمات الإفرنجية الحديثة، وتهم كثيرًا طوائف الباحثين في علم اللغة، هذا إلى أن معظم هذه المعجمات العربية لم يتبع نظامًا معينًا في ترتيب معاني الكلمة، فخلط بين الحقيقي منها والمجازي، والقديم والحديث، كما خلط بين المعاني في مختلف لهجات العرب، فأصبح البحث فيها شاقًّا، وجاءت مضللة في مواطن كثيرة1.
ب- معجمات ترمي إلى بيان المفردات الموضوعة لمختلف المعاني؛ فترتب المعاني بطريقة خاصة، وتذكر الألفاظ التي تقال للتعبير عن كل معنًى منها، فنجد أبوابها مرتبة على مثل هذا الوضع: خلق الإنسان، الحمل والولادة، الرضاع والفطام، الغذاء السيء للولد، أسنان الأولاد وتسميتها في المراحل المختلفة، شخص الإنسان وقامته وصورته، صفات الرأس، قلة الشعر، وتفرقه في الرأس
…
وهلم جرَّا. وتذكر في كل باب المفردات التي تعبر عن موضوعه، مرتبة ترتيبًا خاصًّا، ومبينة مدلولاتها ومواطن استعمال كل منها.
فالقسم الأول من المعجمات يحتاج إليه من يعرف اللفظ ويرغب في الوقوف على معناه، على حين أن هذ القسم يحتاج إليه من يعرف المعنى، ويرغب في الوقوف على الألفاظ الموضوعة له.
ومن أشهر ما ألف من معجمات هذا القسم خمسة كتب: أولها: "كتاب الألفاظ" لابن السكيت، وهو أقدم ما ألف من هذا النوع2،
1 يستثنى من ذلك بعض معجمات قديمة حرصت نوعًا ما على التفرقة بين الحقيقة والمجاز "أساس الزمخشري مثلًا"، وبعض معجمات حديثة سارت من بعض الوجوه على غرار المعجمات الأوربية في تنظيم الكلمات، وترتيب معانيها، وما إلى ذلك، ومن هذه الطائفة "محيط المحيط" لبطرس البستاني، ،"أقرب الموارد" للشرتوني، و"البستان" لعبد الله البستاني.
2 هو العلامة أبو يوسف يعقوب بن إسحق السكيت، توفي عام 243 أو 246 هـ في خلافة المتوكل، وقد راجع "كتاب الألفاظ" ونقَّحَه وشرح شواهده وكملها، وعلَّقَ عليه الخطيب التبريزي شارح ديوان الحماسة، وضمَّنَ هذا كله كتابًا سماه:"كنز الحفاظ في تهذيب الألفاظ" أي: في تهذيب "كتاب الألفاظ" لابن السكيت، وقد عثر بمكتبة ليدن على نسخة خطية من هذا الكتاب الأخير، فأشرف على طبعها بالمطبعة الكاثوليكية ببيروت جماعة من الآباء اليسوعيين، على رأسهم الأب لويس شيخو، بعد أن أضافوا إليها كثيرًا من التعليقات اللغوية الهامة، وذيلوها بشروح وإصلاحات وفوائد وفهارس كبيرة القيمة.
وثانيها: "الألفاظ الكتابية" للهمذاني، المتوفى سنة 227هـ، وثالثها:"مبادئ اللغة" للإسكافي، المتوفى سنة 421هـ؛ ورابعها:"فقه اللغة" للثعالبي، في مجلد واحد صغير1، وخامسها:"المخصص" لابن سيده2، في سبعة عشر جزءًا، وهو أدقها دراسة، وأحسنها تنسيقًا، وأكثرها استيعابًا لمسائل البحث.
وقد تناول كلا الكتابين الأخيرين، في أثناء دراسته لمسائله الأساسية، بعض بحوث من فصيلة أخرى سنعرض لها عند كلامنا عن بحوث فقه اللغة3.
جـ- رسائل في طوائف خاصة من الألفاظ أو المعاني؛ ككتاب أبي حنيفة في الأنواء والنبات، وكتب يعقوب في النبات والأصوات والفرق، وكتب أبي حاتم في الأزمنة والحشرات والطير، وكتب الأصمعي في السلاح والإبل والخيل، وكتب أبي زيد في المطر واللبأ واللبن والعزائز والجرائم4، وشرح غريب الحديث للجزري، وكتاب الأضداد في اللغة للأنباري5، وكتاب نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد6. ومن هذا النوع كذلك المعجمات الفلسفية
1 هو أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي، ولد في نيسابور عام 350هـ، وتوفي عام 429هـ، وله مؤلفات كثيرة قيمة في مختلف فروع العلوم اللسانية، وفي تسمية كتابه هذا بفقه اللغة شيء كثير من التجوز، وذلك أنه ليس فيه ما يصح تسميته فقه اللغة بالمعنى الذي شرحناه في الفقرة الأولى من هذا التمهيد، إلّا نحو خمس عشرة صفحة "الباب التاسع والعشرون". أما ما عدا ذلك فمتن لغة مرتب حسب فصائل المعاني.
2 هو أبو الحسن عليّ بن إسماعيل المتوفى عام 458هـ.
3 ص76-78.
4 ذكر هذه الكتب صاحب المخصص من بين الكتب التي رجع إليها في مؤلفه -انظر الجزء الأول من المخصص صفحتي 11، 12.
5 هو محمد بن القاسم محمد بن بشار الأنباري، جمع في كتابه هذا طائفة كبيرة من الألفاظ التي يطلق كل منها على المعنى وضده، وشرحها شرحًا وافيًا مستشهدًا بما ورد بصدها في كلام العرب شعره ونثره.
6 كتاب حديث للشيخ إبراهيم اليازجي اللبناني، ضمنه طائفة من الألفاظ المترادفة في مختلف الشئون، وطبع بمطبعة المعارف عام 1904.
والعلمية وما إليها، ككشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، والتعريفات للجرجاني، والكليات لأبي البقاء
…
وهلم جرا1.
وهذا النوع من المعجمات كان أسبق في الظهور من النوعين السابقين؛ فقد ظهر بعض كتب منه في صدر العصر العباسي.
6-
بحوث في "فقه اللغة العربية" وبعض مسائل من "علم اللغة العام"2:
فمن ذلك دراسة الأصمعي للاشتقاق في اللغة العربية.
ومعظم البحوث التي ضمنها ابن فارس3 كتابه "الصاحبي: في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها"، كبحثه في: نشأة اللغة العربية4، وخصائص اللسان العربي، واختلاف لغات العرب، ولغات العامة من العرب، والقياس والاشتقاق في اللغة العربية، وآثار الإسلام في اللغة العربية، وأسماء الأشخاص ومأخذها، والمترادف، وحروف الهجاء العربية، وحروف المعنى، وسنن العرب في حقائق الكلام والمجاز والنحت والاشتراك
…
وهلم جرا.
والبحوث التي ضمنها ابن جني5 كتابه "الخصائص": كبحثه
1 انظر أمثلة أخرى من هذا النوع من المعجمات في كتابنا "فقه اللغة"، الطبعة السابعة صفحات 279-281.
2 انظر المعنى الذي نقصده من "فقه اللغة العرية"، و"علم اللغة الام"، بصفحتي 15، 16.
3 هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني، من أشهر أئمة اللغة في القرن الرابع الهجري.
4 درس ابن فارس هذا الموضوع من وجهة نظر ضيقة، فتساءل: هل اللغة العربية توقيف أم اصطلاح، وذهب إلى أنها توقيف بدليل قوله تعالى:{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، وهو بذلك يظن أن اللغة العربية نشأت مع الإنسان الأول، وجميع من عرضوا لهذا الموضوع من مؤلفي العرب لم يتجاوز بحثهم هذا النطاق الساذج ما عدا ابن جني ومن نهج نهجة كما سنذكر ذلك.
5 هو أبو الفتح عثمان بن جني، ولد عام 330، وتوفي عام 392هـ، وهو من أشهر علماء النحو واللغة وأدقهم بحثًا وأكثرهم إنتاجًا.
في أصل اللغة، وهل هي إلهام أم إصلاح1، والقول في هذه اللغة أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط، والاطراد والشذوذ، ومقاييس العربية، والألفاظ والمعاني في اللغة العربية، وتعليل ظواهر اللغة، ومدى قصد العرب لهذه العلل، والقياس في كلام العرب، وتركيب اللغات، واختلاف اللهجات، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، والاشتقاق الأكبر، وتصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني، وأساس الألفاظ أشباه المعاني2
…
وهلم جرا.
وبعض البحوث التي عرض لها ابن سيده في مقدمة كتابه المخصص؛ كالبحث في نشأة اللغة العربية3، والتي عرض لها في الأجزاء الأخيرة من هذا الكتاب؛ كالبحوث المتعلقة بالتضاد، والترادف، والاشتراك، والاشتقاق، والتعريب والمجاز، والممدود والمقصور، والتذكير والتأنيث، وإبدال الحروف بعضها من بعض
…
وهلم جرا.
وبعض بحوث قليلة ضمنها الثعالبي كتابه "فقه اللغة"؛ كالبحث فيما يجري مجرى الموازنة بين العربية والفارسية "أسماء فارسيتها ميتة، وعربيتها محكية مستعملة، أسماء عربية يتعذر وجود فارسية أكثرها، أسماء قائمة في لغة العرب والفرس على لفظ واحد، أسماء تفردت بها الفرس دون العرب، فاضطرت إلى تعريبها أو تركها كما هي، ما نسبه بعض الأئمة إلى اللغة الرومية"4.
والبحوث التي ضمنها أبو منصور الجواليقي5 كتابه "المعرب
1 عرض ابن جني مختلف الآراء بهذا الصدد، ومنها آراء ذهب إلى مثلها كثير من علماء الفرنجة في العصور الحديثة، وناقشتها مناقشة متزنة حكيمة تشهد بسعة اطلاعه وقوة تفكيره.
2 عرض ابن جني في الأبواب الثلاثة الأخيرة من الجزء الأول من كتابه لموضوعات هامة في فقه اللغة، وهي دلالة الحروف في لفظ ما على أصل معنوي كيفما اختلف ترتيبها، والعلاقة بين أصوات الكلمة ومعانيها.
3 انظر الجزء الأول بصفحات 3-6.
4 تشغل هذه البحوث نحو خمس عشرة صفحة فقط من الباب التاسع والعشرين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك بالتعليق الأول بصفحة 75.
5 من علماء القرن السادس الهجري.
من الكلام الأعجمي، ودرس فيها نشأة التعريب وشروطه، وذكر معظم الألفاظ المعربة مرتبة على حسب حروف الهجاء.
والبحوث القيمة التي ضمنها السيوطي1 كتابه "المزهر"، كالبحث في: نشأة اللغات، والمصنوع والفصيح، والحوشي والغرائب والشوارد والنوادر، والمستعمل والمهمل، وتداخل اللغات، وتوافق اللغات، والمعرب، والمولد، وخصائص اللغة، والاشتقاق، والمشترك والترادف، والتضاد، والحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والإبدال، والقلب، والنحت، وما اختلفت فيه لغة الحجاز ولغة تميم، والتصحيف، والتحريف، والأسماء والكنى والألقاب
…
وهلم جرا.
والبحوث التي ضمنها شهاب الدين الخفاجي2 كتابه "شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل".
والبحوث التي ضمنها أحمد فارس الشدياق3 كتابه "سر الليال في القلب والإبدال"، وخاصة ما ورد فيه بصدد العلاقة بين أصوات الكلمة ومعانيها، ودلالة الحروف في لفظ ما على أصل معنوي كيفما اختلف ترتيبها، ورجع الكلمات إلى أصولها
…
وما إلى ذلك.
والبحوث الحديثة التي قام بها طائفة من المستشرقين وغيرهم بهذا الصدد؛ كبحوث اليازجي في كتابه "اللغة والعصر" ومباحث الكرملي، والبحوث التي كتبها أعضاء مجمع اللغة العربية بمصر في مجلة المجمع.
1 جلال الدين السيوطي أسمى من أن يعرف به، فهو من أشهر مؤلفي العرب في جميع العلوم، ولد عام 849هـ، وكتابه المزهر من أجَلِّ ما ألف في فقه اللغة العربية، وهو في جزءين كبيرين.
2 من علماء القرن الحادي عشر الهجري.
3 من علماء القرن الثالث عشر الهجري.