الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يمكن للمعلمين -مهما بذلوا من جهد- أن يحولوا بينهم وبين لغة الإشارة المحببة إلى طائفتهم.
ومنها: أن النتائج التي تتحقق في تعليم الصُّمِّ الكلام يرجع قسط كبير من الفضل في تحققها إلى مايسمونه: "الأنقاض السمعية"، وهي إحساسات سمعية ضئيلة توجد لدى عدد كبير ممن يظن أن صممهم كامل، وقد تبين لمعلمي الصم أهمية هذه "الأنقاض"، فوجهوا معظم جهودهم إلى استغلالها والانتفاع بها في تعليم الصم الكلام.
6-
أساس التقليد اللغوي عند الطفل:
يتبين مما ذكرناه في الفصول السابقة أن التقليد اللغوي في الطفولة يعتمد على ميلٍ فطريٍّ مزود به الطفل، وأن أعمال المحاكاة التي يتجه إليها الطفل بدافع من هذا الميل تنبعث عن قصد وإرادة، وتشرف قواه الفكرية على أدائها وتنظيمها، وإصلاح فاسدها، وجعلها مطابقة للأصل، وفهم مدلولها، وحفظها، واستخدامها فيما وضعت له1؛ فأعمال التقليد اللغوي عند الطفل لا تختلف في أساسها عن ألعابه الراقية؛ كألعاب الاستطلاع والحل والتركيب والتصوير والمقاتلة والصيد والألعاب العائلية والاجتماعية والصناعية والزراعية.. وهلم جرا2. فكلاهما يعتمد على ميل فطري مزود به الطفل، ويتجه إليه بدافع من هذا الميل، ولكن كليهما كذلك ينبعث عن قصد وإرادة، وتشرف قوى الفكر على أدائه وتنظيم عناصره.
غير أن طائفة من الباحثين -على رأسها العلامة لودانتك La Dantec- قد ذهبت في هذا الصدد مذهبًا آخر، فزعمت أن التقليد اللغوي عند الطفل عملية آلية مجردة عن القصد والإرادة وعمل الفكر، ولا تعتمد إلى على أمور جسمية خالصة.
1 انظر صفحات 133-149.
2 انظر هذه الألعاب في كتابنا "اللعب والعمل"، صفحات 38-48.
وذلك أنهم يرون أن هناك رابطة طبيعية تربط أعضاء السمع عند الطفل في هذه المرحلة بأعضاء نطقه في صورة تجعل الأعضاء الأخيرة تلفظ بشكل منعكس الأصوات نفسها التي تحسها الأعضاء الأولى؛ فالطفل يردد ما يسمعه بعملية آلية لا دخل فيها لإرادة ولا قصد ولا تفكير، وبحركات تنبعث من تلقاء نفسها عند حدوث ما يثيرها كما تنبعث الأعمال المنعكسة.
وقد أوغل لودانتك في هذا السبيل، حتى زعم أن أعضاء النطق وأعضاء السمع يؤلفان عند الطفل في هذه المرحلة جهازًا واحدًا ترسل ناحية منه ما تستقبله الناحية الأخرى؛ فهما أشبه شيء بجهاز المذياع -الراديو- الذي ينبعث من بعض أجزائه ما تلتقطه أجزاؤه الأخرى من أصوات، وطبيعة تركيبهما عند الطفل في هذه المرحلة مطابقة كل المطابقة -كما يقول لودانتك نفسه- لطبيعة تركيبهما عند الببغاء، وما إليها من الطيور1.
ومن ثَمَّ يرى لودانتك أن أصوات التقليد اللغوي عند الطفل لا تختلف في أساسها عن أصوات "التعبير الطبيعي عن الأطفال" التي تكلمنا عليها في أول هذا الباب2؛ كلاهما في نظره فطريّ آليّ بحت، لا دخل فيه لإرادة ولا قصد ولا تفكير، وكلاهما ينبعث عن مثير خاصٍّ، وعن مجرد وجود هذا المثير. فأصوات التعبير الطبيعي عن الانفعال يثيرها مجرد تلبس الجسم أو النفس بحالة انفعالية ما، وأصوات التقليد اللغوي يثيرها مجرد التلبس بإدراكٍ سمعيٍّ خاصٍّ، وكلاهما قائم على روابط طبيعية فطرية؛ فأولهما قائم على روابط طبيعية تربط أعضاء النطق بحالات الانفعال في صورةٍ تجعل تلك الأعضاء تتحرك من تلقاء نفسها، وتلفظ أصواتًا خاصة كلما وجدت حالة من هذه
1 انظر الأساس الذي تعتمد عليه المحاكاة عند هذه الفصيلة، في آخر ص94 وأول ص95.
2 انظر صفحتي 119، 120.
الحالات، وثانيهما قائم على روابط طبيعية تربط أعضاء السمع بأعضاء النطق في صورة تجعل الأعضاء الأخيرة تردد من تلقاء نفسها ما يصل من أصوات لغوية إلى الأعضاء الأولى.
هذا، وبحسبنا في الدلالة على فساد هذه النظرية أن نواجهها ببعض ما ذكرنا فيما سبق من حقائق:
فقد ظهر لنا فيما سبق أن الطفل لا يردد الكلمة عند سماعه إياها كما تردد الببغاء ما تسمعه من أصوات، بل يرددها فاهمًا معناها فهمًا كاملًا أوناقصًا من سياق الحديث وملابسات الأحوال1، وبعد أن يتم له حفظها، وتستقر في متن لغته يلفظها وحده كلما أراد التعبير عما تدل عليه، وغنيٌّ عن البيان أن ظاهرة هذا شأنها ليست من الأعمال الآلية أوالمنعكسة في شيء؛ إذ لا يمكن أن يتم مثلها بدون تدخل الإرادة والتفكير.
وقد ظهر لنا فيما سبق أن الطفل لا يكتسب في هذه المرحلة عن طريق المحاكاة مفردات لغته فحسب، وإنما يكتسب كذلك قواعدها المتعلقة بربط عناصر الجملة، وترتيب أجزائها، وتنظيم العبارات، وتصريف المشتقات، ومراعاة أزمنة الأفعال وإسنادها للضمائر، والأسماء الظاهرة، والتذكير والتأنيث، والإفراد والجمع.. وهم جرَّا2. ومن الواضح أن كسب الطفل لقواعد اللغة يقتضي عمليات فكرية وإرادية دقيقة، ولا يمكن أن يتم شيء منه عن طريق آلي أو منعكس.
وقد ظهر لنا كذلك أن أول كلمات تبدو عند معظم الأطفال هي أسماء الذوات، وتظهر بعده الأفعال، ثم الصفات، ثم الضمائر، ثم الحروف والروابط، وأن السبب في هذا يرجع إلى أن الطفل يسير في ارتقائه اللغوي وفقًا لارتقاء فهمه؛ فدرجة نموه الفكري في مبدأ هذه المرحلة لا تتيح له أكثر من فهم الكلمات الدالة على أمور حسية
1 انظر صفحات 143-149.
2 انظر صفحات 144-149.
يمكن أن يشار إليها، ولذلك اقتصر متن لغته في هذا الدور على أسماء الذوات، فإذا نما تفكيره أمكنه أن يدرك مدلولات الكلمات المعبرة عن أمور معنوية، وحينئذ تظهر في لغته الأفعال "الدالة على الحدث والزمان" والصفات "الدالة على معنى تتلبس به الذوات بشكل عارض" وما إليها. ولما كانت الحروف والروابط أدق أنواع الكلمات مدلولًا لهم، لم يتم له فهمها إلّا في أواسط هذه المرحلة أو أواخرها، فتأخر ظهورها تبعًا لذلك1. وفي هذا أقطع دليل على تدخل التفكير والفهم في عملية التقليد اللغوي، وعلى فساد ما يذهب إليه لودانتك؛ إذ لو كانت هذه العملية آلية، أو منعكسة قائمة على مجرد الارتباط بين جهازي النطق والسمع كما يزعم لودانت، لردد الطفل جميع ما يصل إلى سمعه من مفردات، ولظهرت جميع أنواع الكلمة في لغة الطفل مرة واحدة.
وقد ظهر لنا كذلك أن الطفل الذي يُولَدُ مصابًا بجنون يحول بينه وبين فهم معاني الكلمات ينشأ أبكم، ولو كانت أعضاء سمعه ونطقه سليمة2، ولو كانت عملية التقليد آلية أو منعكسة على الوجه الذي يزعمه لودانتك، لما حال الجنون دون تحققها؛ إذ الجنون لا يحول دون تحقق هذا النوع من الأعمال.
وقد ظهر لنا كذلك أن الطفل في مبدأ هذه المرحلة يلفظ الكلمات التي يحاكيها لفظًا خاطئًا بعيدًا كل البعد عن الأصل الذي يحاكيه، وأنه لا ينفك يصلح من فساد نطقه شيئًا فشيئًا حتى يستقيم له الكلام3. ولا شك أن ظاهرةً هذا شأنها في التطور، تقتضي تدخل الإرادة والتفكير، ولا يعقل أن تكون قائمة على الأساس الآلي الذي يزعمه لودانتك.
وقد ظهر لنا كذلك أن الطفل الذي يسوده الخمول، وتعوزه قوة العزم والإرادة، وتضعف رغبته في الاشتراك في حلبة الحياة، يتأخر
1 انظر من آخر ص147 إلى 149.
2 انظر صفحة 152.
3 انظر صفحات 123-146.