الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات، فينطق أهل اللهجة المغلوبة بألفاظهم الأصلية وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة طبقًا لأسلوبهم الصوتي ومخارج حروفهم، حتى إنهم ليستبدلون في الكلمات الدخيلة بالحروف التي لا يوجد لها نظير لديهم حروفًا قريبة منها من حروف لهجتهم. وفي المرحلة التالية تتسرب إلى اللهجة المغلوبة أصوات اللهجة الغالبة ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات، فينطق أهل اللهجة المغلوبة بألفاظهم الأصيلة وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة من المخارج نفسها، وبالطريقة نفسها التي يسير عليها النطق في اللهجة الغالبة، فيزداد بذلك انحلال اللهجة المغلوبة، ويؤذن نجمها بالأفول، ولكنها تظل طوال هذه المرحلة مستبسلة في الدفاع عن قواعدها الصرفية والتنظيمية "المورفولوجيا والسنتكس"، وفي مقاومة قواعد اللهجة الغالبة، إن كانت تختلف عنها في القواعد1، فيركب أهلها جملهم، ويصرفون كلماتهم، وفق أساليبهم الأولى. وفي المرحلة الأخيرة تضعف هذه المقاومة شيئًا فشيئًا، فتأخذ قواعد اللهجة الغالبة في الاستيلاء على الألسنة حتى يتم له الظفر، فيتم بذلك الإجهاز على اللهجة المغلوبة، غير أنها كثيرًا ما تترك في ألسنة أهلها بعض آثار من قواعدها القديمة؛ فكثير من سكان جنوب فرنسا لا يزالون يؤلفون عباراتهم في صورة تختلف عن قواعد الفرنسية الفصحى، ولكنها تتفق مع قواعد لهجتهم المندثرة.
1 لا يكون الاختلاف في العادة كبيرًا في القواعد بين اللهجات المنشعبة عن لغة واحدة قبل أن يستقلَّ بعضها عن بعض، وتصبح لغات منفصلة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في آخر ص176، وأول 177.
4-
نشأة لغة الدولة أو لغة الكتابة:
واللهجة التي يتاح لها التغلب في أمة ما على بقية أخواتها، أو على معظمها، تصبح عاجلًا أو آجلًا لغة الدولة، أو ما يطلق عليه اسم:"اللغة القومية"، أو "اللغة الفصحى"، أو "لغة الكتابة"، فتعلم
وحدها في مدارس الدولة، ويجري بها تدريس المواد المختلفة في معاهدها، وتؤلف بها الكتب والصحف والمجلات، وتصدر بها المكاتبات الرسمية وغيرها، وتستخدم في مختلف مناحي الوعظ والخطابة، وتلقى بها الأوامر، ويجري بها التخاطب في الجيش.... هلم جرا1.
فقد ترتَّبَ على تغلب لهجة باريس على معظم أخواتها أن أصبحت "لغة الدولة" بفرنسا، وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغة الفرنسية، وهذا هو ما حدث عقب تغلب لهجة لندن بإنجلترا ومدريد بأسبانيا، واللهجة السكسونية بألمانيا، والتوسكانية بإيطاليا، فقد أصبحت هذه اللهجات هي اللغات الرسمية، وعليها وحدها يطق الآن اسم اللغات الإنجليزية والأسبانية والألمانية والإيطالية.
وتسلك لغات الكتابة في تطورها طريقًا خاصًّا تختلف عن الطريق التي تسلكها لغات المحادثة، كما سيظهر ذلك في الفقرة التالية، وفي الفصل الرابع، ولذلك نرى أن لغة الكتابة، مع اتفاقها في المبدأ مع لهجة المحادثة الغالبة، لا تلبث فيها بعد أن تختلف عنها في كثير من الشئون، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينهما حتى تستقل كل منهما عن الأخرى؛ فلغة الكتابة بفرنسا تختلف الآن عن لهجة المحادثة الباريسية اختلافًا غير يسير، وكذلك الشأن في إنجلترا، فقد بعدت اللهجة الدارجة لأهل لندن بعدًا كبيرًا عن اللغة الفصحى، حتى إن بعض العلماء قد ألف فيها معجمات خاصة2.
1 قد لا يكون للأمة آية لغة قومية مستقلة، كما هو شأن النمسا، فإن لغتها هي الألمانية، وقد يكون للدولة أكثر من لغة رسمية واحدة، كما هو شأن سويسرا، فإن بها ثلاث لغات رسمية: الألمانية والفرنسية والإيطالية. وقد تكون اللغة الرسمية ولغة الكتابة في الأمة هي اللغة القديمة التي انشعبت منها لهجتها، كما كان شأن اللاتينية بفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال ورومانيا، وكما هو شأن اللغة العربية الآن بمصر والسودان وبلاد العرب وشمال إفريقيا.
2 من هؤلاء العلامة بارتروج، أستاذ اللغات الإنجليزية، فقد أخرج منذ سنوات معجمًا للغة الإنجليزية العامية، بحث فيه بحثًا علميًّا اللغة الدارجة لأهل لندن. "انظر جريدة المصري الصادرة في 21/ 5/ 1950".